-->

الفصل الثالث: اَلْأَنْجِلِيكَانْ. — الكنيسة_الإنجليزية_التطهيرية.

(إعدادات القراءة)

انتقال بين الأجزاء

  • الجزء 1

انتهت المعركة.

وقد أدرك كاميجو أن ذلك كان بسبب انهيار قيادة الأماكسا دُفعةً بعد أن خسروا قائدهم تاتِميا. استنتج ذلك من توقف الأصوات البعيدة فجأة، وتبدد ذلك التوتر الذي كان يملأ الجو من حوله. لم يتلقَّ شرحًا مفصلًا إذْ لم يلتقِ بعد بأغنيز والأخوات، لكن يبدو أن النصر قد حطّ رحاله عند الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. وإن لم يكن، فهو غريبٌ أن الأماكسا لم يرسلوا بعد تعزيزات إلى مجموعة كاميجو، لا سيما وقد كانوا يتصرفون بجنون وهمجية.

وعلى أنه شعر بقلقٍ حيال مصير الرومانيين والأماكسا على حد سواء، إلا أن ستيل قد طمأنه بعدم وجود قتلى من الجانبين، وأن الرومانيين قد ألقوا القبض على الأماكسا. تساءل كاميجو للحظة من أين جاء ستيل بكل تلك الثقة، لكنه بدا وكأنه يستخدم جمرة سيجارته وسيلةً للتواصل؛ فدخانها المتصاعد كان — على ما يبدو — يحمل إليه الرسائل، ليس وأنّ كاميجو يفهم ذلك بالنظر وحده.

كان تاتِميا سايجي جالسًا على مقربة، وقد رُبطت بطاقات الرون بأطرافه وصدره وظهره وجبينه. كانت تلك —كما قيل— تقنية قاسية، تحرقه بالنار فور تحركه أكثر من اللازم.

وبما أن ستيل قد انطلق ليُحضِر أورسُلا إلى أغنيز والبقية، فلم يبقَ في المكان سوى كاميجو وإندكس وتاتِميا.

ثم...

「توما، توما! أنت بخير؟ هل تأذيت؟ أيؤلمك شيء؟!」

...وفي هذه اللحظة، جاءته إندكس، شاحبة الوجه، تحاول نزع ثيابه.

「هيه! كفي عن ذلك، إندِكس! أنا بخير، لا يؤلمني شي—غقخه؟! ي-يا غبية؟! انتبهي أين تضعين يديك!」

「إذن فافحص نفسك جيدا! إن كان هناك ما يؤلمك، أو مكان تشعر فيه بالحرارة أو الحُرقة!!」 صرخت كأنها على طرف البكاء.

وأدرك كاميجو، أخيرًا، كم كانت قلقة عليه. لكنه شعر أن التصريح بذلك مباشرة لمحرجٌ للغاية، لذا أنصت لكلامها دون أن ينبس بشفة، وشرع يفحص نفسه. 「طيب... ضلعي يؤلمني قليلًا، لكن هذا كل شيء. ليس بالذي يمنعني من الحركة」

「أحقًا؟ ليس بالجلل؟」

「نعم. ويعني، أظنني بتُّ اعتادها. فالمعارك في الأزقة الخلفية مع الأسابر كانت خطرة بذاتها. وفوق ذلك، خضتُ قتالًا مع السحرة مرات عدة خلال عطلة الصيف، تذكرين؟」

「إيه... هذا مطمئن...」 اتخذ وجه إندكس تعبيرًا يصعب تمييزه، أهو ابتسامة أم بكاء؟ شعر كاميجو بحرج بالغ، ولم يستطع سوى أن يُشيح بنظره بعيدًا، لكن...

「...إذن، يحقّ لي أن أعضّ رأسك كما أشاء، توما」

「...ها؟」

ما عساه يتجاهل ذلك—وما إن سمعه حتى انقضّت عليه تلك الفتاة الشرسة إندكس وشرعت تنهش رأسه بأنيابها.

「بـ-بياه؟! لحظة لحظة، إندكس! مرة تخافين على صحتي، ومرة تنهشينني؟! ما ستقولين إن سبّبتِ لي جرحًا آ—غييياااه؟!」

「أعضّك لخوفي عليك يا غبي! بم كنت تفكّر بحقك يا توما؟! أمجنون! ذلك الرجل لم يحمل سيفًا ضخمًا فحسب، بل كان ساحرًا! وأنت واجهته بقبضتك وحدها! ألم ترى أن تستخدم ذلك السلاح على الأرض؟! بل والعدو نفسه قال إنّه لن يقتلك إن استسلمت ما دمت هاويًا! فما الذي خطَر ببالك حينها لتقرر القتال؟! لا أمل فيك!」

「انتظري، انتظري! ستقتليني إن واصلتِ هذا إندكس-سان، إكك! فهمت، فهمت! أعتذر بإخلاص عن كل ما فعلت اليوم، فهلّا خفّفتِ عضّك قليلًا...؟!」

「وبعد، وبعد! هل فكّرتَ بالأمر حتى نهايته؟! أكنتَ تعلم حتى أن ذلك الأماكسي كان يحتاج وقتًا ليُفعّل تقنيته الدفاعية المقاومة للنار؟! لو أخطأت في تقدير الوقت، لَقُطّعتَ قِطعتين!!」

「لا، لا خطة ولا شيء. كان هجومًا انتحاريًا حقيقيًا مني... إنما أن ستيل كان طيبًا بما يكفي ليهتم... لم أعلم شيئًا عن تقنية مقاومة للنار أو الدفاع أو—آآآخ!!! آززف! آسف، إندكس-سان أرجووووووكِ!!!」

صرخ كاميجو صرخةً لم يسبق له أن أطلق مثلها في موقف جدي. وأخيرًا، بدا أن إندكس قد هدأت.

「...هف. أحمق...متهور،」 تمتمت وهي تضع ذقنها الصغير على رأسه.

...هَـه؟!

على الأرجح، فعلتها إندكس بعفوية من فرط الإرهاق، كمن يسند رأسه على الطاولة حين يشعر بالملل، لكن قلب كاميجو بدأ ينبض ضعف سرعته المعتادة في الحال. فبعيدًا عن شعور ذقن فتاة على رأسه، كان شعرها الفضي الطويل يُطلق عبيرًا عطِرًا ومنعشًا يلامس خديه، وفوق كل ذلك وبما أنه كان يواجهها، فقد كان صدرها قريبًا جدًا — لا يفصل بينه وبين أنفه سوى سنتيمترين بالكاد. عادةً ما كان ليلاحظ، لكن على هذه المسافة، لم يسعه إلا أن يدرك وجود انتفاخ خفيف.

لماذا تتغير سرعة هجماتها هكذا؟! آه، عرفت. الآن ستلاحظ أنني أحدّق في صدرها وتعضّني مجددًا، صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــح؟!

تهيّأ كاميجو للدفاع، لكن بخلاف ما توقع، سحبت إندكس نفسها بهدوء.

ثم حدّقت في السماء الليل للحظات، مصغية. 「هدوء. هدوءٌ ما كنتَ لتظن أن قتالًا بهذا الحجم قد وقع لتوّه」

「إيه...」 أومأ موافقًا.

لكن هذا الهدوء كان مرحبًا به الآن. على الأقل، ما كان عليه أن يقلق بشأن سيوف تتطاير، أو حراب تُشهر، أو صرخات غضب، أو أصوات تحطُّمٍ.

「هيه」 وفجأة، تحدث تاتِميا سايجي الجالس على مقربة موجهًا حديثه إلى كاميجو. كان في صوته شيء من التوتر. وقبل أن ينظر إليه كاميجو، فتحت إندِكس ذراعيها ووقفت أمامه كدرع. حدّق تاتِميا فيهما وقال، 「اللعنة. عذرا ولكن هلّا تنزعان عني هذه البطاقات؟ أعلم أنّ طلبي مستحيل. لكني لا أريد أن أتركها وحيدة」

هاه؟ عبس كاميجو. يترك "من"؟ تساءل... ثم خطرت له بعد لحظة: أورسُلا أكوينَس. 「ما الذي تهذيه يا غبي؟! لماذا نحرر أخطر شخص موجود هنا—」

「الغبي هو أنت! أرجوك، اسمع مني. ألا بأس معك حقًا أن تسلّمها إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية؟ أنت على الأرجح لا تعلم أي معاملة ستلقاها بعد هذا」

هاه...؟ لم يعرف كاميجو بمَ يرد.

「لا يا توما」 جاءت نبرة إندكس أهدئ منه. 「هذا الرجل يستخدم كلماته سلاحا، فلا تُصغِ له. كيف سيستفيد عدونا من قول الحقيقة أساسًا؟—」

سَتُقْتَل」 قالها تاتِميا سايجي قاطعًا حديثها. 「اسمع، سأخبرك بالخاتمة: لا تسلّمها إلى الرومان الكاثوليك. فهم في الحقيقة يريدون قتلها」

「وأنتَ حليف أورسلا؟ ولهذا تريد منا أن نفكّ قيدك ونُطلق سراحك؟! تمزح أكيد. قصتك مريحة لك أكثر من اللازم. أنتم من اختطفها من البداية! وسرقتم كتاب القانون أيضًا! هي تملك القدرة على فكّ شيفرته فاختطفتُموها وسلّحتُم كل هؤلاء وافتعلتُم القتال والآن تأتون وتقولوا لنا إننا الأشرار؟! هذا أسخف هراء سمعته في حياتي!!」 صرخ كاميجو من شدّة الغضب حتى تألمت حلقه.

لكن تاتِميا لم يبدو عليه التأثر. 「نحن لم نسرق كتاب القانون

ماذا؟

خلا ذهن كاميجو للحظة.

「فكر في الأمر. ما حاجتنا إليه؟ الروم الكاثوليك هم أكبر طائفة مسيحية في العالم، عدد أتباعهم يزيد عن مليارَين. هل تظننا سنغامر وندخل في حرب معهم من أجل مجرد كتاب؟ ما هو إلا كتاب」

「لا تأخذ كلامه بجدية، توما!」 قالت إندكس بنبرة حازمة وقد توترت فجأة. 「سمعتُ أن الأماكسا فقدوا كاهنتهم، وأصبحوا أضعف بكثير الآن. لذا حاولتم تعويض ذلك الضعف بالحصول على سحر محظور في الكتاب!」

قد قلت لك... لماذا نحتاج قوّة من الأساس؟

ابتسم تاتِميا سايجي. وعلى وجهه قطرة عرق تسيل ببطء، وكأن ضيق الوقت كان يلحّ عليه.

ارتبك كاميجو. 「لأنه إن لم تكن لديكم القوة، فستخسرون أمام المجموعات الأخرى!」

「نعم—لو أنهم هاجمونا. لكن تذكر هذا: الأماكسا قد عانوا الاضطهاد طويلًا جدًا. فهل تظن أننا لا نملك وسائل لمواجهته؟ لم ينجح أحد قط في العثور على مقرّنا، ولا تزال هناك الكثير من النقاط الدوّامية الخاصة بأساليبنا—"رحلة الهجرة المصغّرة"—والتي وضعها تاداتاكا إينو، ولا يعلم بها أحد」

شعر كاميجو فجأة وكأن كلمات الرجل قد باغتته على حين غرّة.

صحيح—لم يكن بحوزتهم سوى ثلاث وعشرين نقطة فقط من نقاط التنقل الخاصة.

كيف يمكن لأحد أن يهاجم مقرّنا، في حين أن لا أحد غيرنا يعرف مكانه؟

معه حق، فكّر كاميجو.

فلا أحد يعرف أين يقع مقر الأماكسا، وإن فرّوا إليه، فلن يكون بالإمكان إنقاذ أورسلا مرةً أخرى. ولهذا كان الهدف من هذه المعركة هو حسم الأمر قبل أن يتمكّنوا من تفعيل أسلوب التنقّل الخاص بهم.

ولأن لا أحد يستطيع مهاجمة معقلهم، فلم يكن من داعٍ لديهم للاستعداد للدفاع عنه أصلاً.

「إذن...」

هل كان للأماكسا غاية أخرى غير الدفاع؟ هل كانوا يسعون خلف كتاب القانون لتعزيز قوتهم العسكرية؟

أم أنهم...

「يا عمي أسألك سؤال. أي نوع الجريموار يُعدّ كتاب القانون، تحديدًا؟」

كان سايجي يوجه حديثه إليه، لكن كاميجو، لكونه هاويا عديم الخبرة تمامًا في شؤون السحر، التفت نحو إندكس باستحياء.

فبدأت تشرح، ووجهها لا يخلو من التردد 「كتاب القانون هو جريمُوار كُتب بشيفرة معقّدة للغاية — بل إن قواعده النحوية غريبة لدرجة أنه لا يُعدّ مبالغة إن قيل إنه مكتوب بلغة مختلفة تمامًا. ويقال إن الوحيد الذي فك شفرته صحيحًا هو مؤلفه [إدوارد ألكسندر]، والمعروف أيضًا باسم كراولي. وقد ذكر أن أهم ما فيه هو العبارة: "لا شريعة عليك إلا ما تمليه إرادتك"، لكن لا أحد يعرف ما قَصَدَتهُ الكلمات」 وواصلت حديثها بانسيابية، 「يحتوي الكتاب على تعاليم من كيان غامض يُدعى آيواس، ويُقال إنه كان بمثابة ملاكه الحارس المقدس، أو ربما كان كائنا لا ينبغي غفرانه. وتُشير إحدى النظريات إلى أن الكتاب يتيح لمن يفهمه استخدام تقنيات الملائكة بحرّية. وله بقوة عظيمة. ويُقال إنك ما إن تفتحه، يُعلَنُ نهاية عصر المسيحية وبداية عصر جديد」

「وهذا هو」 قالها تاتِميا سايجي بابتسامة حملت معاني. 「كتاب القانون يحمل قوة عظيمة. ولو صحّ أنه يتيح لأي أحد استخدام تقنيات الملائكة، لانتهى عصر الهيمنة المسيحية قبل غروب الشمس. فحينها، سيتمكن الجميع من استخدام قوى تفوق حتى قوة البابا نفسه. وستنهار هرمية الكنيسة بأكملها... لكن...」 توقف لحظة. 「...لكني لا أظن أن الجميع يريد هذه القوة فعلًا」

「ولمَ لا؟ أنا لست ساحرًا، فلا علاقة لي بهذا. لكن أليس من الطبيعي أن يسعى السحرة المحترفون لاستخدام سحرٍ أقوى للارتقاء بمكانتهم؟」

「اسأل نفسك لِمَ قد نرغب أصلاً في الارتقاء بالمكانة؟ نحن لا نحتاج إلى هذه القوة. بل لا ينبغي لأي تابع من أتباع المسيحية أن يسعى إليها」

「لكن أليست الكنيسة الرومانية الكاثوليكية تدير كتاب القانون لأنها تريد قوته؟」 قالها كاميجو في حيرة، لكن إندكس بدت وكأنها فهمت مغزى كلام سايجي إذْ اتخذ وجهها تعبيرًا حادًا.

「اسمع يا ولد...」 قالها بابتسامة هادئة مجيبًا على السؤال البريء.

「لماذا ترغب الكنيسة الرومانية الكاثوليكية — وهي أكبر طائفة مسيحية يتبعها أكثر من ملياري إنسان — في إنهاء عصر المسيحية؟

ضَرَبَته.

أولئك الراضين عن الوضع والتوازن القائم، لا دافع لهم لتغيير أي شيء. بل لن يرغبوا في تغييره مَن يتربعون على القمة.

「الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لم تكن تسعى أبدًا إلى سلاح قوي مثل كتاب القانون. ما يحتاجونه هو سلاح يمنحهم السيطرة على العالم، لا سلاح يُحطِّم العالم كلّه」

سكت كاميجو وإندكس معًا.

شعر كلاهما وكأنّ ظلمة الليل قد اشتدّت فجأة، وتضاعف ثقلها مراتٍ عدّة.

「ولذا قرّروا، في الخفاء، أن يتخلّصوا من الشخص الوحيد القادر على استخراج قوة الكتاب. لكنها أدركت ذلك. فجمعت كل ما لديها من قدرة لتصل إلى مكان لا تطالها فيه يد الكنيسة الرومانية...بمعنى آخر، تلاعبت بجدولها بطريقة تسمح لها بالمجيء إلى اليابان. والمفارقة أنّ كتاب القانون كان مقررًا نقله إلى هنا أصلًا. بعدها، جاءت تطلب العون من فرعٍ محلّي للمسيحية—الأماكسا. في نهاية المطاف، كنا فقط مساعدين لها في هروبها الكبير」

زفر تاتِميا بثقل. 「قصّة "سرقة الكتاب" كانت مسرحية لفقتها الكنيسة الرومانية. كيف لنا أن نسرقه. هم أرادوا على الأرجح أن يربطوا اختفائها بالكتاب. فلو ارتبطت القضيتان معًا، لظن الجميع أن اختطافها كان من أجل الكتاب. أما إن اختفت وحدها، فربما يسّر الناس الأمر بتفسيرات أخرى... كأن تكون قد انشقّت وهربت من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، مثلًا」

خيرٌ وشر، هجومٌ ودفاع، اختطافٌ وإنقاذ.

شهد كاميجو في لحظةٍ واحدة فقط انقلاب كل هذه المفاهيم.

「فهل لا تزال ترى أن الكنيسة الرومانية على صواب؟ فهل تقول بيقينٍ تام أن تسليم أورسلا أكوينَس إليهم هو القرار الصحيح؟」

「...」

「إن استطعت، فهاتَ دليلك. وإن لم تستطع، فانهض وواجه شكوكك! من هو العدو الحقيقي هنا؟ أي أحد سيفهم الحقيقة إن فكر بهدوء!!」

أخذ كاميجو نفسًا عميقًا إثر صرخة تاتِميا سايجي الغاضبة.

ثم أغمض عينيه.

وأخذ يرتّب المعطيات في ذهنه بدقة، يتحقق من كل تفصيل واحدًا واحدًا.

فكِّر.

من ذا الذي يملك الحُجج الأصدق؟ الرومان أم الأماكسا؟

أين تكمن التناقضات؟

「لا أستطيع. لا زلت لا أثق بك تمامًا」

「...لم لا؟」

قال كاميجو ببطء، 「حتى لو كنت صادقا في كل ما قلته... فلماذا هربَت مِنكُم أورسُلا؟ أول مرة التقيت بها كانت تتجوّل وحدها قرب المدينة الأكاديمية. وسبق أن أوضح ستيل أن الكنيسة الرومانية والأماكسا كانا يقتتلان في ذلك الوقت. أظن أنها انتهزت فرصة وسط القتال، وهربت من الطرفين معًا. فإن كان ما تقوله صحيحًا. فلماذا؟」

「...」

「ما تقوله قد يكون كذبًا. وحتى إن كان صدقًا، فعدو عدوي ليس بالضرورة صديقي. لذا، سأطرح عليك هذا السؤال: لماذا هربت أورسلا أكوينَس منكم؟」

لو كانوا حقًا حلفاء أورسلا، لما كان لها سبب يدعوها إلى الهروب منهم.

ابتسم تاتِميا بهدوء، كأنما ردّ بصمته على هذا التصريح الضمني من كاميجو. كانت ابتسامة ضعيفة، واهنة، كمن أنهكته الحياة. 「كانت مثلك」

「مثلي؟」

「أجل. مثلُك يا عمي. لقد جاءت إلينا تطلب العون — لكنها في النهاية لم تستطع أن تثق بنا ثقةً كاملة. ولعلها فكّرت فينا هكذا: لا سبب يدعوهم لمساعدتي إن كان ذلك سيجعلهم أعداءً لأكبر طائفة مسيحية في العالم — الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. لا بد أنهم يطمعون في طريقة فكّ شيفرة كتاب القانون

خرس كاميجو.

وبدت عينا تاتِميا وكأنهما تنظران إليه وإلى شيء بعيد في الوقت نفسه.

「يا عمي، فهمت الموضوع فهم ثاني. ما حاجتنا إلى ذلك الكتاب؟」

「؟ فلِمَ حاولتُم إنقاذها؟」 سأل كاميجو بحذر.

「ليس لدينا سبب،」 أجاب تاتِميا على الفور، بلا تردد. 「ولم نحمل سببا بادئ الأمر. كنا دائمًا هكذا. بل إن جيلنا الحالي أكثر تمسكًا بذلك النهج ممن سبقنا. هل تعرف لماذا اختيرت كاهنتنا — تلك الفتاة — لتكون قائدةً لنا وهي لا تزال صغيرة السن؟ لقد وقفت أمام تنين شرير قادر على ابتلاع الجبال فقط حتى تحمي حُلم بنتٍ صغيرة. ودافعت عن قرية صغيرة في وجه قوة عسكرية عظيمة فقط لتحقق الوصية الأخيرة لإنسانٍ كان يحتضر. وقد كنا دائمًا من خلفها نراقب. ربما كانت فترة قصيرة، لكن بالنسبة لنا، شعرتُ وكأننا وراءها أبد الدهر」

كان تاتِميا يتحدث كمن يلاحق أطياف الماضي.

وكأنه يتفاخر بعائلته.

「ولهذا فنحن لا نُخطئ سبيلنا. ولا نُسيء استخدام قوّتنا. ولهذا اخترنا السير على الطريق المستقيم. كثير من الأمور يسهل قولها، لكنّها — كاهتنا — كانت تنفّذها فعلًا. ومنها تعلّمنا أن الإنسان يمكنه أن يكون بتلك القوة. أن يكون بتلك الطيبة. وأن هذا كله ليس بعيد المنال」

ساد السكون المكان.

ثم عضّ تاتِميا أسنانه كأنما يكسر بها الصمت.

「...لكن الطريق الذي اختارته لتعيش عليه—نحن من دمّرناه」

「ماذا؟」

「نحن، بضعفنا وقِصَرِ حليتنا، آلمنا كاهنتنا. كانت دومًا آخر من تقف، فبدأَتْ تُصدّق أن سقوط الجميع من حولها كان خطأها. هذه ليست نكتة. أجسادُنا وعقولُنا كانت السبب في كل شيء—لأننا أردنا الوقوف معها على ساحة القتال، لكننا سقطنا واحدًا واحدًا. وهكذا أصبحنا. كاهنتُنا لم تخطئ في شيء... لكننا، بأفعالنا، أجبرناها على مغادرة بيتها، وحيدة」

بصق تاتِميا الكلام كأنه يطعن بها نفسه.

وصوته الخارج من أعماق حلقه كان يفيض بعاطفة حقَّ.

「قد سرقنا منها بيتها بضعفنا. ولهذا، نريد أن نُعيد إليها ذلك البيت. بيتٌ لا يتأذّى فيه أحد، ولا يحزن فيه أحد، بيتٌ يحارب فيه الجميع ليصنعوا البسمة في وجوه غيرهم. بيتٌ نقف فيه جميعًا دون تردّد لحماية سعادة الآخرين」

「...」

「ولهذا، مددنا يد العون إلى أورسلا — لأنها طلبت العون.

لأننا رأينا أن بيت كاهنتنا، يجب أن يكون عالمًا يفعل فيه الناس هذا الأمر بصورة طبيعية」

في النهاية، لم يكونوا يقاتلون لأجل مصلحة أو منفعة، كما توحي به الصراعات بين التنظيمات. بل كانوا يقاتلون لأن الظروف فرضت عليهم — لا لأنهم أرادوا مكاسب. كانت تلك "الظروف" متجذّرة في تاريخ جماعتهم، لدرجة أن أورسلا لم تستطع أن تفهمها. وهذا ما أدّى إلى سوء الفهم. فهل هذا هو كلّ ما في الأمر؟

لكن ذلك فقط إن كان كلُّ ما قاله تاتِميا صحيحًا.

بدأ كاميجو يتمنى لو يُصدّقه. لكن لا شيء مما سمعه يحمل دليلاً قاطعًا. حتى وإن راوده الشعور بالرغبة في الوثوق به، لم يرى برهانًا واحدًا يمنحه ثقةً مطلقة. فعضّ على أسنانه بقهر. مَن أُصدّق؟ مَن الكاذب في هذه الحكاية؟ أفكار كثيرة دارت في رأسه بلا توقف، حتى...

كيااااااااااااااااهـــــــــــــه!! دَوَت فجأة صرخة حادّةٌ تشقّ الأفق من بعيد.

لا—لم تكن أي صرخة.

بل زعيقا. صيحةٌ من فزعٍ وخوف. تكاد تَصُمّ الآذان القريبة. وإن كان عليه أن يخمّن لقال إنها خرجت من امرأة. لكن... أوكانت صرخة إنسان؟ حتى كاميجو لم يكن واثقًا. الصوت المرتفع الحاد، المشابه لأظافر تخدش زجاجًا أو سبورة، قشعرت الأبدان. ومع ذلك، وسط ذلك الصوت الغريب، كان بالإمكان الإحساس بعاطفة إنسانية صافية. خوف. إنكار. يأس. ألم. كأن إسفنجةً مبلّلة بالوحل تعصرها يدٌ بقسوة... صوتٌ مكبوت، لا يليق بالبشر، لكنه مليء بالإنسانية المفرطة في واقعيتها.

نظرت إندكس إلى كاميجو، ولم يردّ النظر. 「أور...سُلا؟」

「أسألك مرةً أخيرة... قلتَ إنك سلّمتها إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية؟ ظننتُ أنها وثقت بِك—لا بالرومان」

「...」 كلمات تاتِميا أعادت إلى ذهنه كلامه لأورسلا،

——「أود أن أؤكد، أنت الآن أنقذتني لأن الكنيسة الإنجليزية التطهيرية هي طلبت منك التعاون، صحيح؟」

لماذا كانت أورسلا مترددة في طرح ذلك السؤال؟

——「صحيح...」

ولماذا ارتاحت كثيرًا عند سماع هذا الجواب القصير؟

——「إذن فأنت مع الأنجليكان، لا مع الرومان الكاثوليك؟」

ولماذا كررت السؤال، كأنها تريد التأكّد تمامًا...

——「غغ، عدنا من جديد؟! آهخ، لا، ليس بهذا التعقيد. أوه، وليكن في علمك ليس لي أي نفوذ عليهم. فأنا من مدينة الأكاديمية」

وتلك الكلمات، التي قالها بلا تفكير، كانت كافية لتريحها...

——「...هكذا تقول」

كم من المعاني حملتها تانِ الكلمتان؟

لا شك أنها ظلّت تؤمن به حتى اللحظة الأخيرة.

تؤمن أن كاميجو توما هو شخص يمكنها أن تسلّم نفسها له بثقة، طالما كانت محتاجة.

「...تبًّا!!」

صرّ كاميجو أسنانه بغضب، واستدار بسرعة نحو مصدر الصرخة. ولو فكّر بهدوء، لأدرك أنه كان عليه اصطحابها إلى مدينة الأكاديمية، حتى وإن كان في ذلك خطر. هذا كل ما كان يجب عليه كي يضمن أمانها!

「خرا. كيف آلت الأمور إلى هذا الشكل؟!」

「لا تفزع. فتلك ليست صرخة موت. الكنيسة الرومانية لها أنظمتها — لا يمكنهم قتل أورسلا أكوينَس الآن وهنا. بل أنا واثقٌ تمامًا من ذلك」

「ماذا؟」

「أعني لو أسرعت عَلّك تنقذها. لكن إن أخطأت التصرف الآن، فلا أحد يعلم ما قد يحدث! نحن أيضًا لدينا ظروفنا، لكن الأولوية القصوى الآن هي تأمين سلامة أورسلا. لذلك، لا يهمني إن كنّا سنبقى أعداءً بعد ذلك أم لا!」

كانت صرخته توحي بأن الزمن صار خصمًا لهم الآن.

「لكن عدني بشيء واحد! أن تستعيد أورسلا أكوينَس من الكنيسة الرومانية، وأن تأخذها إلى مَكانٍ لا يستطيعون ولا نحن أن نصل إليه!!」

كانت عيناه جادّتين.

جادّتين كفاية لتُربكا كاميجو.

ومن ثم.

فجأة كر-طرق جاءت خطوةٌ واحدة تقطع سكون المكان. أزاح كاميجو نظره عن تاتِميا واستدار نحو مصدر الصوت. فرأى راهبتين ترتديان السواد تقتربان نحوهما، كأنما تشقّان عتمة الليل بخطاهما. لا شك أنهما من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.

إحداهما طويلة القامة، والأخرى قصيرة. الطويلة حملت عجلة خشبية ضخمة، أكبر من الطاولة الدائرية الصغيرة، بدا أنها انتُزعت من عربة قديمة. أما القصيرة، فكان عند خصرها أربع أكياس جلدية معلّقة على الحزام، تصدر رنينًا عند كل خطوة تخطوها. لا بد أن فيها نقودًا معدنية أو مثل هذا. وحجم كل كيس يعادل كُرة اللين، ولو كانت مملوءة قطعًا معدنية، فستكون ثقيلة ككرات الحديد المُستخدَمة في دفع الجلة.

أخرجت الراهبة الطويلة دفترًا جلديًّا قديما من كمّها، وقلّبت صفحاته. ثم، بعد أن هزّت رأسها وكأنها وجدت ما تبحث عنه، اقتربت من كاميجو. لعلّه كان يحتوي على صورة شخصية.

قالت بنبرة باردة، 「أنتم الغرباء الذين ساعدونا، ها؟ جئنا لاستلام زعيمَ المهرطقين الأسير. عدوَّ الربِّ... أهو هذا؟」

وبينما تتحدث، اقتربت الأخت الصغرى من تاتِميا سايجي، الذي ما يزال جالسًا ومقيدًا ببطاقات الرون المنتشرة على جسده، انتظارًا لإجابة من كاميجو.

ورنّت الأكياس الأربع عند خصرها.

「انتظري! تمهلي لحظة!」 صاح كاميجو، لكن الراهبة القصيرة لم تُعره انتباهًا.

مدّت يدها نحو تاتِميا، لكنها توقفت فجأة، وكأنها لاحظت أمرًا مهمًا. ثم بدأت تدور حوله بحذر، تراقب بطاقات الرون المتصلة بجسده.

أما الأخت الطويلة، فكانت تنظر مباشرة إلى وجه كاميجو. 「ما الأمر؟」

「قبل أن ترحلوا، هلا تُروني أورسُلا مرةً بعد؟」

「عذرا، لن نلبي طلبك. صحيح أننا ضمِنّا سلامة الأخت أورسلا، لكن الوضع لم يصل بعد إلى درجة الأمان التام إذ لا نعلم الحالة الحقيقية لقوات العدو. وفي مثل هذه الحالات، تنصّ قواعدنا على إعطاء الأولوية القصوى لسلامة أفرادنا. وعندما نعيدها بسلام إلى روما، سنرسل لك دعوة」

كان ردّها مثاليًا... مثاليًا لدرجةٍ أعبست كاميجو متشككا.

「لا، لا. ما زلتُ غير مقتنع. ما كانت تلك الصرخة قبل قليل؟ أليست من أورسُلا؟ هل يبدو لكِ أنّ المُأمِّن على نفسه يصرخ تلك الصرخة؟! على كل حال، أريد فقط رؤيتها مرة أخيرة. لا مانع لديك، لا؟ بضع كلمات فقط، لن ألقاها لفترة طويلة، على الأقل أودّعها!」

「لكن الأوامر—」

「آه، كفى! ما مشكلتكم مع الأوامر؟! هل أغنيز موجودة هناك؟ سأذهب وأسألها بنفسي!」

أمسك كاميجو بكتف الأخت الطويلة، ودفعها جانبًا دون مراعاة.

「...」 أرخت كتفيها، كأنها اندهشت من هذا القلق الزائد الذي يبديه.

ثم...أخذت العجلة الخشبية الضخمة عن ظهرها ووضعتها أمامها كدرع وبصوتٍ مكتوم.

تغيّر وجه إندكس فورًا، وتوترت ملامحها بشدّة. 「انتبه، توما—؟!」

لكن قبل أن تكمل عبارتها...

دووم!!

انفجرت العجلة.

「...؟!」

في اللحظة الأولى، لم يفهم كاميجو ما الذي حدث. كأنها بندقية صيد أو شوزن، تناثرت مئات الشظايا الحادّة، ولكنها ما تناثرت إلا نحوهُ هُوَ. وحين أدرك ما يحصل، رفع ذراعيه يغطي بهما وجهه وصدره. وبلحظة لاحقة أصابته الشظايا الخشبية في يديه وساقيه وبطنه. وحين بدأ أن الألم واصله، كان قد فقد الأرض تحت قدميه. طااخ! انطلق صدى الانفجار السخيف في أذنه، ووجد نفسه يُقذف خمسة أو ستة أمتار إلى الوراء.

وصلت إلى أذنه صرخةٌ مختنقة من إندكس.

من زاوية عينه، لمح كاميجو تاتِميا يحاول الوقوف. لكنه توقف فجأة حينما أحرق بعض اللهب الروني أطراف شعره. كشّر تاتِميا عن أنيابه كوحش بري مقيّد بالسلاسل.  بدت الأخت القصيرة مرتبكة بعض الشيء، ثم التفتت نحو الطويلة وقالت بتردد،

「أ-أخت لوسيا... أأمم، هـ-هل... هل هذا مقبول...؟ ألم... ألم تقل لنا الأخت أغنيز أن نتجنّب الاحتكاك الزائد مع ضيوفنا...؟」

「صمتا يا الأخت أنجِلِنِ」 تمتمت الأخت الطويلة بغيظ، كأنها تكبح غضبها، 「ويلٌ ما فعلت أغنيز. لهذا السبب ما كان علينا ترك هؤلاء الفسقة الكفرة يتسلّلون إلينا هكذا. بل علينا من البداية طردهم. كلّنا استجبنا لأوامركِ المتفائلة بتركهم وشأنهم، فانظري ما حدث...」 وأرسلت نظرة حادّة إلى أنجِلِنِ، نظرةٌ أخرستها.

تغير لون عيناها. ليس تغيّرًا ماديًّا، بل شعوريًّا. هكذا أحسّ كاميجو. عينا الأخت الطويلة الآن تبثّان حرارة كافية لتُذيبَ بهِ الزبد إن لمحته.

خارت عنه الكلمات—أهاتُما هما نفسهما الراهبتان اللتان قدّمتا له الخبزَ والحساء في المعسكر؟!

「لو أنك تناسَيتَ تلك الصرخة، لكان الأمر علينا أسهل... اللعنة، لِمَ، لِمَ هذا الزنديق، وضع يده، على كتفي، كتفي، كتفي! الأخت أنجِلِنِ! أحضري لي الصابون — لا، المُطهّر! هذا فظيع. مزاجي تعكّر وكَدُر. ولقد تحدّث إليّ. ألا تقولين شيئا بدلاً مني؟ لا أطيق صبرا. أحتاج مريولا واقيًا أو أي شيء...」

ارتفع الدم بصمت إلى وجه الأخت الطويلة.

وراح وجهها يتأرجح يمنة ويسرة، بينما بدأ فمها ينطق بنبرةٍ رتيبة،

「كلّ شيء يزداد تعقيدًا وتعقيد. ماذا نفعل؟ فلنقُل إن قائد الأماكسا هذا قاوم... وقتلكما أنتما. آه، نعم، هذا يبدو الخيار الأسهل. وبعدها سنُخرس ذاك الزنديق، وتختفي معه آخر المشاكل」

جملتها بدت كمحاولة مرتجَلة لتصحيح مشهدٍ مسرحي خرج عن النص.

صوتها حمل تهديدًا، لكن كاميجو لم يستطع الرد.

العديد من شظايا الخشب أصابته، لكنها لم تكن سكاكين فعلية، لذا كانت جروحه سطحية.

فجأة، بدأت تلك الشظايا الدقيقة المغروسة في جلده تتحرّك من نفسها، صعودًا وهبوطًا.

「غـ... غآآآآآآآهـ!!」

صرخ كاميجو، كأنه نزع فأسًا مغروسة في جذع شجرة من مكانها. تساقطت الشظايا واحدة واحدة مغطاة بالدماء... ثم بدأت بالعودة نحو الأخت الطويلة كما لو أن مغناطيسًا يجذبها. وبينما تتجمّع، أعادت تشكيل العجلة الخشبية القديمة تمامًا... كقطع أحجية تعود إلى مكانها.

「توماااا!!」 صرخت إندكس، على وشك أن تركض إليه بهلع.

لكن في اللحظة نفسها، أمرت الأخت الطويلة، 「أخت أنجِلِنِ!」

「حـ- حاضر!」 أجابت الأخت القصيرة بتوتر، ثم قطعت الحزام عند خصرها، وألقت الأكياس الأربع في الهواء.

فررررطرطر!! وبصوت يشبه ارتطام قطعة قماش ضخمة بالهواء، خرجت من كل كيس ستّة أجنحة صغيرة تشبه أجنحة العصافير. كل كيس أضاءَ بلون مختلف — أحمر، أزرق، أصفر، أخضر.

「Viene. Una persona dodici apostli. Lo schiavo basso che rovina rovina un mago mentre e quelli che raccolgono! (أدعوك يا أحد الرسل الإثني عشر، جابي الضرائب ومهلك السحرة أيا العبد الزاهد!)」

صرخت الأخت القصيرة وهي ترفع يديها إلى السماء، وفي لحظتها،

برررررم!! بسرعة تفوق الرصاصة، انطلق الكيس ذو الأجنحة الخضراء ومرّ بمحاذاة إندكس فانغرس في الأرض عند قدميها.

بك-بشش بصوتٍ خافت صدر من الأرض الصلبة بدأت تتشقق كجذور الشجر.

「ما هذا...؟」

حاولت إندكس أن تقفز إلى الخلف، لكن جسدها لم يستجب. نظرت أسفلها فرأت أن رباط الكيس قد التفّ حول كاحليها وثبّتها في مكانها. وفي اللحظة التي وجّهت فيها نظرها نحو قدميها طارت الأكياس الثلاثة الأخرى عاليًا في الهواء واندفعت نحوها من الأعلى مستهدفةً زاوية عمياء جديدة!

شحب كاميجو. تبًّا...! إن أصابتها تلك الأشياء...!!

كانت الأكياس التي ألقيت تُشبه في وزنها كرات الرمي الحديدية، وربما أثقل. وبما أن قدمي إندكس كانتا عالقتين، فلن تتمكن من تفاديها، ولن تنجح في صدّها بيديها.

「اللعنة! إندكس!!」 صرخ مستعدًا للاندفاع نحوها. ولحسن الحظ، بدا أن الكيس المقيّد لقدميها يعمل وفق مبدأ سحري، أي يمكنه إبطال تأثيره بلمسة من يده اليمنى.

لكن...

「خاف على نفسك أيها الصغير. حتى تقلّل من ألمك ما استطعت!」

وقبل أن يدرك ما يحدث، قد قفزت الأخت الطويلة من فوقه، وهي تلوّح بالعجلة الخشبية الضخمة. والتفت كاميجو الذي يحاول الثبات نحو مركز العجلة كأنها فوهة بندقية موجّهة نحوه.

—؟!

اهتزّ جسده فجأة، وجفّ حلقه. كان يعلم أن لمس العجلة بيده اليمنى لتفتيتها سيكون مجازفة خطيرة — الاحتمالات ليست في صالحه.

「أيها الكافر، أسمعتَ بأسطورة العجلة؟」

ابتسمت الأخت الطويلة بخواءٍ.

「كم من قدّيسٍ استُشهد منذ القدم. ظنّ أولئك الحمقى من أهل السلطة أن بوسعهم إخماد نور الحق بالإعدام، لكن عبر تاريخهم المليء بالتعذيب، تجد العجلة أداةً تظهر باستمرار...」

لم يكن كاميجو في مزاج للحديث، لكن العجلة أمامه شلّت حركته. وفي الأثناء، كانت الأكياس الثلاثة في السماء تهوي نحو إندكس كالرصاص، قاصدة تحطيم رأسها.

「كانت عجلات ضخمة مغروسة بالمسامير والسكاكين، مصمّمة لتمزيق أجساد القدّيسين. لكن كثيرًا ما ورد في الروايات أن تلك العجلات كانت تنفجر ما إن تلامس أجسادهم. القديس جورج، قاتل التنين... والقديسة كاثرين الإسكندرانية — تفجّرت عجلاتهم وقتلت شظاياها أكثر من أربعة آلاف ممن حضروا الإعدام. وهكذا تعلّمنا من أسطورة العجلة」

هدوء نبرتها كان أشدّ فتكًا من الصراخ. والأكياس الثلاثة تهوي الآن كالرصاص نحو رأس إندكس.

نظرت الأخت الطويلة إلى كاميجو المتصبّب عرقًا من الجهة الأخرى للعجلة. ابتسمت بسعادة، 「البارّون لا يُعاقب، والآثمون يُجازَون — تذكّر هذا أيها الزنديق. لا خلاص لك. الأخت أورسلا، رفيقتنا وحمقاء كتبت على نفسها الموت — علينا اتباع الإجراءات في شأنها، لكننا لسنا بمترددين حين نقتلكما أنتما」

「تبًّا...!!」

مفكراً أنه سيتّجه لإنقاذ إندكس، حوّل نظره بالكامل نحو الفتاة البيضاء المقيدة. أمام عينيه، بدأت العجلة تتصدّع... وكأن الزمن تباطأ — رأى العجلة تنقسم إلى ستة أجزاء مثل البيتزا، وبدأت تتمدد من الداخل.

「غاااااااااههه!!」

قبض على يده اليمنى وصرخ، لكنه تأخّر... لن يلحق. وقبل أن يوجّه قبضته، صدر صوت انفجار مكتوم من العجلة التي حملتها الأخت...

طررخ!! فانحرفت العجلة جانبًا.

ولم يكن ذلك بفعل ضربة كاميجو، ولا من إرادة الأخت الطويلة.

أكياس العملات النقدية.

الكيس ذو الأجنحة الحمراء الستة. ذلك الكيس، الذي كان موجّهًا نحو رأس إندكس، اصطدم بالعجلة من جانبها بسرعة خارقة وأطاح بها من يد الأخت الطويلة. ارتدّت العجلة عدّة مرات على الأرض، ثم تدحرجت نحو الظلام. أما الكيس، فانفجر من أثر الاصطدام، وتناثرت منه عملات غريبة بأحجام وأشكال مختلفة في الهواء.

الأخت الطويلة وقد فُجعت بسلاحها يطير منها قفزت مبتعدة بسرعة عن كاميجو ثم أطلقت شزرةً (نظرة حقد) نارية نحو الأخت القصيرة،

「أخت أنجِلِنِ، هل جُننتِ؟!」

「ل-لا، لا... لم أكن أنا!」

صراخها الغاضب شَحَّب وجه الأخت القصيرة وبدأت تدافع عن نفسها، لكن في تلك اللحظة،

「CTRTTOP, ABO! (اجمع الثلاثة الباقين في نقطة واحدة، وكن واحدًا!)」

قاطعهما صوت إندكس الواضح.

وفي لحظتها.

بـ قر-قش تحطم المعدن ودوى. وانكسر رباط الحقيبة الخضراء من حول كاحلي إندكس. أما الحقيبتان الزرقاء والصفراء اللتان كانتا متجهتين نحو رأسها، فارتطمتا بسرعة مذهلة بوجه الأخت القصيرة.

تلاصقت الثلاث أكياس على بعد سنتيمترين فقط من أنفها وتوقفت فجأة. القوة الهائلة ضغطت المئات من القطع النقدية المعدنية لتتجمع ككتلة معدنية واحدة، وأحدثت صوتًا مكتومًا وهي تسقط عند قدمي الأخت القصيرة.

سقطت الأخت القصيرة على ظهرها، والغريب أنها حملت ابتسامة.

「الرَسُولُ مَتى، الذي أسقط تنينَين ينفثان النار بالصليب والصلاة. بتمرير الطلسمان عبر رمزه —كيس العملات— يُنشئ المرء سلاحا يتعقب الهدف عند رميه...」 قالت إندكس بهدوء نقدي، 「يا لكِ من فوضوية. التعويذة طويلة، وترميزها مشتت في كل مكان. وقد شُغِلت جدًا بمحاولة تثبيت تقنيتك ولا تنتبهين لأي شيء آخر. من السهل اختراقها!」

لم يفهم كاميجو ما حدث تواً. هل تستطيع إندكس استخدام السحر؟ أم أن هذا نوع آخر من الحِيَل؟ شيء ما يسمح لها بقطع تعويذة الأخت القصيرة واختراقها...

「...تدمير ذاتي—نيران صديقة. تكتيك يستخدم عقوبة فشل السحر ضد نفسه」

نظرت الأخت الطويلة حولها، ثم نقرت لسانها وأعدّت نفسها من جديد. رغم عدم وجود سلاح في يدها، لم تضعف إرادتها في القتال. بحركات هادئة، رسمت علامة الصليب...

...ففجأة، سمعوا صوت ناي حاد من بعيد.

فوويييييه، صيحة كصيحة طائر. نظرت الأخت الطويلة بحقد إلى السماء السوداء.

「أمر بالانسحاب؟ أخت أنجِلِنِ!!」

「آه، هَه؟ و-ولكننا لم ننتهي بعد—」

「سننسحب. حمّلي خطأ هروب بقايا الأماكسا على عاتق الإنجليز. فإن تعطيل الصفو الآن سيضر بالوحدة بأكملها وقد يسبب أذى لمرافقي أورسُلا. تلك هي أولويتنا الكبرى الآن」

استدارت الأخت الطويلة وعادت إلى الظلام تتبعها الأخت القصيرة بارتباك.

「فهمت الآن؟」 قال تاتِميا سايجي بنبرة مريرة وهو ينظر إلى السماء،

「هكذا هم الكنيسة الرومانية الكاثوليكية —أكبر طوائف المسيحية في العالم— خلف الكواليس」

  • الجزء 2

「أفهم الآن. إذن لهذا بدت مذهولة حين رأت أغنيز سانكتس. من البداية وهم ينظرون إلينا باحتقار ولهذا فصلونا عن القوة الرئيسية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية. همف... يبدو أن وجود الأنجليكان كان سيُربك سلسلة قيادتهم، ها؟ يا للسخافة،」 قال ستيل بلا مبالاة وهم يغادرون حديقة الحلويات المتوازية. لا بد أنه سمع صرخة أورسلا أيضًا، لكن ما بدا وأنه سأل أغنيز عن الأمر حين غادرها. ولو أنه لم يكن يعلم بما جرى وسألها، لربما تحوّل الأمر إلى مشكلة دبلوماسية بين الكنيستين. تفهّم كاميجو ذلك، لكنه لم يكن راضيًا.

بعد انتهاء القتال الصغير هرع إلى حيث كانت أغنيز لكنه لم يجد لها أثرًا، فقد انسحبت هي وكل من كان معها. ولم يظهر أيّ من القتلة ليلاحق تاتِميا أيضًا. مع وقوع العديد من أصدقائه في الأسر، عَلّهم حَكموا أنّ الأماكسا قد قضي عليهم تمامًا.

وحقيقة أنهم كانوا بهذا العدد، ومع ذلك انسحبوا انسحابًا نظيفًا بلا أن يتركوا أدنى أثر لوجودهم، أسرت القشعريرة في جسد كاميجو. كما أن عدم تركهم لأي تقرير للأنجليكان، بل ولا حتى كلمة وداع، لا بد أن ذلك يدل على أنهم لا يثقون بهم إطلاقًا. كان تأمين أورسلا هدفهم الأساسي. وربما رأوا أن التعامل مع تاتِميا والباقين أمر يُؤجَّل إن توفر الوقت. أو لعلهم كانوا ينوون استدعاء كامل قوتهم من أرجاء المدينة فَيَدفعوا نحو نصرٍ حاسم.

وبين هذا وذاك، كان كاميجو وإندكس وستيل ومعهم تاتِميا يتبادلون المعلومات. أما كاميجو وقد أُصيب بجراح شتى من شظايا العجلات فكان جسده ملفوفًا بالضمادات في مواضع كثيرة.

「حتى إن صَدُق كلام هذا الرجل، فلن يقدموا على قتل أورسُلا أكوينس على الفور. فلديهم اعتبارات... لذا يا كاميجو توما، لا تُفكّر بالتحرك من تلقاء نفسك الآن. إن لفتَّ الأنظار، فستتعقد الأمور كثيرًا」

قطّب كاميجو وجهه بضيق عند هذا التحذير. 「...وما الذي تعنيه "لديهم اعتبارات"؟」

「الكنيسة الرومانية الكاثوليكية هي أكبر طائفة في المسيحية يا توما. معظم أتباعها لا يعرفون شيئًا عن الخفايا والغرائب، ومع ذلك لديها أكثر من مليارَي تابع، وما يزال البابا يترأس 141 كاردينالًا، وهي واسعة الانتشار لدرجة أن لها كنائس في 113 دولة. حجمها هذا جيد من حيث القوة، لكنه قد يسبب لها مشاكل إن زاد عن الحد」

「؟」 لم يفهم كاميجو بعد.

ثم دخل تاتِميا الخط قائلًا، 「نعم، بعبارة أخرى، ما دام لهم هذا القدر من النفوذ، فمن الطبيعي أن يكون بينهم الكثير من الفصائل المختلفة. بدايةً، البابا والكاردينالات يحكمون 142 أبرشية، وإذا حسبنا الاختلافات بين الدول والمناطق، فيكونون 207—ثم إن أضفنا الصراعات بين الكبار والصغرا، الرجال والنساء، فسنصل إلى 252」

نفث ستيل زفرة من الدخان منزعجًا مضيفًا، 「مع هذا العدد من الفصائل، يقال إن الكنيسة الكاثوليكية لديها من أعداء الداخل أكثر مما لديها في الخارج. الناس هناك يتكتلون ضد بعضهم من خلافات تافهة مع رفقائهم، وينبشون ويتصيّدون لبعض. ومع كل ذلك، فإن الوضع الحالي بالغ الحساسية. لا شك أن كتاب القانون يشكل تهديدًا للكنيسة، لكن أورسلا أكوينس بريئة تمامًا. إن قتلوها دون سبب مقنع، فسينقلب إخوتهم في أرجاء العالم ضد أغنيز」

「أهكذا؟ لكننا لم نفعل خطأً، ومع ذلك هاجمونا دون تردد」 قال كاميجو متشككًا، ثم لمس الضمادة على ذراعه بطرف إصبعه. الجو كان خانقًا بحرارته، والضمادات لم تُزد الأمر إلا سوءًا.

「ذلك لأنهم يستطيعون استخدام ذريعة أننا مهرطقون أو وثنيون. هل لك أن تتخيل كم من الجرائم بُرِّرت فقط بتكفيرِ وتجييزِ قتلِ كُلِّ مَنْ يخالف تعاليم الرب في نظرهم؟」

「هذا ما تفكر به الأخوات اللواتي هاجمننا سابقًا على الأرجح. لكنني أرى أن هذا بالذات هو ما يمنعهم من إيذاء أورسلا بتهور. لأن لا يمكن أن تقتل من يؤمن بتعاليم الرب دون سبب」

「...」

حول كاميجو نظره مفكرًا، وأخذ يتأمل الأشجار على جانب الطريق المضيئة بأضواء الشوارع. حتى لو كانت الكنيسة الرومانية تضع قانونًا يمنع قتل المؤمنين، فلماذا تحركت الأماكسا لمنع اغتيال أورسلا إذن؟

سأل كاميجو سؤاله، فأجابه ستيل وكأن الأمر لا يستحق الوقوف عنده كثيرًا،

「الأمر بسيط. هناك استثناءات」

「استثناءات؟」

「نعم. لا تقتل من يؤمن بتعاليم الرب—لكن إن كانت هذه القاعدة إيمانا، فما عليك إلا أن تطرد من لا يؤمن بها، فتقتله」

واصل تاتِميا الحديث بدلاً من ستيل وسيفه العملاق ظاهر للعيان. ليس بالأمر الجل، لكن كاميجو بدأ يقلق من كيف يبرر مشهدًا كهذا إن رآهم أحد من الشرطة.

「المجرمون والساحرات والخونة... هم يقطعون كل صلة بهم ما إن يخالفوا قواعدهم. وفي لحظتها، يصنفونهم بأنهم أعداء الرب」

「وكيف يفعلونها بسيط. مجردُ اختبار. فمثلًا؛ يأتون بقضيب معدني مُحمرٍّ من شدة الحرارة. ويجعلون أورسلا تمسكه. إن كانت بريئة، فَربُّها يَحميها، ولن تُحرق. أما إن احتُرقت، فهذا دليل على أنها لا تستحق الحماية. سخافة، صح؟ في مذهبنا الأنجليكاني، اختبار الرب يُعد خطيئة بحد ذاتها」

「لكن هذا...!」 ذُهِل كاميجو. 「بالطبع ستحترق! بل سيكون الأمر أغرب إن لم تحترق!」

「معك حق. بل حتى لو نَجَت سَيَتّهِمُونها. ويقولون "إن الشيطان هو من يحميها". أياً كانت النتيجة، فالمُختبَر سيتلقى حكمًا لا مفر منه」

هَمَج، كما فكّر كاميجو. من الخطأ تمامًا أن يُحدّد مصير أورسلا بطرقٍ مختلّة كتلك.

「لكن في المقابل، هذا التحقيق—أو بالأحرى هذه "المحاكمة بالعذاب" كما تُسمّى؛ إلى أن تنتهي الإجراءات اللازمة لنفيها، لن يمكنهم إنهاء حياتها. إن ساروا وفق الإجراءات الرسمية، فسيعودون إلى روما أولًا، ثم يستغرق الأمر يومين أو ثلاثة لإعداد كل شيء. ومع ذلك، أيّ تصرف آخر غير القتل سيُتغاضى عنه على الأرجح」

لم تكن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية تهتم بما تفكر به أورسلا، ولا بالمشاعر التي دفعتها لمواجهة النسخة الأصلية من كتاب القانون. لأن الأمر مزعج. لأن ذلك غير مريح. لأنه عبء. لأنه لن ينجح. لأنه سيسبب المشاكل. وهذا وحده كان كافيًا ليسعون إلى إزاحتها.

على أنهم جميعًا يقولون إنهم على نفس المبدأ.

على أن أورسلا والكنيسة الكاثوليكية يشتركون في أعماقهم في نفس الموقف.

على أن الطرفين رأوا في كتاب القانون خطرًا، وتصرفوا بدافع الرغبة في أن يحلّوا مُشكلته.

على أنها كانت تسعى لإيجاد مخرج، وطريقةٍ لتتخلّص من النسخ الأصلية للكتب السحرية التي يُقال إنها لا تُدمَّر بيد بشر وإن كانت قادرة على تفكيك شفرتها.

على أنها إنما تَمَنّت لو تكون مفيدة لغيرها.

على أنها كانت ترى الكتاب خطرًا، وأرادت أن تَحُلّ معضلته.

—「أسمعت قبلا عن [النسخ الأصلية من الجريموار]؟ أو كيف لا يمكن تدميرها بأي طريقة؟」

أوكان ذلك فعلًا أمرًا خاطئًا؟

—「مع التقنيات الحالية، من المستحيل التخلص من الجريموارات التي وصلت إلى هذه الحالة. أقصى ما يمكن فعله هو ختمها حتى لا يقرأها أحد أبدًا」

هل ارتكبت أورسلا أكوينَس جرمًا شنيعًا حقًا...؟

—「هذا فقط بالنسبة للتقنية الحالية」

...أن تُجبر على اتباع إجراءات غيرها، أن تُوصَم بالهرطقة، أن تظل صامتة ولا تطلب المساعدة، وأن تُعدَم؟

—「يمكن للمرء أن يستخدم دائرة السحر ضد الكتاب — أي يجبر النص الأصلي على تدمير نفسه」

لا.

—「قوة الجريموار لا تجلب السعادة لأحد. الشيء الوحيد الذي تخلقه هو الصراع. لهذا السبب كنت أبحث في أسرارها — من أجل تدمير تلك الكتب

—لا!!

「لن أقبل بهذا...」 قالها كاميجو وهو يطبق أسنانه بقوة حتى كاد يحطمها. 「حتى وإن كان لديهم سبب، وحتى ولو كانت ظروفهم توجب، فذلك ليس مبررًا! تبا لهم، ما يحسبون حياة الناس؟ أن تنزع من أحدٍ كل ما هو عزيز عليه، قطعةً بقطعة—ما يحسبون حياة الناس؟!」

كان كاميجو توما فاقدا للذاكرة.

ولهذا، لم يملك الكثير من الأشياء التي يعتبرها ثمينة. فأصلًا لا يملك سوى ذكريات شهر واحد منذ عطلة الصيف. وبالمقارنة مع طلاب الثانوية الآخرين، لم يكن لديه سوى القليل مما يعتز به. ومعظم ما يملكه من ذكريات جاءت نتيجة كذب اضطراري بشأن فقدانه الذاكرة.

ومع ذلك، شعر كاميجو أنه—حتى هو، الذي يملك عددًا ضئيلًا من الأشياء الثمينة—لو جاء أحدهم وسلبها منه بكل بساطة كما لو يشطب جملة بحبرٍ أحمر في مستند فلسوف يغضب غضبا لا يسع وصفه.

ربما كان مَن في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية يقاتلون لحماية شيء ثمين بالنسبة لهم. لكن، ما كان عليهم أن يسعوا إلى هذه الوسيلة.

كسرب من الغربان ينهش إنسانًا—ينزعون منه كل ما هو عزيز، شيئًا فشيئًا ينهبونه—هذا أمر لا ينبغي فعله أبدًا.

لماذا لم يبحثوا عن حلٍّ آخر؟

لماذا ارتضوا بهذه الطريقة الرخيصة، الغبية، المتمثلة في قتلها؟

شدّ كاميجو قبضتيه بقوة حتى ظن أنه ينزفهما. وكانت أضواء الشوارع المبعثرة في المنطقة السكنية المظلمة تضيء قبضتيه ببرود.

「...أين هم الآن؟ هل تعرف شيئًا؟」

「معي فكرة. لكن، ما الذي تنوي فعله إن أخبرتك؟」 رد عليه ستيل وقد أثار ذلك رد فعل عنيف داخل كاميجو، وكاد يمسك ياقة ستيل.

كيف لهذا الرجل أن يبقى هادئًا هكذا؟، فكّر.

كانت ملامح وجهه توحي بأنه على وشك أن يلتهم ستيل، لكن الكاهن لم يُبدي أي اضطراب. سيجارته تتمايل بثبات في زاوية فمه. بل إن إندِكس التي لم تكن في مرمى بصره بدت وكأنها هي من خافت فعلًا.

تنهد ستيل بهدوء نافثًا دخان سيجارته ثم قال، 「أتفهم مشاعرك. لكن ما رأيك أن تهدأ؟ في المدينة وحدها ما يقارب 250 راهبة. فهيّا أخبرني—هل قبضتك كافية للقضاء عليهن جميعًا؟」

「...!!」

أطبق كاميجو قبضتيه بقوة.

نعم، هو يعلم. مهاراته لا تصلح إلا في معارك الأزقة الخلفية. أقصاه أن يتغلب على خصمٍ واحد، وفي مواجهة اثنين مخاطرة، وثلاثة ينتهي به الحال مضروبًا حتى الإغماء. وحتى وإن كان الهجوم مباغتًا، تلك الأخت استطاعت أن تطرحه أرضًا بتلك العجلة.

معارك الأيدي في العالم الواقعي ليست كما في الأفلام—فردٌ واحد ما عساه يواجه العشرات فينتصر. مهما كانت قوته فهناك قاعدة صارمة: إن أحاط بك عدد كافٍ من الخصوم، لن تشم رائحة النصر أبدا.

إن لم تكن من أولئك المحترفين الحقيقيين في القتال طبعا، أولئك الذين نراهم في المانجا والدراما.

وأخذ الساحر سيجارته ينفثها—والذي من المفترض أن يكون من أولئك المحترفين—ثم ابتسم براحة.

「إن صَحّت رواية الأماكسا، فلا يسعنا الآن شيء. والمؤسف أن قصة أورسُلا هذه قد انتهت」

「ماذا...تقول؟」

「فكّر في الأمر؟ أورسُلا أكوينَس خرقت قوانين الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وهم الآن يسعون وراءها لعقابها. أغنيز سانكتس لحقت بها لتنفذ العقوبة. أليس هذا كل ما في القضية؟ النسخة الأصلية من كتاب القانون لا يزال بأمان في مكتبة الفاتيكان. ومن موقعهم الرفيع، لن يسمحوا باستخدامه في الشر. والأماكسا يقولون إنهم لا ينوون استخدامها للشر. وفي النهاية، لا شيء حدث يُلزمنا نحن الأنجليكان بأي تدخل. وإنّي مستاء لأننا لم نتمكن من توديعهم الآن وقد انتهى كل شيء، لكن الغضب لن يغير من الأمر شيئًا، وضحت؟」

وفي تلك اللحظة...

أمسك كاميجو توما ياقة ستَيل ماغنوس دون تفكير. وضعت إندكس يدها على فمها وصاحت بخوف، بينما نَبّهه تاتِمايا "هيه!" بصوت خفيض.

لكن الساحر المتمرس لم يهتزّ قيد أنملة. في الشوارع الخالية ليلًا، صدت كلماته وحدها وتلاشت. أضواء الشوارع المرتعشة كانت تُنير الكاهن من وقت لآخر.

「ما يجري لا يزيد عن كونه حادثًا داخليًا تحكمه قواعد الكنيسة الرومانية. طالما أن ذلك لا يؤثر على أحد خارجها، فإن أي اعتراض أحمق منّا نحن التطهريين الإنجليز سيُعتبر تدخّلًا سياسيًا—وقد يُلحق ضررًا جسيمًا بالعلاقات بين الإنجليز والرومان... للأسف، آن أوان التراجع، كاميجو توما. أم أنك تنوي إنقاذها ولو أدى ذلك إلى إشعال حرب؟」

「...هذا...」

「سواء كانوا من التطهريين الإنجليز أو من الرومان الكاثوليك، لا تظن أن الجميع مقاتلون محترفون مثلنا. في الحقيقة معظمهم أناس عاديون مثلكَ تمامًا. يذهبون إلى المدارس، يقضون أوقاتهم مع أصحابهم، يأكلون البرغر في طريق العودة—تلك هي حياتهم فلا علم لهم بالسحرة المتوارون في الظلال ولا إدراك لهم بالصفقات التي تُبرم في الخفاء لتجنّب اندلاع الحروب السحرية. إنهم حقًا حِملان فاضلة، ضعيفة وواهنة」

ثم بينما كانت يدا كاميجو لا تزالان ممسكتين بياقة قميصه، طرح الساحر سؤاله ببرود.

ولقد بدا كشيطان يُغريه بعَقدٍ.

「هذه هي المسألة—فهل تتحمل وزر جَرّهم إلى هذا؟ أتُشرك أناسًا لا يعلمون شيئًا عن الحقيقة، أناسٌ ينتمون لتلك الأديان، فتنهبهم وتقتلهم وتسلبهم كل شيء فقط لتحمي أورسُلا أكوينس؟」

「...」

خففت القبضة التي تشدّ ياقة ستيل. حاولت إندكس قول شيء، لكنها لم تجد الكلمات فتنهدت طويلًا.

ذلك كان الفرق بين الهواة والمحترفين.

الفرق بين الأفراد والمنظمات.

بصق ستيل سيجارته بتعب، وسحقها بحذائه، ثم التفت إلى تاتِمايا وقال، 「وبالطبع لا حق لي في منعك. قاتل إن شئت لأجل أورسلا، إن كانت هي من طلب، أو من أجل رفاقك، أو لأي سبب. لكن إن كنتَ ستذهب فاذهب وحدك. إن حاولت جرّ الأنجليكان إلى معركتك، فسوف يحوّلون هذه الجزيرة بأكملها إلى رمادٍ يمسحون الأماكسا عن بكرة أبيهم」 مهددًا بها تاتميا، ولكن الأخير لم تتغير نظرته.

「يا عمي، أعرف أعرف. لا تنفعل يا ولد. صحيح أن الكنيسة الإنجليزيّة ليس لها دافعٌ للقتال، لكن لنا سببٌ كبير. كل ما سأفعله هو أن أزور زيارة صغيرة لمخبأهم، وأنقذ رفاقي، وعلّي أخذ معي أورسلا في الطريق. وإن يكن؟ فنحن معتادون على رمي موهوبين نادرين في وجه الجماعات الضخمة. وليكن بعملك أن طائفتنا تطورت وهي تقاوم من أيام شوغونية توكوغاوا」

رفع كاميجو رأسه فور سماع تلك الكلمات.

وكانت إندكس بجانبه تنظر إلى وجه تاتِمايا.

「أستُنادي باقي الأماكسا من قاعدتكم الرئيسية؟ لكنك ستضطر للانتظار يومًا آخر حتى تستخدم وسيلة التنقل الخاصة، وإن انتظرت، فلربما غادر الرومان المدينة」

「أجل. لا مجال للخيار الآمن الآن」 أجاب تاتِمايا وهو يلوّح بسيفه الأبيض.

علّق ستيل بنبرة لا مكترثة، 「أتقصد أنك ذاهبٌ وحدك؟」

「لا خيار آخر، لذا ينبغي لي ذلك. ولحسن الحظ، أولئك الأغبياء قد أُسِروا، لكنهم لم يُعدَموا بعد... لو أرادوا قتلنا، لما كلّفوا أنفسهم عناء أسرنا—ولأجهزوا علينا مباشرة. ومن المنطقي لهم أن يصدروا حكمًا علينا بالتواطؤ مع أورسلا على سرقة كتاب القانون. لذا، إن تمكّنت من إنقاذهم وسببت الفوضى بين صفوفهم، فلربما نملك فرصة ضئيلة للفوز」 ثم ابتسم بخفة، يخفي بها توتره، وقال، 「أفضل وقت للهجوم هو أثناء تحركهم」 ولوّح بسيفه الضخم قائلًا، 「كان الأماكسا مطارَدين لزمنٍ طويل—ونعرف جيدًا مدى هشاشة الجماعات الكبيرة. تلك الكثرة تكون أضعف ما تكون أثناء التنقل. ولا تنسَ، قد أسر الرومان أكثر من ثلاثمئة من الأماكسا، صح؟ لا يمكنهم التحرك جيدًا بعدد الراهبات القليل الذي لديهم الآن. وإن خرجت مئات الأخوات بثياب سوداء يجوبون المدينة، فقد يظهر الأمر على التلفاز كأنه مظاهرة أو شغب أو شيء من هذا القبيل」

「لذا، لا بد أن لديهم خطة تمويه عند تحركهم. كأن يتفرقوا في مجموعات صغيرة ويستخدموا السيارات. هذا تكتيك معروف—وفي مثل هذا الوضع، لا يمكنهم استخدام كامل قوتهم، مما يجعل ذلك اللحظة الأمثل—والوحيدة—لشنّ هجومٍ مباغت」

ومن كلام تاتِمايا، كان واضحًا أن الكنيسة الرومانية لا تستخدم وسائل سحرية للتنقل كما يفعل الأماكسا. كما أن الوقت متأخر جدًا لدرجة لا تسمح لهم باستئجار سفينة أو طائرة. لذا، من المرجح أن تبدأ هجرتهم في الصباح، عندما تفتح الموانئ والمطارات.

「...」

حركتهم كانت الفرصة الذهبية.

لكن ذلك يعني أيضًا أنهم لن يستطيعوا فعل أي شيء حتى تبدأ تلك الجماعة بالتحرك. كان ستيل قد قال إن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، لكي تُعدم أورسلا، ينبغي لها أن تتّبع إجراءً يُعرف باسم المحاكمة التفتيشية.

لكن فوق هذا كله، فإن ذلك يعني أن ما لم يقتلوها، فإن كل ما سيفعلونه بها سيُغضّ الطرف عنه.

عنف، يُنفّذ من قِبل جماعة تطوّقها، تتألف من مئتين وخمسين نفراً. بطريقة ما، قد يكون ذلك أكثر رعبًا من عقوبة تسير وفق قواعد محددة. ففي النهاية، لم يكن هناك ما ينصّ بوضوح في قوانينهم—لم يكن هناك خط واضح يفرّق بين ما هو مسموح وما هو تجاوز.

فهل يفعلون بها ما يشاؤون... طالما لا تموت؟

هل سيقولون إنها "محظوظة" فقط لأنها ما زالت تتنفس، مهما فعلوا بها؟

تغيّم وجه كاميجو من القلق، ويبدو أن تاتِمايا لاحظ توتره فقال، 「...قد يكون من القسوة أن أطلب منك أن تفهم. حتى نحن لدينا حدود لما نفعل وما نترك」 امتزجت كلماته بالمرارة. فشخص محترف مثله، ربما يستطيع تخيل الأمور بوضوح أكثر من هاوٍ مثل كاميجو... عن كيف يعامل الرومان أعداءهم بعد أسرهم.

فجأة، وجّه كاميجو توما لكمة قوية إلى عمود هاتف قريب.

رغم أنه استطاع تخيّل أسوأ الاحتمالات، لم يستطع أن يفعل شيئًا—وشعر بخزي عميق لأنه بقي عاجزًا إلى هذا الحد.

نظر إليه ستيل بلا مبالاة وقال، 「يبدو أن الأمر حُسم. هيّا نتفرق ونختبئ نحن أيضًا. سأُجري مكالمة إلى القيادات وأسألهم عن خطواتنا القادمة. مشكلتنا مع الرومان والأماكسا قد حُلّت، لكن لا يزال عليّ التعامل مع كانزاكي الآن. كاميجو توما، خذ إندِكس وارجع إلى مدينة الأكاديمية. الآن وقد حصل الرومان على أهم فرد، وهي أورسلا، فهم لن يعتبروا مهاجمتكما أمرًا مجديًا—لأن ذلك يعني إعلان الحرب على الجانب العلمي」

ثم أشعل سيجارة جديدة وقال، 「نعم، لو كانت كنيسة الأنجليكان تملك سَبَباً لإنقاذ أورسلا أكوينَس، لكان الأمر مختلفًا... لكن هذا كل ما نستطيعه الآن」 ثم نفث دخانًا آخر، بدا فيه خاليًا من الاهتمام تمامًا. 「صحيح... كاميجو توما، أردتُ أن أسألك」

「...ماذا؟」

استدار كاميجو متعبًا، فأكمل ستيل بابتسامة ساخرة، 「ذلك الصليب الذي أعطيتُك إياه. لا أراه معك—أين وضعته؟」

「...」 فكّر كاميجو لحظة، ثم تذكّر. 「آسف... أعطيته أورسلا. بدت سعيدة جدًا حين علّقته حول عنقها. أوكان ثمينًا؟」

「لا، إنما كان صليبا حديديا عادي. على الأرجح منتج بالجملة في أحد المصانع. ولك أن تجد منه الآلاف في إنجلترا—إنه صليب القديس جورج، وهو جزء من علم أمتنا」 ثم ابتسم لسبب ما، وكأن في الأمر ما يرضيه. 「ذلك الصليب لا قيمة له زينةً أو تحفة. لكن...كانت له قيمة ما دمتَ تحمله...لكن لا بأس. لم تعد بحاجة إليه على أية حال」 قالها ستيل بغموض، ونفث نفخة أخرى.

لم يفهم كاميجو ما قَصَدَه، لكنه استدار وانسحب إلى الطريق المعتم.

وهكذا، أسدل الستار على نهاية مخيّبة، لحادثة مخيّبة.

  • الجزء 3

تاتِميا سايجي اختفى.

بدا ستَيل وكأنه يريد حماية إندِكس حتى تصل بأمان إلى المدينة الأكاديمية. وهي تسير جوار كاميجو، الذي كان يخطو بخطى بطيئة كئيبة في طريق الليل، وبدا عليها وكأن الكلمات خانتها.

هذه عاصمة اليابان، لكن حين تبتعد عن مركزها، يغمرها ظلام الليل. تفقد الوقت فرأى أن الساعة تجاوزت الواحدة زُلفة (بعد منتصف الليل)، وإنّ معظم أضواء المدينة قد انطفأت. قد ترى بعض المجمعات السكنية تضيء نوافذها هنا وهناك، كأضراس مفقودة، وأحيانًا تمر سيارة أجرة بها راكب مخمور. وكانت أضواء الشوارع تومض غير مستقرة مظهرةً الفراشات الكثيرة الحائمة حولها.

يومه القتالي الفجائي كان قد انتهى. وفي غضون بضع ساعات فقط سيعود إلى حياته الطبيعية المدرسية. سيهز كاميجو آثار قلة النوم من رأسه، ويذهب إلى المدرسة، ويحضر دروسه المملة، ويتحدث عن التوافه مع صاحبيه بو شمكد وبو شعر أزرق في طريق العودة، ويبلع صعقة كهربائية من ميكوتو لأنه لم ينهي واجباته الصيفية بعد.

「...ماذا كان عليّ أن أفعل؟」 قال فجأة.

نظرت إليه إندِكس، لكنه ظل مطأطئ الرأس، مكتئبًا.

لقد أراد إنقاذ أورسلا أكوينس.

لكنه لم يستطع التفكير في أي طريقة لفعل ذلك.

「أنا أفهم أن الهاوي لا يستطيع الإتيان بطريقة لهزيمة محترف. لكن لا زلت أرى أنه ربما كان هناك شيء يمكن حتى للهاوي أن يفعله. مثل عندما التقيت أورسلا أول مرة، لو أنني فقط أخذتها إلى المدينة الأكاديمية كما طلبَت — ماذا كان سيحدث عندها؟ وإن لم نساعد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ربما كانت لتتمكن من الهرب مع الأماكسا بتنقلهم الخاص」

「توما...」

「لا تقولي، أعلم. من السهل القول بعد حدوث الأمر. حتى لو دخلت أورسلا إلى مدينة الأكاديمية، فإن الرومان كانوا سيتعقبونها ويلحقون بها إلى هناك. وحتى إن لم نساعدهم، كانوا سيستخدمون أعدادهم الهائلة، ويفتشون كل زاوية وركن، ويكتشفون مكان تجمع الأماكسا. أفهم كل ذلك، ولكن...」

تَذَكّر.

تذكَّرَ اللحظة التي التقى فيها أورسلا أول مرة. ذلك الصوت المتردد الذي سأل كيف يمكنها الدخول إلى مدينة الأكاديمية. ابتسامتها عندما كانا يختبئان في حديقة الملاهي.

كلماتها، التي خرجت بسهولة غريبة، وكأنها شعرت أنها أخيرًا وجدت من تثق به.

وأخيرًا — تلك الصرخة اليائسة التي سمعها من مكانٍ ما.

「لكن حقًا... ماذا كان علي أن نفعل؟」

كان يعلم أن مجرد التفكير بهذه الطريقة هو تصرف من هاوٍ لا يدرك المخاطر كلها. هذه الحادثة لا علاقة لها به. طالب ثانوي بسيط لمح لمحة من قسوة عالم السحر الاحترافي، وهو الآن يعود إلى عالمه. لا أحد سيلومه إطلاقا. أي شخص يعرف من واقع التجربة مدى رعب عالم السحر الحقيقي ربما كان سيتنفس الصعداء لرؤيته يعود سالمًا.

لابد أن ستَيل شعر أنه شرح كل ما عليه شرحه، فلم ينطق بكلمة رغم سماعه تذمّر كاميجو.

أما إندِكس، فرفعت بصرها نحو وجه كاميجو. 「...توما، هذه مشكلة تخص السحرة، ولا داعي أن تتورط فيها. لن أقول الكثير، لأنني لا أستطيع فعل شيء على أي حال، لكن تاتِميا سايجي قال إنه سيتكفل بالأمر، لذا لا أرى إلا أن نثق به...」

「...صحيح」

كادت إندِكس أن تبكي من ردّ كاميجو الخالي من التركيز. 「هذا صحيح! توما، لا قانون يقول إن عليك حل كل مشكلة تقع بين السحرة! بل أقول أنني، وأنا خبيرة في مكافحة السحر، من يجب أن تحمل اللوم على عدم قدرتي على فعل أي شيء. لكن المشاكل التي يمكن حلها، ستُحَل حتى بدون وجودك. توما، لقد تورطتَ في العديد من قضايا السحرة وإن كنتَ شخصا خارجي. لكن هناك الكثير من السحرة في العالم ممن لا تعرفهم، وكلٌ منهم لديه مشاكله، وهم يجدون حلولها دون الحاجة إلى مساعدتك. وهذه إحداها — فقط هذه أول مرة ترى فيها حادثة لم تكن أنت من ينهيها」

「أهكذا ترين؟」 أجاب كاميجو عفويا — لكنه في داخله شعر بالدهشة.

لابد أنها تخيلت المصير الذي ينتظر أورسلا أيضًا — لكنها مع ذلك أخبرته بحزم ألا يتورط في هذه الحادثة بعد الآن.

أو ربما كان العكس. ربما لو قالت شيئًا متناقضًا، لما مدحها كاميجو مجددًا.

「نعم. كانت الأمور غريبة حتى الآن. لا أحد يستطيع أن يحل كل مشكلة يراها بمفرده. توما، يمكنك أن تطلب المساعدة من الآخرين. يمكنك أن توكل النهايات إلى أشخاص آخرين. لمجرد أنك ترى منزلا يحترق وفيه طفل صغير ليس لازما عليك أن تقفز إلى الداخل. طَلَبُ النجدة كغيرك في مثل هذا الموقف لا يُعد أمرًا مُخجلاً البتة،」 وأكملت إندِكس. 「توما، أرى أنك يجب أن تعتمد على الآخرين أكثر. نحن من نِسِسَريوس — وهذا هو السبب في وجودنا. لا أحد سيلومك لعجزك عن حل مشكلة تعاني منها منظمة تضاهي منظمتنا إن لم تفُقها」

「...」 كان الأمر ببساطة أن لا مكان له في هذه المسألة. ربما هذا كل ما في الأمر. مجرد أن دوره قد انتهى، لا يعني أن الحادثة نفسها انتهت في تلك اللحظة. ربما كان تاتِميا سايجي هو من سيتولى دور البطل من الآن ويُسوي الأمور.

كانت على حق—مجرد أن حادثة اعتداء عشوائيةٍ وقعت أمامه، لا تعني أن على الشاهد أن يكون حلّالُها. لا أحد يلوم الشهود عندما يلقي رجال الشرطة القبض على المجرم.

「أتساءل لو يَقدر تاتِميا」

「أظن أن لديه فرصة. فهو ساحرٌ حقيقي. وللأماكسا تاريخٌ حافل بالاضطهاد القاسي—مثل هذا الظرف الذي نواجهه هو تخصصهم. وإنهم لا يواجهون خصمًا إلا إذا كانوا قادرين على دحره」

أتمنى، أومأ كاميجو.

وفكر في نفسه، هذا يكفي. وفكر في نفسه، إذا استطاعوا حل هذه الحادثة من دون أن يضطر لإقحام نفسه فيها، فلا حاجة لتدخل هاوٍ في الأمر. تلك فكرة منطقية. هاوٍ جاهل يتصرف كما يحلو له ويزيد الأمور ربكةً قد يخرب كل شيء أسوأ مما كان — لذا فإن عدم التدخل يبدو الخيار الحكيم في حد ذاته.

لا قانون ينص إنه عليه أن يحل كل حادثة يراها.

بل، إذا نظر إلى الأمور من بعيد، فهناك عدد كبير من الحوادث حُلّت دون تدخله.

ليس عليه أن يقلق فقط لأنه لمح لمحة من إحداها.

حتى من دون تدخله، فإن هناك من سيدلي ستار الحكاية.

رفع بصره نحو سماء الليل، ومدّ ذراعيه ببطء في الهواء. وبينما يستشعر فجأة بكل التعب المتراكم، بدأ يتوق أخيرًا إلى الفراش في سكنه.

「إذن عدنا إلى البيت،」 هتف كاميجو—كأنه يرسم خطًا واضحًا بين حياته العادية وغير العادية. 「آه صحيح. قبل أن نعود، أزور متجراً. المتاجر الكبرى ستكون مغلقة في هذا الوقت لذا سأرى بقالةً صغيرة. الثلاجة فارغة، ففكرت أشتري كمية من الأشياء... لكن، لا بأس. أريد أن أرى ما تبيعه المتاجر خارج مدينة الأكاديمية — ربما عندهم صناديق بينتو ليست موجودة في الأكاديمية」

「...توما. أظنني فجأة سئمت من الحياة المنزلية」

「طيب طيب، آسف. ما أنا إلا طالب ثانوي ممل بات يجد متعة في دفتر حسابات المصاريف المنزلية، وهذا كله」

「أريد آكل وجبات فاخرة من دون أن أضطر للتفكير في دفتر حساباتك مرةً ومرة」

「إذا لم تعجبك، فلا بأس. لكن فطور الغد سيكون طبقًا فارغًا مع قليل من الماء. والباقي تعوضينه بخيالك الواسع」

「توما؟!!」 صرخت إندِكس، رغم أن الوقت كان ليلاً.

نظر كاميجو إلى الفتاة الملتهمة بينما شحب وجهها لمجرد تلك الفكرة البسيطة، وابتسم. 「إذن، ما رأيك أن أجلب من البقالة شيئًا لفطور الغد؟」

「هاه؟ طالما أنك ذاهب، فلنذهب جميعًا」

「لو أخذتك معي، فلن أستطيع التسوق—سترمين كل ما تصل إليه يدك في السلة. لا عليك، لن أتأخر. ستَيل، هلّا تعيد إندِكس إلى مدينة الأكاديمية قبلي؟ بما أنك من أخرجنا، فلا شك أنك تستطيع التسلل مرة أخرى... لحظة، همم، علّها تكون مشكلة بحد ذاتها...」

「إن قلت. اقتراحك يصب في مصلحتها—لذا لا أمانع...」

حرّك ستَيل السيجارة في زاوية فمه صعودًا وهبوطًا. 「بالمناسبة، أتعرف مكان المحل؟」

「...لا، لكن... البقالات الصغيرة نجدها في كل مكان—وسأركض في الجوار」

「طيب」 ابتسم ستَيل بسخرية، ثم اختفى في ظلمة الليل ومعه إندِكس. أرادت إندِكس أن تبقى مع كاميجو، لكنه لوّح بذراعيه ورفض.

انتظر حتى اختفوا تمامًا عن نظره، ثم استدار.

استدار—ليعود مباشرة إلى الطريق الذي أتى منه.

「الوغد. أكان يعلم...؟」 تمتم كاميجو لنفسه، منزعجًا.

فمحفظتي لا تزال في السكن. لن أشتري شيئا إذا دخلت متجرا.

وأثناء مشيه، أخرج جَوّاله من جيب بنطاله. أضاء الضوء الأبيض الخلفي وجهه بضوء خافت. ضغط على أزرارٍ وبدأ يستخدم خدمة المواقع GPS للبحث على الخريطة. وبالطبع لم يكن يبحث عن بقالةٍ قريبة.

كاميجو توما تذكّر كلمات أغنيز سنكتس،

—「إنه امتيازنا أننا نفوق الجميع عددًا. ولتعلم أنّ لنا رفاقٌ في 110 دولة حول العالم. حتى في اليابان لدينا العديد من الكنائس. وفي الواقع وأثناء حديثنا هذا يُبنى بيتٌ جديد للرب: كنيسة أورسلا. أظن أنها كانت في مكان قريب من هنا. قريبة جدًا. وكأنني سمعتهم يتفاخرون بأنه عندما ينتهي بناؤها، ستكون أكبر كنيسة في اليابان. كان من المفترض أن تكون بحجم ملعب كرة قاعدة」

كان نظام تحديد المواقع في المدينة الأكاديمية بالغ الدقة، ويُحَدّث باستمرار. بل إن هناك شائعات عن كونه دقيقًا بما يكفي لاستخدامه لأغراض عسكرية. كان يعرض أحدث المباني بطبيعة الحال، بل ويُظهر كل مشروع إنشاء مخطط له. وفي المقابل، كانت الأماكن مثل موقع هَكُمَيزة تُمحى بسرعة من الخريطة.

وبالطبع، لم تكن أسماء المباني المخطط لها تُدرج على الخرائط — كل ما كان يُكتب هو "موقع مخطط له". لكن بالنظر إلى الصورة فقط، أمكنه التمييز. فلم يكن هناك سوى موقع واحد قيد الإنشاء بحجم ينافس ملعب بيسبول.

—「نعم. لديها سجلٌ حافل. فلقد نشرت تعاليم الرب في ثلاث دول هرطقية، مما أكسبها الامتياز الخاص ببناء كنيسة باسمها. وألم تكن ماهرة جدًا في الخطابة...؟」

سارع بخطاه وهو ينظر إلى شاشة هاتفه. وكما قالت، فإن كنيسة أورسلا — قاعدة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية — كانت في هذه البلدة. التحرك ضمن مجموعة كبيرة من الناس يُعد نقطة ضعف عند العمل الجماعي. وإذا أرادوا تقليل المخاطر، فسيكون من المنطقي تحويل كنيسة أورسلا —التي تقع قريبًا جدًا— إلى حصن. وسواء كان المبنى تحت الإنشاء أم لا، فهم سيستخدمون سحرًا لا يعرفه كاميجو.

ولا شك أن يكون الرومان الكاثوليك هناك.

بمن فيهم أغنيز سنكتس — و أورسلا أكوينس.

—「ما إن تكتمل الكنيسة، سنرسل لك الدعوات. لكن قبل ذلك، يجب أن نحل المشكلة الحالية. ودعونا نصلي لأجل نهاية طيبةً لا تترك فينا ندما」

تذكّر كاميجو مزحة أغنيز وضحك.

「لم ينتهوا حتى من إعداد الحفلة أو تجهيز الدعوات... لكن لا بأس، لنقتحمها على أية حال」

وبما أن وجهته كانت واضحة في ذهنه، فلا داع للبقاء ساكنا.

بدأ يتحرك أسرع — وقبل أن يدرك، كان يركض عبر طرقات الليل.

ليس لديه سبب يدعوه للقتال، قالت.

لم يكن بحاجة للقتال وهو يعلم أن هناك غيره من سَيُسوّي الأمور بنفسه، قالت.

وجود مبنى يحترق أمامه وطفل محاصر بداخله لا يعني بالضرورة أن هناك قاعدة تلزمه بالقفز إلى الداخل، قالت.

إن طلب المساعدة من الآخرين وترك الأمر لهم ليس بالعيب أو المشين، قالت.

ولكن رغم ذلك...

ماذا لو أن ذلك الطفل في ذلك البيت المحترق كان ينتظر طوال هذا الوقت أن يأتي كاميجو لإنقاذه؟ فماذا حينها؟

الخيار الأذكى، بالطبع، هو أن يتصل فورا برجال الإطفاء.

لكن كاميجو لم يرد أن يدير ظهره لذلك الطفل، حتى عن غير قصد. حتى لو كان ذلك هو الخيار الأسهل والأأمن له، لم يرد أن يخون تلك الثقة.

فهل ما زالت أورسلا أكوينس تضع ثقتها في كاميجو توما؟

رغم كل القرارات الحمقاء التي اتخذها، هل ما زالت تثق به كما يثق طفل بمن يظنه منقذًا؟

لحسن حظه، لم تكن له أي علاقة رسمية بأي منظمة محددة، لا مع التطهيريين الإنجليز ولا مع الكاثوليك الرومان. لم يكن سوى طالب هاوٍ، لا أكثر، لذا لم يكن هناك ما يقيده. لم يكن بمقدوره أن يطلب المساعدة من محترفين مثل إندِكس أو ستَيل، لكن في المقابل، يملك شيئا لا يفعله إلا هاوٍ مثله.

الشيء الوحيد الذي قد يُحسب عليه هو اعتباره جزءًا من فصيل العلم في مدينة الأكاديمية، لكن إن ساءت الأمور فعلًا، فغالبًا إنّ المدينة ستطرده، وتحذفه من السجلات، وتعامل الأمر وكأنه لم يكن يومًا أحد أفرادها.

لكن كاميجو لم يهتم لذلك.

بل، كان عليه أن يسخر من نفسه لمجرد شعوره برغبة في اختيار ذلك الطريق.

من دون سبب يُجبره على القتال، اندفع الفتى في ظلمة الليل.

في واقع الأمر، لم يحمل سببًا واحدا يُلزمه بالقتال...

...لكنه حمل سببًا يُحببه ويُريده في القتال.

  • الجزء 4

كانت تُدعى "كنيسة أورسلا"، إلا أنه لا يمكن اعتبار المبنى كنيسة بعد. كانت مساحته تعادل مساحة أربع أو خمس صالات رياضية مدرسية مجتمعة. وعندما يُستكمل بناؤها، فستكون كاتدرائية حقيقية، لم يُرَ مثلها من قبل في اليابان. وبناؤها على مرمى حجر من مدينة الأكاديمية يحمل أيضًا إيحاءً بالتحدي للجانب العلمي. لكن في الوقت الحالي، لم يكن في موقع البناء سوى حجمه الكبير—أما داخله، فلم يكن سوى وِحشة وضنكة.

جدرانها الخارجية قد اكتملت تواً، لكن السقالات المعدنية والسلالم تُركت مهجورة في الجوار. أما التصميم الداخلي، فلم يُنفذ فيه شيء بعد—بل بدا وكأن عصابة همجية من المرتزقة قد استولت على المكان. النوافذ كانت مفتوحة على مصراعيها، في انتظار تركيب الزجاج الملون فيها. وفي الموقع المخصص للأنبوب الأرغني الضخم، لم يكن هناك إلا فراغ غير طبيعي. كانت أرضية الكنيسة الرخامية وجدرانها تلمع لمعة الجديد، لكن في المقابل، ترى خلف المنبر صليبا كبيرا يستند باستهانة إلى الجدار، وكان من الأصل أن يُعلّق.

لكن كل هذه الأشياء وحدها لم تكن لتخلق ذلك الجو المخيف.

ففي داخل الكاتدرائية، ودون أي إضاءة بشرية، مضاءة فقط بضوء القمر الخافت المتسلل من خلال الفتحات السوداء الخالية من الزجاج، هناك مئات الراهبات يرتدين السواد وكأن الظلام قد ابتلعهن واقفاتٌ بصمت. كنّ يشكلن دائرة حول شيء ما—وكانت تلك الدائرة متعددة الطبقات. يحملن في أيديهن أسلحة ظاهرة كالسيوف والرماح، وأدوات طقسية دينية كعجلات التروس الضخمة والمخالب. كانت جميعها تتلألأ حين ينعكس عليها ضوء القمر الباهت. لم يكن هناك أي أشخاص آخرين. أعضاء أماكسا الذين أُلقي القبض عليهم كانوا في الموقع ذاته، لكن في مكان منفصل، مربوطين وتحت الحراسة من قبل نحو عشرة أنفار.

لم يكن انتباه الراهبات موجّهًا إلى خارج المبنى.

بل كانت أنظارهن مركّزة على الفراغ الدائري في وسط الحلقة.

ثم سُمع صوت لكمة.

وسُمع أنينٌ مكتوم.

「هيّا، لا تصعّبي الأمور، مم؟ يا حسرتاه، كلنا هنا مشغول، وكذلك أنا. لا وقت لدينا للعب ألعابك الصغيرة. فهيّا تقبّلي حكم الإعدام، هممم؟—هييي، تسمعين؟ سألتك يا حثالة التراب إن كنتِ تسمعين، أجيبي!!」

وصوت نسيج ثقيل يُركل.

ومعه، اخترق الظلامَ صراخٌ لا ينتمي لهذا العالم.

「ههء!! يا حبي إياها من صرخةٍ أطلقتِها. ألا تخزين من نفسك؟ وكأنكِ رميتِ أنوثتك؟ آهخ تباً، علّنا نعيد تسمية هذه الكنيـۤسة؟ خنزيرة الهراطقة ولا خرية أورسولا ستكون مضحكةً بحق!」

أورسُلا أكوينس لم تُجب.

كانت ملقاة على الأرض، نُكّل بها حتى لم يبقَ فيها رمق. مُزقت ثيابها، وكأنها سُحبت وهي مربوطة بحصان. أزرارها مكسورة، وأجزاء كبيرة من قماشها قد تمزقت.

لم تكن أغنيز والباقيات يستخدمن سحراً خاصاً لإيقاع الألم بأورسلا. كنّ فقط يركلن أطرافها وبطنها—ومع كثرة الضربات، تراكم الألم بشدة. عُنف تُمارسه أكثر من مئتي راهبة، حتى إن حاولن التخفيف، كان كافياً لدفع أورسلا إلى شفير الموت. فحتى لو ضربتها كل واحدة مرةً فقط، فذلك يعني مئتي ضربة. الأمر شبيه بتقطير الماء من السقف حتى يثقب الصخر. أطراف أورسلا الممددة على الأرض لم تُبدي أي حركة.

رِجْلُ أورسلا، الممددة على الأرض دون حراك، داستها أغنيز ببرود. نعل حذائها السميك ضغط عليها ككماشة. فصرخت.

「أعني، أنا لا ألومكِ على الهرب، حقا لا ألومك. فأنتِ تدرين بمصيرك—ولعل الموت هنا أرحم لكِ. محاكم التفتيش، بحضور كل الكرادلة... أتعلمين كيف ستكون؟ هَهَهَهَهَه! قد يبدون جادين وأصحاب قوانين، ولكن في داخلهم وحوش. ومع ذلك، فهم لا يقارنون بما رأيناه من إنجلترا. من وجهة نظري، ما لدينا من تعذيب يبدو كأننا نلعب لعبةً مقارنةً بما يفعلونه هناك. هِه، هِهِهِهِه! ذلك الشايب لا يزال يلعب دور الأب في مسرحية—يا له من مصير رائع ينتظرك، أن تُسحبي بهم وتُقتلي! أليس كذلك؟!」

「—؟!」

من الألم الحاد والطاحن في ساقها، لم تستطع أورسلا أن تردّ بردٍّ واضح. كما شعرت أنها لو فتحت فمها بلا حذر، قد تعضّ لسانها.

لماذا آلت الأمور إلى هذا؟ فكرت أورسلا بضبابية.

كانت النسخة الأصلية من كتاب القانون عقبة وشرًا على الجميع. رغب الجميع في إحراقه. وكل من امتلكه صار إلى هلاكٍ حتمي—كان حرفيًا "libro di un modo pericoloso" (كتابُ عالمٍ موحشٍ مُهلك). لكن الأيادي البشرية لم تستطع التخلص من النسخة الأصلية. إنما كانوا يستطيعون اتخاذ تدابير مؤقتة، مثل إغلاقه بإحكام مع ختم.

أورسلا أكوينس أرادت أن تَحُلَّ أمره.

لابد أنها والكنيسة الرومانية الكاثوليكية لديهما نفس المشاعر حول ضرورة محو كتاب القانون الشهير.

فلماذا؟

ما الذي غَيَّر بينهما تغييرا حاسما؟

حتى النهاية، كانت تعتقد اعتقادا أنها يمكن أن ترى الخلاص.

فلماذا سلّمني ذلك الفتى إلى أغنيز؟

「ومع ذلك، يبدو أن رفاقك من تعتمدين عليهم قد انفضوا عنكِ، هُيه؟ أن تأتي هنا، تستنجين بالأماكسا، من بين الكل!」

شزرت أغنيز سنكتس عينيها إلى أورسلا من فوق.

تعبيراتها تبدو وكأنها سُحِرت بكتاب غريب مشبوه بينما ترفع قدمها فتركل ساقي أورسلا بأشد ما تملك. كانت العاصفة من الألم تردد صداها في عظامها وتكاد تمزق عقلها.

「وبعد سُيِّرتِ إلى حافة الموت، أخيرًا تمسكتِ بمجموعة من الآسيويين لم تعرفيهم في دولة جزيرية قذرة. كهَهَهَه! ما كان عليك. لا تأملي شيئا من خنازير لا يقرؤون الكتاب المقدس. وفقًا لقوانيننا، الزواج من كافرٍ لا يتبع الرومانية الكاثوليكية يعادل اللواط ذنبًا. فهل حسبتِ أن الرب يرضى عنكِ طالما أنهم يَدّعون إتباع الصليب؟ الأماكسا، والتطهريون من إنجلترا—زورٌ منهم أن يطلقوا على أنفسهم أتباع الصليب. هم ليسوا بشرًا. بل خنازير وحمير. انظري إلى أين أوصلتكِ ثقتكِ بحياتكِ لأناس مثلهم. آهخ يا لِخداعهم ما أسهله! روضناهم ولاعبناهم قليلاً، فها هم جلبوا إلينا الجُرَذة بأفواههم!」

「...خُ...خُدِعوا؟」

بدأ وعي أورسلا، الذي كان ضبابيًا من الألم، يعود تدريجيًا.

「هؤلاء الناس... هل... هل خدعتهم...؟」

الدم اللزج الذي يسقط من شفتيها الممزقتين كان يعيق حديثها.

لكن ذلك لم يمنعها من السؤال.

「هم لم... يتعاونوا... بل... خدعتهم...؟」

「وما يهم؟ مهما كان، لقد حصلنا عليكِ. هِهِهِه، هاهاهاههههه!! يا للروعة! قد ذهبوا جميعًا وقاتلوا قائلين، "سننقذ أورسلا أكوينس من الأماكسا الشريرة!!" يا لَحُمقِهِم!! سَلّموا امرأةً أرادوا أن يحموها إلى أيدي أعداءها! لا أمل فيهم، هذا ما هم عليه!!」

「...」

أهكذا الأمر؟ فكرت أورسلا، بينما بدأ وجهها يفقد بعضًا من توتره.

لم يحملوا نية لبيعها إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية—لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق. ابتساماتهم، كلماتهم—لم تكن كذبة. كانوا يهتمون بها بصدق وجاؤوا إلى ساحة معركة خطيرة كهذه حتى ينقذونها.

وإن كان كل ذلك انتهى بالفشل...

وإن كانت جهودهم ذهبت سدى، وتهددت حياتها في المقابل...

ظلوا حلفاءها حتى النهاية. لم يخونوها ولا تخلو عنها. قاتلوا من أجلها حتى اللحظة الأخيرة—أولئك الحلفاء الطيبون الموثوقون.

「ويلك لماذا تبتسمين؟」

「فهمت... فهمت الآن. أتُراني... الآن أبتسم...؟」 قالت أورسلا بصوت بطيء ورقيق. 「أظنني... قد أدركت... الألوان الحقيقية... لكنيستنا الرومانية الكاثوليكية...」

「ها؟」

「أولئك الناس... حرّكهم الإيمان... إيمانهم بالآخرين، إيمانهم بمشاعرهم، وبها تُمضيهم إلى أي مكان... من أجل الآخرين. ومع ذلك نحن... يا لَقُبحنا. نحن... لا نتصرف ولا نتحرك إلا... بالشك. خدعتُم أولئك الذين ساعدوكم، لتنفذوا حكم الإعدام علي... وسوف تخدعون الناس بمحاكمة مُجهّزة... بل وستخدعون أنفسكم بالاعتقاد أن هذا ما يريده الرب لكم...」

「—」

「رغم ذلك... لستُ في موقعٍ يسمح لي بالمجادلة... لو أنني وثقتُ في الأماكسا... من البداية... لما وصلت الأمور إلى هذا الحد. لو كنتُ هربتُ معهم وفقًا لخُطتهم... لما كان أولئك من في الأماكسا قد تعرضوا للخطر أيضًا... ففي آخر الأمر، هذا الشكل البشع منا... أهو يكون شكل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية حقًا؟」

ابتسمت أورسلا.

بوجهها الملطخ بالدماء، وبدون أي لمحة من الفكاهة.

「...لم أعد أستطيع... الهروب من قبضتكم. وكما خططتم... سأُحكم بالذنب والكفر... وأُدفن في الظلام. لكنني الآن بخير وراضية...—فأنا لا أستطيع أن أكذب على نفسي...! وما هو أكثر... لا أستطيع أبدًا... أبدًا أن أخدع أولئك الذين قدموا لي عونهم دون أن ينتظروا مقابل. لن أريد أبدًا... أن يُقال عني أنني من نفس الطينة التي أنتم عليها...」

「كلماتُ شهيد. أوتحسبين أن يُعلنوا قداستكِ أم ماذا؟」

طتخ—مع خفة ركل علبة فارغة، نزلت نعل أغنيز على ساق أورسلا.

「تمني الموت يا حشرة فلا مانع لدي. فأنتِ تُسَهّلين علينا أكثر إذا لم تقاومي. والعُني أولئك الحمقى الذين تسببوا في حدوث هذا لكِ كما تشائين، وموتي في ندمك!」

وقد كانت أغنيز تعرف أنه لا سبيل لها للمقاومة. فحولها أكثر من مئتي راهبة تحيط بها، في انتظار. وكان هناك حاجز قوي قد أُقيم حول الكنيسة، بحيث كانت أورسلا متأكدة من أنه لن تهرب ولو تجاوزت الجميع.

وبينما كان وعيها يتلاشى، كانت كلمات أغنيز التي تصخب قرب أذنها تصل إليها فقط على شكل أجزاء متناثرة. لكن أورسلا ما زالت تستطيع التفكير بعقلها شبه المعطل.

「ماذا... ومن ألعن... بالضبط؟」

「مه...ماذا؟」

「لم يحملوا... أبدا أي سبب للقتال. سألتُه، وقال إنه ليس روماني كاثوليكي... أو تطهيري إنجليزي... كان مجرد فتى. ومع ذلك، دون أي قوة أو سبب، جاء يجري نحوي، وأنا الغريبة عنه... أترين؟ فأين قد تجدين... في كامل العالم هدية أجمل من تلك...؟ أولئك الناس... قدموا لي هدية ما عساي أحلم بها... فلماذا ألعنهم ولأي سبب؟」

نعم—ما كانت لتلعنهم.

لن تلعنهم أبدًا.

حتى وإن لن ينقذوا أورسلا، فما عساها تُدين ما فعلوه. لأنهم لم يحملوا على ظهرهم واجب لإنقاذها. لم يقاتلوا لأن أحدًا أخبرهم. ألقوا بأنفسهم في المعركة، دون أن يهتموا باستخدام "حقوقهم" لإنقاذها.

قتالهم لأجلها، وقوفهم بجانبها، استحق امتنانا عظيم.

لهذا لن تلعن أورسلا أبدًا.

كانت فخورة بأنها قد حظيت بفرصة لقاء أشخاص يقدمون الكثير من أجل غريبة تمامًا. كانت ترغب في شكر الرب على نعمة أن تكون معهم في آخر حياتها.

كانت راضية.

وذلك يكفيها.

أورسلا أكوينس فكرت أنها لن تحتضن مثل هذه السعادة بيديها أبدًا مرة أخرى...

ولكنّ سعادتها هذه لم تنتهِ.

في اللحظة التالية...

تحطم!! كتحطم الزجاج صدى وتردد في الأرجاء مع تدمُّرِ الحاجز حول الكنيسة.

بغريزة محضة، صرفت أغنيز نظرها عن أورسلا.

فلقد حدث شيءٌ أجبرها على ذلك.

「تـ... ـحطّم؟ أيعقل...؟ هيه! لتذهب إحداكن وتتحقق من حماية جايلز التي وضعناها على الباب! وابحثوا عن الأعداء! اللعنة، أي مجموعة هذه؟ لا يمكن لواحدٍ أن يدمر حاجزًا من هذا المستوى. فأي فصيل عدو قد يهاجمنا...؟!」

الأوامر أُصدِرت على وجوهٍ حائرة.

لكن قبل أن تُنَفّذ أيٌّ منها، حصلت على الإجابة التي أرادتها.

「آه...」 نظرت أورسلا أكوينس.

فُتح البابان المزدوجان من الخشب عند مدخل الكنيسة. وهناك أحدٌ ما يقف، كما في مشهد من حكاية خرافية حيث يأتي الأمير لينقذ أميرته.

الواقف هناك لم يكن إلا فتى.

كان شابًا عاديًا—ولكنه لم يهرب ولم يركض.

من كان ولم أتى؟

ولماذا هنا؟

تحولت أعين الراهبات الذي بلغ عددهن المئتان نحو الفتى، لكنهن لم يصدرن أي صوت.في هذا المكان المئات ممن يمكنهم إيذاءه، ولم يكن أي منهم عاديًا. لا بد أنه شعر بالخوف. مستحيل أنه ما شعر. لم يكن أكثر من شاب عادي تمامًا—فلا شك أنه كان خائفًا.

ومع ذلك.

ومع ذلك، ومن دون تردد، خطا خطوة.

خطوة داخل الكنيسة المغطاة بالظلام، من أجل إنقاذ أورسلا أكوينس.

خطا تلك الخطوة...لأجلها.

كأنّ في خطوته وعدًا لا ينقَض، أنّه ما دام ماثلا فلن يمسّها سوء.

  • الجزء 5

كاميجو توما وطأت قدماه داخل الكنيسة الضخمة غير المكتملة.

كان مكانًا مرعبًا.

تجمّع مئات الناس في تلك الليلة الخانقة دون مكيف هواء؛ وعلى ضخامة المكان، إلا أنه أشعر كغرفة سرية ملفوفة بحرارة غريبة. انبعث من الظلام رائحة عرق كثيفة، مما أعطى انطباعًا بأنها جحرة عش ضخمة وعميقة.

في المكان المئات من الأخوات يرتدين السواد، يندمجن مع الظلام ويتحركن كالدوامات.

رأى فتاة واحدة جاثمة على الأرض في وسطهم، وضاقت عيناه دون أن يصدر صوتًا.

ثم سمع ضحكة ساخرة كأنها عرفت ما يشعر به.

التفت نحو مصدرها ليرى أغنيز سنكتس، كأنها كانت المرة الأولى التي يراها فيها.

「أتعرف، كنت أرى في الأمر غرابة」 ثم ضحكت وكشفت عن ابتسامة. 「لماذا يستدعون هاوٍ تام مثلك، ليس حتى ساحرًا، إلى ساحة المعركة؟... لا أدري ما المنطق وراء ذلك، لكني أرى الآن أنك تملك سلطة مطلقة على الحواجز」

「...」

「أوه، ما بك؟ أضيعت شيئًا؟ أم كنت تسعى لمكافأة؟ لا بأس، إن كنت لا تزال متعلقًا بهذا الشيء ها هنا، فسأخلعها لكَ وأُعَرّيها إن شئت」

كان صوتها ملونًا بالإزعاج والحماسة، وكان فرحها كمن شرب خمرا رديئا فطُرب.

「أسألكِ. لن تكذبي بعد الآن، صح؟」

「أكذب؟ عن ماذا؟! ألا تدرك ما يحدث هنا؟ من الأعظم، ومن الأدنى؟ لا يمكن أن تكون غبيًا إلى درجة تظن نفسك تقف على نفس المسرح معي، هيه؟ والآن، أريد أن أسمع خيارك—ماذا ستفعل أمام كل هؤلاء؟」

واحد ضد أكثر من مئتي لا يترك فرصًا البتة. لو قاتلهم كاميجو جميعًا وجهًا، لمُسِح بالتراب. وإن أغنيز تعلم ذلك. فاقتربت منه بلا حذر، كأنما تستفزه.

كانت تعتقد بحق أن كاميجو لا يستطيع أن يضربها. وإذا وجه لكمة واحدة فقط، فإن تلك اللكمة ستكون بداية معركة لا أمل منها.

「اففففف، أنت سفيه—بل بالغ السفه. حسبتُ أن الأنجليكان اختاروا الحكمة وهربوا إلى بيوتهم—فماذا عنك؟ همم. على أي حال، لن تقدر على شيء وحدك، فإذا أردت الهرب، أسمح لك. فهيّا؟ أعطيك فرصة أخيرة. أنت تعرف تمامًا ما يجب عليك」

ابتسم كاميجو بضعفٍ لكلمات أغنيز الهادئة وقال،

「فرصتي الأخيرة... أعرف تمامًا ما يجب علي، ها؟」

ثم، بصوت بدا وكأنه مرتاح بطريقة ما، أجاب،

「أنت محقة. هذه فرصتي الأخيرة، هذا مؤكد. وإني أفهم ذلك تمامًا」

طاع!! مزقت قبضة كاميجو اليمنى الهواء.

طارت حتى صدمت أغنيز فرفعت ذراعيها لتدافع عن وجهها، لكن قدميها طارتا عن الأرض.

طُرِدت بجسدها بالكامل بعيدًا رغم دفاعها، ووجهت لكاميجو نظرات جنونية كأنها كلب مسعور.

دون حتى لحظة تردد.

دون أن يظهر أي علامة تردد ولو للحظة، أبدى الشاب استعداده أمام العدو الذي يقف أمامه.

「أيها الـ... ما الذي فعلته يا ملعون؟!」 صاحت أغنيز سنكتس بغضب، لكن كاميجو توما رد عليها بزئير أعلى وأقوى.

「ما كان عليّ أن أفعل! لا تستخفي بي! أنا هنا لأنقذها! وما غير هذا من سبب لأكون هنا؟!」

تلاقت مشاعرهما في مواجهة مباشرة.

ورغم أنهما كانا بكلمة واحدة "مشتعلين"، إلا أن طبيعة حرارتهما وخواصهما كانت مختلفة تمامًا.

ارتجفت عضلات خدها بغرابة وبدأت تهمس لنفسها. تحولت الأخوات السود الواقفات بلا حراك إلى مواجهة كاميجو توما. وأصدرت المئات من الأسلحة التي يحملنها صوتًا غريبًا قعقعيًا كصوت الجنود يصطفون.

「أنت... هذا... أضحكتني」 قالت أغنيز بصوت مرتعش وجسد مرتجف، 「منا مئتان. فكم تقدر على أن تفعل وحدك في هذا الوضع؟! هيا، أرني! هِهْ هِهْ—مع فرق العدد، ستُطحن في أقل من دقيقة!」

أعدّت الأخوات السود جميعًا أسلحتهن.

أما كاميجو توما فلم يكن يحمل سلاحًا سوى قبضته المشدودة بإحكام.

وقبل أن يلتقي الطرفان في القتال...

...فجأة سمعوا صوتًا.

「هيا عنك. لا تبدأ بدوني. لقد تسللت عبر الحاجز عنوة. على الأقل لأمكنك أن تنتظرني وتعطيني وقتًا كافيًا لأجهز روناتي」

「هِه...؟」

وفي اللحظة التي استدارت فيها أغنيز وهي مذهولة، اندلع صوت زئير نيران تبتلع الأكسجين—وبانفجار برتقالي اختفى الظلام الذي يهيمن على الكنيسة غير المكتملة على الفور.

في مؤخرة الكنيسة، تمامًا مقابل المكان الذي يقف فيه كاميجو—

ثقبٌ كبير في إحدى النوافذ على الحائط خلف المنبر، على ارتفاع طابقين تقريبًا، ينتظر داخل تركيب الزجاج الملون. ربما استخدم السقالة على الجدار الخارجي ليصل إلى هناك. وقف في إطار النافذة كاهن إنجليزي، يحمل في يده سيفًا من اللهب.

「...س... ستيل؟」

مرتبكا همس كاميجو اسم الكاهب المدخن سيجارة في زاوية فمه.

「نحن السحرة كنا مستعدين لإنهاء الأمور، وخططنا لأن يتراجع الهواة. كل تلك التفسيرات الزائفة والإقناعات المزيفة—اتضح عبثها」

فتكلمت أغنيز قبل أن يرد كاميجو، 「إنجليز؟ سخافة... هذه قضية تخص الكاثوليك الرومان فقط! إذا تدخلتم، سيعتبرون ذلك تدخلاً في شؤوننا الداخلية! ألا تعلمون؟!」

أجاب ستيل، وهو ينفث الدخان من أنفه بضيق، 「نعم، حسنًا... للأسف، هذا لا ينطبق هنا」 ثم أشار إلى صدر أورسلا أكوينس، 「انظري إلى الصليب التطهيري الإنجليزي المعلق على رقبتها؟ نعم—هو نفس الصليب الذي أعطاه لها هاوينا بالصدفة」 ابتسم مازحًا وقال، 「إنّ وضع ذلك الصليب حول عنق أحدٍ كأنه يكون تحت حماية الكنيسة التطهيرية الإنجليزية—مما يعني أنها قد عُمِّدَت [1] وأصبحت واحدة منا. وقد أعدّت مطراننا ذلك الصليب بنفسها. وأمرتني أن أعلقه على عنق أورسلا بنفسي... كان من الأمور ذات الأولوية المنخفضة، لذلك تركته لوقت لاحق وأعطيته لذلك الصبي هناك. ظننت أنه سيكون تأمينًا بسيطًا، ليجعلكم تعتقدون أن الهواة تحت حماية الأنجليكان لو قبضتم عليه... لكن بطريقة أو بأخرى، انتهى به الأمر على عنق أورسلا كما هو مخطط. هذا يعني أن أورسلا أكوينس ليست عضوًا في الكنيسة الرومانية الكاثوليك—بل هي من الأنجليكان」

「فهمت. لهذا السبب...」 ثم استرجع كاميجو ما حدث.

عندما قال عابراً أنه سيعطيها الصليب، بدا على أورسلا السعادة كثيرا...

إذن فهذا كان المعنى الحقيقي.

احمرّ وجه أغنيز بشدة. بعد أن حرّكت فمها عدة مرات مترددة قالت، 「ت-تظنون أن مثل هذا التلاعب بالحقائق سينجح؟」

「لا، لا أظن. ليس وأنّ الأمر تم وفقًا لمراسم التطهريين الإنجليز، أو من قبل كاهن إنجليزي، أو في كنيسة إنجليزية」 وهز سيجارته. 「لكن هذا لا يعني أن أورسلا ليست في موقف حساس للغاية الآن، لا؟ تابعة كاثوليكية رومانية تلقت صليبًا تطهيريًا إنجليزيًا—وفوق ذلك أعطاها إياها شخصٌ من المدينة الأكاديمية، من الجانب العلمي. أرى أنه ينبغي علينا الآن أن نتمهل بعض الوقت ونتأمل في أي جانب أورسلا تنتمي إليه فعليا. وإذا حكمتم عليها حكم الرومان الكاثوليك، فلا تحسبين الكنيسة التطهيرية الإنجليزية تقف مكتوفة الأيدي」

قفز ستيل من النافذة بهدوء وهبط أمام المنبر. وأشار بنصل سيف اللهب إلى وجه أغنيز البعيد. 「وزيدي فوق كل ذلك—قد تجأرتم وأشرعتم سيوفكم عليها」 وكشر ستيل أسنانه، 「أظننتم أنني ساذج إلى هذا الحد؟ وأنني أسمح بذلك؟」

「اللعنة! واحدٌ آخر منكم لن يُغيّر شـ—؟!」 صرخت أغنيز بغضب، لكنها قُطعت مرة أخرى بصوت آخر.

「يا عمي، دخلتما العاصفة باثنين فقط؟!」

「؟!」

عندما استدارت أغنيز لمواجهة ذلك الصوت الجريء، فجأةً تحطم الجدار بجانبها وتهاوى. ومن بين سحب الغبار الكثيفة خرج رجل طويل يحمل سيفًا ضخمًا.

「تاتِميا...」 نطق كاميجو اسم الرجل الطويل الذي يحمل سيفًا أبيض ناصعًا ذا نصلٍ متموج من مادة غير معروفة.

تاتِميا سايجي.

الممثل—أو نائب البابا للمذهب الديني المتنوع الصليبي: الكنيسة الصليبية الأماكسية.

وخلفه تجمع أعضاء الأماكسا، والذين كان من المفترض أن يكونوا محتجزين في مبنى منفصل. كانوا حوالي خمسين—ربما هم جميع من حُبِسوا.

「ولا حاجة أن تسأليني سبب قتالي، لا؟」

تفاجأ كاميجو وقال، 「أ-أنت... لكنك قلت إنه من الأفضل ضربهم أثناء تحركهم...」

「لأنني ظننت أنك ستستسلم وتعود إلى البيت لو قلت ذلك. تحدثت مع الإنجليز وحاولنا ترتيب الأمور لإنهاء كل شيء قبل أن يتحرك الرومان. واتضح أنك أحمَقُ مما ظننت، لكنك ممتع، فلا أستطيع كرهك」

وأخيرًا، بصوت خطوات تقرقر مألوف، جاءه صوت فتاة ترتدي الأبيض من الخلف.

「لهذا قلت لك ألا تقلق، توما—فسيكفيك غيرك الأمر!」

「إن...دكس...」

وضعت يدٌ صغيرة، مطمئنة، على كتفه. وقالت، 「لكن لا مفر الآن وقد وصلنا هذا الحد!—لننقذها يا توما. لننقذ أورسلا أكوينس!」

هز كاميجو رأسه موافقًا.

أما أغنيز سنكتس، التي كانت تتابع المشهد كله، اشتعلت غضبًا. وبأمر واحد منها—اقتلوهم!—قفزت مئات الأخوات في الظلام مهاجمين.

بدأت المعركة النهائية—المعركة الحاسمة لمن تجمعوا لحسم حساب هذه القصة السخيفة.

  • ما بين السطور 2

في زلفة الليل، وقفت كانزاكي كاوري على سطح مبنى.

المشهد أمام عينيها كان يصور كنيسة أورسلا قيد الإنشاء. لم يكن المشهد يُشبه كنيسة إطلاقًا—لا أثر للسكينة، بل كان يعج بأصوات العنف والتحطيم.

كانت تقف بعيدًا عن الكنيسة، لكن آذانها الحادة كانت تسمع ما يُقال هناك. تسمع كلمات أولئك من وقفوا للدفاع عن فتاةٍ كانت وحيدة.

لم تخطط كانزاكي منذ البداية أن تقف إلى جانب الأماكسا أو أن تقتل أعداء الرومان. ولم تتهرب من الأنجليكان حتى تمارس العنف.

كل ما أرادته هو أن تُظهر نواياها الحقيقية.

أرادت أن يعرف الأماكسا أنه حتى بدونها، سيظلون أماكسا، ولن يتغير شيء.

وهذا ما أظهروه لها، كما آمنت أنهم سيفعلون. ضيّقت عيناها بابتسامة هادئة طبيعية، كأنها تحدق في شيء يبعث على الحنين.

إلى مكانٍ لن تعود إليه أبدا.

ولكنها الآن سَتُعز على قلبها هذا المكان، إلى أبدِ الأبد.

ومن خلفها سمعت خطوات جاهِرة.

وبصوت مرح قال صاحبها، 「نياها! أراكِ ممتنةً ومتأثرة تمامًا، نيه-تشين. ويا له من منظر. اتضح أن أصحابك القدامى لم يختطفوا أورسلا ليستخدموا كتاب القانون لجشعٍ منهم!」

「تسوتشيميكادو...」 قالت كانزاكي بسرعة وهي تمسح تعبير وجهها، واستدارت—لكن لم تستطع إخفاء اندهاشها عندما رأت ابتسامة صبي قميصِ الهاواي العريضة.

قالت بنبرة صارمة تخفي بها إحراجها، 「هل أنهيت ما كنت تفعله؟ تحدثت عن اغتنام الفرصة لخطف النسخة الأصلية من كتاب القانون...」

「همم، من يدري؟ ربما فعلت، وربما لم أفعل」

「...」

「أمزح. لا تشزريني أرجوك. ألا تعلمين ما يحدث؟ الأماكسا لم يسرقوا الكتاب. كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تحاول تلفيق التهمة لهم. وهذا يعني أنهم لم يحتاجوا لجلب الكتاب إلى اليابان من الأساس، صح؟ ما جلبوه هنا كان تزويرًا. النسخة الأصلية موجودة الآن في أعماق مكتبة الفاتيكان」

كان تسوشيميكادو يعلن فشله، لكن في صوته حيويةٌ مفعمة. ربما لم يحمل حماسًا كبيرًا لعمله—أو ربما كذب وأنه قد نجح في سرقة كتاب القانون. لم تستطع كانزاكي أن تحدد ما كان حقا.

اقترب منها. وضع يديه على الدرابزين المعدني، وبينما يحدق بهدوء في المكان الذي تنظر إليه كانزاكي، سألها، 「راضية؟」

「...نعم. أكثر مما توقعت」 وأعادت النظر إلى الكنيسة. 「الآن أثق أنهم سيحافظون على الأماكسا في الطريق الصحيح بدوني. وقد أصبحوا أقوياء」

「هممم، نعم. لكنهم يمرون على الأرجح بصعوبات، ما تساعديهم؟」

「لا حق لي أن أقف أمامهم. ولم يعودوا بحاجة إلى قوتي. ما كنت إلا عجلة تدريب على دراجة」 بدا في صوتها حزن وحيد ولكنه حمل فخرًا.

لم تتردد لحظة في إعطاء جوابها.

كتم تسوشيميكادو ابتسامته أمام جدّيتها.

「ما الأمر يا تسوشيميكادو؟」

「يعني، ولا شي... لا يهم، لكنكِ على الأرجح لم تتوقعي أن يتدخل كاميان في هذا نيا؟ وحتى الآن لم تشكريه على قضية سقوط الملاك وحادثة الإندكس. والآن تورطينه في مشكلة أخرى من مشاكلك—ألا تخافين من أن يكبر دَينك عليه نيا؟」

「ل-ليس الأمر كذلك. لا شيء مما تتخيله سيحدث!」

ردّت كانزاكي بنظرة جادةٍ حادّة، لكن لسبب ما، انفجر تسوشيميكادو ضاحكًا. ضحك بشدة وعاليا حتى دمعت عيناه، وبدأ يقلق من أن يصل صوته إلى كنيسة أورسلا في الأسفل.

「على فكرة! ما بال هذه الضمادات في يديك، هممم؟ أنتِ لا تخططين أن تتسللي إلى أصدقائك بعد أن يفقدوا الوعي فتُقدّمي لهم إسعافات أولية سرية؟ وبعد أن تنتهي، تمسحين على رؤوسهم برقة، وتبتسمين قليلاً، ثم تنسحبين بهدوء؟ فه-ههه ههه، كككهِهِه! نيه-تشين، أنتِ بسيطة جدًا وتقليدية! لا أصدق أنك كنت تفكرين في شيء محرج هكذا بوجهٍ جاد!」

「......؟!」

「مم؟ ما الأمر، نيه-تشين؟ صدغك ينبض... مهلاً، مهلاً مهلا مهلا مهلا! أنا بلا سلاح! لا تضربيني وترميني بالشِجتن شِجتو! أيعني هذا أنك ستلفّيني بالضمادات أولا نياااا؟!」

تعليقات (0)