مُقَدِّمَةٌ: بَدْأُ الْتَّحَرُّكْ. — فُتحت_الصُحُف.
(إعدادات القراءة)
كاتدرائية القديس جورج.
تُسمّى كاتدرائية، لكن ما هي إلا كنيسة من كنائس كثيرة تقع في قلب لندن. كان المبنى كبيرًا نسبيًا، لكنه صغيرٌ استثنائي إن قارناه بالمعالم السياحية الشهيرة عالميًا مثل كاتدرائية وستمنستر وكاتدرائية القديس بولس. وبالطبع، لم تكن تضاهي كاتدرائية كَنتربري، التي يُقال إنها مهد التطهيرية الإنجليزية (الأنجليكانية).
علاوةً، كان في لندن العديد من المباني التي تحمل اسم القديس جورج. في الكنائس طبعا، وكذلك في متاجر كبيرة ومطاعم وبوتيكات ومدارس أخذت الاسم نفسه. من المرجح أن تجد العشرات من الأماكن التي تحمل اسم [القديس جورج] ضمن حدود المدينة. بل قد تجد أكثر من عشر [كاتدرائيات القديس جورج]—فالاسم كان شهيرًا لدرجة أنه ارتبط حتى بعَلَمِ الدولة.
منذ نشئتها، كانت كاتدرائية القديس جورج هي المقر الرئيسي للنِسِسَريوس، كنيسة الشرور الضرورية.
لم تكن التسمية ذات دلالة حسنة. فأعضاء النِسِسَريوس كانوا جزءًا من الكنيسة، ومع ذلك هم يستخدمون السحر النجس. كانت مهمتهم تتمثل في القضاء على جماعات السحرة في إنجلترا بالقوة، وإبادة من ينتمون إليها من السحرة. لذلك، اعتبرهم التطهيريون الإنجليز أولئك همجًا ومتخلفين، فتم نقلهم من كاتدرائية كَنتربري —التي تُعد الكنيسة الأم للأنجليكان— إلى كاتدرائية القديس جورج، في ما يُعد بمثابة تخفيض رتبة.
ومع ذلك...
رغم أنها كانت في السابق مجرد مركز ثانوي، فإن النِسِسَريوس كانت تؤتي ثمارها بهدوء ولكن بحماسة.
وقد أكسبتهم هذه الأفعال الثقة والامتياز ضمن المنظمة الكبرى المعروفة باسم الكنيسة القائمة. لقد حققوا من النجاحات ما جعل [قلب] الأنجليكان لا يزال رسميًا في كاتدرائية كَنتربري، إلا أن [عقلها] قد أُوكل تمامًا إلى كاتدرائية القديس جورج.
وهكذا أصبحت هذه الكاتدرائية، الواقعة على بُعد خطوات من مركز لندن، محور أكبر ديانة في البلاد.
وفي صباح أحد الأيام، خرج كاهنٌ أصهب الشعر يُدعى [سُتَــيْــل ماغنوس] يسير في شوارع لندن، وهو يغمغم لنفسه بقلق.
لم يكن في المدينة ما يُشير إلى أي تغيير. شقق حجرية بُنيت قبل أكثر من ثلاثمِئة عام تصطف على جانبي الطريق، والموظفون يسرعون الخطى وهم يحملون الجَوّالات. وبالتوازي، تمر الحافلات ذات الطابقين التقليدية ببطء، في حين كان عمال البناء يزيلون أكشاك الهاتف الحمراء التقليدية واحدة واحدة. كان نفس المشهد كما العادة—مزيجًا من العتيق والحديث.
حتى الطقس لم يتغير، فسماء لندن في هذا الصباح كانت صافية بما يكفي لتسطع الشمس وتُنير، لكن طقس هذه المدينة يصعب التنبؤ به لدرجة أن أحدًا لا يعرف كيف سيكون الحال بعد أربع ساعات، لذا كان كثير من الناس يحمل مظلته معه. كان الجو حارًا ورطبًا. صحيح أن لندن تُعرف بأنها مدينة الضباب، إلا أن طقسها المتقلب في الصيف كان مشكلة بحد ذاتها. فالأمطار المتقطعة ترفع من درجات الحرارة المحلية، في حين أن رياح الفوهن الحارة وموجات الحر —التي شاعت في السنوات الأخيرة— جلبت معها حرارةً من جهنم. حتى أماكن الجذب السياحي الصغيرة والدافئة لم تكن بمنأى عن المشاكل. وبالطبع، كان [ستيل] قد اختار العيش في هذه المدينة على مشاكلها، فلم يَكُ يزعجه كثيرًا.
لكن المشكلة كانت في الفتاة التي تسير بجانبه.
「يا مطران!」
「همم. ويحك أيها المحترم، لا تنادِ اسمي بجلالٍ ووقار. فإني اليوم إن كنتَ ترى ألبِسُ لبسةً هينة لا فخر فيها ولا مباهاة،」 قالت بتكلفٍ ياباني عتيق لا هَمّ لها.
كان الصوت لفتاة تقرب الثامنة عشرة، ترتدي رداءً رهبانيًّا بسيطًا بلون البيج. ومن الجدير بالذكر أن اللباس الكهنوتي يفترض أن يكون أبيض أو أحمر أو أسود أو أخضر أو أرجواني، ويُطرَّز بالخيوط الذهبية فقط—مما يعني أنها ابتدعت في لبسها نوعا ما.
كانت على الأرجح الوحيدة التي تظن أن زيها ينسجم مع الناس في المدينة. بشرتها كانت ناصعة البياض إلى حدٍّ سافِر، وعيناها زرقاوان صافٍ. أما شعرها، الذي تراه وكأنه معروض للبيع عند بائع جواهر ثمينة، فقد فشل كليًا في الاندماج مع الجموع.
شعرها طويلٌ مديدٌ غير طبيعي. تركتْه مُسدلاً إلى الأسفل — لكن عند كاحليها، تراه ينعطف إلى الأعلى ويعود إلى رأسها. وكان مثبتًا هناك بمشبك فضي كبير... ثم ينزل مرةً بعد إلى خصرها. أي أن طوله بلغ تقريبًا ضِعفي طولها ونصف.
على أنها ساعة الذروة الصباح في لندن—وفي منطقة لامبث على وجه الخصوص—تُعد من أكثر الأوقات ازدحامًا في العالم، إلا أن الضجيج من حولها بدا وكأنه ينخفض. حتى الهواء المحيط بهما بدا أشبه بالسكون الذي يُطلب في الكاتدرائيات.
هِيَ مَطرانُ الأبرشية الصفرية للكنيسة الأنجليكانية، نِسِسَريوس—كنيسة الشرور الضرورية.
لورا ستيوارت.
قائد الكنيسة الأنجليكانية هو الملك الحاكم. وإلى جانبه كانت لورا... أعلى المطارنة رتبةً، تتولى قيادة الكنيسة نيابةً عن الملك الذي يكون غالبًا مشغولا للغاية.
كان تنظيم الكنيسة التطهيرية الإنجليزية أشبه بآلة وترية قديمة.
فرغم أن الأداة لها مالك، إلا أن القائم على رعايتها هو من يتولى صيانتها وإصلاحها. فلا يهم مدى جودة الكمان—إذا تُرك من دون استخدام، فإن أوتاره ترتخي دون أن يُلاحظ أحد، وصندوقه الصوتي يتلف، والنغمات التي يصدرها تَخْشَنُّ. وكانت لورا هي العازفة المؤقتة التي تمنع حدوث ذلك.
لكن هذه العلاقة—تمامًا كما الحال بين [كاتدرائية وستمنستر] و[كاتدرائية القديس جورج]—قد انقلبت الآن رأسًا على عقب، سواء من الناحية العملية أو الرسمية، وصارت سلطة إصدار الأوامر بيدها هي، تنفيذاً وتشريع.
على سُلطتها الواسعة، كانت المطران تسير بخفة في شارع صباحي من دون أي حراسة تُذكر.
كان الاثنان متجهَين في هذه اللحظة إلى كاتدرائية القديس جورج. ولورا هي من طلبت منه مسبقًا أن يأتي إلى الكاتدرائية في هذا الوقت، لذا كان من المفترض أن تكون بانتظاره هناك...
「مثلك أنا لي بيتٌ أعود إليه كل يوم. فلا أستحمل أن أمكث الدهر وأكون حبيسة ذلك المبنى العتيق،」 قالت لورا وهي تتابع سيرها، لا يُسمع لِخُطاها صوت. 「فلنَسِرَّ في الحديث ونحن نمضي، خيرٌ من أن نُضيّع وقتنا عبثًا」
أغلب المارة كانوا من الموظفين. فهذه المنطقة قريبة من محطة واترلو، أكبر محطة في لندن. وجود راهبة وكاهن لم يكن منظرًا غير مألوف هنا. فمع أن لندن ليست روما، إلا أن عدد كنائسها يضاهي عدد حدائقها.
「لا أمانع. لكن بما إن كان الأمر يستوجب أن تستدعيني إلى الكاتدرائية، فلا أظنك ترغبين في أن يسمعك أحدٌ تكلمينني، لا؟」
「قل ما عندك ولا تخجل، أيُحنِقُك؟ يا لَصِغَرِ شأنك من رجل. أما تجد في قلبك لذةً في نزهتنا تاهِ؟ أما كان الكهنة من أول الزمان يستمعون لاعترافات النسوة اللعّوبة؟ أفلا تملك في نفسك لهفةً في المغامرة؟」
「...」 اضجر ستيل ولم يتحمل، ثم قال، 「هل لي بسؤال؟」
「سل ورجاءً لا تكلّف الحديث. وقل ما الذي تود معرفته؟」
「لماذا تتكلمين كالحمقاء」
「ءء...؟」 تصرّفت مطران الأنجليكان كما لو أن أحدًا أشار عليها أنها أزرّت قميصها خطأً—في البداية بدت مذهولة، ثم تجمدت، وأخيرًا احمرّ وجهها بشدة.
「هاه؟ أأنا... هَه؟ أبدوتُ غريبة على مسمعك؟ أترى حديثي باليابانية على النحو الذي ألحنه غريب؟!」
「مـم، عذرًا، بالكاد فهمت نصف ما قلتيه. حتى اليابانية القديمة التي تتحدثينها ضائعة」
لم يكن الناس الذين يمرّون بالشارع بالبدلات الرسمية ليفهموا اليابانية، لكن لسبب ما، بدا أن الضجيج من حولهم قد تحول إلى همسات—وكانت هذه الهمسات تتركز حول لورا.
「آ-آآآهغغ... درستُ كثيرًا من الكتب والمجلات والتلفاز وكل شيء... بل وحتى استعنتُ بيابانيًا حقيقيًا ليراجع مستواي...」
تنهد ستيل، 「ومن يكون هذا "الياباني الحقيقي" بالضبط؟」
「ر-رجلٌ يُنادونه تسوتشيميكادو موتوهارو...」
「...ذاك المعتوه سيُلبس أخته غير الشقيقة زيّ خادمة ثم يُغمى عليه من شدة السعادة. إنه خطير. أرجوكِ لا تعتبريه مثلا لليابانيين. ثقافة آسيا ليست بهذه الغرابة」
「وجهة نظر. عَلَّ عَلِيَّ عُلًّا أن أصلح لساني قبل أن—ابخغااه!」 صرخت لورا فجأة فروّعت سربًا من الحمام كان يستريح على الطريق وطيّرتهم.
「ما الأمر؟」
「لقد أصبح جزءًا مني! لن أتمكن من إصلاحه أبدًا!」
「...رجاءً، لا تخبريني أنكِ تحدثتِ بهذه الغباوة خلال لقائك مع ممثل المدينة الأكاديمية」
اهتزّ كتفا لورا فجأة. 「ل-لا، لا عليك. لا بأس، عادي. كل شيء تمام، تمامٌ تمام،」 قالت، لكن صوتها يرتجف، وقطرة عرق غريبة انحدرت على وجنتها، وعيناها شردت.
زفر ستيل زفرة برائحة التبغ. 「أيا يكن، لنكمل حديثنا عند الكاتدرائية」
استدار الاثنان عند زاوية شارع فيه مطعم ياباني ترتاده كانزاكي كاوري سرًا، وواصلا السير.
「ل-لا! لا داعي أن أشعر بهذه الإهانة. أؤكد أنني لم أرتكب أي فعل غير لائق منذ البداية!」
「كفى هراءً، ولندخل صلب الموضوع، رجاء. آه، وإن لم تكوني واثقة من لغتك اليابانية، فلِمَ لا تتكلمين الإنجليزية؟」
「هـ-هراء...! هـ-هذا لا علاقة له بانعدام الثقة لدي. نعم، نعم! إنما هو لأنني لستُ على سجيتي اليوم،」 قالت لورا، وهي تتصرف بطريقة مريبة للغاية. 「أما عن العمل... أوه، لكن أولا—」
أخرجت ورقتين صغيرتين تبدوان من نوع اللاصق، وقلمًا أسود من نوع ماجيك ماركر من صدر رداءها الكهنوتي. وبما أن ستيل معتاد على استخدام البطاقات المنقوشة بالرونات، فقد فهم فورًا الغرض منها.
「صرر صرر—」
وبينما تُصدِرُ صوتا كصوت القلم وهي تكتب، بدأت لورا ترسم نمطًا ما على الورقتين بالقلم الأسود. على الأرجح أنه طلسمان أو دائرة سحرية. حينما تقف المطران أمام جمهور كبير في طقوس أو احتفالات، كانت تبدو مهيبة لدرجة تشعرك أنها ليست بشرًا أصلاً—لكنها الآن تبدو كفتاة عادية تمامًا تخربش في دفترها أثناء الحصة. وكان ستيل يتمنى لو أنها حافظت على تلك الهيبة طوال الوقت.
عضّ ستيل سيجارته، وعبس قليلًا. لم يُعجبه صوت القلم إطلاقًا.
「صرر صرر صرصرصرررر صرر صرر صررصرصررر صرر صرر صرصرر صرر صرر صرصرصرر صرر صرر صررصررر صرر صرر صررصررر صرر صرر صرر صررصررر صررصرصرر صرر صرر صررصرر صرر صرر—」
「...عذرًا على السؤال، لكن ما الذي تفعلينه؟」 قال ستيل صارّاً أسنانه ويرتعش حَنَقاً. عروق صدغه انتفخت، لكنه قرر أن يصبر.
「اعتبر هذا عربونًا منّي على حسن نواياي. هاك!」 قالت لورا بعد أن انتهت من رسم النمط ذاته على كلتا الورقتين، ودفعت بإحداهما إلى يد ستيل.
『أحم! أسألك — هل تسمع صوتي؟』
شعر ستيل وكأن صوتًا يتحدث إليه مباشرة داخل ذهنه. نظر إلى وجهها ليتأكد، وكما توقع، فمها الصغير لم يكن يتحرك. 『طلسمانٌ تواصلي؟』
『بهذا نتحدث بأفكارنا دون الحاجة إلى ألسنتنا』
همهم ستيل قليلًا وهو ينظر إلى البطاقة في يده. بدا أنها قد كلّفت نفسها العناء احترامًا لنصيحته بشأن خطر أن يسمعهم الآخرون.
『فلماذا أسمع أفكارك كغباء صوتك الحقيقي؟』
『م ما تقول؟! ا-اسمع يا ستيل! أؤكد لك أنني أتحدث بالإنجليزية الآن!』
تحركت بجسدها بانفعال من دون أن تُصدر صوتًا، مما أفزع قطة كانت ملتفة أمام مقهى لا يزال مغلقًا. زفر ستيل زفرة طويلة. كيف لا تحفظ اتزانها الآن، رغم الهيبة التي اعتادت أن تُظهرها هذه المطران؟
『لا بد أن الترجمة الذهنية تفسد كلامك أثناء النقل والتحويل. آه منكِ. بأي حال، أنا أفهمكِ جيدًا، فهيّا نكمل』
『ن-نحن... أحم! إذن، فلنكمل』 كادت لورا على حافة قول شيء، لكنها بلعته وغيرت الموضوع إلى ما يخص العمل. 『ستيل، هل سمعت من قبل بكتاب القانون؟』
『اسم جريموار؟ إن لم تخني ذاكرتي، فقد كُتب بقلم إدواردُ ألِكسَندر』
إدوارد ألكسندر — المعروف أيضًا بكراولي. كان يُعَدّ يومًا أعظم ساحرٍ في القرن العشرين وأسوأهم. شخصية أسطورية، جعلته كلماته وأفعاله المتطرفة والغريبة يُطرد من دول عديدة، وألهمت أعماله شتى الفنانين... وجعلت منه عدوًا لكل ساحر في العالم. تشير السجلات التاريخية إلى أنه توفي في الأول من ديسمبر عام 1947. كان عدوًا فوضويًا بالغ الخطورة لدرجة أن موته خفف التوتر في العالم بأسره.
حتى بعد وفاته، لم ينقطع أولئك الذين ادعوا أنهم تلاميذته أو ورثته الشرعيين. بل إن وكالة متخصصة لا تزال حتى اليوم تحقق في سِحرِهِ المُصطنع: السِحّْر. وكما الحال دائمًا مع الشخصيات الأسطورية، فقد سمع ستيل كذلك شائعات تقول إن الرجل ما يزال حيا.
『ماذا عنه؟ أليست النسخة الأصلية محفوظة حاليًا في مكتبة الفاتيكان التابعة للرومان الكاثوليك؟』
ستيل ماغنوس قد سافر حول العالم حارسا للفتاة إندكس أثناء عملية حشو 103,000 جريموار في عقلها. لذا، كان من السهل عليه تذكّر أسماء ومواقع مئة من أشهر تلك الكتب.
『إيه، نعم... كان كراولي نشطًا في صقلية من عام 1920 إلى 1923، مما يعني أن كتاب القانون قد فُقِد خلال تلك الفترة من الزمن』 وأكملت لورا كأنما تقلب صفحات كتاب التاريخ، 『والآن يا ستيل، أتعرف ما خصائص وما يُميّز كتاب القانون عن غيره من الكتب؟』
『...』
خصائصه الفريدة.
『إن كنتُ محقة، وبغضّ النظر عن مدى مصداقية كون كراولي هو من كتبه فعليًا، فهناك عدّة نظريات أكاديمية تدور حوله. إحداها تقول إن كتاب القانون يحتوي على تقنيات ملائكية لا يسع للبشر استخدامها، وقد كُشِفت له من قِبل الملاك الحارس المقدس آيواس، الملاك الذي استدعاه. وهناك أخرى تقول أنه بمجرد فتح الكتاب، يُعلن عن نهاية عصر المسيحية وبداية عصر جديد كليًا... وطبعًا، محالٌ أنَّهُ سَمِعَ ذلك من ملاكٍ حقيقي — فالملائكة لا تملك إرادة — لكن النظرية الثانية مثيرة للاهتمام. وأيضًا—』
من ضمن ما راج في كنيسة الأنجليكان، كانت هناك الكثير من التفسيرات التي تشير إلى أن هذا الجريموار يصف وسائل لاستخدام سحر خارق للقوة.
لكن كل من سمع ذلك توصل إلى سؤالٍ جوهري:
لماذا بقي كل هذا في إطار التخمين؟
فِهْرِسُ الكُتُبِ المُحَرَّمَة — الإندِكس — يُفترض أنها تمتلك معلومات بشأن كتاب القانون.
『—لا أحد بقادرٍ على فك رموزه، صح؟ الجريموارات بطبيعتها مكتوبة بأنظمة ترميزية معقدة، لكن يُقال إن ذلك الكتاب استنثاءٌ بين استثناءات. حتى الإندِكس عجزت عن فك شيفرته، بل وحتى شيري كرمويل، الخبيرة الأولى في فك الرموز، اعتبرته ميؤوسًا』
نعم—لم يكن أحد قادرًا على قراءة كتاب القانون. وبحسب تفسير إندكس، فلم يعد بالإمكان فك شيفرته باستخدام أساليب التحليل اللغوي الحديثة. ولهذا السبب، بقيت مقاطع كتاب القانون في عقلها محفوظة بصيغتها المشفّرة.
ابتسمت لورا ابتسامة رضا وقالت، 『فماذا لو أخبرتك أن أحدًا قادرًا على قراءته قد ظهر؟』
『...ماذا؟』 حدّق بها ستيل مجددًا. ولم تُبدي المزاح لورا.
『إنها راهبة من الرومان الكاثوليك، جاءت باسم أورسلا أكويناس. ويبدو أنها تعرف فقط طريقة فك شيفرة الكتاب — ولم ترَ النسخة الأصلية منه بعد』
『فكيف عرفتِ؟』
『يُقال إن أورسلا كانت تبحث عن وسيلة لفك الشيفرة اعتمادًا على جزءٍ من المخطوطة مَرجعًا. كان بحوزتها فقط جدول المحتويات وعدة صفحات من القسم الأول』
النسخة الأصلية من كتاب القانون كانت تحت حراسة صارمة لدرجة أن حتى لورا نفسها لم تكن لتقدر على الاطلاع عليها بسهولة. وبما أنها ليست الإندِكس، فإن مجرد حصولها على النسخة الأصلية دون تدابير مناسبة كان سيكون في غاية الخطورة.
『الكنيسة الرومانية الكاثوليكية... تفتقر إلى الأوراق الرابحة حاليًا في صراع القوى العام. فهل يحاولون استغلال كتاب القانون كجزء من مؤامرة لاستعادة موقعهم؟ أيرونه مجرد مخطط لبناء سلاح جديد...؟』
كان الرومان الكاثوليك أكبر فصيل في المسيحية، لكنّ هناك تقارير تشير إلى تراجع قوتها. كانت أقوى أسلحتها، "الجوقة الغريغورية" التي تضم أكثر من ثلاثة آلاف عضو، قد دُمِّرت على يد خيميائيٍّ مُعَيّن. وبما أن الحال كذلك، لم يشكّ ستيل لحظة في أن الكنيسة ستنتهز أي فرصة لتعويض قوتها المفقودة باستخدام المعرفة الموجودة في كتاب القانون لتخطيط وإنشاء تعويذة جديدة تحل محل الجوقة الغريغورية وتحمي مكانتها في القمة.
『حسنًا، يبدو أنه من المستحيل على كنيسة الرومان أن تستخدم كتاب القانون لتعزيز قواتها العسكرية. على الأقل، لا يوجد في الوقت الحالي أي تهديد من أن الكنيسة ستستخدمه لمهاجمة أي مكان، لذا لا داعي للخوف』
『؟』
『مم-همم. ولكن هناك أمور أخرى جارية. أمورٌ، أمور』
كانت لورا واثقة وبريبٍ، لكن ستيل عبس وشكّ. على أي أساس قالت؟ خطر بباله احتمال وجود اتفاقية بين كنائس الإنجليز التطهير والرومان الكاثوليك تمنع استخدام الكتاب، لكن...
...فلماذا احتاجت الكنيسة الرومانية أورسلا كي تفك شيفرته في المقام الأول؟
『ضانك الوجه مفضوحٌ قَلقُكَ أنتَ يا ستيل. أخبرتك، لا عليك! كل شيء تمامٌ تمام』
『لكن...』
『آاه، يا ليل! يا ليل بحق! أيا كان ما يكيده الرومان الكاثوليك بكتاب القانون، فلن يستطيعوا بأي حال تنفيذه في الوقت الحالي』
وقبل أن يسألها ستيل عن السبب، أجابته،
『كتاب القانون و أورسُلا أكويناس—يبدو أنهما قد سُرقا』
「ماذا...؟ من سرق؟!」 لم يستطع ستيل كبح نفسه، وقد جلبت صرخته أنظار الموظفين المارة.
『حدسي بهذا الشأن لا يُخطئ، ومهمتك الآن أن تسمع مني التفاصيل وتتعامل مع الأمر. وأنا واثقة من شيء واحد—خصمنا هذه المرة هي الكنيسة الصليبية الأماكسية اليابانية』
『أماكسية...』
شريكة ستيل ماغنوس الحالية هي كانزاكي كاوري. الأماكسية كانت فرعًا يابانيًا من المسيحية، وكانت كانزاكي قائدة لهم في السابق—كاهنتهم الكبرى.
لكن ستيل لم يكن يرى فيهم دينًا مسيحيًا خالصًا. فقد اختلطت فيه عناصر من الشنتوية والبوذية، وما عادت تحفظ الشكل الأصلي للمسيحية.
『ككنيسة، تعتبر الأماكسية صغيرة جدًا مقارنة بالأديان الوطنية الكبرى مثل روما وإنجلترا وروسيا. واستمرارها حتى الآن يرجع إلى وجود عنصر شاذ: كانزاكي. والآن وقد فقدوا ركيزتهم الأساسية، فليس من الغريب أن يسعوا وراء كتاب القانون ليحل محلها. فاستعمالهم للكتاب من شأنه أن يُربك ميزان القوى في عالم المسيحية』
إذا كانت أورسُلا أكويناس وكتاب القانون قد وقعا في يد الأماكسية، فيمكنهم استخدامه في أي وقت. بل سيكون من الغريب إن لم يستخدموه.
『ولكن مع ذلك!』 اختلط صوت ستايل، 『ألم يكن كتاب القانون محفوظًا في أعماق مكتبة الفاتيكان؟ الأماكسية حاليًا صغيرة لدرجة أنها تطمع في أي قوة. جماعة بهذا الحجم لن تتمكن أبدًا من اقتحام المكان. أعلم ذلك لأني دخلت المكتبة من قبل مع الإندِكس. لن نجد هناك ثغرات، ولا أبواب خلفية. إنما جدارٌ متين، ببساطة!』
『وأنا أقول لك أن كتاب القانون لم يعد في مكتبة الفاتيكان」
『ماذا؟』 تجمّدت ملامح ستيل.
مرّ بجانب عربة تجرها الخيول يبدو أنها مخصصة للجولات السياحية، وكانت حوافر الحصان تصدر أصواتًا منتظمة وهي تضرب الأرض. وقد ثُبّتت على مؤخرة العربة لوحة ترخيص بشكل مهذب.
『الكنيسة الرومانية الكاثوليكية نقلت كتاب القانون إلى متحف في اليابان حتى يُقيموا معرضًا دوليًا. وأظن لا داعي أن أشرحَ لكَ لماذا [الدَرَج المُقَدّس] في [كاتدرائية القديس يوحنا اللاتيراني] في روما —التي يُقال إن ابن الرب صعدها وهو ينزف— أصبحت مفتوحة للعامة』
لقد اعتادت الكنيسة أن تفتح بعض القطع التاريخية والدينية للجمهور كل بضع سنوات.
والسبب بسيط—لجذب الزوار، وجمع التبرعات من عدد كبير من الأتباع، بالإضافة إلى استقطاب أتباع جدد. وبما أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية فقدت أقوى أسلحتها، وهي الجوقة الغريغورية المكونة من ثلاثة آلاف شخص، فقد أرادت أن تستثمر كل ما تملك في إنشاء تعاويذ جديدة وتعزيز أعدادها.
وكانت الطريقة الأكثر فاعلية لاكتساب أتباع جدد هي التخطيط لهذه الأحداث في أماكن لا تملك قاعدة دينية مسبقة. وكانت اليابان مناسبة لهذا الغرض، لكنها في المقابل أضعفت من قبضتها على زمام الأمور هناك. ويبدو أن الأماكسا قد حدّدوا تلك الثغرة بدقة.
『هذا جنون... أن يعرضوا شيئًا بهذه الخطورة ثم يسمحوا بسرقته من تحت أنوفهم؟ كم مرة يجب أن يُذَلّ الرومان قبل أن يتعلموا؟』
『كهكه، أظنهم أوعى بذلك الآن. صحيح أنهم كسبوا ميزة على الأرض، لكن كرامتهم تحطمت حين تفوقت عليهم طائفة صغيرة في أقصى الشرق』
『صحيح. إذن، هل جاؤوا إلينا بذُلّ وصُغر يطلبون منا العون؟』
『لاه. كَنّهم يرغبون في حلها بأنفسهم. ولهذا بذلنا جهدًا حتى حصلنا على هذه المعلومات. علّه ما تزال لديهم ذرة من الكبرياء تدفعهم... افف، الحمقى لم يستوعبوا بعد الأمر الواقع』
『ألم نبدأ عملية إنقاذ أورسلا أكويناس واستعادة كتاب القانون بطلب من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية؟』
『لقد كانوا مترددين. وإن كانت أورسلا أكويناس تملك حقًا القدرة على فك شيفرة كتاب القانون، فهذا سبب أقوى للتحرك』
『...إذن تنوين جعلهم مدينين لنا؟ أتظنين أن تلك الطبقة النبيلة من المتدينين ستدفع لنا شيئًا ثمن مساعدتنا؟』 سأل ستيل بلهجة تسخر من غرابة الموقف.
إنّ ستيل مدرك أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية—على الأقل أولئك المطلعون على جانب السحر منهم—تشتهر بكبريائها الفائق ونرجسيتها. ربما كان ذلك بقايا من أيام سيطرتها على أوروبا. وكان هذا واضحًا على وجه الخصوص في الكهنة والأساقفة المتشددين. لم يكتفِ بعضهم باحتقار من يعارضهم، بل كان منهم من يستهزئ بمن يساعدهم، ويصف تعاونه معهم بأنه أمر مثير للشفقة والاشمئزاز.
『لا شعرةٌ من رأسي ترغب في دعم الحمقى الذين تسببوا في فساد الطريق القديم—الطريق الكاثوليكي—خصوصًا وأنهم السبب في تسميتها بذلك أصلًا. ولكن اسمعني جيدًا يا ستيل—لدينا مشكلة أكبر الآن』
『وما هي؟』
『فقدنا الاتصال بكانزاكي كاوري』
استخدمت لورا أقل عدد ممكن من الكلمات، ومع ذلك أدرك ستيل فورًا ما تعنيه.
فكانزاكي كانت في السابق قائدة للأماكسية الصليبية. ورغم أنها انفصلت عنهم الآن، إلا أنها ما تزال تعتبر نفسها واحدة منهم. ولو علمت أن قومها يثيرون المشاكل ويصنعون عداوة مع الرومان الكاثوليك—أكبر ديانة في العالم، ذات أكثر من مليارَي مؤمن—فما الذي قد تفعله؟
كانت واحدة من أقل من عشرين قديسٍ معروف في العالم، ووجودها وحده يعادل وجود سلاح نووي في ميزان القوى. وقد فقدت الكنيسة الإنجليزية التطهيرية التحكم بها، فإن أقدمت فوق ذلك على قتل أحد من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، فماذا سيحدث...؟
『على عهدي بها، أعرف أنها قد تدخل الصراع دون أن تفكر في العواقب. ولو كانت قوتها متوسطة أو أقل من المتوسطة، لهانَ الأمر. لكنها كانزاكي من نتحدث...』
تنهدت لورا بغير رضا وأردفت، 『أرغب في حسم الأمور قبل أن ترتكب كانزاكي حماقة. تلك أولويتنا القصوى. لا يهمني أي طريقةٍ تستخدم. استعد كتاب القانون وأورسلا، أو أرغم الأماكسية على الاستسلام بالتفاوض، أو حتى اقضي عليهم ومعهم كانزاكي إن لزم الأمر』
『أتطلبين مني قتال كانزاكي؟』
『نعم، أقولها صراحة، إن اقتضى الأمر،』 ردّت لورا ببساطة. 『قواتنا مشتتة حاليًا، وهم في طور التوجه إلى بعثة البحث التابعة للكنيسة الرومانية في اليابان. أما أنت، فستكون ضمن وحدة مختلفة. لذا أرغب بأن تتواصل مع المدينة الأكاديمية قبل أن تبدأ المهمة』
نفث ستيل دخان سيجارته البيضاء كما لو كان يطلق معه شكوكه.
ولم يكن يمانع في مسألة كونه في وحدة منفصلة فردية.
فالساحر ستيل ماغنوس لم يكن يومًا من أنصار العمل الجماعي. وكان السبب يعود جزئيًا إلى شخصيته، لكن الأهم أنه كان متخصصًا في استخدام السحر الناري، وإذا أطلق قوته الكاملة، فإن حلفاءه القريبين منه سيكونون عرضة للخطر من النيران والدخان كذلك.
أما تعويذته مَلِكِ صَيْدِ الساحرات، إنوكنتوس، فكانت غير مستقرة جزئيًا لأن قوتها تعتمد بشكل كبير على عدد البطاقات التي ينشرها ستيل، لكنها مع ذلك تتمتع بقوة تجعلها تستحق اسمها بحق. إن رؤية كرة من اللهب بدرجة حرارة 3000 درجة مئوية ترقص بحرية وتحرق جدران الحديد بسهولة لتصل إلى العدو وتهاجمه، لا بد أنها كانت صورة ملك الموت بعينه في أعين أعدائه. فباستثناء يد ذلك الفتى اليمنى، لم يكن هناك شيء يمكنه إيقافها. ويمكن تلخيص إنجازاته بعبارة "بديع"، بالنظر إلى عدد المجتمعات والعصب السحرية التي أحرقها بمفرده.
لذا، فالمشكلة لم تكن هذه.
『تلك مشكلتنا نحن. فلماذا نحتاجهم؟』
『فهرس الكتب المحرّمة』
نطقت لورا باسم شخص... لا، بل اسم أداة.
『حين تظهر الكتب سحرية (الجريموار)، خصوصًا واحدًا ككتاب القانون، أفلا نُنادِ بخبير مختص؟ قد شرحت لهم كل شيء مسبقًا، فلا تتردد في استخدام كامل قوتك. لكن بشرط—أن تتعاون مع حارسها』
『...』
『ما قولك؟ لا أراك فرح على قُرب موعد لمّ شملك معه بعد حين』
『البتة』 كبح ستيل بعض الكلمات اللاذعة، وأخفى تعبيره. 『...بـ[الحارس]، تقصدين الإماجين بريكر ها؟』
『هو من أقصد. استخدمه كما تشاء. آه، لكن رجاءً لا تقتله. إنما هو استعارة، وليس لنا』
『هل من الحكمة إشراك مواطن من الأكاديمية في صراع بين السحرة؟』
『طالما تستخدم عليه بعض الحيل، فكل شيء سيكون على ما يرام. على أية حال، لن يسلموها بناءً على شروط التبادل. ليس لدينا رفاهية إطالة المفاوضات』
『...فهمت』
لم يستطع أن يدرك تمامًا ما الذي يفكر فيه زعيم المدينة الأكاديمية أو لورا ستيوارت، التي تسير بجانبه. لا بد أن بعض الترتيبات تجري خلف الكواليس، لكن كونه تابعًا لم يكن من شأنه أن يعترض... ومع ذلك...
『وأيضًا يا ستيل. خذ هذه معك』
أخرجت لورا عِقدًا عليه صليب صغير من كمّ رداءها الرهباني البسيط، ورمته إلى ستيل بلا تكلّف فالتقطه بيده.
『هل هذه أداة روحية؟ عدا أنها لا تبدو كذلك من النظرة الأولى، فدواخلها تختلف』
『فكّر فيها كهدية صغيرة لأورسلا أكويناس. عندما تلتقي بها، أعطها إياها إن قدرت』
لم يفهم مقصدها، ولم تبدو مهتمة بشرح التفاصيل. كأنما تقول، "لا تفكر، وأنجز عملك".
توقف الاثنان عن المشي.
أمامهما كانت كنيسة—ليست كبيرة لدرجة لن تدري أنها أصلا كاتدرائية، وتقع على بُعد حوالي عشر دقائق سيرًا من أحد أكبر محطات لندن.
كاتدرائية القديس جورج.
كانت ملاذًا للظلام، صورة مكثفة لعصور الظلمات من محاكم التفتيش وصيد الساحرات، حيث أُحرقت القديسة جان دارك، أسطورة فرنسا، على الخشب.
خطت لورا أمام ستيل ولمست مقبض الباب الثقيل برفق.
「والآن...」
فتحت البابين الضخمين واستدارت، وأشارت إلى الكاهن الأصهب.
ثم قالت بصوت واضح، دون استخدام طلسمانها،
「هيّا ناقشنا التفاصيل في الداخل؟」
اختر اسم وأكتب شيء جميل :)