الفصل الأول: مَدِينَةُ الْأَكَادِيمِيَّة. — عُبَّادُ_الْعِلْمِ.
(إعدادات القراءة)
- الجزء 1
ما عرفنا الفصل الدراسي الثاني إلا وهو مزدحم دومًا! مهرجان الدَيهَسي، مهرجان إتشيهَنَرَن، سفر الرحلة الميدانية، مهرجان تقدير الفنون، مهرجان الدراسات الاجتماعية، مهرجان التنظيف الكبير، مهرجان الامتحانات النهائية، مهرجان التعويض، مهرجان الحصص التكميلية، مهرجان نحبسك فيه يا بكاية... كل ذي مهرجانات تقريبًا. وكلنا سيكون مشغولا بالتحضير لها
8 سبتمبر.
في العصر، في ممر سكن طلابي، تحدثت تسوتشيميكادو مايكا بصوتٍ خلت منه الهموم. كانت في عمر إندكس تقريبًا، إن لم تكن أصغر، وترتدي زي خادمة غريب الشكل. والأغرب من ذلك أنها كانت جالسة جلسة "سيزا" فوق روبوت تنظيف يشبه البرميل المعدني. حاول الروبوت التقدّم للأمام ببرمجته، لكن مايكا غرست ممسحتها على الأرض أمامه لتمنعه، فكان يهتزّ ويرتجّ في مكانه.
「لكنني ملّانة! مَلِلتُ ومَلّيتْ ولا شيء لأفعله! توما لا يوليني أي اهتمام! ولا يلعب معي!」
وقفت إندِكس أمام تسوتشيميكادو مايكا تجادلها، وكانت تزمّ شفتيها وتتحرّك يمنة ويسرة. خصلات شعرها الفضي وطرحتها البيضاء الطويلة تتطاير مع حركتها. أما القط الكاليكو التي احتضنته بذراعيها النحيلتين، فبدا منشغلا ببريق الخيوط الذهبية المطرّزة من على طرحتها، فكان يلوّح بقدميه الأماميتين يحاول الإمساك بها.
كانت تعلم كم أصبح كاميجو توما مشغولا آخر الأيام. لكنه كان الوحيد في المدينة الأكاديمية من تحادثه.
وطبعا، لم يكن يحبسها في مسكنه أو مثل هذا. فقد أعطاها نسخة من المفتاح، لذا كانت تخرج أحيانًا تتنزه هنا وهناك وقت ذهابة إلى المدرسة. (مع أن أغلب رحلاتها تنتهي عادة بعودتها مسرعة إلى البيت بعد أن تصطدم بأجهزة لا تعرف كيف تتعامل معها — مثل آلات بيع التذاكر في المحطة أو الأقفال التي تحتاج إلى بصمة إصبع أو وريد أو مصادقة على المجال البيوكهربائي).
كانت هذه المدينة غريبة بحق.
بُنيت هذه المدينة في أوائل تطوير المناطق الغربية من طوكيو، وكانت مدينة علمية يشكّل الطلاب 80% من سكانها. وبينما يكون كاميجو في المدرسة، تكون هيميغامي وكوموي-سينسي أيضًا. لذا عندما حاولت إندِكس الخروج والبحث عن شخص جديد لتحادثه، وجدت المدينة خالية على نحو مقلق. طوال الأسبوع الماضي، كانت تتجول فيها بطريقتها. وقد وجدت بائعةً في متجر الملابس لطيفة تُكَلّمها — إلا عندما تكون مشغولة بإعادة ترتيب الملابس على الرفوف — لكن إندِكس لم تشعر أن هذا هو هدف بحثها.
أما تسوتشيميكادو مايكا، فكانت استثناءً بين الاستثناءات.
في هذه المدينة، يتحرك الناس وفق أوقات محددة جدًا خلال اليوم، لكن هذه الفتاة وحدها لم تكن مقيدة بقوانين الزمن. فإندِكس تراها في الصباح والمساء، في المتجر، والمجمع التجاري، والحديقة، ومخبز الخبز، ومبنى المحطة، وسكن الطلاب، وعلى الطرقات، وبالقرب من المدرسة — لم يهم أين ومتى وكيف.
واصلت تسوتشيميكادو مايكا ضرب كَفّها بإلحاح على روبوت التنظيف، لتمنعه من التقدّم، ثم تابعت كلامها،
「لِكاميجو توما مشاكله ليعتني بها، فلا تزعجيه. المسكين لم يُحتجز في المدرسة حبًا منه لها، ليكن في علمك. المدرسة مليئة بالتحديات!」
「مغغ... أعرف، لكن... كيف أنكِ لستِ محتجزة في المدرسة يا مايكا؟」
「هيهي! أنا استثناء. التدريب الأساسي للخادمات كله تطبيق ميداني!」
أكاديمية الاقتصاد المنزلي التي تدرس فيها تسوتشيميكادو مايكا لم تكن مجرد مدرسة غريبة الطابع وعفا عليها الزمن تُخرج خادمات فحسب. بل كانت تخرّج مختصات—أشخاصًا قادرين على مساعدة أسيادهم في أي مكان، من كشط العلكة عن الأرصفة إلى تقديم الدعم في القمم الدولية. ولهذا كانت مايكا تؤدي تدريبها الميداني في أماكن مختلفة. وبالطبع، لم تكن جميع الطالبات في مرحلة التدريب الميداني؛ كانت هذه خطوة خاصة لأولئك النخبة اللواتي اجتزن اختبارًا موحّدًا وثُبِت أنهن لن يظهرن بمظهر مخزٍ حتى وهن لا يزلن في طور التدريب.
إندِكس لم تكن تعلم شيئًا عن كل العرق والدموع التي دخلت في هذا المسار. فأمالت رأسها إلى الجانب بلطافة مستغربة.
「إذن، إن صرتُ خادمة، أستطيع الذهاب حيثما أريد وقتما أريد؟ ولن أكون محتجزة في المدرسة؟ وهل يمكنني حتى أن أؤدي تدريبًا ميدانيًا في صف توما؟」
「يعني، لا... ليست هكذا الخادمات حقـ—」
「إذن سأصبح خادمة! وربما حينها سأذهب إلى صف توما وألعب!」
「تبدو فكرة رائعة، لكن ليكن في علمك أن تصبحي خادمة ليس بالسهل. فأنتِ الآن غِرٌّ ليس لديك أي مهارات منزلية البتة. ولسوف يكون صعبًا عليكِ إن تُضطري لإعداد الغداء كل يوم للصبيان」
「إذن سأجعل توما خادما! ربما حينها سيأتي ليلعب معي!」
「هذه فكرة عظيمة لدرجة وددت لو أبكي، لكن أنصحك ألا تخبري كاميجو توما أنكِ قلتي ذلك!」
انتفخت وجنتا إندِكس بالضيق، ثم التفتت بسرعة إلى اليسار.
「معها الحق. المعذرة، لكن لا وقت لديكِ لتصبحي خادمة—ولا أن تُحَوّيليه ذاكَ إلى خادمٍ أيضًا」
فجأة، جاء صوت من خلف الفتاة ذات العباءة البيضاء.
هاه؟ فرغ عقل إندِكس للحظة. على الأرجح، كانت مايكا أمامها تنظر إلى الذي يقف خلف إندِكس. بدا على وجه الخادمة الخوف أكثر من الدهشة.
من...؟
وقبل أن تلتف الأخت ذات العباءة البيضاء وتنظر من كان...
امتدت يد كبيرة وضغطت على فمها، وأغلقته كشريط لاصق.
- الجزء 2
كان كاميجو توما، طالبَ ثانوية عاديًّا تراه في كل مكان، يجرّ قدميه ببطء على الطريق تحت شمس العشي (قبل الغروب).
مرّ بجانبه روبوت تنظيف على شكل برميل معدني، وكانت مراوح العَنَفات الهوائية—التي حلت محل أعمدة الهاتف—تدور وتدور كما لو كانت تحاول طرد غربان المدينة. والمناطيد الإعلانية تملأ السماء البرتقالية، لكن الستائر المعلّقة تحتها لم تكن مجرد لافتات قماشية بسيطة، بل كانت أحدث ما توصّلت إليه تقنية الشاشات الرقيقة للغاية. وأحدها يعرض رسالة تقول، الاستعداد الجيد يكون بطرد القلق! ابذل جهدك في الاستعداد لمهرجان الدَيْهَسي! — من فرقة الأمن - جدجمنت. وكان النص يتحرّك من الأسفل إلى الأعلى كمثل لوحة إلكترونية.
[مهرجان الدَيْهَسي] كان في جوهره حدثًا رياضيًا ضخمًا. مدينة الأكاديمية كانت تضم ملايين الطلاب، لذلك بطبيعة الحال أصبح المهرجان مناسَبةً ضخمة تشارك فيها كلّ المدارس. إضافةً، كان جميع هؤلاء الطلاب أسابر، وقد نمَوا على امتلاك قوى خاصة بدرجات مختلفة. والأساس أن مجلس إدارة المدينة كان قد اقترح المهرجان في الأصل لجمع البيانات عن تفاعل أعداد كبيرة من الأسابر، ولهذا السبب بالتحديد كان الاستخدام الكامل للقوى مسموحًا به—بل ومُشجَّعًا—في ذلك اليوم فقط. وهذا يعني أنه يمكنك مشاهدة صراعات بين مستخدمي قدرات لا يمكن أن تراها في الأيام العادية. مثلًا، في مباريات كرة القدم أو كرة المراوغة، قد تختفي الكرة فعليًا فجأة، أو تشتعل بالنار، أو تتجمّد بالجليد. كل شيء ممكن.
وخلال ذلك الأسبوع، فإن مدينة الأكاديمية سوف تفتح أبوابها للعامة ولفِرَق التصوير التلفزيوني. ومن الواضح أن المواقف السخيفة والمبالغ فيها التي تحدث أثناء المباريات تجذب أعدادًا كبيرة من المشاهدين، لأنها مشاهد يستحيل رؤيتها في أحداث رياضية تقليدية. ولهذا السبب كانت منظمة الجدجمنت تبذل أقصى جهدها في التحضير للمهرجان. وهناك سبب آخر لذلك، وهو تحسين صورة المدينة الأكاديمية العامة خلال تلك الأيام المعدودة التي تُفتح فيها المدينة للناس. وكإجراء احترازي، فإن المدينة تُرسل ضباط الأنتي-سكيل إلى مواقع تطوير القدرات المهمة، تحت غطاء "قوات خاصة لمكافحة الإرهاب"، لمنع العامة من التسلل إلى أماكن لا تريد المدينة أن يُطّلع عليها.
「ب-بليييخ...」
على الأقل، هذا ما سمعه توما من الأحاديث من حوله هذا الأسبوع.
فإن كاميجو توما قد فقد ذكرياته بعد حادثةٍ معينة، لذا لم يكن يعرف شيئًا عن مهرجان الدَيهَسي. لكنه، وحسب ما سمعه، خَمّن أنه سيكون حدثًا خطيرًا للغاية بالنسبة له تحديدًا. فالقانون الأساسي للمهرجان هو حرية استخدام القوى. بل إن عدم استخدامك لقدرتك بشكل كافٍ قد يُرسلك مباشرةً إلى أحضان فريق الإسعاف الطبي. هذه هي طبيعة مهرجان الدَيهَسي. بمعنى آخر، حسب الزمان والمكان، قد تطير كرات نارية، أو هجمات كهربائية، أو شفرات هوائية مفرغة من كل صوب، حتى في أحداث بسيطة مثل سباقات الخيالة التمثيلية.
نظر إلى يده اليمنى. في داخلها تكمن قوة تُعرف باسم الإماجين بريكر. وإنها تلغي أيّ وكلّ شاذّةٍ وغرائب، سواء أكانت سحرية أو خارقة، بمجرد لمسة. ولكنه لم يرغب بالدخول إلى معركة فوضوية ضارية مليئة بالعشرات من الأسابر مسلّحًا فقط بتلك اليد.
「...لماذا أُجهد نفسي في التحضير لفعالية قد تنتهي كما في كل مرة بمجزرة جديدة بحقّي...؟」
حتى استعداداته لم تكن تسير بسلاسة. فما إن نَصَبَ خيمة مراقبة في ساحة المدرسة حتى جاءت إليه معلمة تربية بدنية وابتسمت بحرج، وصفقت بيديها معتذرة تقول، 「آسفة! بصراحة لسنا بحاجة إلى خيمة!」 وعندما أزالها جاءت معلمة قصيرة جدًا وصرخت فيه غاضبة، 「آه! ماذا تفعل كمجتي؟! أما قالوا لك أننا بحاجة إلى الخيمة؟!」 حظه عفن وحظه زبالة هذا لا يكفيه مهما قالها.
والآن كان يسحب جسده المنهك باتجاه سكنه الطلابي، وكاد يزحف من كثرة الجهد الذي ذهب سدى.
「آهفف، الآن وأنا أفكر، ثلاجتنا فارغة، ها؟」
لمح متجرًا قريبًا منه، لكنه احتاج أن يعود إلى السكن ليأخذ نقودًا أولا. يا ليل... أسأخرج من جديد؟ هكذا فكّر وهو يعرج متجهًا إلى شارعه.
كانت نعاله الرخيصة صلبة عليه، ومع كل خطوة تلامس الأرض، يزداد الألم في قدميه سوءًا.
ثم، ما إن اقترب من مدخل السكن، حتى سمع فجأة صوت فتاة من الأعلى تنادي،
「آآآه! كـكــكـ ك كاميجو توماااا! هَيه، كاميجو توما!」
مم؟ رفع رأسه ليرى تسوتشيميكادو مايكا منحنية فوق الدرابزين المعدني في الطابق السابع، تلوّح بيدها اليمنى. كانت جاثية كالعادة فوق روبوت التنظيف، لذلك كان وضعها الحالي يبدو غير مستقر المرة. وتمسك الممسحة بيدها اليسرى، وقد غرستها في الأرض، ويبدو أنها كانت تمنع الروبوت من التقدّم كما هو مبرمج.
「شـشـشـشيءٌ حصل، شيء سيئٌ جدًا حصل! وأيضًا بطارية جوّالك خلصت!」
「هَه؟」 أخرج جوّاله المزود بخاصية تحديد المواقع من جيبه، وفعلاً بطاريته نفدت. ضغط على الزر ونظر إلى الشاشة فوجد سيلا من الرسائل النصية من تسوتشيميكادو مايكا.
والآن وقد تذكر، رغم أسلوب حديثها المتلكئ، إلا أن ملامح وجهها كانت شاحبة نوعا ما.
شعر بشيء من القلق، فأسرع نحو المصعد.
وحين وصل إلى الطابق السابع، حيث غرفته، كانت مايكا قد أزالت الممسحة التي كانت تعيق الروبوت، فتحرّك ببطء متجهًا نحو المصعد. والقط، الذي كان دائمًا مع إندِكس، الآن يجلس في الممر لسبب ما، وأذناه منخفضتان. وكان يمسك في فمه جوّال إندِكس المجاني مع العقد منزعجا.
وصل الروبوت قبل كاميجو، وسرعان ما وضعت مايكا الممسحة من جديد أمامه لتثبته في مكانه. قالت بصوت مرتجف، 「ورطة! ورطة! الأخت فضية الشعر اختُطفت!」
「هاه؟」 تمتم مذهولا.
واصلت كلامها، ووجهها شاحب كالأشباح، 「خاطف! خطفها خاطف! وقال لي أنه إن أبلغتُ عنه سيقتل الرهينة... فلم أستطع فعل شيء! أنا آسفة يا كاميجو توما!」
الأخت فضية الشعر—مَن غيرُ إندِكس. ونظرات الخادمة لم تدل على أنها تمزح. وهناك أسباب كثيرة تجعل الناس يرغبون في اختطاف إندِكس.
فهي مكتبة حية للكتب المُحَرّمة—مِئة وثلاثة آلاف كتاب محفورة في ذاكرتها. وسَحرة من جميع أنحاء العالم يطمعون في تلك المعرفة. بل إنها قد اختُطفت بالفعل مرة، في الأول من أغسطس، لنفس السبب.
「تمهلي. ماذا حدث؟ اشرحي بالترتيب؟」 سألها.
بدأت مايكا تشرح فُرادى.
جاءت هي إلى سكنه الطلابي في إطار "تدريبها الميداني" قبل ساعتين تقريبًا. وأثناء جولتها المعتادة صادفت إندِكس في الطابق السابع، وكانت تبدو ضجرة كالعادة، فبدأت تُحادثها. ثم، فجأة ظهر أحدٌ من خلف إندِكس، ووضع يده على فمها، ليقاطع الحديث ويختفي بها.
「قبل أن يغادر الخاطف... أعطاني ظرفًا. وكتب فيه الكثير...」
ناولته ظرفًا عريضًا، مثل الذي يُستخدم لإعلانات البريد المزعج. وكان صوتها غير مستقر، لا من خوف وحده، بل على الأرجح بسبب شعورها بالذنب لأنها لم تستطع فعل شيء.
نظر إلى الظرف، ثم عاد بنظره إليها. 「لا، بالعكس. لو تهورتِ، لباء الوضع أسوأ بكثير」
قصد أن يواسيها، لكنها ازدادت قلقًا. التوتر في الجو كان خانقًا كاد يحرق الجلد. فهي مجرد طالبة عادية لا علاقة لها بعالم السحر أو الخوارق، ومن الطبيعي أن تتوتر بهذا الشكل.
「على أي حال... كيف كان شكل ذلك الوغد؟」
رفعت نظرها قليلاً، تحاول التذكر. 「مم... طوله على الأقل مئة وثمانين سنتيمترًا. وبدا أوروبيًا، أظن. لكن لغته اليابانية كانت ممتازة، ولم أستطع أن أحدد من شكله من أي بلد بالضبط」
「أها، أها」
「وملابسه كأنها ملابس كاهن...」
「هَه؟」
「هو كاهن، إلا أن رائحته فاحت من العطر. وشعره كان طويل حَدَّ الكتفين ومصبوغ بالأحمر الفاقع، وعلى كل إصبع في يده لبس خاتما فضي، وتحت عينه اليمنى وجدتُ وشمًا بشكل باركود، وكان يدخن سيجارة، وامتلى وجهه بالأقراط!」
「...يكفي يكفي، عرفته الحمار. هو نفسه ذاك الكاهن الإنجليزي」
أمالت رأسها قليلاً وهي تضع نظرة حائرة على وجهها. أما هو، فأعاد النظر إلى الظرف مرة أخرى. في داخله، وجد ورقة واحدة.
كانت الحروف مكتوبة بالقلم وكأنها رُسمت بمسطرة. ومكتوبٌ فيها:
كاميجو توما
إن همّتك حياة الفتاة
فتعال إلى مسرح هَكُمَيزة المهجور
خارج جدران المدينة الأكاديمية
في السابعة الليلة
وتعال وحدك
「...بالمسطرة يخفي خَطّه؟ قديم يا رجل」
هل هو جاد في محاولة إخفاء هويته فقط بتسطير خَطّه؟ إلى حدّ تخلف عن الزمن؟ فهناك طرق حديثة لتحليل الخط لا تكتفي فقط بشكل الحروف؛ بل تعتمد على قياس عمق انطباع القلم على الورقة، ودرجة اهتزاز الأصابع الدقيقة أثناء الكتابة. نفس التقنية التي تُستخدم في قراءة البيانات من الأقراص الليزرية. وفوق ذلك، فمدينة الأكاديمية مليئة بالمستبصرين ليكشفوا من صاحب أي غرض يلمسونه.
أظنه جاد هذه المرة. وفي هذا التوقيت بالذات؟ دمه ثقيل إن كان يحسبها نكتة. وما الذي يفكر فيه هذا الأحمق؟ أخذ لنفسه إجازة متأخرة من الصيف حتى يأتي ويلعب؟
حسب ما سمعه من مايكا، يبدو أن خاطف إندِكس هو زميلها، ستيل ماغنوس. لكن ستيل لم يكن من النوع الذي يهدد حياتها أبدًا. بل العكس—كان مستعدًا لدخول حصون الأعداء دون أن يجفن ليُنقذها.
وهذا خفف من قلقه كثيرا.
وعند هذه النقطة، شعر أنه من السيئ أن يترك مايكا غارقة في القلق هكذا.
「آه، لا عليكِ مايكا. الخاطف شخص نعرفه أنا وإندِكس. فلا تقلقي」
「هاه؟ تعرفانه؟! فهل دافعه—حب من طرف واحد؟」
「هاه؟ لا، أبدا لا... ولكنه ممكن جدًا」
ما قاله زاد وجه مايكا شحوبًا. فتنهد كاميجو.
ثم هز الظرف قليلًا، وسقطت منه أوراق أخرى كانت مطوية. فتحها ليجد فيها تصريح خروج رسمي من المدينة، بالإضافة إلى مستندات مرتبطة. كل الخانات قد مُلئت مسبقًا. من أين جاء بهذه الأوراق؟ يعني، بهذه التصاريح أستطيع أن أخرج من بوابة المدينة مباشرة، لكن ظننتُ أن الإجراءات ستكون أكثر تعقيدًا بكثير...
وذُهِلَ من التناقض الفاضح بين رسالة التهديد القاسية وهذه الأوراق الرسمية المرتبة بعناية.
ما الذي يدور في رأس ذلك الكاهن بالضبط؟
- الجزء 3
هَكُمَيزة، المسرح المهجور والذي يعني اسمه "مقاعد الشفق"، لم يكن يبعد عن مدينة الأكاديمية سوى كيلومترٍ واحد تقريبًا.
كان قد أغلق أبوابه قبل أقل من ثلاث سنوات، ولذلك لم تكن هناك علامات بارزة على التهالك أو الخراب في داخله. فالأثاث الداخلي قد أُزيل بالكامل، فبدا المكان خاليًا تمامًا. والغبار قد تراكم هنا وهناك، بما أنه لم يُنظَّف، لكنه لم يعطِ انطباعًا بأنه مبنى مهجور بحق.
بل وكأن المبنى في سبات شتوي. وربما لم يُهدم بعد لأنهم ما زالوا يبحثون عن مالك جديد له.
وكل من إندِكس وستيل واقفين فوق خشبة المسرح الفارغة. القاعة الكبيرة، التي كانت بحجم صالة ألعاب مدرسية تقريبًا، احتوت على مسرح ثابت ومقاعد للجمهور. وقد أُزيلت جميع أضواء الإضاءة من السقف، فكانت الإنارة الوحيدة تأتي من ضوء المغيب الذي تسلل عبر خمس فتحات مفتوحة.
غطى الشفق الرقيق أرضية المسرح، حيث جلست إندِكس على ركبتيها، وقد فردت ساقيها من الجانبين، وهي تنفخ وجنتيها بانزعاج. وتقول متذمرة، 「جبان!」
رد ستيل ماغنوس دون أن يهتز صوته، 「ليس لي ما أقوله ردّاً، ولا ألزم نفسي」 كاد يرتجف للحظة من نظراتها العدائية، لكنه لم يُظهر أي علامة تدل على ذلك. اللهب الذي لامس به طرف سيجارته في فمه توهج بهدوء في الضوء الخافت، بينما كان الدخان الأبيض يتصاعد منه مارًا أمام لافتة مكتوب عليها [ممنوع التدخين], قبل أن يتلاشى.
「أظنكِ فهمتِ جُلّ الموضوع. لا داعي أن أسألك إن أردتِ مني تكرار شرحي، فذاكرتكِ قوية بما يكفي لجعل التكرار عبثي」
「مرسومٌ رسمي من كنيسة التطهير الإنجليزية (أنجليكان)...」
تمتمت إندِكس، كأنها تسترجع الكلام الذي سمعته عندما أحضرها ستيل إلى هنا،
يبدو أن شخصيةً ظهرت وتعرف كيفية فك شيفرة كتاب القانون، والذي كان يُعتقد أنه يستحيل فهمه.
اسم تلك الشخصية هي: أورسُلا أكوينَس.
وإذا تم فك شيفرة كتاب القانون، فقد يتمكن أحدٌ من الوصول إلى تقنيات ملائكية تهدد التوازن القائم في العالم المسيحي.
وفي إحدى رحلاتها إلى اليابان، اختُطِفت أورسلا وكذلك كتاب القانون.
والظاهر من الأمر أن الجُناة هم الكنيسة الأماكسية الصليبية.
وقد بدأت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية تحركها من أجل استعادة الكتاب وأورسلا.
ولم يستطع أحد التواصل مع كانزاكي كاوري من كنيسة الأنجليكان، وهي التي كانت في السابق زعيمة كنيسة الأماكسا، وتوقعوا أنها قد تُقدم على تصرفٍ غير مرغوب فيه.
ظاهريًا، كانت الكنيسة الإنجليزية التطهيرية مشاركة في هذه الحادثة —بما أنها تتعاون مع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية— لكن أولويتهم كانت في احتواء المشكلة قبل أن تتحرك كانزاكي كاوري فتُفسِدَ الأمور بتصرفٍ طائش.
「إذن فأنتم تورّطون مواطنًا عاديًا مثل توما في مهمتكم الرسمية؟」
「في الواقع، أنا نفسي لستُ مقتنعًا تمامًا بضرورة وجوده. لكن الأوامر أوامر، وما باليد حيلة」 ثم أردف الساحر والسيجارة في فمه، 「حتى بدونه لا يزال الوضع معقدًا. فهو من مدينة الأكاديمية، ولو جئنا وطلبنا مساعدته مباشرةً، لربما يُفهم الأمر على أنه تدخل من الجانب العلمي في مشاكل السحرة. لو كانت القضية داخل المدينة فقط، لأمكننا استخدام حجة الدفاع عن النفس المعتادة، لكن الحكاية الآن مختلفة. كنا بحاجة إلى ذريعة تدفعه للتدخل من تلقاء نفسه」
ومن هنا جاءت فكرة الاختطاف.
بمعنى آخر، ما كان كاميجو ليغادر المدينة الأكاديمية من أجل كتاب القانون أو أورسلا أكوينَس، بل من أجل إنقاذ إندِكس. وبذلك، سيصادف أشخاصًا من أماكسا، ويجد نفسه مضطرًا للقتال لحماية صديقته. وهكذا تكون هناك مبررات منطقية لتدخله في القضية.
إندِكس تنتمي لعالم السحر بطبيعة الحال، لكن مدينة الأكاديمية كانت قد عقدت بعض الاتفاقيات مع كنيسة الإنجليز التطهيرية تضعها مؤقتًا تحت رعايتهم. وبالتالي، لن يكون من الغريب أن يتدخل أحد سكان المدينة — وهو كاميجو توما — لمساعدتها.
「فهمت أغلب الحكاية، وما زلت غير مقتنعة」
「لا؟」
「نعم. لا أرى داعيًا أن تلتف وتدور عليه بهذه الطريقة. لو طلبتم عونه بصراحة، لَوَافق. حتى لو كان الأمر خطيرًا، هو بالتأكيد سيهب للمساعدة. ربما لِهذا السبب بالذات أنكم لم تقدروا على الطلب منه مباشرة」
ابتسم ستيل قليلاً، ابتسامة أقرب ما تكون إلى ابتسامة أبٍ يستمع لابنته الصغيرة وهي تتحدث بحماس عن فتى معجبة به.
「طيب، وماذا بعد؟ كتاب القانون وأورسلا أكوينَس سقطوا في يدِ الأماكسا. فهل تنوون الذهاب إلى مقرهم الرئيسي؟」
والآن حَمَلَت نبرة جدية في صوتها — ربما مع تورط كاميجو توما الآن، أرادت جمع كل معلومةٍ تحصل عليها من أجل تقليل الخطر.
زفر ستيل الدخان بمرارة وقال، 「لا، الوضع تغيّر قليلًا. قبل أحد عشر دقيقة بالضبط، اصطدمت قوات كنيسة الرومان مع الأماكسا الذين كانوا يفرّون. ولقد تحولت القضية الآن إلى حرب إنقاذ أورسلا」
ضاقت عينا إندِكس وهي تستغرق في التفكير.
كان من المرجّح أن ستيل كان يستخدم دخان السجائر وسيلةً للتواصل. وقد رأت إندِكس المانا تتشبث بخيوط الدخان الرقيقة عدة مرات من قبل، وفي كل مرة، ترى الدخان الأبيض يتمايل بطريقة غير طبيعية رغم غياب أي نسيم. كانت إشارات الدخان وسيلةً للتواصل لمسافات طويلة تُستخدم في كل أنحاء العالم عبر مختلف العصور، وهي تعرف أكثر من تعويذة سحرية تستند إلى هذا المفهوم الذي نشأ في حضارات وأزمنة متعددة.
「لو كانوا نجحوا، لما كان من داعٍ لوجودي هنا من الأساس، صح؟」
「بالضبط. ولم يفشلوا فشلا ذريعا كذلك، فلم يكن هناك قتلى من الطرفين، لكن المعركة كانت فوضى بحق. لا أعرف إن كان كتاب القانون لا زال معهم، لكن يبدو أن أورسلا هربت وسط الفوضى」
「وما رجعت إلى الكنيسة الرومانية بعد؟」
「هذا الذي يبدو. وبما أنها الآن مفقودة، فلربما عادت مجددًا إلى قبضة الأماكسا」
「...هذا ليس بجيّد」
فالخاطفون لا يتوانون عن استخدام العنف لكسر مقاومة الضحية. وإن كانت أورسلا قد أُمسكت مرةً أخرى بعد أن نجحت في الهرب، فمن يدري ما الذي قد يُفعل بها هذه المرة لتقويض مقاومتها؟
وهذا يعني أنهم لا يملكون ترف الانتظار. فالمطاردة بين كنيستي الرومان والأماكسا للقبض على أورسلا كانت تنتشر وتتسع الآن مع كل دقيقة تمضي.
「أنا أيضًا أود أن يسرع كاميجو توما بالمجيء، لكن لا يمكنني تغيير التعليمات التي تركتها له الآن. وكنت آمَلُ أن نلتقي به قبل أن يصل مندوب الكنيسة الرومانية، لكن...」
وقبل أن يُكمل ستيل كلامه، ظهرت هيئة عند أحد المداخل المفتوحة إلى القاعة الكبيرة.
「...مع الأسف، أرى أننا لن ننتظره بعد الآن قبل أن نبدأ」
كان مندوب الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.
- الجزء 4
「وكأنني غادرت المدينة كثيرًا آخر الأيام؟ يا ليتها لو تكون مغادرة عادية أسترخي فيها وأتجول سياحة،」 تمتم كاميجو وهو يمشي على طريق بمحاذاة الجدار الخارجي لمدينة الأكاديمية. كان الجدار الخارجي يزيد ارتفاعه عن خمسة أمتار، وسماكته تتجاوز الثلاثة أمتار.
ولكن متفهم أن يكون الأمن متراخيا لأننا في خضم التحضيرات لمهرجان دَيهَسي.
ألقى نظرة سريعة خلفه نحو المدخل والذي بات بعيدًا الآن. كانت التحضيرات ضخمة كالمهرجان نفسه؛ إذْ شارك فيها نحو 2.3 مليون شخص، إضافة إلى عدد كبير من التجار والعمال القادمين من خارج المدينة. عادةً ما تكون الإجراءات الأمنية في مدينة الأكاديمية صارمة، لكن في ظل الوضع الحالي، لم يكن أمامهم خيار سوى التخفيف منها. كان بحوزته أوراق الخروج، لكنه شعر أنهم لم يتفحصوها بالدقة المعتادة.
وهكذا، وبعد بعض الترتيبات هنا وهنا، ترك القط مع تسوتشيميكادو مايكا وغادر المدينة.
تفقد ساعته — وقد تجاوزت السادسة. وما زال أمامه قرابة الساعة حتى يحين الموعد المتفق عليه.
سبّب له مسرح هَكُمَيزة المعنيّ متاعب كثيرة في العثور عليه. فالمباني المهجورة لا تظهر أسماؤها على خرائط المواقع في جَوّاله، وهذا جعله يفكر يا لاستعجالهم في تحديث البيانات. واعتبر أن يقتني دليلا سياحيا قديم لتوكيو من أحد رفوف المتاجر الصغيرة، لكن حين تفقد جيبه، لم يجد محفظته. وعندما أدرك أنه لا بد أنه نسيها في غرفته لأنه غادر المدينة مباشرة بعد حديثه مع مايكا، اتسعت عيناه فجأة بشكل أثار ارتباك البائع، فقرر قراءة الدليل داخل المتجر.
هممم... إذن، أسلك هذا الشارع، ثم أعبر الطريق الرئيسي هناك... أغغ! أشعر وكأني أكاد أنسى المكان. يا عمي، المحظوظة إندكس لها عقل مذهل...
غارقًا في أفكاره، لمح موقف حافلات قريب. كان موقع مبنى هَكُمَيزة الذي سيلتقيهم فيه على بُعد كيلومتر واحد تقريبًا. وكان يتمنى أن يركب حافلة مكيفة ومريحة، خصوصًا وهو مرهق بعد يوم دراسي طويل، لكن للأسف، لم يكن يملك أي نقود.
اللعنة...! لا يهم إن كانت حافلة أو غيرها — كل ما أريده هو مكان به مكيف!
كان موقف الحافلات صغيرًا، لا يحوي سوى مقعدين ومظلة تحمي من المطر. لكنه بدا متداعيًا — فقد امتلأ سقفه البلاستيكي بتشققات من كل نوع.
ثم لاحظ وجود امرأة عند موقف الحافلة.
بدت أجنبية — وكانت امرأة في مثل طوله تقريبًا. تحدق في لوحة مواعيد الحافلات من مسافة قريبة للغاية، وكأنها على وشك أن تلتهمها. ومن الطريقة التي كانت متجمدة بها تمامًا على هذا النحو، خطر له أنها ربما لا تعرف كيف تقرأها.
وكانت ملابسها — بماذا كانت تفكر في هذا الحر؟ — لباس راهبة أسود داكن، يشمل بالطبع أكمامًا طويلة وتنورة طويلة. وعند التدقيق أكثر، لاحظ كاميجو صفوفًا من المشابك الفضية حول كتفيها وعلى بعد عشرين سنتيمترًا فوق ركبتيها، مما يعني أنها تستطيع خلع الأكمام والتنورة الطويلة، لكنها كالمغفلة كانت ترتدي زي الراهبة كاملًا. بقفازٍ أبيض رقيق على كل يد، ولم يرَ شعرها. كانت طرحتها مختلفة عن طرحة إندكس؛ حيث كان خِماراً كاملاً يخفي شعرها وكل شيء على رأسها ما عدا الوجه. ونسبة إلى كيف غطت قطعةُ قماشٍ واحدة شعرها كله، يُرجح أنها قصَّته قصيرًا.
ألقى عليها نظرة جانبية وفكر، همم، راهبة... لا يعقل أن تكون راهبة مجنونة من معارف إندكس؟
كان هذا حكمًا حادًا مسيئًا أهانَ به كل راهبة على هذا الكوكب الأزرق، لكن كاميجو قد صادف أنواعًا كثيرة من الناس المجانين خلال عطلته الصيفية، مثل ستيل وتسوتشيميكادو. فبالنسبة له، فإنٍ امرأة ترتدي زي راهبة غريب لهي شخصيةٌ تستحق الحذر.
ولكن...
「معذرةً...」
...كانت الراهبة هي التي خاطبته، وبدأت تتحدث بلغة يابانية مهذبة للغاية.
「عذرًا، هل ستأخذني هذه الحافلة إلى مدينة الأكاديمية؟」
ليست مهذبة وحسب—بل غريبة.
توقف كاميجو في مكانه والتفت نحوها مرة أخرى. كانت كل بشرتها مخفية ما عدا وجهها، لكنها كانت غريبة — صدرها كان بارزًا واضح، وخصرها نحيف. (عدا أنه، وحسب نظرتك، قد يُقال وكأنها أرادت إبرازه عمدًا)
「لا، لا حافلات تذهب إلى مدينة الأكاديمية」
「أستميحك عذرا؟」
「ما أعنيه، مدينة الأكاديمية معزولة عن وسائل النقل الخارجية. لذا لا تدخلها ولا تخرج منها حافلات وقطارات. يمكن لسيارات الأجرة المرخصة أن توصلك، لكن أرخص عليكِ لو ذهبتِ مشيا إلى هناك」
「فهمت. ألهذا السبب خرجت من مدينة الأكاديمية سيرًا أيها الشاب؟」
قالت الراهبة ذلك بسلاسة، فالتفت كاميجو للنظر نحو البوابة لكنه لم يرها من هنا. نظر إليها مجددًا وهو يلاحظ حركتها داخل كمها، ثم أخرجت شيئًا. كان منظارًا صغيرًا رخيصًا. 「رأيتك بهذا」 قالت مبتسمة.
ثم وصلت حافلة مهترئة إلى موقف الحافلات المهترئ بالمثل.
فُتحت أبوابها التلقائية مع هسهسة الهواء تخرج.
ما كان لكاميجو نية لركوب الحافلة، فقرر الابتعاد قليلاً عن الموقف. نظر إلى الخلف نحو الراهبة وقال،
「أيا يكن، لن تدخلي المدينة الأكاديمية بركوب حافلة. إذا كان لديك تصريح، فامشي إلى البوابة. ستأخذك حوالي سبع أو ثماني دقائق...」
「حسنًا، حسنًا، أفهم عليك. وأنا ممتنة جدًا لنصيحتك رغم انشغالك الشديد」
ابتسمت راهبة السواد وحنت رأسها...
...ثم صعدت الحافلة فورًا.
「مه... هَيه! لتوّي قلت ألا تركبي الحافلة!」
「أوه، نعم. قد قلت.」
رفعت الراهبة تنورتها الطويلة بيديها بكل بهجة ونزلت من الحافلة المتوقفة.
「كما قلت، مدينة الأكاديمية معزولة عن جميع وسائل النقل الخارجية. لذا لا تدخلها الحافلات والقطارات. إذا أردتِ الدخول إلى المدينة، فامشي إلى البوابة، تفهمين؟」
「أجل أجل، فهمت عليك. أعتذر لإزعاجك كثيرًا」
ابتسمت الراهبة ابتسامة متألمة وانحنت له مرة أخرى، ثم استدارت، وصعدت الدرج، وبدأت تختفي داخل الحافلة.
「وقفي!! أنتِ لا تسمعين كلمة مما قلت! تتبسمين وتسلّكين وتهزين راسك!!」
「ماذا؟ لا، ما كنت لأفعل」
نزلت الراهبة مرة أخرى من الحافلة بفرح. نظر السائق منزعجًا وأغلق أبواب الحافلة التلقائية وداس البنزين.
نظر كاميجو إلى الراهبة وهي تتتبع الحافلة تغادر، وبدأ يشعر بقلق شديد. إذا أزال نظره عنها لعشر ثوانٍ، فمن المحتمل أن تضيع.
لكن الراهبة، التي لم تدري بقلقه، وقالت: 「أراك منزعج من شيء. تريد حلوى؟」
「اسمعي، لست منزعجًا حقًا- لحظة، حلوى؟ ماذا، بنكهة البرتقال؟」
أخذ الحلوى ذات اللون البرتقالي دون تردد وبشكل شبه لاواعي. لم يستطع رميها في هذه اللحظة، فرماها إلى فمه. ثم...
「أخك، مُرّة! ما هذه؟ محال أن تكون برتقال!」
「هفف، أظنها حلوى الكاكي الحامضة. لست على دراية كاملة بالتفاصيل، لكنني سمعت أنها جيدة عندما يجف حلقك」
「صحيح، لأنها تُثير اللعاب. لكن هذا لا يفيد إذا كان جسدي يعاني من نقص الرطوبة أصلاً بسبب المشي في هذا الحر」
「يآه. تعاني من نقص في الرطوبة؟ يا ليتك قلت أبكر—معي شاي هنا」
「ما؟ أتوّك أخرجتِ زجاجة سحرية من كم زيّك؟ ما يهم، عَلِّ أرغب فيها. ما بداخلها؟」
「شاي الشعير المحمص」
「أوه، عطيني منه!」
كان كاميجو سعيدًا حقًا. شاي الشعير المثلج هُوَ الشَّرابُ في الصيف، فكر في نفسه بينما فتح غطاء زجاجة الشاي السحرية.
「آه، حار! لماذا هو يغلي؟!」
「هفف هفف، إن لم تخنني الذاكرة، فإن شعب هذا البلد يفضلون المشروبات الساخنة خلال المواسم الحارة، لا؟」
「من أنتِ؟ جدتي؟ عجوزة الديرة؟ كنتُ أفكر أن طريقة كلامك وتصرفك مريبة! تفكرين تمامًا مثل العجوز، أليس كذلك؟!」 صرخ كاميجو، لكن الراهبة وقفت بابتسامة نابعة من نية حسنة على وجهها.
لم يكن بمقدوره رمي الكوب الذي سكبت فيه الشاي في هذه اللحظة، فمرتجفًا شرب السائل الذي بدا كالماغما.
「...شكرًا. ولدي لكِ سؤال. قلتِ أنكِ ترغبين في الذهاب إلى مدينة الأكاديمية، صح؟」
「أجل أجل」
「مم، قد ذكرتُها من قبل، هل معك تصريح صادر عن المدينة؟」
「جواز سفر...؟」
فوجئت بذلك كما توقع هو. فالمرء يحتاج جواز سفر صادر من المدينة الأكاديمية لعبور بواباتها. ولا حاجة لشرح السبب في هذه اللحظة.
بعد أن أخبرها بذلك، وضعت الراهبة يدها على خديها بقلق وقالت، 「من أين آتي بالتصريح؟」
「...آسف، لكنهم لن يسمحوا لأي أحد بالدخول مهما حاول. لو كنتِ تقربين لطالبٍ من المدينة أو موردًا يجلب بضائع أو مواد، فذلك شيء مختلف، لكن حتى هؤلاء يخضعون للتحقيق」
「ها. إذن أظن أن خياري الوحيد الآن هو الاستسلام」
تدلت أكتاف الراهبة بحزن، لكنها لم تبدو راغبة في التراجع، وربما لم تكن مدينة الأكاديمية بالضرورة مقصدها.
للأسف، هذا شيء لا أستطيع مساعدتها فيه...
حَسَّ بالذنب، لكنه فجأة سمع الراهبة تقول 「مع السلامة」 وبدأت تمشي نحو بوابة مدينة الأكاديمية.
「تعالي!! ألم تسمعي كلامي؟! لن تدخلي بدون تصريح!!」
توقفت الراهبة واستدارت وكأن الفكرة لم تخطر ببالها من قبل.
وعلى ابتسامتها الخلوقة الفكِهة، بدأ وجهها يتغيم بسرعة ويتجهم.
بدت قلقة جدًا بشأن شيء، وهذا خوّف كاميجو. في الواقع، يستطيع السحرة القفز فوق الجدران وأكثر بإرادتهم حتى بدون تصاريح، لكن لم يبدو عليها أن تمتلك مثل هذه المهارات.
مع ذلك، ما عساه أن يفعل شيئا من أجلها الآن. للدخول إلى مدينة الأكاديمية، كان لا بد من الحصول على تصريح أولا وقبل كل شيء. دون أن ننسى أنه الآن قلق بشأن إندكس، فليس لديه رفاهية إضاعة الوقت هنا كثيرًا. تفويت الموعد المحدد في المكان المحدد كان أمرًا يود تجنبه بشدة.
「أنتِ. لماذا ترغبين في دخول المدينة الأكاديمية؟」
تنهدت الراهبة مرةً بعد ومالت برأسها قليلًا بقلق.
「في الحقيقة، أنا الآن هاربة」
شعر كاميجو بأن الحرارة من حوله انخفضت.
「هاربة...؟」
「نعم. واجهتني متاعب طفيفة وأنا الآن في خضم الهروب. سمعت أن المدينة الأكاديمية بعيدة عن متناول فصائل الكنيسة، فأردت بها مهربا إن أمكن」
「الكنيسة... مهلاً، ألهذا علاقة بالسحرة؟」
تفاجأت الراهبة بوضوح وسألت، 「كيف تعرف بوجود السحرة؟」
「يبدو أنني أصبت، حسب نظرتك هذه」 تنهد كاميجو وأردف، 「مدينة الأكاديمية، ها؟ إن كنتِ فعلا مطارَدة، فدخول المدينة لن يحميك بالمرة. ويا كثر ما لقيت من السحرة، يدخلونها كأنها مدينتهم」
هو يعلم كل شيء عن الفتاة إندكس، وكان مدركًا تمامًا أن هربها إلى المدينة لن يُبعد السحرة مُلاحِقوها.
「فماذا عليّ—؟」
بدأ وجه الراهبة يميل تدريجيا نحو البكاء. وإنّ كاميجو يعي خطورة أولئك السحرة، لذا كان مترددًا في تركها هنا وحدها، لكن...
「—من فضلك هلّا تقرأ لي خريطة خطوط الحافلات؟」
「كم صفحة مضت منذ تركنا هذا الموضوع؟! وهذه المرة جئتِ بمصطلح جديد، ‘خريطة خطوط الحافلات’؟! ماذا عن دخولك المدينة الأكاديمية أم لا؟!」 صرخ الفتى وكان منزعجًا جدًا من الراهبة المتفاجئة التي عادت فجأة إلى موضوع تخطياه.
لو أنّ السحرة يطاردونها حقًا، فلم يظن أنه من الجيد تركها. لكنه كان في موقف صعب ولم يستطع التهاون. كان قلقا على إندكس، التي (يبدو أنها) اختُطفت. كان وضعًا مريبًا للغاية، لكن ما عساه يتجاهل. لا أريد أن أضحي بأيٍّ منهما! أفف، ماذا أفعل؟! تساءل وهو يكاد يحك رأسه بجنون حتى أدرك فجأة شيئًا.
لحظة... لِمَ لا أصطحب هذه الراهبة معي إلى إندكس؟
ظن أنها خطة حسنة.
رغم أنه تذكر شيئًا في رسالة التهديد عن ضرورة حضوره وحيدا...؟
- الجزء 5
غادر ستيل وإندِكس القاعة الكبرى في هَكُمَيزة وسارا إلى بقايا الردهة التي لا بد أنها كانت مخصّصة لبيع التذاكر.
حيث قادتهما في الأمامِ فتاةٌ ترتدي عباءةً كهنوتية سوداء قاتمة.
كانت تصغر إندكس بعامٍ أو اثنين، وكان شعرها بنيًا مُحْمَرّاً—هي في الأساس صهباء الشعر. كان شعرها مضفورًا إلى عدة جدائل، كل واحدة منها في سُمك قلم رصاص تقريبًا. وأكمام الثوب الذي ترتديه طويلة حتى غطت أطراف أصابعها. وعلى نقيض ذلك، تنورتها قصيرة جدًا جدًا تُظهر فخذيها. ناظر وتمعن فترى شيئا كالسَحّاب على حافة التنورة—لا بد أنها نزعت جزءًا قابلاً للفصل من ملابسها. وكان خصرها أنحف من خصر إندكس، والتي هي نفسها بلا شك نحيفة حسب المعايير.
كانت في طول إندكس تقريبًا. لكن عندما تتبعت صوت خطواتها الصاخبة الشبيهة بخطى الخيول ونظرت إلى قدميها لوجدت أنها ترتدي صنادل من الفلين تَرفَعُها ثلاثين سنتيمتر. تُعرف باسم تشوبين، وهي نوع من الأحذية شيعت في إيطاليا خلال القرن السابع عشر.
هي راهبةٌ تابعة للمذهب الكاثوليكي الروماني، وقد قدمت نفسها باسم آغنيز سنكتس.
「الوضع فوضى. وفوقها نتلقّى معلومات متضاربة لذا لا نعرف بالضبط إلى أين ذهبت أورسلا. ولا نعلم حقًا إن كانوا قد حصلوا على كتاب القانون، لذا فنحن في ورطة ما وراءها ورطة」
لم يكن أي يابانيين في المكان، لكن آغنيز تحدثت بيابانية طلقة.
「في الوقت الحالي، سنعتبر هجومنا على الأماكسا أثناء نقلهم لأورسلا المخطوفة نجاحًا إلى حد ما. فرغم أن أحد أفرادنا أنقذ أورسلا، فإن بعضًا من الأماكسا اختطفوها مجددًا قبل أن يعودوا إلى قواتهم الرئيسية. ثم، عندما استعدناها للمرة الثانية، كَرّت علينا جماعة أخرى من الأماكسا واختطفوها مرةً ثالثة... نحن ندور في حلقة مفرغة. قد فرّقنا وحداتنا الاستطلاعية كثيرًا وقد ارتد ذلك علينا. على أننا نفوقهم عددا، فإن كل مجموعة منا بدأت تخسر أفرادا، وهم يستغلون ذلك. لذا وبينما نسرق أورسلا ونستعيدها مرةً وكَرّة، نجد أن أورسلا نفسها، والتي ظننا أننا أمسكناها، قد اختفت إلى مكان لا نعلمه」
كان صوت آغنيز يجمع بين الخشونة والأدب. وإن كانت قد تعلمت اللغة من خلال العمل فلربما كان من خلال الحديث مع محققين ومفتشين يابانيين.
بينما كان ستيل يفكر في هذا، استدارت آغنيز فجأة. فتطايرت تنورتها القصيرة، كاشفةً عن جزءٍ أكبر من فخذيها الناصعين.
「ماذا؟ أوه، اعذرني. يمكنني الحديث بالإنجليزية أيضًا، لكن لن أستطيع إبعاد لكنتي الإيطالية. لا أحد يهتم بهذا عادةً، إلا الإنجليز يغتظون. فإن لم تمانع، فأنا أفضّل التكلم بلغة هذا البلد」
ولكنّ ستيل دخّن سيجارته دون أن يبدو عليه أي اهتمام.
「لا، لا أمانع. في الواقع، فأنا أفهم الإيطالية كذلك」
「أرجوك، إلا هذا. فلو سمعتُ لغتي الأم تُنطق بلكنة إنجليزية، سأموت من الضحك إلى درجة لن أستطيع أداء عملي. من الأفضل أن نلتزم بلغةٍ أجنبية لكلينا. طالما يبدو حديثنا غريبًا للآخر، فلن نتشاجر」
طرق-طرق. فدوّى صوت صنادلها ذات النعل العالي كوقع حوافر الخيول.
كانت محقة إلى حد ما، لكن ستيل بدأ يقلق بلا داعٍ في اللغة التي تخطط لاستخدامها مع اليابانيين الحقيقيين في هذا البلد. وإن كان زملائها من حولها لا يفهمونها من الأساس، فلم يدري ما حاجتها لتعلّم لغة البلاد.
أما إندكس، فقد لزمت الصمت طوال الوقت. لم تنطق بكلمة واحدة.
كانت فقط عابسة. ترمق ستيل بنظرة جانبية غاضبة، تُظهر بوضوح أنها لا تنوي الحديث معه، ثم أعادت بصرها إلى آغنيز.
「إذن، أولئك الأماكسا أخذوا كتاب القانون وأورسلا أكوينس من بلادكم. فهل هم تهديدٌ بهذه الدرجة فعلًا؟」
「بل تقصدين، لماذا تعاني الكنيسة الرومانية —أكبر ديانة في العالم— من جماعةٍ دونية؟ نعم، لا أملك إجابة مُرضية. صحيح أن عددنا أكبر وتسليحنا أقوى، لكنهم غلبونا باستغلالهم طبيعة الأرض. فاليابان هي ملعبهم. يثير غضبي أننا نُضرب من طرفٍ أقل عددًا، لكن ما عساي أنكر قوتهم」
「...إذن، لن يستسلموا بسهولة؟」 قال ستيل بصوت فيه مرارة.
ولقد ظنّ أن فكرة "تقدّم بهدوء وبيدك عصاً غليظة" ستكون الطريقة الأسرع والأسلم لحلّ الأمور، لكن إن كان خصمك قويًا بما يكفي لئلا يخضع للمفاوضات، فليس أمامك إلا الدخول في معركة طويلة الأمد.
كلما طال أمد المعركة مع الأماكسية، زادت احتمالية تدخل كانزاكي. وبما أن الأمور وصلت إلى هذه المرحلة، فقد يكون الخيار الأسلس هو التخلي عن أي إحساس بالرحمة، وسحق الأماكسا بضربة خاطفة قبل أن تدارك كانزاكي ما يحدث.
فالهدف الحقيقي للكنيسة الكاثوليكية الرومانية هو استعادة كتاب القانون وأورسلا أكوينس، لا القضاء التام على الأماكسية. وإن حققوا مبتغاهم، فالأرجح أنهم سينسحبون فورا. وبعد ذلك، لن يتبقى سوى التأكد من محو إرادة أماكسا في القتال.
「لا أعرف الكثير عن تاريخ المسيحية في اليابان، لكن هل تعرفين ما نوع التقنيات التي تستخدمها الأماكسية؟ قد نُعِدّ بعض التعاويذ أو دوائر الحماية للبحث أو الدفاع استنادًا إلى ذلك」
قد كان ستيل شريكًا سابقًا لكانزاكي —القائدة السابقة للأماكسية— إلا أنه لم يكلّف نفسه قط عناء تحليل تقنياتها. فهي واحدة من أقل من عشرين قديسة في العالم، وحتى إن تمكّن من فهمها، فلن يستطيع عاديٌّ مثله تطبيقها. لا أحد من البشر سيفكر في قياس المسافة بين الشمس والأرض باستخدام مسطرة بطول خمسين سنتيمترًا.
بدت ملامح القلق على وجه آغنيز أيضًا عند سماع سؤال الكاهن.
「في الواقع... لم نتمكن من تحليل تقنيات الأماكسا بشكل صحيح. لو كانت مبنية على جمعية كزافييه اليسوعية، لكانت فرعًا من الرومانية، لكن لن يمكنك حتى أن تشمّ رائحة المسيحية في ما يفعلونه. ففيهم تأثيرات كثيرة من الديانات الشرقية كالصينية واليابانية ممتزجة」
ومع ذلك لم يُلقِ ستيل باللوم على آغنيز بعد السماع. فمجرد أن يكونوا قد استنتجوا من اشتباكات الأمس أن البوذية والشنتوية جزء من تقنياتهم كان في حد ذاته دليلاً قويًا على قدرتهم التحليلية.
أدار بصره عنها نحو إندكس، وكأنه مهتم برأيها.
فهي تمتلك معرفة تفوق الشخص العادي بعشرة آلاف مرة على الأقل، وفي مثل هذه الأوقات، تكون هي المرجع الذي لا يُعلى عليه.
تحدثت الراهبة ذات اللباس الأبيض بنبرة واقعية ومباشرة،
「أسلوب الأماكسية يشتهر بالسرية. فَهُم مسيحيون يختبئون عن أنظار الوطن الأم. يُخفون معتقداتهم المسيحية بذكاء بالبوذية والشنتوية، ويُخفون تعاويذهم وتقنياتهم على شكل تَحِيّات ووجبات وعادات وسلوكيات يومية — إنهم يطمسون كل أثر يدل على وجود طائفة الأماكسا أساسًا. لذا، لا تستخدم الأماكسية أي تعاويذ واضحة أو دوائر سحرية معتادة. أوانيهم وأطباقهم، قدورهم وسكاكينهم، أحواض استحمامهم وأسرتهم، تمتمتهم وشخيرهم... كلها أدوات سحرية أخذوها جزءًا من الحياة اليومية العادية. لا أظن حتى السحرة المحترفين سيَقدرون على كشف تعاويذ الطائفة الأماكسية، ولو شاهدوهم بأعينهم. فهي لا تبدو إلا أدوات مطبخ أو حمام عادي」
حرّك ستيل السيجارة في فمه ببطء، أعلى وأسفل.
「هذا يعني أنهم، في جوهرهم، متخصصون في الوثنية. هممم. يبدو أنهم مناسبون أكثر للقتال من بعيد، كالقنص، بدل الاشتباك القريب. وما لنا إلا أن نأمل ألا يكون لديهم شيءٌ كالجوقة الغريغورية」
「لا، إطلاقًا. حتى عندما كانت اليابان معتزلة، كانت تميل إلى امتصاص ثقافات الدول الأخرى بقوة. لديهم تقنيات قتال قريب أيضًا—أساليب أصلية تجمع بين شتى فنون السيف، من الشرق والغرب. قد يستخدمون أي شيء، من كاتانا إلى زويهاندر」
قال ستيل ممتعضا، 「...محاربون وعلماء في آنٍ معًا، هاه؟ يا لهم من صداع」 في تلك الأثناء، آغنيز التي وجدت نفسها خارج دائرة النقاش فجأة كانت تركل بخجل طرف حذائها على أرضية البهو بخفة. وتنورتها القصيرة تتطاير في كل مرة تركل فيها، وقد أصدرت قدماها أصواتًا خفيفة تشبه التصفيق، بدت سخيفة قليلًا.
التفت الكاهن المدخّن نحو آغنيز مجددًا.
「إلى أي مدى وصل نطاق بحثكم عن كتاب القانون وأورسلا؟ لا ينبغي لنا أن نقف هنا مكتوفي الأيدي. فإلى أين نبدأ بحثنا؟」
「آه، عن هذا. نحن نتولى البحث بأنفسنا فلا عليكم」
وحين عادت المحادثة إلى مسارها، اعتدلت آغنيز في وقفتها على عجل قليلًا.
「لدينا، بشكل أو بآخر، براءة اختراع في تكتيك الموجات البشرية. وحاليا نحن نبحث بقوة قوامها مئتان وخمسون فردا. لن يتغير شيء بإضافة واحدٍ أو اثنين، وبما أنكما تتبعان قيادة مختلفة، فقد تحدث ربكة في التنسيق」
「فلماذا استدعيتمونا؟」
عبس ستيل وعليه ابتسم وجه آغنيز ابتسامة صغيرة.
「بسيط. نريد منكما التحقيق في ما نعجز نحن عن الوصول إليه」
「مثل ماذا؟ لا توجد كنيسة رسمية في اليابان تابعة للأنجليكان. والأماكن التي لا يمكنكم تفتيشها إن رفضنا التعاون تقتصر عمليًا على السفارة البريطانية」
「لا لا، بل معكم مدينة الأكاديمية」 ردّت آغنيز بيدها مُلَوّحة. 「بالنظر إلى الظروف، جئنا باحتمال وارد. لو أن أورسلا لجأت إلى مدينة الأكاديمية، فلن تصلها أيادي الأماكسا. أو، لنقل، سيصعب عليهم ملاحقتها هناك. لذا، أريد منكما أن تتواصلا مع المدينة. فليس للكنيسة الكاثوليكية الرومانية أي صلة بها، بل ستكون وجع رأس لنا」
「أفهم... لكن ليتك أخبرتِنا بذلك أبكر. أتمنى لو أعود في الزمن وأجعل نفسي تسألك هذا فورًا」
كما يمكن استنتاجه من كون إندكس قد أُودعت في مدينة الأكاديمية، فقد كان هناك خيط رفيع يربط المدينة بكنيسة الأنجليكان. خيط بالكاد يكفي لاعتباره علاقة دبلوماسية، لكنه كان كافيًا لجعل التواصل مع المدينة أسهل بكثير لهم مقارنةً بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التي لا تربطها بها أي صلة.
「...لكن هذا يعني أنها لجأت إلى مكان مزعج فعلًا」
「هذا مجرد احتمال. ولنأمل أن يكون لأورسلا قدرًا كافيًا من الحكمة والتمييز. على أي حال، كم من الوقت سيأخذنا تقريبًا للتواصل معهم والتأكد؟」
「نعم، فالأمر لا يقتصر على مجرد مكالمة هاتفية. سيتعيّن عليّ أولا التواصل مع كاتدرائية القديس جورج، ثم أطلب منهم أن يوصلوني بمدينة الأكاديمية... حتى إن قلتُ لهم إنه أمر طارئ، فلربما يستغرق ذلك من سبع إلى عشر دقائق. وأيضًا، إن حصلنا على إذن بدخول المدينة، فستتحول الأمور إلى سلسلة من التعقيدات. من الممكن نظريًا التسلل، لكن من الناحية الواقعية أُفضل تجنّب ذلك」
「أوه، يمكنكم طلب الإذن الآن؟ فافعل وكلما أسرعت كان أ—」
توقفت فجأة في منتصف جملتها وتجمّدت في مكانها.
تبع ستيل نظراتها باتجاه مدخل المبنى، في مقدمة البهو. كان مدخلًا كبيرًا يضم خمسة أبواب مزدوجة من الزجاج.
「ما الأمر؟ ما الـ—」
وتوقّف هو الآخر في منتصف سؤاله.
「؟」
وآخرهما إندكس لاحظت ما كانا ينظران إليه.
كان خلف بوابات الزجاج الواسعة ساحة مفتوحة من الإسفلت كانت سابقًا موقفًا للسيارات. وعلى كِبَر المبنى، إلا أن المساحة كانت صغيرة للغاية. لم يكن من المفترض أن يكون هناك شيء في تلك اللحظة سوى الأعشاب القوية التي نبتت من خلال الشقوق المتصلبة في الأرضية... لكن في ذلك الموقف الذي كان من المفترض أن يكون خاليًا، وقف أحدٌ.
أو بالأحرى، كانا اثنين.
「توما!」
نادت إندكس باسم صبي آلفته.
「أور...سلا... أكوينس؟」
ونطقت آغنيز، وقد انفتحت عيناها على اتساعهما. فقد رأت الراهبة ذات اللباس الأسود تسير إلى جانب ذلك الفتى.
أما الاثنان اللذان نُطِق باسميهما، فلم يبدُ أنهما قد لاحظا السحرة الذين يقفون داخل مسرح هَكُمَيزة بعد.
- الجزء 6
قبيل قليل...
عدا أن شمس المساء كانت ألطف من المعتاد، كان كاميجو يلعن العمل الشاق المتمثل في المشي لثلاثة كيلومترات في فصل الصيف.
ت-ترى، تعبت وأرهقت من حصة الرياضة ومن كل خرابيط اليوم...
كان قد نسي محفظته في سكنه، لذا لم يكن أمامه خيار سوى المشي.
والأخت التي تمشي بجانبه، مرتديةً السواد، لم تكن تملك نقودًا أيضًا. ما عساه إلا أن يتساءل كيف خططت أصلًا ركوب الحافلة؟ وقد تقطر عرقًا مما حدث، شاقًا طريقه عبر ثلاثة كيلومترات في آخر موجة حر قاسية من سبتمبر، حتى وصل إلى هَكُمَيزا، لكن...
「مم... أختي الراهبة؟ تلبسين الأسود في حر جهنم هذا؟ كيف تمشين مبتسمة من دون أن تتعرقي؟」
「عذاب الجسد لا يُقارن بعذاب الروح」
「...راهبة ومازوخية؟」
「عذرًا، ولكن إلى متى نمشي حتى نصل إلى موقف الحافلات؟」
「أما زلتِ على تلك المزحة عن الحافلة؟! قد قلت لكِ إننا ذاهبان لمقابلة أحدٍ من كنيسة الإنجليز! أكنتِ تتجاهلين كل ما قلته سابقًا أم ماذا؟!」
「ياه ياه. اعذرني على قلة أدبي، أراك قد تعرقت كثيرًا」
「اغغ! تغيّرين مجرى الحديث تمامًا في كل مرة!!」
「هيّا عنك. سأمسح عنك عرقك، لذا من فضلك اثبت لحظة」
「إه، ماذا؟ هيه، مهلا، بغفغه؟!」
فجأة أخرجت الأخت من كمها منديلًا ومسحت به وجهه. لم يكن إلا منديلًا، لكنه كان من الدانتيل الفاخر، دافئًا قليلًا، وتفوح منه رائحة الورد. حاول أن يبتعد، لكنها ضغطته على وجهه بقوة غير متوقعة فلم يستطع الإفلات.
「كَذا كَذا. انتهيت」
ابتسمت الأخت له بابتسامة مشرقة كأنها تبعث الشمس نفسها نحوه.
「...طيب، شكرًا」
وبينما كان كاميجو منهكًا، خطا إلى داخل موقع مسرح هَكُمَيزة.
رغم أن المبنى كان يبدو ضخمًا حتى من بعيد، إلا أن موقف السيارات الموجود أمامه كان صغيرًا جدًا لدرجة أنه لا بد أن يكون مخصصًا للموظفين فقط. ربما كان السبب في ذلك وجود محطة قطار قريبة، بالإضافة إلى مرآب سيارات ملاصق. كان المكان محاطًا بألواح معدنية يبلغ ارتفاعها مترين، لكن المدخل المخصص للعمال كان قد فُتح بالقوة — حيث كانت سلسلة سميكة وقفل مرميان على الأرض.
لم تكن هناك أية معدات بناء ثقيلة أو ما شابه في موقف السيارات الضيق. حتى المبنى نفسه لم يكن عليه أي أثر للكتابة على الجدران أو الزجاج المكسور. ربما وجدوا مشتريًا له، وأن هناك من يأتي لصيانته بين الحين والآخر.
عندما اقترب هو وأورسلا، اتضح لهما أن هَكُمَيزة كان أكبر من صالة رياضية، ومبنيًا على شكل مربع تام. ربما كان يشبه مسرحًا شهيرًا في مكان ما، أو ربما أنّ تصميمه أتعب المصمم فريّح رأسه وبسّطه.
حسنًا، أظنهم في الداخل. فمن يجرؤ على أن يخرج في هذا الحر.
وجّه نظره نحو مدخل هكُمَيزة. كان المدخل واسعًا، بخمسة أبواب مزدوجة من الزجاج مصطفة بجانب بعضها. لم يرى ألواحا أو حواجز تسد الطريق. ولم يبدو كمكان مهجور، بل أشبه بمبنى مغلق مؤقتًا.
وأثناء تفكيره في ذلك، فُتحت أحد أبوابها الخمسة أمامه.
「هاه؟」 تمتم.
ومن بين الثلاثة الذين خرجوا، تعرّف على اثنين: إندكس وستيل.
أما الثالثة فلم يكن يعرفها. كانت فتاة أجنبية، تبدو أصغر قليلًا من إندكس. وكانت ترتدي زيًا أسود مشابهًا لزي الراهبة التي قابلها عند موقف الحافلات. إلا أن ثوب هذه الفتاة كان قد تحوّل إلى تنورة قصيرة جدًا جدًا — لا بد أنها فكّت المشابك لتحوّل الجزء السفلي إلى تنورة مقطوعة. وعندما نظر إلى قدميها، فوجئ بأنها ترتدي صندلًا خشبيًا بارتفاع ثلاثين سنتيمترًا.
وما إن رأت إندكس كاميجو حتى انفجرت عليه،
「توما، من أين التقيتَ بتلك الراهبة؟」
「...ما طال المشي عكس كا توقعت. أيا يكن — وسؤالي هذا موجّه تحديدًا لذلك الكاهن الشرير بجانبك — لماذا كل هذا العناء لاختلاق عملية اختطاف مزيفة متقنة؟! وأود حقًا لو أعرف لماذا أجبرتني أن أرهق نفسي وأمشي ثلاثة كيلومترات في هذا الحرّ الجنوني! تفضل، تفضل! بل أقول لك؟ لا—ستُخبرني طيبةً أو كرها!!」
ألقى ستيل نظرة مرهقة على الصارخ كاميجو. 「آه، عجبا؟ كنتَ تعرف أنها خدعة. إنما أردت استدعاءك إلى هنا لتساعدني في البحث عن شخص. ولهذا جلبت الفهرس طُعما. بالمناسبة، هذه هي المسؤولة عن المهمة. اسمها آغنيز سنكتِس، وهي من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية」
وأشار ستيل في اتجاهها بطرف سيجارته، فانحنت الراهبة ذات الصندل الخشبي العالي وقالت، 「مرحـ-مرحبا」 كان من الواضح أنها تعلمت أن اليابانيين يحنون رؤوسهم دائمًا، لكن انحناءها كان مبالغًا فيه، لدرجة أنها بدت وكأنها موظفة في فندق.
شعر كاميجو ببعض الإحراج من أن تخاطبه غريبة تمامًا فجأة. كان قد بلغ ذروة الغضب، لكنه لم يكن ليستطيع أن ينفّس عن غضبه في وجه شخص لا يعرفه.
وكأن ستيل أراد استغلال تلك اللحظة التي فقد فيها كاميجو إيقاعه فتابع، 「عذرا، لا وقتًا نضيعه بالعبث معك. كما قلت، أحضرتك إلى هنا لتساعدنا في العثور على شخص. هناك مئتان وخمسون شخصًا يبحثون عنها الآن، ومع ذلك لم يعثروا عليها. هذا سباق ضد الزمن. حياتها على المحك، لذا نحتاج مساعدتك فورًا」
「عبث...؟! هيه، أهكذا تعامل ضيفًا تطلب مساعدته؟! تبًا، ما هذا؟! وماذا تقصد أن حياتها على المحك؟! فسّر! وأصلا، أنا هاوٍ! ليست لي أي خبرة في تعقب الناس! لا تُكلّف طالب ثانوي بمهمة بهذه الخطورة!」
「أوه، لا عليك. فقط سلّمنا هذه الراهبة التي معك وسيمضي اليوم على ما يرام」
「...هَه؟」 ضاقت عينا كاميجو حتى أصبحتا كنقطتين.
زفر ستيل دخان سيجارته، وكأن الأمر برمته مثير للسخرية. 「تلك الراهبة هي المفقودة التي كنا نبحث عنها. اسمها أورسلا أكوينس. حسنًا، شكرًا جزيلًا. أحسنت صنعًا. والآن انقلع إلى بيتك الآن، كاميجو توما」
「...اسمح لي؟ تراني أنا من وُضعت في هذا الموقف، ومعي تصريح خروج من مدينة الأكاديمية حصلت عليه بطرق مشبوهة، ومشيت ثلاثة كيلومترات في طقس يقارب الأربعين درجة. ما جزائي لكل هذا؟」 تمتم كاميجو وهو ينظر إلى الأسفل. لكن...
「وقد قلت لك أحسنت. ماذا؟ أشتري لك حلاوة ولا ايس كريم حتى ترضى؟」
شحبت ملامح وجه إندكس وازرقّت مذعورةً عندما رأت كاميجو توما مطأطئ الرأس صارّاً على أسنانه.
وصدر صوت غريب كالـ غرككك من جانبَي رأس كاميجو.
「أتدري... حتى الآن، يعني، ربما لا نكون أصدقاء بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن الأمور بيننا كانت تمشي. أنا جاد. كنت أظن ذلك حقًا، صدقًا. على الأقل...... حتى هذه اللحظة!!」
「كفى مزاحًا. سلّم أورسلا لأغنيز حالًا. أم ماذا؟ تريدني أن أعيرك اهتمامًا أكثر؟ السموحة، لا أريد ولا أهتم أن أخلّصك من وحدتك، ولن أفعل حتى لو استطعت، لأنه قرف」
فوق غضبه الشديد، فإن تجاهله بهذا الشكل السريع جعل كاميجو ينهار في مكانه وكأنه احترق حتى آخر رمق. 「آغغ، أُووووووغغغغ. لم أعد أملك طاقة حتى لتحضير العشاء الليلة. إندكس، سنتعشّى اليوم طبق خنزير جاهز عادي」
تجاهل كاميجو الفتاة التي تصرخ جائعة كعادتها، 「ماذا؟! لكن توما!!」 ثم التفت مجددًا إلى الراهبة ذات اللباس الأسود الكامل، أورسلا أكوينس. 「...قلتِ إن هناك من يتعقبك. هل لهذا علاقة بعملية البحث هذه؟ يفترض أن تكوني بخير الآن بما أن حلفاءك قد وصلوا، صح؟」
عندما توجه إليها بالكلام، اهتزت كتفا أورسلا فجأة. كانت رجفة صغيرة، وكأنها حاولت كبحها لكنها فشلت.
أمال كاميجو رأسه متعجبًا. بدت وكأنها تنظر إلى ستيل والبقية، لا إليه.
أغلق ستيل إحدى عينيه بعدم اكتراث وقال، 「همم. لا داعي للقلق. نحن، التطهيريون الإنجليز، سنغادر ما إن ننهي مهمتنا. لكن أظن أن الحذر في مكانه على الأقل」
بالنسبة لخارجي مثل كاميجو، كان يصنف الجميع فقط على أنهم "من الكنيسة" أو "من عالم السحر".
لكنه بدأ يتساءل... أيا ترى ينظرون إلى بعضهم بعضًا خصوم؟ ومقسّمين أنفسهم إلى رومان أو إنجليز أو غير ذلك؟ لكن...
『يا ويلنا لو سلّمناها إليكم بهذه البساطة』
وفجأة، سُمِع صوت رجولي عميق.
وجاء ذلك الصوت بشكل غريب من فوق كاميجو مباشرة. نظر إلى السماء الليل فإذا به يرى بالونًا ورقيًا بحجم كرة اللينة يطفو على ارتفاع سبعة أمتار تقريبًا في الهواء.
كان الورق الرقيق الذي يشكّل البالون يهتز من تلقاء نفسه، منتجًا الصوت الذي سمعه قبل لحظات.
『أورسلا أكوينس. أنتِ أكثر من يعرف. لكِ أن تحيي وتعيشي حياةً ذات معنى معنا، بدل العودة إلى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية』
وفي تلك اللحظة.
بصوت سحبة سحّاب حاد، خرج سيف من الأرض فجأة بين كاميجو وأورسلا. كانت هجمة مباغتة كادت تصيبهم بينما أنظارهم معلّقة في السماء.
ثم خرج سيفان آخران من الأرض حول أورسلا، بصوت شنغ شانغ!!
السيوف التي انطلقت نحوهم انزلقت في الأرض بخطوط مستقيمة، مثل زعانف قرش تشق سطح الماء. شقّت السيوف الثلاثة الأرض، مشكّلة مثلثًا أطرافه بطول مترين، وفي وسطه أورسلا.
「آآآه!」 أطلقت أورسلا صرخة بدت أقرب للذهول منها للخوف عندما شعرت بالجاذبية تتلاشى من تحتها. لكن قبل أن تتحول الصرخة إلى صيحة واضحة، بدأ جسدها بالهبوط إلى أعماق الظلام، مع قطعة الإسفلت المثلثة بأكملها.
「أماكسا!!」 صرخت أغنيز، وهي تمد يدها محاوِلة الإمساك بها، لكن الوقت كان قد فات. فأورسلا قد ابتُلعت في حفرة الظلام. ركض كاميجو بجنون إلى حافة الفتحة، وصرخ غاضبًا،
「تبا، المجاري؟!」
واصل البالون الورقي في الأعلى صوته الحماسي المركّز،
『طالما نتتبع خطوات القائدة الرومانية، فلا يهم إلى أين تهرب أورسلا أكوينس أو من يمسك بها — ففي النهاية سوف تُجلب إلى هنا. أظن أن انتظارنا تحت الأرض كان جديرًا بكل لحظة!!』
لم يتمكن كاميجو من استيعاب الوضع، ولو قليلًا. من كان يختبئ في المجاري؟ ولماذا اختطفوا أورسلا فجأة؟
لكنه كان متأكدًا من شيء واحد،
لقد خرجوا فجأة ومن دون أي تحذير بأسلحة في يدهم واختطفوا شخصًا ما. ومن كلامهم، لم يكن الأمر عشوائيًا، بل كان مخططًا له مسبقًا، وقد انتظروا وقتهم المناسب بدقة.
「تبااا!!」
تطلّع كاميجو إلى داخل الحفرة المثلثة في الأرض. كانت مظلمة، مما جعله يُخطئ قليلًا في تقدير العمق، لكنها لم تبدُ شديدة الانحدار بالنسبة له. واجه الحفرة، مستعدًا للقفز، حين...
「انتظر! لا تفعلها، توما!!」
وفي اللحظة التي صرخت فيها إندكس...
بريق — لمع الضوء على عشرات الشفرات في الظلام.
وكأنها تعكس القليل من ضوء الشمس الغاربة، أخذت الأشعة البرتقالية تتلوى داخل المجاري. وبفضل الضوء المنعكس من الشفرات، ظهرت بالكاد ملامح أولئك المختبئين تحت الأرض. بدا المشهد وكأنه قُطّاع طريق يحملون سيوفًا وبلطات صدئة، متربصين بفريستهم في ظلال درب جبلي ضيق.
انفجرت كرة من الحقد الخالص في وجهه، كأنها عاصفة حارة مفاجئة.
وفي اللحظة التالية، كان ستيل، الواقف بجانب كاميجو المشلول، قد أخرج بطاقات محفورًا عليها رموز الرون.
رما البطاقات الأربع على الأرض، موزعًا إياها حول نفسه.
「TIAFIMH (نارٌ في يدي)، IHTSOAS (لها هيئة سيف)، AIHTROC (وتحمل طابع الإدانة)!!」 صرخ ستيل، قاذفًا سيجارته مباشرة نحو السماء. تبعها أثر برتقالي إلى الأعلى، وفي اللحظة التالية، قفز سيف من اللهب إلى يده على طول ذلك المسار.
ومع ظهور مصدر الضوء القوي هذا، انقشعت ظلمة المجاري على الفور.
أدار ستيل سيف اللهب في قوس واسع... لكنه توقف فجأة.
داخل المجاري التي أضاءها سيف اللهب، لم يكن أحد. لقد اختفى الجميع مع الظلام الذي أُزيح. كل تلك الظلال التي كانت في الحفرة ممسكة بالسيوف، وحتى أورسلا التي كان من المفترض أنها سقطت إلى الأسفل — كلهم اختفوا في غمضة عين، كما لو كانوا سربًا من القمل المائي المتشبث بالصخور، وقد هربوا دفعةً.
هبط البالون الورقي الذي كان يطفو بكسل في الأعلى ببطء نحوهم.
لم يمدّ أحد يده ليمسك به وهو يسقط إلى الحفرة المثلثة المنحوتة في الأرض.
「تبًّا! ما الذي يحدث؟!」 صرخ كاميجو وكأنه يبصق الكلمات من فمه. 「هيه! اشرحوا لي كل هذا؟!」
「في الواقع، أنا من يودّ شرحا وتفسيرا لما حدث هنا،」 ردّ عليه ستيل ماغنوس، وكأنما يستعد لسحق البالون الورقي تحت قدمه.
- ما بين السطور 1
وفي آخر اليوم غربت الشمس على شطٍّ محصَّنٍ بمصنوعات البشر، ونادَ بالليل داعيًا.
كان شَطّاً وعرًا فوضوية لا يصلح للسباحة. وعلى الشاطئ مباشرة جرفٌ شاهق بلغ نحو العشرة أمتار ارتفاعا، تكدست فوقه كتلات خرسانية رباعية الأرجل (تيترابودات) عالية تمنع ضربات الأمواج.
وعلى الغروب، تغطى البحر بسواد عميق.
ثم وكأنما لو كانت تنتظر قدوم الليل، ظهرت يدٌ من سطح الماء المظلم.
لم تكن كأي يدٍ من لحم، بل كانت مغطاة. أصابع مصفحة بدرجة كبيرة، تتلألأ بالفضة، أمسكت بأحد الكتل الخرسانية الرباعية الأرجل. ثم ظهرَ الجسد مرتديًا درعًا كاملًا على الطراز الغربي على سطح الماء وتسلق فوقها. كان مكسوًا بالحديد من رأسه حتى أخمص قدميه، وَلَشككت في وجود إنسانٍ بداخله أصلاً.
وبعد وصول الأول إلى اليابسة، برز عشرون فارسًا آخر من سطح الماء. واحدًا واحدًا، تسلق الفرسان فوق الكتل الخرسانية رباعية الأرجل، تابعين الأول. ونرى على أذرع دروعهم كتابات تحمل عبارة "الــمــمــلــكـة الــمــتــحــدة" — حروف تمثل الأمة المسماة بريطانيا.
سبحوا حتى هنا.
وليس هذا بمجاز. بل فعلا قد بدأوا من إنجلترا، واجتازوا رأس الرجاء الصالح، وعبروا المحيط الهندي، وفي النهاية تسللوا إلى مياه اليابان البعيدة.
كان هذا سحرًا يستخدم تيارات المحيط بناءً على أسطورة القديس بلَيز. ببساطة، كانت تقنية للسفر البحري السريع جدًا تسمحك لك أن تدور حول الكرة الأرضية في ثلاثة أيام فقط. لم تكن عنصرا روحيا —شيئا مرفقا بدروع الفرسان— بل كان شيئًا تُفعَّله أجسام الفرسان أنفسهم. الدرع الذي يرتدونه حاليًا لا يحتوي على مثل هذه الوظيفة. وبما أن الفرسان يتمتعون بمناورة عالية جدًا، فإن إضافة تأثيرات العنصر الروحي للدرع كانت إنما ستبطئ حركتهم. وبفضل قوتهم الهائلة، كانوا قادرين على القيام بهجمات عنيفة تفوق تأثيرات العنصر الروحي، لذا فقد كانوا طوال الوقت على شفا تدمير دروعهم بقوتهم خطأً.
كانوا يُعرفون ببساطة باسم تنظيم الفرسان.
كانت لهم أسماء سابقة مثل الهراوة السابعة والفأس الخامسة في إنجلترا، لكنهم تخلوا عن هذه الألقاب منذ سبع سنوات. ليس من فقدان الرتبة هويتها المميزة، بل لأن الرتبة قد وُلدت من جديد بعد أن اكتسب كل فارس كل المهارات.
سبب حاجتهم لاكتساب هذه القوة كان مرتبطًا جزئيًا بظروف إنجلترا وجزئيًا بالهدف الأصلي لتأسيس التنظيم.
حاليًا، تعمل المملكة المتحدة تحت سلسلة قيادة ثلاثية معقدة.
الملكة الحاكمة وفصيل العائلة المالكة، على رأسهم البرلمان.
زعيم الفرسان وفصيل الفرسان، على رأسهم الفرسان.
رئيس الأساقفة وفصيل التطهيريون، على رأسهم المؤمنون.
وعلاقات القوة على النحو التالي،
فصيلُ العائلة المالكة أمّارٌ على الفرسان.
وفصيلُ الفرسان يستخدم الأنجليكان أدواتا يستغلونها.
وفصيلُ الأنجليكان يُعطي التوجيهات لفصيل العائلة المالكة باسم نصائح الكنيسة.
في هذا النظام المثلثي المتقن، إذا حاول أحد الأطراف إجبار أجندته على الآخر دون سياسة، لعارضه بشكل كامل بأن يتحرك بالطريق الطويل في السلسلة. لكن هناك سبب آخر يجعل المملكة المتحدة تُعتبر ذات الثقافة الأكثر تعقيدًا في عالم الكنيسة.
المملكة المتحدة كانت اتحادًا لأمم تضم إنجلترا وشمال إيرلندا واسكتلندا وويلز. ولا تزال آثار هذا المزيج باقية حتى يومنا.
وعلى سبيل المثال، قد تجد عداوة بين التطهيريين الإنجليز والويلز، وإن كانوا من نفس المذهب ينتمون. وعلى العكس، ليس من غير المألوف أن تتواصل فصائل مختلفة داخل أمة واحدة، كتواصل فصيلَيْ التطهير والفرسان في اسكتلندا. فعندما كشرت شيري كرمويل —خبيرة فك الشيفرات— عن أنيابها على الأنجليكان —التي تنتمي إليها— كان لديها دعمٌ من طرف آخ، بالإضافة إلى دافعها الشخصي.
ثلاثة فصائل وأربع ثقافات.
كان هذا الرسم البياني ثنائي الأبعاد حيث يؤثر كل منهم في الآخر سببًا في تعقيد الأمة المسماة إنجلترا أكثر فأكثر. وفي المقابل، كانت أعظم مهمة مُنحت لفصيل الفرسان هي التأكد من أن هذا التداخل المعقد بين الدول لا ينهار فجأة.
وهكذا، لم يكن فرسان اليوم هؤلاء على يقين مسبق...
...أن التطهيريون الإنجليز — أي الأنجليكان — قد اكتسبوا نفس القوة التي يملكها فصيل الفرسان.
كانت كنيسة التطهير الإنجليزية، المعروفة أيضًا باسم الكنيسة الأنجليكانية، قد تأسست أصلاً لمعارضة الكاثوليكية الرومانية التي كانت تسيطر على العالم بأسره. أرادوا أن يديروا أمتهم بأنفسهم، لكن إذا لم يطيعوا الروم الكاثوليك، فسيُعتبرون دولة تعصي تعاليم الرب المسيح. لذلك، ومن خلال إقامة كنيسة مستقلة داخل إنجلترا، استطاعوا تبرير أفعالهم بأنها تتماشى مع تعاليم الرب حتى وإن لم يلتزموا بالكامل بأحكام الكاثوليك الروم.
بعبارة أخرى، تأسست الكنيسة الإنجليزية التطهيرية أداةً سياسية.
كانت الكنيسة هي الزيت الذي صنعوه لتليين عجلات العائلة المالكة والفرسان السائقين.
وفي الوقت الحالي، كانت العلاقة بين الأنجليكان والعائلة المالكة والفرسان تُقوّضها سلسلة قيادة الأنجليكان.
لم يحب أحدٌ حقيقة أن أفعالهم تُقيد بواسطة شيء وُجد ليكون أداة.
في الواقع، مع وجود قائد الفرسان والملكة الحاكمة أسيادا لهم، لم يكن الفرسان يكتفون بالاختصار في تنفيذ أوامر رئيس الأساقفة، بل في الحالات الشديدة كانوا يرفضونها تمامًا.
كانت إجابتهم على مهمتهم الحالية، لدعم عملية إنقاذ كتاب القانون وأورسلا أكوينس، بسيطة: يجب قتل جميع الأماكسا.
وليس لهم أي التزام بالمخاطرة بحياتهم لأجل أمر صادر من امرأة لا تعترف بهم—وهي رئيس الأساقفة.
لم يأخذوا بعين الاعتبار علاقاتهم الدينية والأخلاقية مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية أو مع الأماكسا حتى ولو قليلًا.
ولن يؤثر اختفاء الأماكسا بأي شكل من الأشكال على مصالح إنجلترا الوطنية.
كان من السهل قتلهم. فإنَّ مهارات الفرسان — الأعمال العديدة التي انتقلت عبر الأساطير من خلال حملة القتل الصليبية التي دفنت أعدادًا هائلة من المهرطقون في الحروب الصليبية — كانت قوية بما يكفي لمحو جزيرة صغيرة من الخريطة.
طائفة في دولة جزيرة نائية شرقية يمكنهم تدميرها في يومٍ واحد.
ولم يكن يهمهم ما سيحدث للرهينة المحتملة، أورسلا، في تلك العملية.
لم تكن الكنيسة التطهيرية الإنجليزية تهتم فعليًا بمحتويات كتاب القانون. فقد كانت المعلومات مسجلة بالفعل في ذاكرة الفهرس المحظور، واعتمادهم كان عليها. سواء عاشت أورسلا أو ماتت، فلن يضر ذلك المصالح الإنجليزية. قد يثير الرومان ضجة حول الأمر، لكن مهمة كبح هذه الضجة كانت تقع على عاتق رئيس الأساقفة.
وقد حذرتهم رئيس الأساقفة من أن يحذروا من الإجراءات التي قد تتخذها كانزاكي كاوري، القائدة السابقة لأماكسا، لكن الفرسان كانوا بعيدين عن الأخذ بهذا التحذير على محمل الجد. فإذا ما واجهتهم كانزاكي كاوري، وهي تفيض غضبًا على تدمير الأماكسا، فلسوف يجعلونها بقعة دم على الجدار.
أو هكذا قالوا.
لكن كل هذه الخطط سقطت في لمحات.
بعد أن اخترق الفرسان سطح الماء وتسلقوا فوق الكتل الخرسانية...
...ظَهَرَتْ من الأسفل واخترقتهم.
طاخ! طهءء!! انفجرت العديد من الكتل الخرسانية التي يزيد وزن كل منها طناً كأن بركاناً ثار من تحتهم. الفرسان الذين كانوا فوقها، والذين أُلقوا إلى الأعلى أيضًا، استعادوا توازنهم في الهواء ونظروا إلى السطح أدناه بحثًا عن نقطة للهبوط.
في مركز الانفجار—حيث حلق الفرسان الواحد والعشرون والكتل الخرسانية بأعداد هائلة—تقف فتاة وحيدة.
كانت ذات شعر أسود طويل أسبل، ببشرة بيضاء مغطاة بعضلات رشيقة، ترتدي قميصًا ضيقًا بأكمام قصيرة، وجنزاً مقطوع إحدى سيقانه، وأحذية غربــيّة، وسيفًا طويلًا يزيد طوله عن مترين يدعى الشچتن شچتو (سبع سماوات وسبع أنصال) موضوعًا على حزام جلدي حول خصرها.
كانزاكي كاوري.
دون أن تنطق بكلمة، بدأت هجومها على الفرسان الواحد والعشرين الطائرين.
وما فعلته كان بسيطًا؛ هاجمت كل فارس من الفرسان الواحد والعشرين، واحدًا تلو الآخر، وهم يطفون بلا ثبات ولا قدرة على الحركة. لكنها لم تهاجمهم بالسيف تقطعهم — بل كانت تضربهم بغمده بأناقة.
لكنها كانت سريعة سرعة تبعث اليأس.
لم يلبث الفرسان في الهواء لأكثر من ثانية، إلا أنهم شعروا جميعًا فورًا وكأنهم مجمدون في الهواء. هكذا كانت سرعة تحركات كانزاكي. كما لو أن الزمن توقف وكانت هي وحدها من تتحرك فيه بحرية.
لو أنّ مراقب راقب الوقت بدقة، لبدت وكأنها عاصفة غير مرئية تنطلق من مركز الانفجار.
كل فارس تلقى ضربة من الغمد تحطم على الأرض، أو غاص في جدار الجرف، أو اصطدم بطريق الشط الخرساني. والذين أُلقوا في البحر قفزوا فوق الماء كذا قفزة كحجر مقذوف.
بعد أن أسقطت الواحد والعشرين من الفرسان، هبطت كانزاكي بهدوء فوق إحدى الكتل الخرسانية.
وعندما لامس نسيم الليل الرطب شعرها بلطف، سقط الفرسان الطائرون أخيرًا على الأرض. وارتدّ صدى صوت قوي عبر الشاطئ المظلم.
「حاولت أن أمسك نفسي. فبهذا، لن تكون وفيات. ارتداءكم درعا قويا سَهّل من مهمتي، ولذا أحمِدُكم على هذا」
「أيا الـ.....」
أخذ الفرسان من صوتها الهادئ إهانةً وحاولوا النهوض. لكن الهزة قد وصلت حتى أعماقهم، وكان تحريك أصابعهم كل ما استطاعوه.
لهذا السبب، حرك الفرسان أفواههم بدل أجسادهم — حيث كان الشيء الوحيد الباقي يحركونه.
「أ...أتعين... من...هاجمتِهم تواً؟ قد عضضتِ يد... العقود الثلاثة والأراضي الأربع... المملكة المتحدة بنفسها!」
「وأنا كذلك جزء منها. وإنّي واثقة أن من هم فوقي سيتولون الأمر، لأن هذا ليس خلافًا بيننا وبين الكاثوليك الروم أو الأرثذكس الروس، بل داخل كنيسة التطهير الإنجليزية نفسها... أوه」 أدركت كانزاكي أن الفارس الذي تحادثه قد فقد وعيه، فكّفت عن الكلام.
「هناك بعض الذين رميتُهم في البحر... ولا يبدو أنهم فصلوا تعويذتهم الغواصة بعد، فلا أرى سببا أن أقلق من غرقهم،」 همست كانزاكي لنفسها، وألقت نظرة خاطفة نحو سطح البحر المظلم.
「تخلو كلماتك من القوة إن قلتها وأنت تحملين هذا القلق على وجهك، نيه-تشين」
「مم؟」 تحركت كانزاكي كاوري أخيرًا واستدارت نحو الصوت المألوف. كان شابًا أشقرَ قصيرَ الشعر مدببٌ، بنظارات شمس زرقاء وقميص هاواي وشورت.
تسوتشيميكادو موتوهارو.
رأت كانزاكي مكان وقوفه واندهشت. حواسها الحادة ما كانت لتغفل اقتراب أحد منذ البداية... ومع ذلك عندما نظرت إلى تسوشيميكادو الذي يبعد عشرة أمتار، لم تستطع حتى الآن أن تستشعر حضوره.
「أجئتَ توقفني؟」
عندما مدت كانزاكي يدها نحو مقبض سيفها الكاتانا، بقيت عينا الرجل خلف النظارات تبتسمان.
「اهدئي، كانزاكي كاوري. لن تقدري علي」 رغم الموقف، لم يظهر عليه أي توتر، ولم يحمل سلاحًا، ولم يستعد للقتال. 「مهما كنتِ قوية، لن تستطيعي قتل الناس. ولإسبرٍ مثلي قد يموت إن استخدم السحر لقتالك. ففي هذه المعركة... أكون ميتًا فيها رابحًا أو خسران، أفأنتِ مستعدة فعلًا لقتل فتى الكاميكازي تسوشيميكادو وتمضي قدمًا؟ إه؟」
صرت كانزاكي أسنانها.
كانت تُحْكِم على تقنياتها كي لا يموت أحد. فَلَها، قتالٌ فيه موت سواء في فوز أو خسارة لا يحمل أي معنى. وفي الحقيقة، كانت تلك أسوأ نتيجة تتصورها.
شعرت بأصابعها ترتعش وهي تلمس قبضة الكاتانا.
ثم استدار تسوشيميكادو 180 درجة وتحول إلى ابتسامة بريئة وطفولية، 「لا عليك، اشزري كما تشائين. ما طلبوا مني إيقافك شخصيًا، نيه-تشين. لكن طُلب مني اعتراض طريقك والقضاء عليك إذا بدا أنك تسببتِ في مشكلة. ولدي أعمالي على كل حال」
「أعمالك...؟」
「نعم. أعطوني المهمة السهلة في أن أنقب عن النسخة الأصلية من كتاب القانون بينما الرومان والأماكسا ينشغلون بمعركتهم الصغيرة」
ضيقت كانزاكي عينيها قليلاً. سألت: 「بأي أمر؟ أمِن كنيسة التطهير أم من مدينة الأكاديمية؟」
「من يدري. حسنًا، المنطق يجيب عنك. من يريد المجلدات السحرية أكثر، السحرة أم العلماء، ها؟ وبما أنني أتجسس لأحدهما، فمن السهل معرفة ذلك」
سكتت كانزاكي عند كلمات تسوتشيميكادو.
جوٌ رهيب سيطر على المكان، جو يمكنه أن يجمد حتى نسيم الليل الاستوائي المار بينهما.
ثوانٍ من الصمت تعالت، وكان أول من كسر التواصل البصري هي كانزاكي.
「...عليّ الرحيل. بَلّغ رؤسائك إن شئت」
「أهكذا؟ آه، سأنظف عنك هذه الأسماك المدرعة. فهو وجع رأس لو أمسكت بهم الشرطة」
انحنت كانزاكي برأسها بأدب وأكمل لها تسوتشيميكادو،
「بالمناسبة، ما الذي جاء بك إلى هنا بعيدًا عن إنجلترا، نيه-تشين؟」
تركت رأسها منخفضًا وتوقفت عن الحركة.
وبعد مرور عشر ثوانٍ طويلة، رفعت وجهها أخيرًا.
「من يدري...؟」 قالت بابتسامة آلية، وكأنها غاضبة وتكاد تبكي في آن واحد.
「...صدقا، ما الذي أريد فعله؟」
اختر اسم وأكتب شيء جميل :)