-->

الفصل الثالث محاصر. — Battle_Cry.

(إعدادات القراءة)

انتقال بين الأجزاء

  • الجزء 1

حافظت شيري كرمويل على رشاقتها وأناقتها في مشيتها وسط النار والرصاص المتطاير في ساحة المعركة.

ذلك أنّ تمثالا حجريا حَدَّ بينها وبين كل شيء كدرع عملاق. هيئته صُنعت من البلاط واللافتات والأعمدة — من أي شيء استطاع جمعه من هذا المجمع التجاري تحت الأرض، ملتفًا كالصلصال. بلغ ارتفاعه أربعة أمتار تقريبًا، لكن رأسه ضرب السقف، فظل منحنياً طوال الوقت.

مررت شيري قلمها الشمعي الأبيض في الهواء. صارَ أمرًا، فتقدم التمثال العملاق مجيبًا.

وأمام شيري ووحشها كان ضباطٌ من الأنتي-سكيل بدروعٍ سوداء قاتمة. جلبوا طاولات وأرائك من مقهى قريب إلى الممر ليقيموا بها حاجزًا، وكانوا يرمون نيرانًا كثيفة من وراءه. انقسموا إلى مجموعات من ثلاثة، بحيث ترمي مجموعة النار حينما تنتهي ذخيرة الأخرى، فيمنعون بذلك أي فجوة في الدفاع — تمامًا كما فعلت فرق الرماة في عهد أودا نوبوناغا.

ماهرون لا شك، لكن بهم فقراً في الأساليب، كما حكمت شيري بخيبة أمل.

كانت ممرات المجمع التجاري ضيقة في الأصل، لكن التمثال — أي الغولم إليس — كان كجدار متحرك. لم تصل أي رصاصة واحدة إلى شيري خلفه.

ضربت المئات منها إليس، لكن لم تحدث أي إصابة حاسمة. كانت الطلقات تفتح ثقوبًا في أطرافه، لكنه يصلح الأضرار تلقائيًا بانتزاع بلاط الجدران المحيطة، فيمتصها كما لو كان مغناطيسًا ضخمًا.

كركلك! دوى صوت معدني.

فقد أحد الأنتي-سكيل أعصابه، فسحب دبوس قنبلة يدوية. حاول رميها أسفل قدمي التمثال لتمر وتصل إلى شيري مباشرة.

「إليس」

قُبَيل ذلك بلحظة، مررت شيري قلمها الشمعي في الهواء من جديد.

داس التمثال على الأرض -غررش!!- فاهتزت أرض المجمع التحت أرضي كما لو أن قاربًا صغيرًا ضربه الموج. لم تستغرق الهزة أكثر من ثانية، لكنها كانت لحظة انطلاق القنبلة من يد الضابط. فقد الإحساس بالتوقيت فتدحرجت القنبلة الخالية من الدبوس عائدة إلى قدميه.

صرخة.

ثم انفجار.

يعقبه تناثر الدم. كانت قنبلة شظايا لا قنبلةً حارقة، لذا لم تزل الجدار المتحرك، لكن رائحة الدم وصلت إلى أنف شيري من خلف الجدار الرفيع. حتى أولئك الذين نجوا من الشظايا اضطروا للارتماء خلف الحاجز هربًا من الانفجار.

أسقط كثير من الضباط بنادقهم من شدة الموجة.

بوشنغ!! واخترق القلم الشمعي الهواء كسيف استُلَّ من غمده.

ظهر ظلّ فوق رؤوسهم. فأنزل إليس ذراعه كما لو كان آلة بناء صناعية عملاقة.

مدوا أيديهم إلى أسلحتهم الجانبية الاحتياطية، لكن بعد ماذا؟

هم أضعف من أن يوقفوا هذا العدو.

  • الجزء 2

كانت ساحة حرب.

ما إن استدار كاميجو عند الزاوية، تملكه شعورٌ غامر برغبة أن يغطي فمه بيديه.

كانت حربًا حق.

في المشهد الممتد أمامه، لم يكن قتال، ولا طلقات، ولا صراخ. فقط جرحى، وبشر محطمون، وآخرون تمزقت أجسادهم أطرافا. هذه لم تكن خط المواجهة، بل مستشفى ميدانيًّا، المكان الذي يتراجع إليه المهزومون مؤقتًا ليداوي كل منهم جراحه.

كانوا ضباط الأنتي-سكيل.

قدّر عددهم بحوالي عشرين.

لكن جراحهم لم تكن عادية. أتُرى، كم كان العدو قويًا؟ إصاباتهم تطلّبت أكثر من مجرد ضمادات أو لاصقات طبية. كقماشٍ ممزق كانت أجسادهم، عليها أن تُخَيّط ليُعاد وصلها.

ما مدى جنون هذا العدو؟ هل يُعقل أن ساحرًا واحدًا يفعل كل هذا بالأنتي-سكيل؟

خذلته الكلمات. حتى شابٌ مثله، لا يعرف الكثير عن آليات عمل الفصائل المختلفة، كان ليدرك وجود تيارين: أحدهما علمي، والآخر سحري. ومع ذلك، ظنّ بدون دليل أن قواهما متعادلة تقريبًا.

لكن، انظر.

منذ عرفهم كاميجو وهو يلتقي بسحرة استثنائيين، ولذا أخذ فكرة بسيطة عن ما يقدر عليه عامَّتُهُم. لكن المشهد الذي تجلى أمامه الآن كانت صدمة—فصيل العِلم سُحق بهذه السهولة؟!

هؤلاء هم من يُفترض أنهم يحفظون السلام في مدينة الأكاديمية، لكنهم الآن لا يبدون أفضل حالا من جنود أفلام غودزيلا الذين يُستخدمون طُعومًا مدفعية.

وعلى كل ذلك، لم تظهر عليهم نية الانسحاب.

كل من كان قادرًا على الحركة، ولو قليلاً، أخذ يجلب كراسي وطاولات من المحلات القريبة ليبني بها حاجزًا دفاعيًّا. في الواقع، لم يكن للأمر علاقة بقدرتهم على التحرك. لقد تجاوزوا مرحلة التفكير في ذلك أصلًا.

لم يتحركوا بدافع اعتقاد قُربِ الموت.

بل إن كاميجو استشعر منهم عزيمةً بأسى—إصرارٌ على إتمام المهمة وإن كان الثمن حياتهم.

لكن لِمَ...؟

لم يعرف كيف يجيب على هذا.

ربما تلقوا تدريبات احترافية كثيرة، لكنهم في الأخير... مجرد مُعلّمين. لا أحد يُجبرهم على هذا، ولا يتقاضون أجرًا لقاء المخاطرة بحياتهم. لا سبب يدفعهم للقتال بهذه الشراسة. ما كانوا ضباط شرطة قَط، ولم يخوضوا امتحانات الخدمة المدنية. من كان ليلومهم لو فرّوا عند مواجهة الموت؟ ومع ذلك...

حينها، رآه أحد الضباط وهو جالس مذهول في الزاوية. ومن المفاجأة، كانت امرأة. [1] أوقفت ما كانت تفعله—تثبيت ذراع زميل مصاب برباط ضاغط—وصرخت عليه،

「أنت! يا ولد! بحقك ما الذي تفعله هنا؟!」

فالتفت إليه باقي الأنتي-سكيل الموجودون حين سمعوا صراخ المرأة. وقف الصبي عاجزًا عن الإجابة، بينما بدأت ملامح الغضب تزداد وضوحًا على وجهها.

「اللعنة، هذا أحد أولاد تسوكيومي. هل حُبست هنا؟! لهذا السبب أخبرتهم ألا يتسرعوا في إغلاق الجدران! يا ولد، اركض إلى غير هذا المكان، تفهم؟! وعند البوابة A03 ستجد تعزيزات من الجدجمنت، فإذا عجزت عن الخروج، فاذهب هناك! وهاك، خذ هذه الخوذة! على الأقل هذه أفضل من لا شيء، واضح؟!」

تسوكيومي... ذلك اسم عائلة المعلمة كوموي. وهذا يعني أنها ربما أخبرتها عني؟

خلعت الضابطة خوذتها وهي تصرخ، ورمتها نحوه. ارتبك، فقفزت الخوذة من بين يديه ككرة سلة كذا مرةٍ قبل أن ينجح أخيرًا في إمساكها.

.......ووسّع نظره حوله.

وهنا أدرك سبب عدم انسحابهم.

خطا خطوة أخرى أقرب.

「إلى أين يا ولد؟! تبا، لا أستطيع حتى التحرك! أحدكم، أيُّ أحد، أوقفوا هذا المدني!」

صرخت الضابطة وهي تمد يدها نحوه، لكنها لم تصل إليه.

لبّى بعض الجرحى ندائها وحاولوا منعه، لكن إصاباتهم لم تسمح لهم بالكثير. لم يكن لديهم ما يكفي من القوة لإيقاف طالب ثانوي واحد لا يمتلك تدريبًا قتاليًّا.

لكنهم مع ذلك لم يفروا.

لم يكونوا ضباط شرطة رسميين. مهما تلقوا من تدريبات، كانوا في الأصل معلمين. ما يفعلونه الآن لم يكن أكثر من امتدادٍ لحماية التلاميذ بعد نهاية الدوام أثناء دوريات المساء.

وربما لهذا السبب تحديدًا هم يفهمون.

لم يُجبرهم أحد على هذا — ولهذا فهموا جيدًا كم هو سهل أن ينهاروا إن استسلموا لضعفهم. ويعرفون تمامًا ما ستكون عاقبتها.

الأنتي-سكيل والجدجمنت ليسوا نتاج ترشيح أو تجنيد، بل كانوا دائمًا متطوعين.

الأمر كان بسيطًا.

لم يطلبهم أحد. كانوا هنا فقط من إرادة — وبعزيمةٍ شَدّة — لحماية الأطفال.

اللعنة...، شتم كاميجو في نفسه.

أزاح من حاول منعه وتقدم. لا يزال الكثير من الحمقى في أعماق الظلام، ومن نظرة، رأى أنهم يواجهون مأزقًا حرجًا.

قبض يمينه بإحكام.

وركض، بنظره مثبت إلى الأمام.

إن لم تكن الهجمات العادية تنفع... فلا بد أن خصمهم ساحر. وإذا استخدم ورقته الرابحة — يده اليمنى — فربما يستطيع قلب الموازين.

اندفع أعمق داخل الممر. وهناك، لاحظ غرابةً.

لا أسمع...شيئًا؟

من المفترض أن يكون تبادل نار عنيف في هذا المكان، لكن الصمت كان مطبقًا. لم يسمع شيئًا—لا رصاص ولا ضرب أقدام ولا صراخ. حتى اهتزازات الأرض المعتادة لم تكن موجودة.

شعر بانقباض ثقيل في معدته.

بدأ هذا الإحساس يتسلل إلى جسده كله، زاحفًا كالعفن.

هل يمكن...؟

انطلق يركض عبر الممرات المغمورة بضوء أحمر خافت.

وما الذي ينتظره في الأمام؟

「هِه. هلا هلا. هيهي. هيهيهيهي...」

صدى صوت أنثوي أجش في الظلام.

امرأة وقفت وسط الممر، ترتدي فستانًا أسود قاتمًا، بشعر أشعث أشقر وبشرة بلون الشوكولاتة. كان فستانها طويلًا كفاية ليخفي كاحليها، وأطرافه ممزقة مهترئة، وبعض درزاته قد انفكت، وكأنه جُرّ على الأرض لمسافات طويلة.

وأمامها، وقف تمثال يحميها—دمية عملاقة مصنوعة من أنابيب الحديد والكراسي والبلاط والتراب والمصابيح وكل ما في المكان، كلها جمعت وقُدّت معًا بالقوة.

وحولها...

كان ما تبقى من الحاجز قد تحول إلى حطام مبعثر على الأرض، كما لو أنه تلقى ضربة مباشرة من قذيفة مدفع. وفوق هذا الركام، تمدد سبعة أو ثمانية من ضباط الأنتي-سكيل مهزومين على الأرض. كانت أطرافهم ترتجف وترتعش—ما يعني أنهم لا يزالون أحياء.

「هِه. مشوق. يرتدون دروعًا ماصة للصدمات؟ أظنها ما أنقذتهم من ذراع إليس... لا بأس، فقد مَتّعوني كثيرًا」

وابتسامة وحش ارتدتها.

لم يفهم كاميجو مقصدها "بذراع إليس"، لكنه فهم المغزى: هجوم من ذلك التمثال الحجري. وقد أدرك قوته بمجرد رؤية الحطام الذي خلفه.

「كيف لكِ...」

...أن تفعلي هذا؟ أكملها في داخله.

أما الشقراء، فلم تُبدِ اهتمامًا البتة.

「ياه. أنتَ هُوَ الإماجين بريكر؟ أرى أن مفتاح منطقة الأعداد التخيليّة ليست معك. هممم... ما كان اسمها؟ كازي، كازا... شيءٌ ما. آهخ، ما أطيق تعقيدات الأسماء اليابانية」

كانت تعبث بشعرها وكأن الأمر كله مجرد إزعاج بسيط لها. 「لا يهم! لا شيء يهم. ليس عليّ قتل تلك البلهاء تحديدا. لا، ليست هي بالضرورة」

「...ماذا؟」 شكّ في ما سمعه.

كان قد خمن مسبقًا أن هذه المرأة جاءت تستهدف كازاكيري وربما هو أيضًا. فلماذا بدت غير مهتمة الآن؟

「ما تقصد بماذا؟! أنتَ موجود، فأقتلك بدلا عنها!!」

ثم فجأة، لوّحت المرأة بقلمها الشمعي نحو الجانب.

وكأن التمثال الحجري اتصل بحركتها إذْ به يدوس الأرض بقدمه ببطشٍ هائل. دوّى صوت ارتطامٍ ضخم، وفقد كاميجو توازنه. ثم أنزل التمثال قدمه مرةً بعد. لم يحتمل الهزة الثانية، فسقط أرضًا.

أما المرأة، فوقفت بكل هدوء في مكانها—هل كانت تستخدم نوعًا من الحيل؟ بدت وكأنها مقطوعة عن خلفية المشهد، دون أن تمسها أي أضرار من الزلازل المتعاقبة.

「الأرض قوتي. أمام إليس، لا أحد يستطيع الوقوف عليها. فهيّا وازحف. تحسب أنك تعضّني بما تملك أيها الكلب؟」 قالت بفخر وعجرفة وهي تشزره.

كان من الواضح أن هذه الإستراتيجية، التي تعتمد على هزّ الأرض، قادرة على قلب موازين أي معركة في ثوانٍ. حتى ضباط الأنتي-سكيل بأسلحتهم ما كان لهم أن يفعلوا شيئًا يُذكر. في الواقع، لو تشتّت تصويبهم للحظة، لربما أصابوا زملاءهم بالخطأ.

حاول كاميجو النهوض، لكن المرأة سبقته بخطوة ولوّحت بقلمها الشمعي مجددًا. نزلت قدم التمثال مرة أخرى، وزلزلت الأرض من جديد. وهو يعلم أنه لو تمكن من لمس التمثال ولو بأطراف أصابعه، فإن الإماجين بريكر سيبطل هذه الخارقة، لكنه لم يستطع حتى أن يخطو خطوةً.

「أ-أنتِ...!」

「لستُ أنتِ، بل شيري كرمويل. تذكّر ولا تنسى... أو لا، لا داعي. فأنت اليوم ميّت، فلا جدوى من أن أُعرّفك بنفسي وأنني من كنيسة الأنجليكان」

「ها؟」 وعبس.

الكنيسة التطهيرية الإنجليزية—الأنجليكان—هي جماعة إندكس.

ابتسمت شيري بسخرية عليه.

「جئتُ أبدأ حربًا، وأفتّن بين الأطراف، وأحتاج شرارةً لأشعلها. أريد أن يعرف الناس حيث كانوا وكلما كثروا أنني من الكنيسة التطهيرية الإنجليزية...صح يا إليس؟」

لوّحت شيري بقلمها الشمعي بحركة بسيطة من معصمها. وبإرشاد من حركتها، داس التمثال العملاق الأرض، ثم رفع قبضته الحديدية الضخمة إلى الأعلى. تلك القبضة التي حطّمت الحاجز في ضربةٍ—حتى وإن كان ذلك الحاجز قد بُني على عجل. حاول كاميجو أن يتفادى الضربة، لكن الاهتزازات صعّبت عليه الحركة. رفع يمينه بيأس، محاولًا صدها بالإماجين بريكر و—

「ابتعد، ولد!」

فجأة، سمع صرخة بجانبه.

أحد الأنتي-سكيل الجرحى، لا يزال ممددًا على الأرض، كان يقبض على بندقيته.

قبل أن يتمكن كاميجو من فعل أي شيء، انطلق وميض اللهب من فوهة السلاح. امتلأ الممر المعتم بضوء الطلقات ودوّي الرصاص. اخترقت الطلقات الهواء واحدةً واحدة، مصوّبة نحو ساقي التمثال العملاق، محاولةً إيقافه.

ولكن...

「آغغ؟!」 شعر بحرارة اللهب تمر بجانب خده، فصرخ دون قصد.

كان جسد إليس الذي يسدّ الممر مزيجًا من المعدن والخرسانة. لا بد أن وزنه يقدَّر بالأطنان، لذا فمن الطبيعي أن ترتدّ الطلقات عنه ككرات البينبول.

حاول الضابط أن يحمي كاميجو من إليس، وقولة حقٍّ له، فقد نجح وأوقفه مؤقتًا. وبما أن التصويب كان على الأرجل، فلم يستطع التمثال أن يضرب الأرض مجددًا. وإن حاول، فهناك خطر أن تصيب الطلقات شيري الواقفة خلفه.

لكن في الوقت ذاته، كانت الرصاصات ترتدّ عن جسد إليس في كل الاتجاهات. ونتيجة لذلك، لم يستطع كاميجو النهوض من مكانه خلف الغطاء على الأرض.

واصل الضابط إطلاق نيرانه بعناد. وبرغم خوف كاميجو من أن تصيبه إحدى الرصاصات الطائشة في أية لحظة، لم يكن بوسعه سوى أن يغطي رأسه بيديه.

تبا... لو أنني فقط أستطيع لمس ذلك العملاق...!!

كان يفصله عن إليس أقل من ثلاثة أمتار، لكنه لم يستطع المجازفة والاقتراب منه بتسرّع. فكلما اقترب، زادت احتمالية أن تصيبه رصاصة طائشة.

كانت فرصته الوحيدة هي لحظة إعادة تعبئة السلاح.

لا يمكن بأي حال أن يكون سلاح الأنتي-سكيل قادرًا على تدمير ذلك التمثال. السلاح لا يملك ذخيرة لا تنتهي، وسينفد عاجلًا أم آجلًا. وفي الثواني القليلة التي سيقضيها في استبدال خزينة الطلقات، سترتفع "ستارة" الرصاص مؤقتًا. وكان عليه أن ينقض على إليس في تلك اللحظة.

شدّ كاميجو عضلاته، واستعدّ ليقفز في أي لحظة...

طك-طك.

فجأة، سمع وقع خطواتٍ خفيفة خلفه.

ورغم أن صوت إطلاق الرصاص كان يملأ أذنيه، فقد اخترقت تلك الخطوات الخافتة ضجيج المعركة واستقرت بوضوح على طبلة أذنه.

أدار رأسه ببطء للخلف، محاولًا ألّا يتحرك كثيرًا كي لا يصيبه رصاص مرتدّ.

كان ضوء الطوارئ الأحمر الخافت لا يكشف سوى بضعة أقدام من الممر. أما ما وراء ذلك، فكان الظلام سيد المكان.

الخطوات جاءت من ذلك الظلام.

لم تكن خطوات محترف، ولم تكن مشيَة عدو واثق يقترب بلا خوف. بل كانت خطوات من يتسلل في بيتٍ مسكون، خطوات طفلٍ عاد إلى المدرسة ليلًا ليسترجع شيئًا نسيه. مرتجفة، ضعيفة.

شعور مضنكٍ ثقيل بدأ يتصاعد في صدر كاميجو.

ثم، وكأنها إجابة على قلقه...

「م-أمم...」

...سمع صوت فتاة.

خرج ظل صاحبة الصوت من الظلام، وتقدّمت تحت ضوء الطوارئ الأحمر. كان يعرف هذه الفتاة. شعرها الطويل المستقيم يصل حتى فخذيها، خصلة منه مربوطة إلى الجانب بشريط مطاطي، ونظارة ذات إطار رفيع على أنفها—كازاكيري هيوكا، واقفةً في منتصف الممر.

「يا غبية!! لماذا لم تنتظري شيراي؟!!」

كان صراخه عاليًا بما يكفي ليرتد صداه في أرجاء المركز التجاري، رغم عصف الرصاص من حوله.

كانت كازاكيري واقفة هناك دون أي حماية. أراد كاميجو أن ينهض ويجري نحوها، لكنه لم يستطع... الرصاصات المرتدة كانت تمنعه.

لكن كازاكيري لم تدرك ما كان يحدث حولها.

「...آه. ولكن، أنا...」

「انزلي أرضا!!」

「...هاه؟」 ردّت كازاكيري بدهشة من صراخه، لكن في تلك اللحظة...

طووه!! ارتدّ رأسها إلى الخلف.

「هاااا؟」 تمتم كاميجو، مذهولا.

العين البشرية، بطبيعتها، لا تستطيع تتبّع رصاصة منطلقة. ومع ذلك، يستطيع أي أحد تخمين ما حدث تواً.

إحدى الرصاصات ارتدّت عن جسد إليس وأصابت كازاكيري مباشرة في وجهها.

شيء بلون الجلد تطاير في الهواء. الإطار الرفيع لنظارتها تمزّق وتبعثر في كل اتجاه.

وبرغم أن كاميجو فهم ما جرى... لم يستوعب ذلك. لم يشأ أن يفعل. عقله امتلأ حتى فاض، ثم توقف عن العمل. في لحظة ما، كانت نيران السلاح قد هدأت. الضابط من الأنتي-سكيل كان يحدّق مذهولا في الفتاة التي سقطت، وشيري عبّرت عن انزعاجها بصمت، فهدفها قد سقط فجأة بطريقة لم تكن في حسبانها.

وسط كل هذا...

مالت كازاكيري إلى الخلف كجسرٍ منهار...

...ثم سقطت على الأرض، مرتخية، كدميةٍ قُطعت خيوطها.

سمع صوت تكسّر أجزاء من وجهها.

تَتَفَتّت. وقطعةٌ من رأسها سقطت على الأرض قربها، وشعرٌ طويلٌ ما زال متشبثا بها. الرصاصة قد أصابت يمين وجهها، لكن الدمار... كان أشبه بانفجار داخلي. وكأن جمجمتها نفسها تشوّهت. إطار النظارة المهشّم سقط أرضًا، وما زالت إحدى نهايتيه المقطوعة متصلة.

「كا...زا...كييرييييييييي!!」

انطلق كاميجو راكضًا نحوها وقد تملكه الهلع، وترنّح كأنما كان مخمورًا.

لكنه توقف فجأة عندما وصل إليها.

وجهه امتلأ بالذهول.

لكن ليس من هول المشهد...

إصابتها مروّعة لا ريب. فقد تحطّم الثلث الأيمن من رأسها بالكامل. الإصابة لم تكن تشبه أي شيء يمكن أن يحدث في حياة يومية. بل كانت أقرب إلى انفجارٍ من الداخل، تفجير ذاتي. ربما لهذا السبب بدا الأمر غير واقعي. كان حجم الدمار فادحًا، مبالغًا فيه لدرجة أنه كان أقرب إلى الكوميديا...

لكن تلك لم تكن المشكلة.

بل غيرها مشكلةً أكبر بكثير، مشكلةً هائلة، جعلت كل ما سبق يبدو تافهًا بالمقارنة.

نظر كاميجو مرة أخرى إلى جرح كازاكيري.

ذلك الجرح الجنوني. بعض رأسها قد تفجّر — لكن ما كان بداخلها لم يكن سوى الفراغ.

لا لحم. لا عظام. لا دماغ. لا شيء.

لم يسل من جرحها قطرة دم واحدة.

وكأنما صُنِعت من الورق المعجّن أو نموذج ثلاثي الأبعاد من مضلّعات. من الخارج، تبدو كجلد إنسان مصقول، لكن من الداخل كانت أشبه بصفحة ناعمة من البلاستيك البنفسجي الفاتح.

وفي تجويف رأسها جِسْمٌ صغيرٌ يطفو كما لو كان معلقًا في فضاء داخل رأسها بالمغناطيس. كان منشورًا ثلاثيًّا ذا لون أسمر. قاعدته مثلث يبلغ طوله حوالي سنتيمترين، وارتفاعه أقل بقليل من خمسة سنتيمترات. كان ثابتًا في مكانه، يدور بلا توقف. جوانبه مغطاة بمستطيلات صغيرة لا يتجاوز ارتفاعها المليمتر الواحد، وعرضها اثنين. بدا وكأنه لوحة مفاتيح صغيرة. وكأن أصابعًا خفية كانت تنقر عليه، كانت تلك المفاتيح المستطيلة تتحرك بسرعة دخولًا وخروجًا.

ما... هذا...؟

انبهر كاميجو. ما رآه بعيدٌ كل البعد عن الواقع. لم يستطع ربطه بكلمات بسيطة مثل "يبدو مؤلمًا" أو "كأنه يوجع".

أهذه قدرة إسبر؟ هل كانت قدرتها مجهولة الهوية هي المسؤولة عن هذه الغرائبية الجنونية؟

لكن كازاكيري لم تكن تشبه أي إسبر عادي. حتى أولئك المصنّفين ضمن أقوى سبعة في مدينة الأكاديمية، مثل الريلغن وأكسِلَريتر، كانت بنية أجسامهم كالبشر العاديين. أما كازاكيري فكانت مختلفة تمامًا، على مستوى الجوهر.

「آغغ...」

وبينما كان يصارع أفكاره محاولًا اتخاذ قرار، تأوهت الفتاة بهدوء.

وربما كرد فعل على استيقاظها، بدأت مفاتيح الكيبورد على ذلك المنشور الثلاثيّ يدور بسرعة أكبر. تتحرك كآلة خياطة تعمل بأقصى طاقتها.

لا...

أخيرًا، شعر كاميجو بقشعريرة واقعية.

أليس هذا... معكوسًا...؟

هل لم يكن المنشور يتفاعل مع حركات كازاكيري؟ أم أنّ تصرفاتها وتعابيرها تُنتج بحركات ذلك المنشور؟

نسي تمامًا هجوم شيري. ظل يحدّق، مذهولًا، غير قادر على الحركة.

أصوات نقر المفاتيح -كلك كلك كلك كلك- كانت تهمس في الظلام كقطرات المطر. بدأ المنشور يدور بسرعة عجلة فأرة التتبع. كيف تحولت تلك إلى أفعال؟ وبرغم أن جزءًا من وجهها كان مفقودًا، فقد رفعت رأسها ببطء.

نظرت إلى كاميجو بعينها الوحيدة، نظرة فارغة.

كانت أشبه بمن استيقظ من غفوة. لم تكن تبدو متألمة على الإطلاق.

وبحركات بطيئة، جلست على الأرض.

「هاه...؟...نظّارتي. أين... أين نظّارتي؟」

تحسّست بأصابعها الجزء من وجهها الذي كان ينبغي أن تكون فيه نظّارتها... ثم بدا وكأنها أدركت شيئًا. سحبت يدها فجأة وكأنها لامست ماءً يغلي. ثم، وهذه المرة بخوفٍ واضح، أعادت أصابعها إلى وجهها مرة أخرى

「مـ... ما هذا...؟」

تسللت أصابعها ببطء إلى حافة التجويف.

「لـ-لا...」

لمحت انعكاس جانب وجهها في نافذة المقهى المجاورة مباشرةً.

أدركت أن ما تراه هو وجهها المنعكس. والدم المتبقي من نصف وجهها لا يزال. تحركت عينها الوحيدة بسرعة من جانب إلى آخر، كاشفةً عن الهلع والاضطراب المتفجّر داخلها.

「لا...! ما... ما هذا؟! ما هذااا لااااااااااا!!」

###

هزّت كازاكيري رأسها بعنف وصرخت بأعلى صوتها، وكأن شيئًا مكبوتًا داخلها انفجر دفعةً. وشهقت أنفاس كاميجو. نهضت الفتاة على قدميها بتخبّط، وكأن توازنها قد اختل، ثم بدأت تركض مبتعدةً عن انعكاسها في الزجاج. كانت مشوّشة لدرجة أنها ركضت مباشرة باتجاه التمثال العملاق — باتجاه إليس.

استفاقت شيري من أفكارها عند هذه اللحظة، ولوّحت بقلم الباستيل الشمعي في الهواء.

زمجرت ذراع التمثال الخرساني.

وضرب كازاكيري بظهر يده كما يُبعد الذباب، اصطدمت بذراعها وجانبها. انتقلت طاقتها الحركية إلى الأعلى تمامًا وطارت في الهواء. على ارتفاع ثلاثة أمتار، اصطدم جسدها الرقيق بعامود دعم، ثم، وكأن ذلك وحده لم يكفي، ارتدّ جسدها عنه مثل كرة بينغ بونغ، عائدًا إلى حيث كانت شيري تقف خلف إليس.

دوى صوت ارتطام مفزع.

نظر كاميجو ورأى أن ضربة إليس قد كسرت ذراع كازاكيري اليسرى عند المرفق. أما جانبها، فقد تغيّر شكله بالكامل — كصندوق حلوى داس عليه أحدٌ.

「آه...」

ومع ذلك.

رغم ذلك، كان جسد كازاكيري هيوكا يتلوى على الأرض.

「آه، أغ، أغ، آه، آآآااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااهاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااهههاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااهاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااه؟؟!!!」

الصراخ الذي انطلق من جسدها المكسور والنحيف بدا مفاجئًا حتى لشيري. لقد وجهت قلمها الشمع وبدأت تتابعها بتركيز للمرة الأولى.

لكن كازاكيري لم ترَ أيًا من ذلك. لم تُمنح هذه الرفاهية. عندما أدركت أن داخل ذراعها الممزق فراغٌ خاوي، بدأت تهز ذراعيها وساقيها كما لو كانت تحاول أن تتخلص من عنكبوت عليهما. ثم هربت إلى الظلام بعيدًا في ممرٍ أعمق.

「إليس」 نقرت شيري بأطراف أصابعها بلطف على سطح قلم الشمع، ووجه إليس لكمة نحو عمود دعم قريب. كاغرش!! فاهتزّ المركز التجاري تحت الأرض بأكمله وبدأ السقف يصدر صريرا.

وفي اللحظة التالية، بدأت مواد البناء فوق رأس ضابط الأنتي-سكيل المسلح بالبندقية تنهار وتسقط عليه.

「همف. مشوق. هيّا بنا يا إليس. الآن نطارد ثعلبًا سخيفًا وقبيح...」

دون أن تلقي نظرة على كاميجو أو ضابط الأنتي-سكيل، المدفون الآن تحت الأنقاض، لوّحت شيري بقلم الشمع في يدها ومعها تحرك إليس، فاختفيا في الظلام — على الأرجح لتتبع كازاكيري.

كازا...كيري...

وما عسى كاميجو سوى الوقوف مذهولا لبعض الوقت.

ما رآه للتو قد نقش في ذاكرته إلى الأبد.

  • الجزء 3

لم تكن شيراي كروكو واثقةً مما ينبغي فعله.

قد أوصلت تلك الغبية الراهبة وحبيبتها أختها (أونيه-ساما) إلى السطح، ولكن ما إن رجعت… كاميجو توما ومعه البنت الضيّاعة اختفيا عن الأنظار.

اف منهما...علّي أبحث في الأرجاء عنهما، لكن...

من حسن الحظ، لم تسمع أصوات المعركة، ولكنها لن تعرف ما إذا ستقع أخرى. زائد، بقي العشرات من الناس هنا.

حسب مستوى التهديد، قد تصل الإرهابية مباشرة إلى كاميجو والفتاة، وبالطبع، لن تستطيع شيراي تركهما — فربما تصيبهما رصاصة طائشة.

ولن تدري ما إذا سوف تجدهما لو بحثت، وأولئك الأبرياء من ليس لهم علاقة بكل هذا كانوا ها هنا أمامها.

رأت في نفسها وفكرت برهة ثم قررت أن تجلي هؤلاء الماثلين أمامها أولا.

كيف لي أن أقيّم وأفضل حياةً على أخرى...؟ أخاف على أونيه-ساما وأتمنى لو أرجع إليها الآن، ولكنه خطأ أن أترك هؤلاء الناس وحدهم.

تنهدت ثم مشت نحو الخائفين المحاصرين.

مواد البناء التي سقطت من السطح كانت أخف مما توقعت، وأن الضابط المدفون تحتها لم يكن مصابا تلك الإصابة. أما الضباط الآخرين هنا وهناك فكانوا كذلك جرحى، ولم يمت منهم أحد، وكانوا منشغلين بلف الجراح وخياطتها بالإبر.

ساعد كاميجو الضابط في إزاحة الأنقاض من فوقه، ثم وبينما يقاوم رغبته في الرجوع، ركض على إثر كازاكيري وشيري. بدا أن في هذه المنطقة الكثير من المتاجر الكبرى، وكانت مرتبطة ببعضها تحت الأرض عبر شبكة معقدة من الممرات. كانت الممرات في السابق بسيطة مستقيمة، أما الآن باتت متاهة حقيقية—كشبكة عنكبوت.

تبا، ما الذي يحدث...؟

كان انتماء شيري إلى التطهيرية الإنجليزية يثير قلقه، ولكن كازاكيري هيوكا صفعته وأنسته كل ذلك.

وبدا أنها لم تكن تدرك غرابة جسدها.

عندما رأت صورتها على المرآة فصرخت كأنما رأت وحشا.

وعلى حد علمه، اليوم عرفت الحقيقة، في تلك اللحظة بالتحديد — وهذا أدخلها في حالةٍ من الذعر عظيم.

...وهذا يعني...أنها لم تكن قدرة كازاكيري؟ أم أنها من أولئك الأسابر الطبيعيين الذين لم يعرفوا قدرتهم؟ خرا، ما عدت أدري. هل تكون بخير على تلك الحال؟ كيف...كيف نعالجها أصلا؟

عند هذه النقطة توقفت ركضة كاميجو.

وعادت إليه ذكرى المشهد. حتى لو أنه أنقذها، فكيف يفعل؟ ما إنها أثارت فيه أسئلة أكثر.

هل أوقف شيري عن كازاكيري أولا؟ تبا، ضعت، ماذا أفعل؟

همَّ وغمَّ وقلقَ ثم أخرج جوّاله يتصل. 

الكثير من الأسئلة على كازاكيري هيوكا، وكم من منها أُجيب؟ إذا احتاج مشورة أحد من الجانب العلمي يعلم أكثر مما يعلم، فواحدٌ فقط حضر في باله.

تسوكيومي كوموي.

لعلها تعرف شيئا، كما فكر. لسوء الحظ، لم تكن هنا تغطية. وعندما كان في الأركيد اتصل به أحدٌ، ولكن صوته لم يصله كما يجب.

أولا، علي أن أقترب من إحدى هوائيات المجمع.

مشى وتلفت حوله حتى لمح متجرا للرياضة. وشيءٌ على جدار المحل بدا كهوائيٍّ.

وقف مباشرة أسفله ثم شغل جواله واتصل.

بعد رنتين، أجابت المعلمة كوموي.

『آه! كمجتي، تسمعني؟ ياي ياي! أخيرا تمكنا من التواصل! كاميجو-تشان، أين كنت طوال اليوم؟』

「هه؟ كوموي-سينسي، كنتِ تبحثين عني؟」

『هيمي-تشان اتصلت بك، ولكن الكثير من التشويش حصل』

أكان اتصال الأركيد من هيميغامي؟ تساءل كاميجو.

『كمجة، كمجة! عندي قول مهم لك، اسمع—』

「آسف كوموي-سينسي، ولكنني مشغول حتى آخري، فهلا تسمعينني أولا」

『ها؟...ولكنه مهم حقا... لا بأس، قل ما عندك』

كان ممتنا بشدة لأنها تنازلت بسهولة.

اختصر كل ما حصل لكازاكيري. وبالطبع، أخفى اسمها وحقيقة أنهم في وسط معركة،「هذا ما حدث، فهل من قدرة كهذه؟」

ولكن كوموي أخذت بضع ثوان تفكر قبل أن ترد،

『كاميجو-تشان، أكنت تقصد كازاكيري هيوكا؟』

بالصميم.

لم يعرف ما يقول، فتابعت عنه المعلمة بصوت أقل توترا،

『هممم، إيه، حرفيا كانت هي ما جعلتني أبحث عنك لأخبرك』

「هاه؟ لماذا تحققين في شأنها؟」

『ترى، كاميجو-تشان.. أتدري أن لدينا شيء في المدرسة اسمه نظام أمني؟ يجب أن نحمي كل المعلومات السرية عن تطوير القدرات، كما أن الجرائم البشتة في تزايد. فكيف لا نحقق في أمر طالبة غريبة غير مسجلة دخلت مدرستنا؟』

وأضافت أيضا أنها تعرف الراهبة، لذا لم يحققوا في شأنها كثيرا.

ثم فجأة استذكر كلام هيميغامي ظهر اليوم عند بوابة المدرسة،

——لكن حسبما أتذكر، أنا الطالبة الوحيدة التي انتقلت.

『ولأجيبك على هذا، كاميجو-تشان...لا شك أن أسابر مثلها موجودون. فمثلا، المتحولون، من يحولون أجسادهم إلى أي شكل يبتغونه』

「إذن هل كازاكيري…」

『لا، التحول قدرةٌ نادرة وحدهم ثلاثة في المدينة الأكاديمية يمتلكونه. وكازاكيري هيوكا ليست منهم」 ثم اشتد صوتها. 「وحتى لو كانت إسبرة متحولة، فذلك لن يكفي تفسيرا』

「ماذا تقصدين؟」 انتاب كاميجو شعورٌ مقلق.

ولم يكن قادر على تحديد مدى صحة هذا الشعور.

『كاميجو-تشان، قد قلت لك، للمدرسة نظام أمني. وفي الحرم كاميرات مثبتة، ولكن…』

توقفت برهة.

『كازاكيري هيوكا لم تظهر في أي كاميرا. تواصلنا مع الأنتي-سكيل وسألناهم صورا من الأقمار الصناعية، ومع ذلك لم نجد أي ريبة فيهم...كنتم تحادثونها في المقصف، فكيف ومتى دخلت؟』

「ما...」

『وعندما غادرتْ المقصف، ألاحظتَها؟ فأنا لم ألاحظ. كأنها اختفت في الهواء

「تـ تمهلي لحظة لحظة! فماذا؟ أتقولين أنها متحولة ومتنقلة؟!」

『كاميجو تشان، واقعيا أثبتنا أن الإسبر المزدوج مستحيلٌ وجوده. فإن ما يتحمله الدماغ الواحد لهو عبءٌ هائل! وبالطبع، تفسيري لهذا لهو أكثر غير واقعية』

لسبب ما تردد في أن يسمع الباقي.

ولكن لن يبدأ ما لم يواجه الأمر. ابتلع ريقه ثم سأل،

「...ما رأيك أنتِ، كوموي-سينسي؟」

『حسنا، كما أرى...،』 بدأت بصوت هادئ مسترخي. 『الحقول الانتشارية اللا إرادية —AIM— أظنها متصلة بكل هذا』

لم يفهم كاميجو مباشرة ما قصدت.

「تقصدين تلك الطاقة التي يطلقها الإسبر لا واعيا أو أيا كانت؟」

『نعم نعم! أضف عليها أن الحقول ضعيفة لدرجة أنك تحتاج أدواو خاصة لقياسها، وكل نوع قوة يطلقها الإسبر تختلف』

「وما علاقتها بكازاكيري؟ هل القوة التي تبعثها من نفسها لا واعيا قوية جنونية أو شيء كهذا؟」

لم تجب كوموي على هذا.

『أخبرتك هذا الصباح أنني أساعد صديقا من الجامعة في بحث حول الحقول الإنتشارية اللا إرادية』 سمع خشخشة أوراق عند كوموي. 『تسريب معلومات من أبحاث التخرج أمرٌ ممنوع تماما، لكنني أثق بك...البحث يحقق في الموجات التي تتولد عند تصادم عدة حقول انتشارية لا إرادية ببعضها البعض』

كان يبتعد أكثر فأكثر عن فهم ما كانت ترمي إليه. ما علاقة كل هذا بها؟ أكانت تشتكي له؟ تفضفض؟

『كاميجو-تشان، أتدري أن بوسعك جمع أنوات مختلفة من البيانات عن البشر بالآلات؟』

「هاه؟」

『توليد وانبعاث وامتصاصُ الحرارة... انعكاس وانكسار وامتصاصُ الضوء... إنتاج الكهرباء الحيوية وتكوّن الحقول المغناطيسية المصاحبة لها... استهلاك الأوكسجين وإطلاق ثاني أوكسيد الكربون... الكتلة والوزن من أبسط البيانات الممكن قياسها. وفي وسعي أن أدلو في ذكر الأمثلة طوال اليوم! يمكننا جمع آلاف، إن لم تكن ملايين من نقاط البيانات باستخدام أنواع مختلفة من الأجهزة』

「وماذا عن ذلك؟」 استحث كاميجو السؤال، ولا يزال صاحيا بحذر للظلام من حوله.

『ما هذا مني إلا افتراض...』 توقفت المعلمة كوموي لوهلة. 『لو، فرضا قلنا، أن كل هذه البيانات البشرية جُمِّعت في نقطةٍ واحدة، أفنقول أن في تلك النقطة إنسان؟』

「مه...؟」 انقطع كلامه فجأة.

『في مدينة الأكاديمية أنواع من الأسابر. وكلهم يُبعثون طاقة ضعيفة باستمرار دون أن يعلموا. حتى لو كانت طاقة كل واحد منهم ضعيفة، فماذا سيحدث لو تداخلت تلك الطاقات وتجمعت لتأخذ معنى واحدًا؟ انظر، فكر في الحرفين [خاء] أو [باء] في الأبجدية. الحرف وحده لا يعني شيئًا، صح؟ لكن ما إن تجمعه مع إخوته في كلمات مثل [اختيار] و[بدأ]، فيأتيك المعنى. [2] ماذا لو أن هذه هي طبيعة الآنسة كازاكيري هيوكا أساسًا؟ في نظري، هيوكا كازاكيري تشبه كودًا برمجيًا، مكوّن من عدد لا يُحصى من الحروف التي تُشكّل أوامر. كل طالب في المدينة يكتب حرفًا واحدًا في كل مرة. وهذه الحروف تُكوّن أوامر، وهذه الأوامر تتجمع لتكوّن برنامجًا』 هكذا شرحت المعلمة كوموي.

قالت في السابق إن كازاكيري هيوكا بدت وكأنها اختفت في الهواء.

لكن ماذا لو أن الأمر ليس كذلك؟

ماذا لو أنه تكن إنسانة تُدعى كازاكيري هيوكا موجودة من الأساس؟

ماذا لو أنّ العملية كانت معكوسة؟

ماذا لو لم يكن الشعور بحرارة الجسد هو الدليل على وجود امرءٍ، بل كنت تظن أن شخصًا موجودًا لمجرد أنك استشعرت حرارة جسدية؟

الأسابر مبعثوا الحرارة يصدرون حرارة جسد، والأسابر المُحَرّكون يصنعون إحساسًا على الجلد، والأسابر الصوتانيون يصدرون أصواتًا.

كل أنواع الحقول الانتشارية اللا إرادية —AIM— كانت مثل عدد لا يحصى من الحروف الأبجدية. تتجمع لتكوّن أوامر، وتلك الأوامر تتجمع لتكوّن برنامجًا—ماذا لو كان هذا هو أصلها؟ ماذا لو أنها صُنعٌ كياني مثالي؟

「م-مهلًا لحظة! هذا كلام المجنون! تتكلمين عن بيانات بشرية شبيهة، لكنك قلتِ بنفسك أنّ، يعني، هناك الملايين من الأنواع!!」

『قد قلت! في المدينة الأكاديمية يعيش مليونان وثلاثمئة ألف إسبر، صح؟ على سبيل المثال، حرارة الجسد يُوفرها الحراريون الأسابر والكهرباء الحيوية يوفّرها الكهربائيون الأسابر وكل ذلك دون إدراكٍ منهم. جميعهم يساهمون في خلق برنامجٍ حاسوبي واحد ضخم يُدعى كازاكيري هيوكا』

صوتها الواثق، الذي لم يتردد لحظة جعل كاميجو يتراجع قليلاً.

شعر بأن الدم قد انسحب من أطراف أصابعه.

بل بدأ ينسى أنه في وسط منطقة حرب.

بالفعل، إن استخدمت التحريك الذهني؛ فلربما تشعر بمرونة الجلد البشري في مكان لا يوجد فيه شيء. وإن تلاعبت باهتزازات الهواء؛ فقد تسمع صوته، وإن تلاعبت بانكسار الضوء؛ فقد تجعل الآخرين يرون أشخاصًا أو أشياءً مغايرة.

『حسب كلام هيميغامي، هناك قصص عن رؤى لكازاكيري هيوكا غير مكتملة منذ زمن بعيد. أعتقد أنها في ذلك الوقت كانت كيانًا غامضًا، غير واضح—كأنها شبح. وبالعودة إلى تشبيه الكود البرمجي، كأن الأوامر كانت تفتقد بعض الحروف فيها، ولم يكن هناك ما يكفي منها. لذا لم تكن قادرة على العمل بشكل سليم، وما كنا لتستطيع إدراكها من خلال البصر أو الشم أو أيٍّ من حواسنا الخمسة. ولكن مع ذلك، ربما كنا لنستشعر وجودها وإن كنا لا نَحُسُّ بوجودها المادي. المختبر الذي كان يُقال إنه مختص بأبحاث كازاكيري هيوكا في كيريغاوكا—ربما كان مخصصًا تحديدًا لدراسة مثل هذه الكائنات الشبحيّة الغامضة بأكبر قدر ممكن من الدقة. أو ربما كان مخصصًا للبحث في الحقول الانتشارية اللا إرادية (AIM)؟』

كائنٌ غامضٌ شبحي.

ارتجف، وتذكّر شكل التجويف في رأس كازاكيري... لكنه في الوقت نفسه، تذكّر شيئًا آخر.

「لكن كازاكيري نفسها لم تكن تدرك أيًّا من هذا. ما هي إلا إنسانة عادية، لذا لم تكن تعلم كم كانت غريبةً حقًّا. وعندما اكتشفتْ، خافت وهربت. لذا فهو غير منطقي أن تكون شيئًا غير بشري منذ ولادتها، أليس كذلك؟」

ما هو الغير منطقي؟』

「ما؟ ماذا تقصدين بـ"ما"...؟」

إن كانت تحسب نفسها إنسانة منذ الولادة، فلن تحمل أيّ شكوك حول وجودها نفسه」

「كيـ...」

كيف لهذا أن يعقل...؟

بحسب المعلمة كوموي، كازاكيري هيوكا كانت كيانًا نشأ عن الحقول الانتشاريّة اللاإراديّة لمليوني وثلاثمئة ألف إسبر في المدينة الأكاديمية... أو هكذا يبدو على الأقل.

بمعنى آخر، لا شيء فيها كان نابعًا من إرادتها.

حتى مشاعرها التي تحس بها—كلها كانت مُختلَقة من مصادر خارجية.

『الخلاصة، الآنسة كازاكيري هيوكا ليست بشراً. بل نوع من الظواهر الفيزيائية، خُلِقَت بفعل الحقول الانتشاريّة اللا إرادية』

شعر كاميجو بقشعريرة تسري في جسده إثر كلماتها.

「اللعنة... هذا... هذا جنون. جنونٌ وقسوة」

『قسوة...؟ كاميجو-تشان، أرى أنك أسأت الفهم』

「...؟ ماذا تقصدين؟ أتقولين أن تعاطفي مع "ظاهرة طبيعية" لأمرٌ سخيف؟ أهذا ما ترمين إليه، كوموي-سينسي؟」

『بالغت، كاميجو-تشان. واصل حديثك إليّ بهذه الطريقة، ولسوف أرميك في محجر محاضرة طوال الأسبوع!』 لسببٍ ما، بدت غاضبة. 『استمع، كمجتي. إن كانت فرضيّتي صحيحة، فإن كازاكيري هيوكا ليست بشراً. حتى وإن جمعت كل العناصر اللازمة لتكون إنسانًا، فإنها بالتأكيد ليست كذلك. لا يهم كم تكافح أو تبذل من جهد؛ فما هي إلا وهمٌ عابر—فتاةٌ إن عرفنا ماهيتها، تتلاشى عنا. ولكن...』

توقفت المعلمة كوموي لحظةً.

『أتراها مشكلة أنها ليست بشرية؟』

سألت بوضوح ودون تردد ثم أردفت.

『لم يسبق لي أن تحدثت مع الآنسة كازاكيري هيوكا، لذا لا أستطيع الجزم، لكن كيف بدت في نظرك؟

أرأيتها وهمًا لا حياة له ولا قلب؟

أبدت لك كشخصية كرتونية من الورق المقوى واقفة بلا روح؟』

「...」

لا. لم تكن. ثم تذكّر كاميجو.

حين كانت مع إندِكس، بدت مستمتعة. وكانت ترتعب من كل كلمة تخرج منه. كانت بالتأكيد تحمل إستقلالا في الفكر، وتتصرف بإرادةٍ منها.

『هل كانت شخصًا تافهًا لن تهتم لفقدانه؟ وهل يكون مقبولاً أن تنبذها لسبب سخيف كهويتها البشرية أو كونها وهمًا؟』

「...」

لا. بالطبع لا.

يستطيع أن يقولها بيقين—قد كانت تتألم.

وقد علمت فجأة بحقيقتها، ولم تستطع تقبّلها.

واحتارت فيما عليها أن تفعل.

وكل ما استطاعته هو الهرب بعيدا إلى حيث الظلام.

كشر أسنانه غضبا.

لا سبب أبدا في هذا العالم يقنعه بأن تركها تموت سيكون أمرًا مقبولاً.

حتى وإن كانت مجرّد وهم، وهم يختفي إن لامسها بيده اليمنى...

فليس حقا ولا عدلا أن تختفي بهذه البساطة. أبدا البتة.

『تيهيهي! ممتاز. أعشق لـمّا أرى حَمَلِيَ الصغير وهو يكبر!』

ارتاح كاميجو لسماعه ضحكتها، لكن مشاعر أخرى من القلق بدأت تتسلل.

ألم تكن المعلمة كوموي تبحث في موضوع الحقول الانتشاريّة اللا إرادية من أجل صديق لها من أيام الجامعة؟

「كوموي-سينسي، سؤال. هل كان صديقتك تحقّق في الهوية الحقيقية لكازاكيري؟」

『لا أدري. كان الهدف هو دراسة تأثير تداخل الحقول المتعددة، هذا مؤكد، لكن من يعلم إلى أي حدّ وصلوا. على الأقل، لم أسمع شيئًا عنها عندما كنا نناقش الموضوع. فرضيّتي هذه من وضعي ومنظوري، استنادًا إلى بيانات صديقتي』

「...」

『همم؟ ما بك؟ لمَ الصمت؟ أوه، لا عليك! لن أخبرها بأيٍّ من هذا. فهي لا تحتاج إلى هذه المعلومات لتكمل أطروحتها』

「لا أعلم مدى قيمتها، لكن... أليست هذه، مم، اكتشافًا علميًّا ضخمًا أو شيئا من هذا القبيل؟ أمن الصواب أن تكتمي الأمر عنها...؟」

『آهَهَه. معك حق—إن كنتُ محقة، فإن هذا سيُحدث ثورة في مجال الحقول الانتشاريّة اللا إرادية ذاته! ومن سيكتشف هذا سيدخل التاريخ. لكن في المقابل، سوف تُحبس الآنسة كازاكيري هيوكا إلى الأبد في غرفة باردة. كاميجو-تشان، هل تُلمّح حقًّا إلى أن معلمتك قد ترغب في حدوث ذلك؟』

「مم...」

『إن كنتُ تعتقد، فأنتَ كئّبت مُعلمتك! أي نوع من الناس تحسبني، كاميجو-تشان؟ اسمع واستمع—أنا مُعلّمة. قد تبدو بديهية وغبية الكلمة، لكنها أقوى ما أستند إليه في قلبي. خيانة أصدقاء طلابي الثمينين في سبيل الشهرة ليست جزءًا من مهامي!』

"أصدقاء ثمينين". هكذا وصفتهم.

وكان كاميجو يعلم تمامًا ما تعنيه تلك الكلمات.

『هيهي! حاول ألّا تبكيها، مفهوم؟ أكلمك لاحقًا』 ثم أنهت المكالمة.

「...」 ظل يحدّق في جوّاله بضع لحظات، ثم أغلقه ودسّه في جيبه.

يعلم ما ينبغي عليه.

ويعلم إلى أين عليه.

「لكن...」

أطبق أسنانه.

الغولم. كان يعلم أنه لا يقوى على ذلك الشيء وحده. بل إنه لا يستطيع حتى الوقوف في ساحة واحدة معه. كانت الارتجاجات العنيفة الناتجة عن دكّة واحدة من قدمه كافية لتطرحه أرضًا بلا حول.

فكّر. تماسَك. أوجِد الحل، وبسرعة! تبًّا، لعل كازاكيري تدفع ثمن خطئي!

كان يعلم تمامًا أن هذا الموقف لا يُحلّ بسهولة. لكنه لم يُرِد لعقله أن يتوقف عن التفكير، ولو للحظة. جال بأفكاره في كل زاوية خفية من عقله، يفتش عن أي احتمال، أي فكرة.

هجوم مباغت؟

لن يفلح. فالصدمات الناتجة عن خطواته تنتشر في كل الاتجاهات. لا يمكنني تفاديها حتى إن اقتربتُ من خلفه!

أسلحة؟

لا تفيد. ما السلاح الذي يسقط هذا الجبل المعدني؟ لا بد أن وزنه يبلغ أطنانًا. السكاكين أو العصي لن تنفع! قد يملك الأنتي-سكيل قاذفات صواريخ أو ما شابه، لكن أن يستعملها طالب في الثانوية؟ مستحيل!

راح يحكّ رأسه بجنون، وقد بدأ الهلع يتسلل إلى قلبه. لو تطلّب الأمر أن يقتلع كل شعرة من رأسه ليجد حلاً، لفعل.

مع كل ثانية تمضي، ازداد عرق التوتّر في جبينه، واشتد إحساسه ورغبته أن يزأر كالوحش. وفجأة... لمح شخصًا منعكسًا في زجاج النافذة خلفه.

「؟!」

استدار كاميجو بسرعة كأن ريحًا لفحته.

وهناك...

「هاه...」

ابتسامة لبسته. وتحوّلت زفرة الكرب في صدره إلى ضحكة. وارتسمت على وجهه ملامح لم يُذِن بها قلبه.

لبث برهة ينظر إلى الانعكاس، كأنما لا يُصدّق عينيه.

ثم رسم ابتسامة واثقة.

「أجل...」

ثم ضحك.

「...يا لغبائه. العالم بأسره ينظر إليّ ويقول يا لغبائه، أهذا "كاميجو توما"؟!»

ثم اتسعت ابتسامته بثقة، وقد عقد العزم في قلبه.

الورقة الرابحة الأخيرة لمجابهة ذلك الغلوم الجبّار كانت ها هنا.

  • الجزء 4

كازاكيري هيوكا، أخيرًا، بدأت تشعر بألمٍ لاذع.

「آغ، غغه...؟!」

ثلث وجهها، ذراعها اليسرى، وجانبها الأيسر. كل واحد منها ينبض بألم فولاذ مذاب حارق. لم تستطع حتى الوقوف، ناهيك عن الجري، فسقطت على الأرض الباردة الصلبة. ثم بدأت تحرك ساقيها وتميل بجسدها محاولةً صرف نفسها عن الألم.

كانت إشارات الألم كافية لأن تقتل إنساناً عادياً في الحال، لكن لم يُسمح لها حتى بالهرب إلى الموت. كان حقًا جحيمًا مُعاشا.

ولكنه لم يلبث طويلا.

「آه...؟」

حدث تغيير رهيب.

شعرت بضغطةٍ كالهلام، فبدأ الجرح ينغلق. حدث ذلك بسرعة لا يصدق، كأنها تشاهد شريط فيديو يُسرَّع. وفي لحظات، تَصَلّح التجويف بالكامل.

فهرب الألم المُجَنِّنُ فجأةً كما ينجلى الحُمى عن الجسد بعد شدّةٍ.

لا شك في أن الجرح كان قاتلاً.

وهي الغرابة بعينها إذ تنجو منه.

ليس جلدها وحسب، بل نظارتها التي انكسرت وقطع ملابسها الممزقة كلها بدأت تعود ببطء وبثبات إلى مكانها الأصلي.

「آه، آاه...!」

مع تلاشي الألم، عاد العقل ليفكر من جديد، وبدأت ذكرياتها تنكشف أمام عينيها.

كان جسدها فارغًا.

ظنت نفسها عادية، لكنها كانت بعيدة كل البعد عن "العادي".

الآن بعد أن فُتح غطاء ذكرياتها، بدأت كلها تتدفق إلى بصرها.

「آغاه...غ! غاه، غو...أوهغغغ!! جيه...غ...كاه...غ...غ...! هيه، غاه، غغكوه...إيغ! أنا...أوه...غاه...آآآه!!」

افتقرت إلى القدرة على تشكيل الكلمات، لكن الضغط الهائل الذي سحق روحها أجبر صرخات على الخروج من شفتيها.

ثم، وكأن هذا اليأس لم يكفها، ظهر آخر من خلف الظلام.

غررششش!! هزة رجّت كامل المجمع تحت الأرض.

طارت كازاكيري في الهواء كفارس سقط عن حصانه، لكنها ما تزال تحاول النظر في الظلام.

هناك رأت وحشًا مشوّهًا مصنوعًا من الحديد والخرسانة.

وخلفه من له الرهبة أكثر — امرأة شقراء الشعر بُنّية البشرة.

وتبتسم.

كأنها تذكّر كازاكيري أن البشر قد يكونون أكثر شَوَهاً من الوحوش.

「هي...آه...!」

تذكرت ألم سحق ذراع الوحش لها وحاولت دون إدراك أن تهرب. لكن رعبها وهلعها الشديد منعا ساقيها من الحركة.

وقالت المرأة شيئًا.

بهدوء لوّحت بقلم الشمع الأبيض الشبيه بالطباشير، فانطلق غولم الحجر بلكمة نحو ظهر كازاكيري.

حاولت على الفور أن تربض أرضا.

لكن شعرها الطويل تأخر برهة عن باقي جسدها، فانحشر في قبضة الحجر. شعرت بألم شديد، كأن رأسها يقلع عن محله، وقذف جسدها ككرة مدفع إلى تقاطعٍ في الممر.

「غغ...؟!」

صوت طرق رهيب جاء من داخلها. وبينما كانت تنزلق على الأرض بسرعة مرعبة، شعرت بألم أكبر، كأن جسدها كله يقطع بشفراتٍ ضخمة.

「آه، غ، غ...!」

تركت وراءها أثرًا طوله أمتار من قطع الجلد الممزقة وخصلات الشعر الطويلة على الأرض.

وسمعت غزغزات غريبة تأتي من وجهها، غزززز.

رفعت يدها نحو وجهها لتجد سطحه يتضخم بطريقة غريبة. الجزء الذي تمزق من وجهها وسُحب عبر الأرض كان يحاول أن يعود إلى طبيعته.

「عجيبة أنتِ، أتساءل كيف تفعلينها؟」

أخيرًا تحدثت المرأة الشقراء. ابتسامتها الغريبة ألمحت إلى أن المشهد أمامها كان أغرب ما شهدته.

「قد كنت أتساءل كيف تراه يبدو مفتاح المنطقة الأعدادية التخيلية، لكن هذا قمة السخف! آها، آهَهَهَهَه! أولاء العلماء يعتزون بشيءٍ كهذا؟ كَهْ، كلكم مجانين!!」

بدأ جسد كازاكيري يستعيد نفسه بينما واصلت المرأة ضحكاتها. توقفت الأصوات المبللة واللزجة قبل مرور عشر ثوانٍ، وعاد وجهها إلى طبيعته.

「هـ-هييي؟!」

شعرت بالرهبة والكره لجسدها. ثم قالت شيري مازحة،

「هِه هِه. يبدو أن قتلك مزعج. حسن، أنُجرب عليكِ شيئًا؟ لنرَ إن كنتِ تستطيعين العودة إلى طبيعتك بعد أن أسحقك إلى فتات لحمٍ!」

「له... لمـ...لماذا...؟」

「ها؟」

「لماذا... لماذا تفعلين هذا... هذا... هذا فظيع...!」

「ممم؟ بلا سبب」

لم يكن لدى كازاكيري ما تقوله تجاه تلك الكلمات الغريبة.

「ليس بالضرورة أن تكوني أنتِ بالتحديد. لا داعي أن تكوني أَنْتِ! لكنكِ بدوتِ الصيدة الأسهل، وهذا كل ما في الأمر. هل تفهمين؟ بسيطة، لا؟」

قبل أن تسأل كازاكيري ما تعنيه بذلك، رفعت المرأة قلم الشمع فانقض غولم الحجر –إليس– على الساقطة كازاكيري بلكمة أخرى. تدحرجت جانبًا، لكن قبضة إليس ضربت الأرض ثم ضربت قطع البلاط المتكسرة جسدها في كل مكان. أطلقها هذا الارتطام في الهواء. فصدر صوت هائل، وحدث تشوّه في جزء من جسدها. أصبح عقلها فارغًا تمامًا من شدة الألم. لكن حتى أثناء تدحرجها على الأرض، بدأت تستعيد نفسها بسرعة هائلة. لقد أُطلقت بعيدا، ومع ذلك كانت لا تزال تتنفس.

مرة أخرى، فشلت في الموت.

ورغم فشلها في قتلها، لم يتغير تعبير المرأة ولو قليلاً.

وكأنها لم تهتم إطلاقا إن كانت ستعيش أو تموت.

ذُلّ أن تعامل حياتها وكأنها لا شيء أصبّ الدموع في عينيها. وزاد إحباطها أكثر أنها عاجزة عن إيقاف هذا الوضع.

رأت المرأة هذا، وبدا عليها أنها فقدت بعض اهتمامها.

「هيه، أنتِ. ما بكِ هكذا، مم؟ ماذا؟ أستقولين الآن أنك خائفة من الموت؟」

「هِه...؟」

「هَيه هَيه هَيه كفى كفى! لا تنظري إليّ كما لو أنه البديهي الذي عليك فعله. ألم تُدركِ بعد؟ انظري كم مرة سحقتك، ومع ذلك ها أنتِ حيّة وتتحركين! أنتِ لستِ إنسانة، بالمرة!」

「...」

「أوه، لا تبدي لي هذا الوجه الكئيب. والآن ماذا؟ تستنجين المساعدة؟ لن تأتيك. أتحسبين العالم يخسر شيئًا لو اختفى منه وحش مثلك؟ فمثلا...」

نقرت المرأة الشقراء بإصبعها السبّابة جانب القلم الشمعي.

بعد لحظة، لوّح غولم الحجر بقبضته جانبًا. اصطدمت القبضة مباشرة بالجدار فانفجرت ذراعه من الداخل.

「ما أنتِ إلا مثل هذا الغولم」

「آه...」

「كل ما فعلته أنني سحقت طرف وحش. وبالطبع هو لن يبكي! تفهمين؟ لماذا أصلا ينسبون المشاعر إلى جماد؟ يصنعون دمية، تجسيدًا لا أكثر، ويجعلونها تبكي كالناس؟ قرف. لستُ مثل المنحرفين الذين تثيرهم خلع ملابس الدمى」

「آغ...واه...!!」

بدأ ذراع غولم الحجر المكسور يتجدد مجددًا أمام نظرتها اليائسة. عاد إلى حالته الطبيعية مع شظايا الزجاج ومواد البناء المجاورة — كان، بشكل غريب، يشبهها تمامًا.

هذا كان شكل كازاكيري هيوكا الحقيقي.

ذاتها القبيحة والمروعة، تحت جلدها.

「هل تفهمين الآن؟ أنتِ وحش، مثلكِ مثل إليس. لن تهربي من ذلك. وأين عساك تهربين؟ أترين مكانا يقبل وحشًا مثلك؟ أفهمتِ؟ فهيا، سهّلي عليّ عملي. لماذا لا تفهمين هذا؟ ليس لكِ مكان تذهبين إليه!」

تذبذب قلم الشمع في يديها ذهابًا وإيابًا. وبدأ تمثال الحجر يقترب.

وما عسى كازاكيري هيوكا إلا أن تنظر إليه، مذهولة، وهي لا تزال على الأرض في وسط التقاطع.

لم تستطع التحرك.

لم يكن هناك أي ضرر لجسدها المادي. قد شُفيت جراحها منذ مدة طويلة.

ولم يكن هناك أي خوف يستولي على عقلها أيضًا. كان عقلها يصرخ بها لتجري الآن.

لكن...

إلى أين تهرب؟

تذكرت.

—كان هذا أول يوم لها في المدرسة.

ظنت أنها طالبة منقولة.

—وكان هذا أول يوم تأكل فيه وجبة مدرسية.

قالت إنها تريد أن تأكل في مطعم الوجبات المدرسية.

—كان هذا أول يوم تتحدث فيه إلى صبي.

وكانت ترى أن ذلك الصبي كان صعب التعامل معه.

—وكان هذا أيضًا أول يوم تشتري فيه عصيرًا من آلة البيع.

كانت تعرف كيف تشتري العصير، لكنها لم تختبر شربه فعليًا من قبل. ما هو المنطق الذي سمح لها بتجاهل هذه المواقف الغريبة طوال حياتها؟

أول مرة. أول مرة. أول مرة. أول مرة. أول مرة. كل شيء، من الأعلى إلى الأسفل، من الألف إلى الياء، كان أول مرة.

كيف لم تلاحظ؟ وماذا كانت قبل ذلك؟ كان الأمر كما لو أنها لم تحمل ماضٍ من قبل. كأنها وهمٌ، ظلٌ، ظهر فجأة من بين الضباب.

لا معنى ولا فائدة أن تصد النظر عن هذه.

ألم الجرح لا يزول إن تناسيته.

والآن بعد أن أدركت هذا، فات الأوان. لا مكان تهرب إليه. ولا مكان تختبئ فيه. لا جنة في هذا العالم ترحب بذاتها البشعة بذراعين مفتوحتين بينما هي بنفسها لا تعرف حتى من تكون.

في جيب تنورتها كانت ملصقات صور التقطتها مع فتاةً معينة ترتدي الأبيض.

علّ إندِكس تبتسم في تلك الصور، لكنها لم تكن تعرف.

لم تكن تعرف أن كازاكيري هيوكا في الحقيقة وحش.

هِيَ...

لو أنها تعرف ما يكمن تحت طبقة واحدة فقط من الجلد...

ما كانت لتبتسم بعد الآن. ولربما تستذكر لاحقا كيف كانت تبتسم لكازاكيري، وهي تجهل حقيقتها، فتكره نفسها بسبب ذلك. لم تعد كازاكيري هيوكا المبتسمة في تلك الصور موجودة. كل ما تبقى هنا، من وراء قشرتها البشرية، هو وحش.

فاضت عيناها.

كانت تريد أن تكون في عالم دافئ وطيب. تريد أن تبتسم مع الآخرين. فقط لدقيقة واحدة. حتى لثانية. إذا كان بإمكانها أن تقضي لحظة صغيرة بسلام، لتمسكت بأي شيء بحياتها.

لكن في النهاية...

لا شيء عندها تُمسك به.

「كُفَّ عن البكاء يا وحش」

قالت المرأة الشقراء ساخرة، وهي تلوّح بقلم الشمع في الهواء.

「بحقك هذا يُقرّفني ويقززني」

اقترب ذراع غولم الحجر، الذي بدا قادرًا على كسر الأشجار الكبيرة، ببطء.

آآه...، فكرت كازاكيري هيوكا بيأس.

لم تكن تريد الموت — هذا لم يتغير.

لكن فوق ذلك، إذا كانت ستُعامل دائمًا كوحش يرمي الجميع عليه الحجارة عليه ما إن يرونه، وما كانت لتكون مفيدة لأحد مرة أخرى... فكرت لو أن الموت ربما أفضل لها.

أحكمت عينيها.

واستعدت للألم الجحيمي المقترب...

...لكنها لم تشعر بأي تأثير.

ولم تسمع أي صوت أيضًا.

لكن الصمت الغريب خيّم عليها برفق، كأنه بطانية. كما لو أنها عادت إلى غرفة دافئة داخلية بعد أن كانت عالقة في عاصفة رهيبة.

「...؟」

فتحت عينيها بتردد.

ظنت أنها تعرفت على مَنْ كان واقفا هناك، لكن عينيها امتلئت بالدموع وخاناتها، ولم تستطع رؤية سوى صورة ضبابية لتمثال الحجر.

كان ذلك الواقف يبدو كصبي.

كانت كازاكيري في وسط التقاطع. شق الشاب طريقه بينها وبين التمثال من ممر قريب. استطاعت رؤية ملامح الصبي ولو بطفيف.

توقفت حركة تمثال الحجر.

أخرج الشاب يمينه عفويا وأمسك بذراع التمثال الضخم. تلك القبضة الحديدية امتلكت قوةً هائلة تكاد تُطِيح بدبابة كما تُطَيّر ذُبابة، ومع ذلك كانت يد الشاب تمسكها وتُخضعها في مكانها.

وهذا وحده كفى أن يوقف التمثال عن الحركة — ولم يتوقف عند هذا، إذْ سُمِع صوت تكسير وبدأت تشققات تنتشر بدءًا من يدِ الغولم.

「إليس؟」

ومن بُعَيد سُمع صوت المرأة تنادي.

「إليس.....، أجبني، إليس!」

على ذعرها وعلى غضبها غير المعتاد لها، لم يُزعج الشاب نفسه ويُدر رأسه نحوها.

وكان يحدق ببساطة في كازاكيري هيوكا.

「أتأخرت عليكِ؟」

ارتجفت كتفاها عند سماع صوته. لم تستطع تمييز ملامحه من دموعها، لكنها عرفت الصوت. فهي من الأساس تعرف عددًا محدودًا من الناس.

كان صوته لها قويًا.

كان صوته لها دافئًا.

وكان صوته بثقتها جديرًا.

وفوق كل ذلك...

كان صوته لها طيبًا.

وواصل الفتى كلامه.

「لكن لا عليك الآن. آهخ، يكفي يا فتاة؟ [3] ولا تبكين على كل صغيرة تلقينها」

فركت كازاكيري هيوكا جفونها كطفل.

وتلاشت معها ستارة الدموع.

ورأت من ورائها.

كان كاميجو توما هناك واقفًا.

ابتسم لها كما لو كانت أهم صديقة لديه أبدا.

وخلفه، بدأ جسم التمثال يتصدع ويرتج ويتهدم.

كما لو أن جدار اليأس الذي لا يُقهر كان يتحطم.

###

「إليس... أتمزح؟!」

اهتز صراخها الغاضب.

قبضتها اشتدت حول القلم الشمعي الأبيض بشدة كادت تكسره. ثم، بسرعة المحترف الذي يسحب سيفه من غمده، بدأت ترسم شيئًا على الحائط. وفي الوقت ذاته، بدأت تتحدث بسرعة كبيرة وبدون توقف.

فانهار جدار الخرسانة مثل الطين اليابس. أخذ يشكل نفسه، كما لو أن أيدٍ غير مرئية تعجنها، وفي غضون ثوانٍ قليلة، أكملت تمثالا حجريًا رأسه يلامس الجدار.

كان وجهها مشوبًا بالذعر، لكنها لم تفقد رباطة الجأش بعد.

هذه هي ورقتها الرابحة — مهما دُمر، بإمكانها أن تخلق آخر. هذه كانت أعظم قوتها. يمكنها استخدامه كدرع، أو كطعم، أو حتى لهجوم انتحاري.

التفت كاميجو توما.

وقف هناك قِبل التمثال المشوه، كأنما يصده عن الفتاة المحاصرة خلفه.

تفاجأت كازاكيري من المشهد، وابتسامة المرأة الشقراء انشقت على وجهها إلى نصفين.

「كها... كههههه. بواههاها! يا للحكاية الخرافية السخيفة؟ كيف عشتِ وكبرتِ لتصيري إلى هذا الحال؟ لابد أنهم كانوا يطعمونك الخراب كهذا التمثال هنا! هئهئهه! افرحي يا وحش. هذا العالم لم يتخل عنك بعد. فمثل هذا الغبي موجود!」

ارتجفت أكتاف كازاكيري على صوتها الصدئ.

نعم، كانت سعيدة لوصول الشاب. لكنها لم تحتمل توريطه في صراع بين وحوش. الأيام الدافئة والمليئة بالطمأنينة التي تتوق إليها كازاكيري هيوكا، والشاب الذي صنعها — لن تتحمل خسارتهما هنا.

لكن بجانب كازاكيري المذهولة، لم يتحرك الشاب قيد أنملة، حتى أمام التمثال الحجري العملاق.

「لستُ وحدي」

ها؟ قالت المرأة بغباء. ولكن في لحظتها—

كشش!! سقط ضوء ساطع عليها.

「؟!」

اضطرت كازاكيري لأن تحجب عينيها بيديها من نور أبيض ساطع معمي.

كانت جالسة في وسط التقاطع. وكان الضوء يسلط على المرأة الشقراء من الممرات الثلاثة الأخرى. كانت عيناها تحترقان من شدة الضوء، لكنها على ذلك ضحكت وتلفتت من حولها.

أولًا، الأضواء، كانت حادة كأضواء السيارات.

بدت ككشافات مع مرايا مثبتة عليها. لم تكن واحدة أو اثنتين، بل لا بد أنها ثلاثون أو أربعون في المكان.

الأنتي-سكيل.

لم يكن أي منهم سليمًا. وقفوا بأجسادهم ورؤوسهم ملفوفة بالضمادات، يجرون أذرعهم وأرجلهم خلفهم. بدا الجميع أكثر ملائمةً لأسِرّة المستشفى من الوقوف على الأقدام.

لكنهم لم يترددوا.

لم يعيروا انتباهًا لمعاناتهم. لم يصدر منهم أي شكوى عن ألمهم. لقد ركضوا إلى هنا، دون أن يتوقفوا، إلى حيث ما لا يقل عن فاه الموت. لم يكونوا فقط الرجال الأشداء الذين تراهم أبطالا في أفلام الأكشن — بل بينهم كذلك امرأة. كانت تلوح بدرع شفاف وتبتسم ابتسامة جريئة رغم إصاباتها. وعيناها توعد أن كل شيء سيكون على ما يرام.

「لـماذا...؟」 سألت كازاكيري هيوكا بدهشة حقيقية.

هم لا يعرفون من هي حقًا. لكن كان لا شك أنهم على الأقل أدركوا أنها ليست شخصًا عاديًا. لا بد أنهم رأوا وجهها وهو يتحطم من رصاصة مرتدة. ولا ريب أنهم شاهدوها تنهض وتركض من بعد أن صفعها التمثال.

فلم تستطع إلا أن تسأل، لماذا.

لماذا؟

كانت تستحق أن تُرمى بالرصاص كما هو حال تلك الإرهابية. فلماذا تقدموا للدفاع عنها؟ لم تفهم أي شيء من ذلك.

「يا غبية. لا نحتاج سببًا.」 رد الصبي دون تردد.

كازاكيري كانت تعرف أنها وحش، لكنها لم ترَ كاميجو يتراجع أو ينظر بعيدًا عنها ولو لثانية واحدة.

كان بنفس التعبير الذي كان عليه عندما كانا في صالة الألعاب.

مُحاطًا بالنور، تكلم.

تكلم عفويا، وبارتياح. صوته كان كسماء صافية خلت منها الغيوم.

「لن تجدي شيئًا مميزا في كل هذا، ولو بحثتِ. أنا ببساطة أخبرتهم بشيءٍ واحد」

وسط الضوء الغامر، واصل كلامه.

「قلت لهم، أرجوكم ساعدوا صديقتي」

للحظة، لم تفهم كازاكيري هيوكا ما قصده.

فهي ليست إنسانًا في الأساس. هي وحش. جسدها فارغ من الداخل. لا شيء بداخلها إذا قشرت طبقة من جلدها. بإمكانها النجاة من رصاصة وضربة من تمثال حجري. وكان الأطباء والعلماء ليندهشون من جسدها.

هل لن يهتموا؟ هل يتخلون عنها؟ بطريقة ما، كانت تأمل لو يفعلون.

لو كانت في مكانهم، لتخلت عن هذا الجسم المجهول الهوية والميئوس منه.

ربما كانت هذه هي طبيعة المدينة. ثمانون بالمئة من سكانها طلاب، وكل واحد منهم أيقظ قدرةً معينة. كل شخص يرى نفسه ويعرف أنه مختلف. ربما هذا هو السبب الوحيد الذي يجعلهم يقبلون كازاكيري هيوكا، التي تختلف عن الآخرين.

فهل كان من الصواب أن تبقى؟

هل يقبلون وجودها بابتسامة؟

لا تزال مذهولة بينما استمر الصبي في كلامه.

「امسحي دموعك وانظري إلى الأمام. ابحثي عن ثقتك أيضًا. كل أحد هنا لا يريدك أن تموتين」

رفعت كازاكيري رأسها.

العالم المظلم الذي كانت تراه طوال الوقت اختفى بالكامل.

「وسوف نريك أننا لا نزال قادرين على إنقاذ العالم الذي تعيشين فيه!」

هي تعرف.

قد يكون هذا المركز التجاري تحت الأرض غارقًا في الظلام بسبب عاصفة القسوة التي أطلقتها المرأة الشقراء.

لكنه وقف بوجه هذا الظلام بنور قوي.

ومدّ يده ليمسك غريقا يغرق في الظلام.

وأخيرًا ختم، 「وسوف أريك! ذلك الوهم الذي تعيشينه — ذلك المكان الذي تحسبينه منزلك — ليس بوهمٍ يُكسر بهذه السهولة!!」

  • الجزء 5

「إليس...」

مختبئة في ظل تمثال الحجر، ارتجف صوت شيري بغضب.

「...اقتلهم! اقتلهم جميع! ولا تترك أحدا منهم! ولتأخذ لحمهم أجزاءً لجسدك!!」

وأثناء صراخها، انطلقت ألوان القلم الشمع الباستيل في الهواء. خطوط متداخلة كثيرة تحولت إلى أوتار للتحكم في التمثال.

「أسرعوا!! الموقع باء! الأولوية القصوى هي سلامة المدنيين!」

وبهذا الصراخ، اندلعت النيران من كل بندقية في آنٍ.

كان ضباط الأنتي-سكيل مصطفين في خط أمامي يحملون الدروع الشفافة من البولي كربونات، وخط خلفي يطلق النار من البنادق. لم تكن الدروع مصممة لصد هجمات إليس، بل لحجب الرصاصات المرتدة.

مع دوّي إطلاق النار المزعج للأذان، سحبت امرأة الانتي-سكيل كاميجو وكازاكيري القريبين إلى الأرض. ورفعت الدرع لتحميهما.

كشزشزشززكشزشزش!! يضرب الدرع وابل من الرصاصات.

بتفاجئٍ حدّق كاميجو أمامه. إن رصاصات مرتدة بسيطة تنطلق من جسد إليس لكافية على التسبب بكل هذا. وكازاكيري ترتجف كجروةٍ في عاصفة رعدية، ربما لأنها قد أصيبت من رصاصة مرتدة ذات مرة.

نظر إلى تمثال الحجر أمامهم.

كان رمي النار مركزًا على ساق إليس كالمكبر الذي يركز أشعة الشمس، فتوقف الغولم. بدا وكأنه يحاول بأشدّه أن يمشي ضد دوامة هوجاء، ضد رياح عاتية تهب عليه. وبما أن جسده كان وسيعا كجدار، بدا تقريبًا وكأنه يتقاذف بفعل رياح قوية كأشرعة يخت. وإن قِطعَ الخرسانة والزجاج التي تكوّن جسده كانت تتساقط واحدة واحدة، لكنه مع كل سقطةٍ يُعيد تجديد نفسه فورًا مستخدمًا الأرض والجدران المحيطة، وحتى الرصاصات نفسها التي ترميه.

「تباً!!」

سَمِع شيري تصرخ من خلف ستار الرصاصات.

「يا صورة الرب، ميخائيل! ويا شفاء الرب، رافائيل! ويا قوة الرب، جبرائيل! ويا نار الرب، أوريئيل! رموز السماوات الأربع التي تمثل الطائرات الأربع — اهدونا بقوة العدل، في طريقٍ قويم، إلى موضعٍ قويم، وبحالٍ قويم!!」

ظهرت صلبان مشوهة من ألوان شمع الباستيل وبدأت تكتب نفسها في الهواء القريب.

صدر عن جسد إليس صرير عالٍ.

كان يصرخ.

كانت صرخة ألم من كل مفصل في تمثال الحجر، الذي لا يملك فماً لينطق بالكلمات. الأمر الذي أطلقته شيري أجبر تلك الأصوات الخطيرة على الخروج من جسد التمثال العملاق، كالتروس العالقة بالقماش التي تحركت مرةً بعد رغم الصعوبة.

ومع ذلك، تحرك إليس.

وأثناء إصدار تلك الأصوات الغريبة، خطا خطوة متقدما.

طخ! دوّى الصوت الثقيل يهز الأرض قليلاً.

وهي مسرورة بما رأت، سَرّعت شيري من حركة القلم الشمعي المذهل بعصبية.

「آه... آه... لن نقدر...」 تمتمت كازاكيري بلا تفكير وسط هدير إطلاق النار.

「كل شيء سار حسب الخطة حتى الآن. لا يعجبني أننا وصلنا مباشرة إلى أسوأ السيناريوهات... يا حبذا لو استطعنا دفعه إلى الوراء أو على الأقل تثبيته في مكانه، هِهِه، لكن لا أظننا محظوظين إلى هذا الحد.」

كلامه جعلها تشك في ما سمعت.

ثم تحدثت امرأة الأنتي-سكيل التي تحمل الدرع الشفاف.

「يا فتى، أواثق مما ستفعل؟ لا أحد سيلومك إذا تراجعت الآن」

「ليس وأنها رغبة مني، بل أنه ما يجب أن يُنجز. ألم ترِ ما حدث سابقًا؟ عندما دمرتُ كومة القمامة بأكملها تلك بمجرد لمسة من يدي اليمنى؟ هذه هي القدرة التي أمتلكها」

「نعم، قد أخبرتني تسوكيومي عن هذا من قبل، لكن...」

شعرت كازاكيري بطاقة تتلاشى تدريجيًا من أطراف أصابعها.

ما هذا؟ وكأن شيئًا مجنونًا قد تقرر دون أن أعلم...

「مهما كان اختياركم، ذلك الشيء سيصل قريبًا. وحتى لو لم يصل، فأنتم لا تملكون رصاصًا لا ينتهي، لا؟ حتى أن ذراعيك هذه لن تطيقا المقاومة طويلا」

「لديك فرصة واحدة فقط. وإذا فشلت، لن نستطيع المجيء لإنقاذك. وسوف نضطر لبدء إطلاق النار مجددًا، وعندما نفعل، ستُضرب بالنار ومعك ذلك التمثال」

تفاجأت كازاكيري من كلامها. 「...انتظري، مهلا... انتظري دقيقة... ممم... ماذا تنو—؟」

「هذا واضح」 قاطعها كاميجو. 「سأذهب الآن لأوقف ذلك الوحش」

أسقط التمثال خطوة أخرى ثقيلة.

كانت أقوى من سابقها. شيري وإليس سيتأقلمان مع إطلاق النار قريبًا.

「أنت... أنت لا تستطيع...! هذا... هذا خطير...!!」

「نعم، لكن ما عليّ إلا أن ألمسه بيميني لكي تعمل قوتي. يعني، يا ليته لو كان هجومًا بعيد المدى مثل ريلغنة معينة...」

طو! اهتزت الأرض مرة أخرى.

شَقّ تمثال الحجر طريقه إلى الأمام كمسافر يقاوم ريحًا شمالية.

كان على بعد أقل من عشرة أمتار الآن.

「سأعطي الأمر. وللمرة الأخيرة — هل أنت متأكد؟」

「...نعم.」

كان يعرف ما يتوجب عليه قبل قدومه هنا.

لذا لم يحتج سوى كلمة واحدة في الرد. هكذا لن يكون مجالٌ للندم.

「تخاطر أنت يا فتى، وكسرت مفهوم الروعة نفسه. اف، لماذا هي تسرق منا كل الطلاب المميزين؟」

ضحكت امرأة الأنتي-سكيل، وأخرجت جهازها الاتصال الصغير.

「حسنًا، أوافق على هذا! لكن تأكد أن تنجح مهما حدث — وارجع إلينا حيًا. سنفعل كل ما بوسعنا من أجلك」

ابتسم كاميجو رغما عنه عندما سمع ذلك.

وأخيرًا، أدركت كازاكيري أنه كان يكبح نفسه بشدة حتى لا يرتجف.

「استعداد!... العد من ثلاثة!」

أعطت الأمر عبر جهاز الاتصال.

توقف كازاكيري مذهولة. هل كان حقًا سيقفز من خلف هذا الدرع ويهرول نحو تمثال الحجر؟ في عاصفة رصاصات ترتد في كل اتجاه لا يمكن حتى للمطلقين التنبؤ بمساراتها؟

سيموت إذا أصيب ولو مرة.

عليه أن يكون خائفا لدرجة تمنعه من التنفس.

「—اثنان!」

رفع كاميجو، الذي كان مستلقيًا على الأرض حتى الآن، الجزء العلوي من جسده قليلًا.

「انتظر... أنت... لن تقدر! ...لن يُنقذوك أبدًا... هكذا...! أنا لا... لا أريد ذلك! أنا...!」

「لا توقفيني، كازاكيري」

كانت كازاكيري على حافة الجنون، ولسبب ما كان كاميجو هو من يتحدث بصوت هادئ على أنه في أخطر موقف هنا.

「أظن أن يدي اليمنى هي السبب الذي يجعلك تتجنّبينني. إنها تمحو كل غرائبٍ وخوارق، خيرًا كانت سواءًا أو شرًا. وأنتِ على الأرجح لستِ استثناءً」

لذا، لا تمدي يدك وتلمسيني دون تفكير.

تنفست كازاكيري كما لو أنها تلقت لكمة في بطنها.

「—واحد!」

شيري، وربما بعدما أدركت أن شيئًا على وشك الحدوث، بدأت تحرك قلم الشمع بحماس أكبر. بينما إليس وهو يتحمل وابل الرصاص تقدم بخطوة أقوى.

لكن في تلك اللحظة بالذات، لم يكن كاميجو يفكر في شيري حتى.

كان ينظر فقط إلى الفتاة أمامه.

كم كانت مندهشة الآن، بعدما عرفت قوة كاميجو والسبب وراء تجنبها له.

「لا تفكري كثيرًا بشأن هذا. ما زلنا أصدقاء حتى وإن لم نستطع لمس بعضنا، صح؟ وأيضًا، لا تعتبرينني هالك بهذه البساطة. سأعود حيًا بالتأكيد. إي؟」

「...هـ. هل ستعود...؟」

「فهمتِ. إذن وبعد هذا لنخرج كلنا أنا وأنتِ وإندكس」

قالها ببساطة، ملوّحًا بابتسامة خفيفة.

ثم وجه نظره إلى الأمام.

وكأنها تقطع الخيط الأخير الذي يربط كاميجو بها، أعلنت ضابطة الأنتي-سكيل: 「...صفر!」

وفي تلك اللحظة...

توقّف جميع ضباط الأنتي-سكيل الذين كانوا يطلقون النار على إليس فجأةً وبشكلٍ متزامن.

ربما لم تتوقع شيري شيئًا كهذا.

ففي آخر الأمر، كانت تلك الرصاصات الحاجز الأخير الذي يمنع إليس من التقدم. وكانوا سيكونون في ورطة كبيرة ما إن تتوقف نيرانهم. كيفما تنظر إلى الأمر، بدا وكأنه انتحار.

ولكن كان لذلك تأثير.

بدأ جسد إليس البطيء الصلب فجأةً يميل إلى الأمام.

وكأن الرياح الهوجاء التي كان يبذل كل جهده في المشي ضدها قد توقفت فجأة. استُخدمت قوته عليه، وفقد توازنه.

قفز كاميجو فوق الدرع الشفاف كما لو كان حاجزًا، واندفع بجنون منطلقا.

كان على بعد حوالي سبعة أمتار.

「اللعنة. امسك به، إليس!!」

أسرعت شيري في تحريك قلمها الشمع مرة أخرى عندما رأت كاميجو يقترب كالسهم.

أطاع إليس أمرها بوفاء وشكّلت يده قبضة. ومع ذلك، لم يستطع أن يقف مستقيمًا. كان على وشك السقوط—لو رمى لكمة، سينهار على الأرض. عندها، لن يحتاج كاميجو حتى لخفض يده. ستفقد شيري درعها ولن تستطيع الهرب من وابل الرصاص. وكل ما عليه هو أن يعود إلى الأرض حتى لا تصيبه رصاصات مرتدة.

ومع ذلك، لوح إليس بقبضته.

كما هو متوقع، دمّر هذا تمامًا القليل من توازنه المتبقي، وسقط نحو الأرض. كان التمثال يزيد طوله قليلاً عن أربعة أمتار. وبالنظر إلى السبعة أمتار التي بدأ منها، لن يُدفن كاميجو تحته.

صوّب إلى المكان الذي سيسقط فيه إليس، وشد قبضته، و...

دَخ! ضرب إليس بقبضته.

فعل ذلك حتى وهو يسقط. تجاهل كاميجو ووجه قبضته الحديدية إلى الأرض تحتهم.

「ما...؟!」

انتشرت تشققات على الأرض لثمانية أمتار حول إليس كشبكة عنكبوت. ارتجت الأرض كالنطّاطة، طارحةً جسد كاميجو في الهواء. بدأت الجدران والسقف والأعمدة الحاملة تصدر صريرًا وأنينًا غريبًا يتردد صداه في جميع أنحاء المركز التجاري تحت الأرض.

والآن رأى كاميجو، وهو على الأرض.

لقد استخدم الغولم إليس تفاعل قبضته مع الأرض ليقفز مرة أخرى على قدميه.

ولمح يد شيري اليمنى إلى الجانب.

تأرجحت قبضة إليس مرةً بعد نحو الأسفل، ليسحق حشرةً رآها تزحف.

「سحقا...!!」

سمع كاميجو أصواتًا معدنية خافتة. لا بد أن ضباط الأنتي-سكيل قد استلوا بنادقهم مجددًا. لكنهم لم يطلقوا النار. إذا بدأوا بإطلاق وابل جديد من الرصاص، فسيرتد ويصيبه بلا شك.

اغغ، هذا غباء! فكّر! فكّر...!!

وقف إليس شامخًا فوقه في تلك اللحظة، وهو يهبط قبضته. حتى لو استخدم يده اليمنى لإيقاف هبوطها ودمرها بالإماجين بريكر، فسيُصدم بلا شك بانهيار حطام ضخم متعدد الأطنان.

لن يتمكن من أخذ سوى خطوة واحدة إذا حاول الهرب. لكن إليس، الذي يزيد طوله عن أربعة أمتار، كان يمتلك ذراعًا أكبر منه. القفز أو التدحرج إلى أي جانب لن يخرجه من نطاقه.

اللعنة، تبا! أليس من شيء أفعله؟ أي شيء؟!

هبطت قبضة إليس بكل ثقلها مباشرة على رأس كاميجو. على الأقل، كان يعلم أن إيقافها بيده اليمنى سيكون بمثابة انتحار. فرفع ساقيه، مستجمعًا كل قوته الذهنية، وقفز آملاً.

لم يقفز إلى اليمين، ولا إلى اليسار، ولا إلى الخلف—بل إلى الأمام.

كان جسد إليس يزيد طوله على أربعة أمتار.

وهذا يعني أن لديه نقاط ضعف أكثر بكثير من البشر ليقترب منها، وكانت هناك فجوة تقارب المترين بين قدميه. ومع ذلك، في الظروف العادية، كان سيُوجه ركلة فور محاولته المرور بين ساقيه.

لكن في اللحظة التي أطلق فيها ضربته...

كان جسده غير مستقر للحظةٍ واحدةٍ فقط. لم يكن يستطيع تحريك قدميه للركل دون أن يفقد توازنه. وكاميجو يعرف هذا جيدًا—فهو اعتاد على المشاجرات المدينة. قد تبدو التلويحة الطويلة مبهرجة وقوية، لكنها سهلة التصدي. مركز ثقله ينحصر في منتصف الهجوم، لذا أي محاولة للتهرب مستحيلة.

لم يستطع إليس تحريك قدميه قبل أن ينهي تلويحته.

كونه مجبرًا على محاولة الحفاظ على توازنه كبشر كانت نقطته الضعيفة.

ربض كاميجو، منخفضًا جدًا حتى كاد يلعق الأرض، وقفز للأمام. انطلق بسرعة سهم، وغاص مباشرة بين ساقي إليس!!

وبعد ذلك مباشرة...

طاخطءطءطءطءطخء!! شراراتٌ بدأت تتطاير من جسد إليس. بدأ ضباط الأنتي-سكيل المسلحون بالبنادق يرمون النار.

عادت حركة إليس مُقيّدة مرة أخرى.

والأمر المضحك، أن لا رصاصة واحدة أصابت كاميجو، الذي وقف الآن خلفه تماما.

وقف ببطء، وكان على وشك لمس ظهر إليس بيده، لكنه تراجع عن الفكرة للحظة وقرر ألا يفعل. أزاح نظره عن التمثال واستدار.

إلى حيث شيري كرمويل.

「هاه؟ إليس...」

قالت بصوت متلون بالذعر والخوف. لكنها على الأرجح أدركت أيضًا. إذا تحرك إليس بلا حذر، فقد ينتهي بهما المطاف كلاهما في مرمى رصاص الأنتي-سكيل. كما أنها لم تستطع الخروج من الحلبة الصغيرة التي شكّل ظل إليس حدودها.

كان طبشور الشمع في يدها يسبح حراً في الهواء. لم يكن في حركتها ذلك العزم الذي كان يميزها سابقًا. لم تكن تعرف ماذا تأمر إليس أن يفعل في هذه اللحظة.

ولا أحد تلجأ إليه طلبًا للمساعدة الآن.

سلاحها النهائي كان أمامها مباشرة، لكنها لم تستطع تحريكه، بل أنه تمامًا مثلها أيضًا يحمي كاميجو من الرصاص.

「والآن،」

قال كاميجو.

وهو يلوّح بذراعه اليمنى، يختبر كتفه.

「هـ...」

ورغما عنها، ابتسمت شيري ابتسامة مؤلمة أمام هذا الوضع اليائس.

「ها-ها، ما هذا؟ هـء، هكذا، لن تستطيع الهرب」

「ما حاجتي للهرب」

غمز كاميجو إحدى عينيه وسط دوّي إطلاق النار.

「بل جئت لأسكتك!」

وَجّه لكمةً إلى شيري كرمويل عبر الغرفة، دون كسرة من رحمة.

وتدحرج جسدها النحيل عبر الأرض كورقة طيرتها الريح.

  • الجزء 6

الأسلحة لم تسكت بعد.

توقفتت حركة إليس لأن شيري قد سقطت، لكن الفتى لم يُوجه الضربة القاضية لإليس. طبعا ليس وأن ضباط الأنتي-سكيل لم يتراجعوا بعد. رفع كاميجو عينيه عن شيري، التي انهارت على بعد خمسة أمتار، واستدار ليواجه إليس مرة أخرى.

لكن لو حطمته فجأة... آهخ، أفضل ألا تصيبني رصاصة عشوائية.

ببطء وحذر، مد يده اليمنى نحو إليس...

「هِه. هِه-هِه-هِه.」

ثم سمع ضحك المرأة ودار بسرعة لينظر إلى شيري.

هل لم أضربها بقوة كافية؟ مهلا، أهي من قفزت للوراء بنفسها...؟!

كانت تبتسم، تضحك هناك على الأرض.

لكن يدها ما زالت تمسك بقلم الشمع الأبيض.

بش-وش! لوّحت بها بسرعة تكاد تضاهي سيد المبارزة، وهي تخط بعصبية بعض الرموز أو الحروف على الأرض لم يفهم معانيها.

「مه... تبا! هل تصنع واحدًا آخر؟!」

كاد كاميجو يندفع نحوها لإيقافها، لكنها سبقته وقالت، 「هِه-هِه. هِه-هِه. إههيهيه. لا، لا أستطيع. بخروج إليس على هذا النحو، لن أستطيع السيطرة على آخرٍ في نفس الوقت. وأساسا، لو أنني كنت قادرة على صنع أكثر من واحد في نفس الوقت، لكنتُ جلبتُ جيشا من الإليس بأكمله معي. ولكنني عندما أحاول إجبار واحدٍ آخر على الظهور، فلن أستطيع الحفاظ على شكله. يصبح لينًا كأنه طين فاسد فينهار. لكن—」

ابتسمت ابتسامة شرسة.

「إن أحسنت التطبيق، فيمكنني فعل هذا أيضًا!!」

بعد لحظة، انهارت الأرض من تحتها، مع الحروف التي كتبتها في مركزه، وتمددت نحو مترين في كل اتجاه. انجرفت مع الأرض المنهارة واختفت كأنها ابتلعها.

「اللعنة!!」

اندفع كاميجو نحوها، لكنه وجد حفرة فارغة فقط. كانت عميقة — لم يستطع تحديد عمقها. لكنه شعر بالهواء يتدفق منها.

هربتْ. أذكر أن هناك خط قطار تحت هذا المكان...

لعن كاميجو حظه، وفي الوقت نفسه، تفكك إليس الساكن إلى قطع كثيرة واهتز بصخب على الأرض. بما أنها لم تستطع صنع اثنتين في الوقت ذاته، فمن المحتمل أنها حطمت النسخة القديمة لتفسح المجال للجديدة. ومع سقوط إليس القديم، توقفت دوامة إطلاق النار فجأة.

لكن هذا غريب...

شعر كاميجو بشك مفاجئ وهو يحدق في الحفرة المظلمة.

لم تبدو شيري كرمويل مرتبطة بأهداف معينة. كانت مختلفة بوضوح عن السحرة الذين التقاهم من قبل. لم يكن أي منهم ليهرب بسهولة بهذا الشكل مع وجود كازاكيري هيوكا (و، يعني، كاميجو أيضًا) أمام أعينهم.

تذكّر. ما الخطب في هذا؟

تجولت كلمات شيري في ذهنه. نظر للأسفل، وغاص في التفكير، لكنه بعد لحظات نظر فجأة إلى الأعلى.

——ياه، أرى أن مفتاح منطقة الأعداد التخيلية ليست معك. همم... ما كان اسمها؟ كازي، كازا... شيءٌ ما. آهخ، ما أطيق تعقيدات الأسماء اليابانية.

الآن بعد أن استذكر، لم تبدو مهتمة كثيرًا بكازاكيري هيوكا من البداية.

——جئتُ أبدأ حربًا، وأفتن بين الأطراف، وأحتاج شرارةً لأشعلها. أريد أن يعرف الناس حيث كانوا وكلما كثروا أنني من الكنيسة التطهيرية الإنجليزية... صح يا إليس؟

ماذا لو كان لشيري هدفٌ آخر، وكانت كازاكيري مجرد خيار واحد من بين خياراتها؟

——لا يهم! لا شيء يهم. ليس عليّ قتل تلك البلهاء تحديدا. لا، ليست هي بالضرورة.

ماذا لو كان بإمكانها استبدال آخرين بدل كازاكيري؟

——هيي. هي-هيي. هي-هي-هي-هيي. مكتبة الكتب المحظورة الإندكس، والإماجين بريكر، والمفتاح إلى منطقة الأعداد التخيلية... أيـــُّـــكُم أختــــٰـآر؟ ألا بأس لو اخترت؟ تي-هيي-هيي. لا أدري! احترتُ من كثرة الخيارات!

ماذا لو أنها لم تكن تهرب...

...بل قررت ببساطة هدفًا مختلفًا؟

بمعنى...

كان لديها ثلاثة أهداف. وحاليا، كان كاميجو وكازاكيري تحت حماية الأنتي-سكيل هنا.

والهدف الثالث الباقي الذي ليس هنا، والذي لا تحرسه الأنتي-سكيل...

「اللعنة... الآن تستهدف إندِكس؟!!」

  • ما بين السطور 2

ترددت أصوات الخطى في ممر القطار المظلم.

لم تكن أصواتًا يصدرها بشر. كانت خطوات الغولم إليس، المصنوع من الخرسانة وقضبان السكك الحديدية، والذي يبلغ طوله أربعة أمتار.

كانت شيري جالسة على ذراع إليس، تتحكم بأرجل إليس الاثنتين باستخدام قلمها الشمعي. كانت تعرف إلى أين تذهب. قبل أن تصنع إليس الثاني، كانت قد أطلقت عشرات كرات الطين التي تشبه العيون لتبحث عن هدفها. لكنهم كانوا سيعطلون صنع الغولم الثاني، ولذا دمرتهم.

شعرت بوخز في خدها من اللكمة. عادةً، لم تكن قدماها –المختفيتان تحت تنورتها الطويلة– تلمسان الأرض—بل تطفوان على بعد عدة سنتيمترات فوق الأرض لتجنب زلازل إليس. لكن، عندما ضربها ذلك الصبي، أفسد تعويذتها للطفو. ولهذا الآن جعلت إليس يحملها.

نظرت حولها ثم همست.

「يا للبؤس」

كانت هذه المتاهة الخرسانية تحت الأرض بائسة. وكانت هذه الرائحة النتنة بائسة. وكان هذا الهواء القذر والمغبر بائسًا. ومن خلق كل هذا بائسًا. وحتى القدرة على خلق هذا كانت ببساطة البئس نفسه.

كرهت هذه المدينة.

كرهت مياهها ورياحها وترابها ونارها. كرهت كلّ ما فيها. تمنت لو تستطيع أن تمحوها من الخريطة. من التاريخ. من ذاكرة الناس. من العالم نفسه.

الخد الذي ضربه ذلك الإسبر احمرَّ أكثر فأكثر بشدة الحرارة.

فلعنته شيري. كل هذا وكل شيء كان بسبب هذه المدينة. لا شيء فيها صواب.

「إليس...」 نادت.

إليس لم يكن اسم الغولم في الأصل.

كان اسم إسبرٍ مات منذ عشرين سنة.

تعليقات (0)