-->

الفصل الرابع: أُولاءِ مَنْ يَأْخُذُونَ الْثَّأَرَ. — حَطِّمْ_أو_كَـسِّرْ؟

(إعدادات القراءة)

انتقال بين الأجزاء

  • الجزء 1

بينما تبحث عنها ميساكا ميكوتو، وقفت مُسُجيمي أواكي أمام نافذة وبجوارها حقيبة سفر بيضاء ذات عجلات، تحدّق من علوٍ على الفتاة الباحثة في الأرض.

كانت مُسُجيمي أواكي داخل مبنى. والطابق الرابع من هذا المبنى بالتحديد يشغل مطعمًا للبيتزا. ليس مكانًا للتوصيل أو مطعم وجبات سريعة، بل مطعمًا حقيقي يقدّم البيتزا ضمن قائمته. وبما أن أرخص طبق فيه يتجاوز ثلاثة آلاف ين، فهو ليس مكانًا لطلاب المدارس الإعدادية. كان المطعم يستهدف في الأساس طلاب الجامعة وأعضاء الهيئة التدريسية، ولذلك—وحتى مع اقتراب الساعة من التاسعة مساءً—لم تكن هناك أي علامات على إغلاق أبوابه قريبًا.

الطاولات الفاخرة تغطَّت بمفارش جديدة، وموسيقى البوب الفرنسية التي تبثها إذاعة المطعم ولو أنها أزالت الصمت من المكان إلا أنها هادئةٌ لا تعيق الأحاديث بين الزبائن. الطاولات التي ملأت القاعة لم تشغل سوى نصف المساحة، ومع ذلك فقد وُضع على المدخل لافتة كُتب عليها [مغلق]. وإنّ المسافة المعتدلة بين المقاعد كانت جزءًا من الجو الذي سعى المكان إلى صنعه.

وعلى أن بعض الناس قد شاهدوا الفتاة الإسبرة موڤ پوينت وهي تظهر فجأة من العدم، فإن الفوضى لم تعم داخل المطعم. علّ لأنهم اعتادوا منذ زمن على جو المدينة وغرائبها.

وباستغلالها لتغاضيهم عنها، واصلت النظر إلى الأرض أسفلها. ورأت ميكوتو وهي تتلفّت من حولها، ثم تدخل أحد الأزقة الضيقة.

(هــــۤــــوه...)

وأخيرًا شعرت بالارتياح—وصارت تتنفس مجددًا.

مهما بلغت المسافة الخطية فلن ينفعها أمام نجمة توكِوَداي. فعلى عكس طلقتها الريلڠن، التي تبطؤ بمقاومة الهواء عند مدى معيّن، فإن هجماتها الكهربائية تتحرك بسرعة الضوء، فتُمحي أي مسافة في طرفة عين.

—فلا يهم مدى قربهما؛ إنما عليها أن تهرب إلى نقطة عمياء لا تراها ميكوتو.

—وكان عليها أن تتمكن من رؤية ميساكا ميكوتو وهي تُضيّع أثرها، من موقع آمن.

هذان كانا الشرطين الأساسيين. ولذا اختارت موقعها الحالي "الأعلى". فمن هنا تراقب خصمها يمرّ، وتفكّر بهدوء في خطة للهروب.

(أغغ...!!)

وما ارتاحت حتى اجتاحها شعور حاد ورغبة شديدة في التقيؤ—إحساس كانت قد نسيته حتى هذه اللحظة.

آلَمَ حَلقها الحمضُ المحترق في معدتها. وبجهدٍ شَقٍّ لتعيد محتويات بطنها إلى مَحلِّها، بدا كما يظهر من الأمر أنها نجت من أي تعقيدات إضافية. وتصببت عرقا يَدُها التي تمسك بالكَشّاف العسكري.

في الماضي، فقدت مُسُجيمي أواكي السيطرة على قدرتها موڤ پوينت فتعرضت لحادث. وبسبب ذلك فإنها كلما حاولت نقل جسدها بهذه القدرة، أصابها توترٍ وخوف شديدان، لدرجة تؤثر سلبًا على حالتها البدنية.

لهذا السبب وقدر الإمكان حاولت تجنب نقل جسدها.

(اللعنة. ربما صار حتمًا علي، لكن لماذا يخنقني هذا الحد؟)

عندما فكّرت، تذكّرت أنها لم تكن تحب كذلك مهام إيصال [الشخصيات المهمة] إلى [المبنى عديم النوافذ] بأمرٍ من ذاك. نقلُ المرء عبر جدارٍ شيء، أما أن تنقل هي نفسها مع أولئك [الشخصيات المهمة]، فهنا لا يُسمح بأي خطأ ولو صغير. والأسوأ أن من بينهم أشخاصًا لا يبدون من [الشخصيات المهمة] أبدا: كذلك الصبي الأشقر في الثانوية ذو النظارة الشمسية، وذلك الكاهن ذي الشعر الأحمر.

وضعت الحقيبة على جانبها وجلست، ثم مسحت العرق عن جبينها بمنديل. كان القفز إلى داخل مبنى لا تعرف ما فيه أمرًا يثير الأعصاب بلا شك. فلو انتقلت إلى داخل فرن ستحترق، ولو خرجت فوق فتحة تهوية ستسقط في اللحظة التالية. قد يستهين البعض ويقول إن هذا لا يحدث عادة، لكن مجرد احتمال وقوعه كان كافيًا ليبعث على الرعب.

على أي حال، قد فقدت ميساكا ميكوتو أثر مُسُجيمي تمامًا. فالناس العاديون يلتزمون بالطرقات الفعلية عند البحث عن أحد. وهذا يعني أنه إذا انتقلت مُسُجيمي من أعلى أحد المباني إلى آخر، فإن من هم على الأرض على الأرجح لن يرونها. كانت أقصى مسافة يمكنها الانتقال الفوري إليه يتجاوز ثمانمِئة متر. لكن لسوء الحظ لم تكن واثقة من قدرتها على إبقاء جسدها يتحرك باستمرار. فإذا انتقلت أربع مرات فسيقفز محتوى معدتها إلى الخارج ويضطرب حواسها وربما تعجز عن الاستمرار في استخدام موڤ پوينت في تلك الحالة.

ومن ناحية السلامة النفسية، فإن أقصى ما كانت تسمح لنفسها به من استخدام موڤ پوينت على جسدها هو مرة أو مرتين. وفي الوقت الحالي، فهذا يكفيها من الإفلات تمامًا من المطاردة، ثم الركض على قدميها لبقية الطريق. خطتها بدأت تتشكل—

—فإذ بفتّاحة نبيذ فاخرة تُغرس في كتفها اليمين فجأة؟

「آغ...؟!」

عرفت تلك الفتّاحة. كانت نفسها التي غرستها قبل ساعات قليلة في جسد بنت الجدجمنت أم قرنين. وعندما استوعبت حقيقة ما يعنيه هذا، وصلها صوتٌ مألوف من خلفها.

「هاكِ لكِ. ولكن لا نكهة لها ولا مستساغ. الناس لا يتمنون منظرا كهذا. آه، وهذا أيضًا」

وعلى نطقها "هذا أيضًا"—

تكرر صوت يشبه غرز شيء في قطعة قماش موحلة. في جنبها... في فخذها... وفي ساقها. استوعبت جيدًا لِمَاذا انغرست السهام المعدنية في تلك المواضع بالذات.

اندفعت آلام حارقة عبر جسدها، تتجمع في دماغها، ثم تنفجر فيه.

「هاهـ... غه...」

عادت مُسُجيمي أواكي تنظر إلى داخل المطعم من عند النافذة. بدا الزبائن في حالة من الارتباك والدهشة والحيرة مما صار فجأة.

لكن من بينهم واحدة فقط لم تتأثر.

بنتٌ تجلس على إحدى الطاولات المغطاة بمفرش فاخر، تبتسم بثقة.

بدا المطعم راقيًا أكثر مما ينبغي، وكأن فخامته تُثقل جوّه.

ومثلما حدث عند دخول مُسُجيمي أول مرة، لم يُبدِ أحدٌ أيَّ اهتمام حين انبثقت شيراي من العدم.

「لا تتعجلي. تجنّبتُ أعضاءك الحيوية...وهو واضحٌ لماذا، لا؟ قد غرستُ أسلحتي في نفس المواضع التي طعنتِني فيها. آه، والشيء بالشيء يُذكر」

مدّت شيراِي يدها إلى أحد جيوبها بأسلوبٍ مسرحي. فتأهبت مُسُجيمي فورًا، لكن ما أخرجته لم يكن سلاحًا، بل أنبوبًا من مادة موقِفة للنزيف، من حقيبتها للإسعافات الأولية من الجدجمنت.

رَمَتهُ، فهبط على الأرض عند قدمي مُسُجيمي.

ابتسمت بنتُ القرنين ابتسامة شرير.

「هاكِ منه ما شئتِ. وأرجوك انزعي ملابسكِ، كلها حتى الداخل، وازحفي على الأرض كدودةٍ أنتِ، وعالجي جروحك. حينها نقول إننا متعادلتان يا عفن الأرض」

ربما أخذ الحاضرون بعين الاعتبار العداء الصريح في كلماتها، أو ربما خافوا أن تطالهم الإهانة بدورهم؛ فبُهت رواد المطعم وطاقمه ثم، فجأة، اندفعوا نحو المخرج. انقلبت الطاولات والكراسي في مشهد يفتقر تمامًا إلى الرقي، ومع ضجيج أقدام هادر، أُفرغ المكان في لحظات.

صار الاثنان الآن وحيدين، تشزران في بعض.

نحو عشرة أمتار تفصل بينهما. تيليبورت ضد موڤ پوينت—كلتاهما تعمل بكفاءة ضمن هذا النطاق؛ وعند هذا الحد، ما عاد لمفهوم المسافة أي معنى.

لم يُسمع سوى الهمس الخافت لجهاز التكييف، وموسيقى البوب الفرنسية الهادئة التي تُبث في الخلفية، نقية الصوت.

شيراِي على طاولةٍ تجلس.

وذلك على الأرجح ليس بدافع الهدوء، بل كان يخفي حقيقة أن جروحها لا تسمح لها حتى بدعم جسدها كما تريد. ولكن إنَّ مُسُجيمي مثلها كانت. فقد استخدمتا نفس الأسلحة وتضررتا في نفس المواضع. وكل ما كان على إحداهما فعله لمعرفة مدى إصابة الأخرى هو أن ترى إصابتها هي.

「...الآن...فعلتِها. لكن...أظنني...لا أكره... ردًّا طفوليًّا كردّك」

قالت مُسُجيمي وهي جالسة على حقيبتها قرب النافذة، تجهد نفسها لتبدو مرتاحة—سواء كخدعة قتالية أو بدافع كبرياء.

وفي كلتا الحالتين، لم تكن أيٌّ منهما في وضع يسمح بالمشي بسهولة.

لكن كلتيهما حَمَلَ وسيلة بديلة للتحرك.

「إيه، كأنكِ في ورطة」 قالت شيراي متبسّمة. 「ثُوري، ولسوف تسمعكِ الفطِنة والمندفعة أونيه-ساما فتأتيكِ إلى هنا」

「!!」

「وشخصيتكِ لا تسمح لكِ أبدًا أن تهربي أمام شخص تقدرين على هزمه دون أن تبذلي الجهد حتى، ها؟ لا، بل أرى أن أسلوبك مبني على إحداث جروح كثيرة لا طائل منها، فتتبخترين وترضين غرورك، ثم ترحلين، تمامًا كما فعلتِ معي」

وعند التمعن، فلم يسبق لمُسُجيمي أن هاجمت ميكوتو خلال معركتهما في المبنى قيد الإنشاء. إنما اكتفت بالدفاع دون أي هجوم مضاد، وهو ما يثبت أنها كانت تدرك تمامًا أنها لن تصمد في مواجهة مباشرة.

هذا يعني أنّه ما إن تصل ميساكا ميكوتو إلى هنا، تخسر مُسُجيمي لا محالة.

لم تكن شيراِي المليئة بالجروح بحاجة إلى أن تُجهد نفسها لهزيمة مُسُجيمي. كل ما عليها هو أن تكسب ما يكفي من الوقت لوصول ميكوتو لتحقق انتصارًا ثانيًا.

لكن مُسُجيمي تظاهرت بالشجاعة حتى أمام هذه الحقيقة. 「هَـء. أراكِ قلقة على نجمة توكِوَداي. لكن حتى الريلڠن نفسها ليست منيعةً مُطلقة. فضد أقوى مستوى 5 في المدينة الأكاديمية—فإنها ميتةٌ أمامه لا محالة」

ابتسمت شيراي مستهزئة. 「أوه، ما خطر ببالي أصلًا أن أياً منّا قد تصل إلى ذلك المستوى—إلى عالم المستوى الخامس」 قالت كلماتها المثبّطة وكأنها وسام فخر—وكأنها اعتراف صريح بأنها بالفعل خائفة بشأن ميساكا ميكوتو.

وما عسى مُسُجيمي إلا أن تعبس وتنقر لسانها.

(ألهذا السبب أحدثَتْ كل هذه الضجة...؟ لم تكتفِ بمهاجمتي على حين غرّة، بل صنعت أيضًا شرطًا آخر للفوز، أن تُعْلِم تلك الريلڠن بمكانها...! إذن...)

بدأت التفكير فورًا. ما سيحسم فوزها ليس ما إذا كانت قادرة على إسقاط ضابطة الجدجمنت التي أمامها، بل ما إذا كانت الريلڠن ستلحق بها أم لا. إذا قررت عدم الاشتباك مع شيراِي كُروكو واستخدمت موڤ پوينت للهرب فورًا—

「لن تنجح」 قطعت شيراِي أفكارها بلهجة حاسمة. 「لن تُفلتي إلى الأبد. وإني متأكدة أنكِ تعرفين! أنتِ وأنا متشابهتان جدًا. في هذا الوضع، وبهذه الجروح، وفي هذا المكان، مع قدراتنا وأونيه-ساما تلاحقنا...ماذا ستفعلين؟ أتظنين أن إسبرة بنفس قدرتكِ لن تتوقّع وجهتكِ القادمة؟」

「؟!... أيتها الـ...؟!」

إنفجرت. حتى أنها لم تستطع أن تجمع أكثر من كلمتين معًا.

ابتسمت شيراِي ابتسامة رفيعة جدًا. 「هيا عنك، أترين أنني أمزح؟ إن كان هذا ما تظنينه، فامسحي عنك هذه الفكرة المتفائلة من رأسكِ حالا. قد حصلت على معلومات مسبقة من [البنك]. ولدي خبرة من مبارزتنا السابقة. وفوق ذلك، أملك تركيبة ذهنية شبيهة بتركيبة إسبر ذو نفس القدرة. وإن حدسي قد منحني عددًا لا بأس به من المعلومات الإضافية」

في تلك اللحظة، أدركت مُسُجيمي أخيرًا الحقيقة.

(ما معنى كل ما فعلته شيراِي كُروكو حتى الآن؟ قد طعنتني في نفس المواضع بفتّاحة النبيذ والسهام... لتضعني في نفس موضعها هي؟! أوجعلت أنماط حركتي أسهل للتنبؤ بعد أن وازنت الفارق البسيط بيننا؟!)

لديهما نفس القدرة، نفس الإعاقات، ونفس الأفكار—وكانت شيراِي تحاول قراءة خطوات مُسُجيمي أواكي مسبقًا.

(لن أدع هذه الغبية تفعل)

عضّت مُسُجيمي أسنانها. كانت تستطيع استخدام موڤ پوينت للرحيل من هنا، لكن وجهتها ستكون مكشوفة حتمًا. حتى لو انتقلت إلى الجهة الأخرى من العالم، فلن تشعر بالاطمئنان. لا مجال لذلك. فبمجرد انتقال واحد، كان ألم معدتها يبلغ حدّ الخنق، لدرجة لا تُحتمل. لقد أعدّت نفسها أخيرًا للموت واستخدمت 「موڤ پوينت」 على جسدها، وهذه الفتاة الغبية قادرة على إحباط ذلك قدرما تشاء من عدد المرات. على أي حال، كان الحد الأقصى لجسدها هو ثلاثة أو أربعة انتقالات متتالية. ولم تُرد إهدار انتقالاتها الثمينة. وهذا يعني...

「نعم، لكِ وسيلة واحدة فقط لتحقيق النصر: أن تسحقيني قبل وصول أونيه-ساما،」 قالت شيراِي بنبرة واثقة. 「أما أنا فلي وسيلتان: إما أن أهزمكِ مباشرة أو أنتظر حتى تظهر أونيه-ساما...فهل أُصرّح مَن أيّنا ذو الموقف الأقوى؟」

ذلك في حد ذاته تصريحٌ واضح، ووجدت مُسُجيمي نفسها متفاجئة. شعرت وكأن خياراتها تُنتزع منها واحدةً واحدة. ارتجفت—لكنها هزّت رأسها.

لا.

بل أدركت الحقيقة.

هذه الضابطة من الجدجمنت لم تكن تفسح المجال لتدخل الريلڠن.

لو كانت تريد إشراكها، فلِمَ لم تنتقل بها إلى هنا مع نفسها؟

ابتسمت مُسُجيمي قليلًا. وما استوعبت ذلك حتى بدأت تتكشّف أمامها سلسلة من الحقائق الأخرى. ربما معرفتها بأفكار خصمتها قد ارتدّ عليها، فأفشل محاولتها لصنع تلك الشروط المصطنعة.

بَرَدَ ذهنها، وبدأ هدوؤها يعود. 「أقسم...يا لها من مفارقة غريبة جمعتنا. دعيني أفهم الأمر—أنتِ تَخلَّيتِ عن فرصتين للفوز، لا واحدة فقط؟」

「...」

「الأولى كانت في عدم جلب الريلڠن إلى هنا وأنتِ قادرة. والثانية كانت في هذه الهجمة. لو لم تكوني مهووسة بجعل المعركة لعبة، لقتلتِني بسحق دماغي أو قلبي أو أي شيء. إن كان كل هذا حقًا من أجل تلك الخيالات الجميلة التي تؤمنُ بها الريلڠن، فيا لها من سذاجة ستُخسِّرُك يا بئسك」

بعد أن طرحت السؤال، اهتزّ جسد شيراِي قليلًا. ومُسُجيمي تعرف السبب. فهي تحمل نفس نوع الإصابات، وتعرف مدى قسوتها. فضلًا عن أن شيراِي كانت تطاردها بتلك الجروح منذ ساعات. مجرد إغلاق الجروح لن يكفي لتعويض الدم والطاقة المفقودة. فهي أكثر إنهاكًا من مُسُجيمي. والأخيرة لم تُصب إلا للتو، بينما الأولى كانت تركض بتلك الإصابات، وهذا جعل الفارق في القدرة على التحمل واضحًا.

ابتسمت مُسُجيمي—ابتسامة نابعة من شعورها بتفوّقها، وبلا مبالاة تجاه تهوّر خصمتها.

「يا بئس حالك أنتِ. كان لكِ أن تكتفي بالأمل الثاني. فلماذا خاطرتِ وسعيتِ وراء الأول؟ أحياتكِ فعلًا رخيصة ترمينها في هذا الخطر؟」 قالت وهي ما تزال جالسة على الحقيبة. 「كل هذا... لحماية [عالمٍ] تَمَنَّته الريلڠن ورأت لوجوده حق...」

رفعت شيراِي كُروكو بصرها نحو وجه مُسُجيمي أواكي. كان في عينيها بريق قويٌّ حازمٌ، وإن كانت جالسة على الطاولة لعجز ساقيها على حملها، وذراعاها تتدليان بلا طاقة. كان هذان الأمران كافيين ليدلّا على مدى ضيق خياراتها، لكنها لم تتظاهر بالشجاعة. إنما ببساطة حدّقت مباشرة في عين العدو.

حتى وإن بدت سخيفة، أجابت دون تردّد.

「...أريد أن أحميها」

والأسوأ أن قواها تكاد تنفد—وصبت آخر ما مَلَكَت من طاقة في هذا.

「ولماذا لا أريد...أن أحميها؟ طبعا أريد. عَلَّها تكون أنانية، وعَلَّها لا تعير ظروفنا أدنى اهتمام، لكن أونيه-ساما تتمنى أمرًا واحدًا: أن يكون عالمٌ لا تضطرين فيه أنتِ ولا أنا إلى الدخول في أيٍّ من هذا. إنه لحُلُمٌ أناني وغبي للغاية، لا؟ وإنها... أونيه-ساما تؤمن حقًا بأنها تستطيع حل كل شيء بأن تجمع الجميع فتصفع وجوههم ثم تحاضرهم. حتى الآن وقد انقلب كل شيء رأسًا على عقب. إني أفكر حقًا في أن أُنقذك، على كلِّ ما فعلتِه!」 ابتسمت شيراِي، وليس فيها خبث، بل كانت ابتسامة عادية فقط. 「أونيه-ساما فتاة تستطيع أن تنظر إلى هذا الوضع فتقول إنها لا تريد منا القتال، وأنها سوف تمتَنُّ لو توقفنا عن محاولة قتل بعضنا. محالٌ لأونيه-ساما أن تبقى غليظةً جامدة القلب بعد أن تتخيل كيف أبدو الآن. أمكنها أن تُفجّرك إلى أشلاء في خمس ثوانٍ لو أرادت—وهذا بالضبط السبب في أنها لم تفعل. إنها أَمَلَت أن يكون هناك سبيلٌ آخر. رغم أنها قادرة على إنهاء كل شيء بعُملة معدنية ونقرة من إبهام، لكنها حتى بعد كل هذا ما فعلت سوى أن تأمل أن تَحُلَّ الأمور وتَحمِل كلَّ البؤسَ العبث وحدها」

「...」

「أحسبتِ أن شيراي كُروكو ترفض أمنية طفولية سخيفة كتلك؟ بأن تصطادك على حين غرّة فتُخرج دماغك بسهمٍ معدني؟! وأن تنهي الأمر بسرعة تجعلك تغرقين في الموت والدم؟! كل ذلك حفاظًا على نفسي؟! أوتحسبين أنني نتنةٌ ألوث حُلمًا مَدَّتهُ لي؟!」

وبينما شيراِي تصرخ، رفعت نفسها ببطء عن الطاولة. ارتعشت ساقاها لكنها ثابتة. وتعلن أن الوقت قد حان لتأخذ الأجواء جدّيتها.

「وسأمنحك فرصة العودة إلى حياتك الطبيعية. تمامًا كما تمنَّتْ واحدةٌ، مُعَيّنة، وكما وافقتُ معها」

「فإن خُنتُ ذلك، فأظن ذلك نصري،」 أجابت مُسُجيمي أواكي وهي لا تزال على الحقيبة جالسة.

بذلك أعلنت أنها ما رغبت في الانسجام مع أي من ذلك.

  • الجزء 2

رأت شيراي وصَدّقت أنّ الموقف بسيط. كلتاهما، هي ومُسُجيمي، كانتا في حالة سَيِّئةٍ سَيِّئة من الإصابات. ولو أغلقوا جروحهم، فإنّ القوة والعافية لن تعود إليهما اليوم. ضربة واحدة—نعم، ضربةٌ خفيفة تكفي لإسقاط الخصم—فتكون النهاية. ومع كثرة الطعنات التي أصابت شيراي، فإنّ مجرد سقوطها على الأرض قد يفتح جروحها من جديد.

(إذا صارت معركة شاملة...فسأصمد عشر ثوانٍ على الأكثر)

لا داعي أن تصيبها ضربة مباشرة—فقط تحريك أطرافها بكامل طاقتها كان كفيلاً بفتح جروحها. كما أنّه ما بقي فيها قُوّةٌ تكفي في الأساس. وأي فقدان إضافي للدم سيجعلها تدخل في حالة فقدان وعي فورا.

قوة مُسُجيمي طاغية. لَوْلا الشرط الذي يمنع الأسابر المتنقلين من نقل بعضهم البعض، لكانت على الأرجح قد نقلت شيراي إلى داخل جدارٍ أو إلى الأرض وأنهت الأمر.

تبادلت الاثنتان النظرات.

وعشر أمتار تفصل بينهما.

وكانت الضوضاء تُسمَع من خارج النافذة.

دوى صوت معدني واحد، وكأنّ جزءاً من هيكل المبنى الذي أطلقت ميكوتو النار عليه بتهور قد انهار.

وذلك صارَ إشارة البدء.

أنزلت شيراي قبضتها على الطاولة التي كانت تجلس عليها. ومع إحساس تمزق اللحم، تهشم صحنٌ كان عليها. أمسكت بالقطع الحادة، وجَهَّزت تنقلها الآني. جعلت هذه القدرة من أي هجوم قاتلاً فتّاك—فكل ما تحتاجه هو قطع خصمها من الداخل. والدفاع ضده مستحيل حتى بإنشاء حاجز، لأن القدرة تنقل الشيء مباشرة من نقطة إلى أخرى.

وفي اللحظة، فَعَّلت مُسُجيمي قدرتها موڤ پوينت.

متزامنةً مع حركة كَشَّافها اليدوي، انطلق صينية فضية نحو شيراي تهدف أن تصيبها. وعلى أنها لم تكن سوى صينية، فإنّ هجوماً مباشراً من موڤ پوينت قد يخترق الجلد بسهولة. ولو أصابتها، لكانت عاقبتها موتًا فوريًا بلا شك.

غير أنّ شيراي سبقتها في الحركة.

نقلت جسدها خطوةً إلى الجانب. فظهرت المقصلة الصينية الفضية في الهواء الخالي ثم ارتطمت بالأرض.

تملك مُسُجيمي قوة هائلة، لكنّها تميل إلى تحريك الكَشَّاف العسكري كلما فَعَّلت قدرتها، ربما لضبط التوقيت. وهذا ربما يَسَّر على شيراي تفادي الضربات، ولكنه صَعَّب إيجاد فرصة للهجوم المضاد؛ إذْ قد ينتهي الأمر بموت الطرفين كلما سعى أحدٌ لضرب الآخر.

「تبّاً」

أعبست مُسُجيمي حاجبيها قليلاً. وما حركت كَشّافها حتى اختفت خمس أو ست طاولات من حولهما، ثم ظهروا جميعا أمامها. تراصّت فوق بعضها وتفرّدت، مكوّنةً درعًا ضخمًا أخفى جسدها تمامًا.

(أخطأتْ...؟ لا، غير ممكن! بل وضعتها لتخفي تحركاتها...!!)

قد وقعت في مثل هذا الفخ مرةً. فالهجمات الإحداثية تنقل الأشياء من نقطة إلى أخرى، وأي فرق طفيف في إحداثيات الهدف قد يُخطئ الهجوم. أقامت مُسُجيمي جداراً حتى لا تكتشف شيراي أنّها غيّرت موقعها.

(إذن!!)

انتقلت شيراي.

وبينما تحمل شظايا الصحون في يديها، نقلت جسدها بالكامل إلى موقع محدد.

بعد أن هبطت على الجانب الآخر من جدار الطاولات، أعادت تجهيز شظايا الصحون.

(تصحيح التصويب!)

إذا كان الجدار يحجب رؤيتها، فما عليها إلا أن تنتقل إلى الجهة الأخرى منه. ثم تعيد حساب إحداثيات هدفها؛ ما يتيح لها نقل شظايا الصحون بدقة إلى موقع مُسُجيمي.

ما تستطيع مُسُجيمي أواكي استخدام موڤ پوينت على جسدها بسهولة وفي اللحظة.

تجهزت شيراي للتصويب على أمل إنهاء المعركة بسرعة...

وسمعت صوت شيء يشق الهواء.

كانت مُسُجيمي على بُعد خطوة منها واقفة. تمسك بمقبض حقيبة سفر ثقيلة بكلتا يديها ثم لَوَّحتها بجسدها كله محاولةً ضرب وجه شيراي بقوة الطرد المركزي. وبما أنّ يديها مشغولتان، كانت تمسك الكَشّاف بفمها.

قرأت شيراي—قرأتها وتوقعت ما كانت ستفعل.

(تبدو مرتاحة على نجاح خطتها الاحتياط...!!)

ومع اقتراب زاوية الحقيبة بسرعة، نقلت شيراي الشظايا الحادة في يدها إلى إحداثيات مِقبَضِ الحقيبة المربعة، فقَطَعَته.

طارت الحقيبة عن مُسُجيمي بعيدًا فيما بقيت يداها تُمسك بالمقبض دونها، وتجمد وجهها مندهشا.

(الآن...فرصتي!!)

جمعت شيراي كل طاقتها في ذراعها اليمنى المصابة، وقبضت يدها الصغيرة بقوة. إنَّ اللكمة لَأسرعُ في هذه المسافة من إجراء حسابات قدرتها.

مع الأسف...

دفعت مُسُجيمي فكها إلى الأمام قليلاً، والكشاف لا يزال في فمها.

「!!」

ذعرت شيراي، لكن أفكارها لم تسرع بما يكفي لتفعيل قدرتها رَدّاً على الحركة غير المتوقعة من مُسُجيمي. فتراجعت خطوة لا شعوريا وما رأت إلا لونًا واحدًا يملأ بصرها. أبْـــــيَـــــض. هو لون الحقيبة، أدركت بعد استغراب. استدعت مُسُجيمي الحقيبة التي طارت بعيداً لتعود نحو شيراي—من دون أن تفقد زخمها، بل إنما عدّلت اتجاهها لتصطدم بوجهها.

لو لم تتراجع خطوة، لكانت الحقيبة التي ظهرت فجأة قد التهمت رأسها. لكن، وبعد التفادي، اندفع الصندوق الثقيل المادي بالكامل نحو وجهها بقوة ترطمها.

استوعبت متأخرة.

الضربة الثقيلة أصابتها بصوت ارتطام قوي. انحنت إلى الوراء من شدّة الصدمة، ولم تستطع منع نفسها من السقوط. شدّ جلدها بأكمله، وشعرت بشيء دافئ يتفجّر من جروح كتفها وجانبها. تهاوت قبضتها في الفراغ تضرب اللا شيء. وعلى عزمها في الصمود، إلا أن الأرض انفلتت من تحتها.

وما إن فقدت شيراي توازنها، انتقلت آنيًا.

اختفى جسدها، ثم ظهر من جديد، وهي تسقط، لكن هذه المرة خلف مُسُجيمي. استغلت قوة سقوطها لتلوّح بمرفقها بسرعة فتضرب به ظهر مُسُجيمي. طارت الأخيرة نحو كومة الطاولات أمامها. أما شيراي فقد ارتطمت بالأرض قبل أن ترى، وهذه المرة أعاد الاصطدام فتح كل جروحها.

(غاه... آااخ...!!)

جمعت آخر ما تبقى من قوتها وأمسكت بشيء قريب على الأرض لتُنهي. كان مقبض الحقيبة المقطوع. الحِدّة لا تهم في هجمات شيراي الآنية.

(هنا...هنا تنتهي!!)

صرخت شيراي في نفسها، وفي الوقت نفسه بدأت بإعداد معادلات الاستهداف لنقل المقبض الذي تمسكه.

(...؟!)

لكنها لم تستطع استخدام قدرتها.

السلاح في يديها لم يتحرك شعرة.

لقد حطّم الألم المبرح والذعر تركيزها، مانعاً قدرتها من التفعيل.

「كـ...ـلا!!」

زادها هذا الواقع ذعرًا. ليت الألم يعيقها كما يعيقني، كما تمنت شيراي وهي تنظر إلى عدوها مُسُجيمي أواكي.

لكن ما سمعته كان صوت اندفاع هواء آخر، وهووش. وما رأته هو اختفاء كومة الطاولات التي دفعتها إليها مُسُجيمي. ورأت أيضاً أنّ الكشاف يُسحَبُ من فمها كما لو تسحب سيخًا ووَجَّهته إلى الأعلى.

شعرت شيراي بقشعريرة ورجفة تسري في جسدها. حاولت فورا أن تتدحرج مبتعدة، لكنّ الجاذبية فوقها تُسقط كل تلك الطاولات عليها كالمطر.

「...!!」

وعلى وجهها منبطحة، وضعت يديها على قِفاها لتحمي نفسها. فانهمرت عليها الضربات الثقيلة الحادة، تخترق لحمها، وتدوي في جروحها. لم تستطع حتى أن تتلوّى من الألم مع كل ذلك الوزن المنهمر عليها.

وفي مجال رؤيتها الضيق، رأت مُسُجيمي، ما تزال على الأرض، تتدحرج لتتفادى أن تقع ضحية مطر الطاولات نفسه الذي وقعت على شيراي. لكن السهام المغروسة في جسد مُسُجيمي فتحت جروحها أكثر، فصرخت ألمًا. ومع ذلك، أعادت بالموڤ پوينت الحقيبة بلا مقبض إلى جانبها، ثم وهي تتكئ عليها نظرت نحو شيراي.

ببطءٍ...ببطءٍ، مرّرت مُسُجيمي طرف كَشّافها على كرسي قريب.

「شيراي-سان، اخرجي منها، وإلا ستموتين」 قالت بابتسامة عريضة.

سحبت مُسُجيمي طرف الكشاف اليدوي على الكرسي، ثم، كما تقلع الطائرة من المدرج، دفعت حافته المستديرة مباشرة باتجاه شيراي.

「!!」

شحبت شيراي، لكن ما عاد التنقل الآني متاحًا لها.

ظهر كرسي بجوار المرتجفة شيراي عبر موڤ پوينت. وسَحَقَ أحد الطاولات، فتسبّب ذلك في انهيار الكومة التي تغطيها كهرم من أوراق اللعب. لكن التغيير كان في الشكل فقط—فهو ما يزال يمنعها من الحركة.

「همم. نظرا إلى أنكِ لم تتحركي حتى الآن، فيبدو حقاً أنكِ عاجزة عن إجراء حسابات النقل الآني」 بدأ التوتر على وجه مُسُجيمي يتلاشى.

ثم ضحكت.

على تطاير الدم من جروحها المفتوحة على خدها، ضحكت.

وأكملت بنبرة مفعمة بالمرح، 「هيه، شيراي-سان. شيراي كُروكو-سان. هل سمعتِ بقصة كهذه؟ هِف، سمعتُ أنواعا وأنواع من القصص من قربي "منهم"」 نظرت مُسُجيمي إلى أماكن اختراق السهام المعدنية واللولابة (فتاحة النبيذ) في جسدها، ثم، مع نَفَسٍ عميق وحركة واحدة من كشافها، اختفت كلها وظهروا أمام وجهها. سقطت السهام واللولابة أرضا مع ارتطام معدني. 「كان يا مكان، إسبرٌ قوي عاوَنَ منظمةً معيّنة」

وقفت مُسُجيمي وتراجعت. بدا أنّ معالجة الجروح التي تؤلمها كانت أولوية. راحت تنظر حولها، تمسح المكان بعينيها بحثاً عن أي شيء تستخدمه لإسعاف أولي. رأت أنبوب مخثر الدم الذي رمت شيراي على الأرض، لكن كبرياء مُسُجيمي ركل الأنبوب بعيداً.

(أ...أتعالج نفسها...هنا...؟ وتكشف نفسها لي؟ أعني، لا يمكنها أن تستبعد احتمال أن تكون أونيه-ساما في طريقها إلى هنا...)

شيراي متشككة، لكن وجه مُسُجيمي بدا مسترخيًا إلى حدٍّ ما.

بعد أن نزعت السهام من جسدها، اندفع دم جديد من جروحها. ومع ذلك، ظلّت الابتسامة على وجهها. وكان ذلك في حدّ ذاته مشهداً مشمئزّاً مروّعاً.

「أرادت المنظمة اكتساب قوةً عظيمة بأن تحصل على المزيد من أمثال ذلك الإسبر النادر الخارق. فقررت المنظمة استنساخ ذلك الإسبر. فهل تتوقعين كيف صارت النتيجة؟」

عجزت شيراي كُروكو عن الحركة. نجحت في إخراج يدها من فرجة بين الطاولات، لكن تحريكها في الهواء لم يكن ليزيح الطاولات أو يسمح لها بمهاجمة عدوّها. بدا أنّ مُسُجيمي راضية تمامًا عن ذلك وهي تمزق قطعة من طرف تنورتها لتلفّها حول جرح في فخذها.

لم تصل ميساكا ميكوتو بعد. وبالنظر إلى ضجيج المعركة وعدد الضيوف والموظفين الذين طُردوا من المكان، من المؤكد أنّها قد لاحظت الأمر. فهل يعقل أنّها لم تسمع؟ أم أنّها قررت أنّ أمرهم لا علاقة له بقضية [البقايا]؟ لم ترغب شيراي في استدعائها، لكن غياب ميكوتو كان مقلقاً بحد ذاته. لم تظن شيراي بهذا، لكن ربما كان هناك ناجون من جماعة مُسُجيمي لا زالوا يعيقونها.

لكن هناك ما هو أغرب من كل ذلك.

(لماذا...تبدو مُسُجيمي مطمئنة هكذا...؟ محالٌ أبداً أنها تظن أنها ستفوز على أونيه-ساما بهذا الحال...)

وعلى النقيض من شكوكها، كانت مُسُجيمي تتحدث وكأن لديها متسعاً كبيراً من الوقت، 「قد كان مشروعًا فاشلاً فاشل. المسكينات الدُمى المُصنَّعة ما حَمَلَت من قوة [الأصلية] حتى واحداً في المئة. حتى واحد في المئة كان ليكفي أن يكون مفيداً في العالم الواقعي، لكن حتى مع اجتماع عشرة أو عشرين ألفاً منهن في معا، ما استطعن أن يجارين قوة تلك الإسبرة الأصلية」

مبللة بالدم، مزّقت مُسُجيمي المزيد من قماش تنورتها ولفّته حول الجرح في ساقها. ففكرت شيراي، من دون أن تدرك، أنّها قد جرحت كبرياء مُسُجيمي بما يكفي لجعلها تحتاج لا شعوريًا إلى سرد قصة مطوّلة لتُأَمِّنَ نصرًا أكثر حسمًا.

كانت تنورة مُسُجيمي قصيرة أصلاً، والآن باتت ملابسها الداخلية مكشوفة، لكنها مع ذلك ابتسمت ابتسامة رقيقة. 「أتعلمين يا شيراي-سان... الأطفال الذين أُنتِجوا بتقنية الاستنساخ يملكون الجينات نفسها تماماً. حتى أدمغتهم تُبنى تماماً كالأصل. إذن فلماذا الفرق في قدراتهم؟」

كان صوتها مشبعاً بالثقة الزائدة. جعل ذلك شيراي ترغب في الاستفراغ، لكنها أدركت أنّه إن تجاهلتها تمامًا، فسوف تفقد مُسُجيمي اهتمامها فوراً فتهرب. ومعها الحقيبة.

「يا...يا له من هراء... ألا تعرفين كيف تُمنح المدارس في مدينة الأكاديمية تصنيفاتها...؟」

إن الطريقة التي تتبلور بها القدرات تعتمد على كيف ينشأ الفرد ويتربى، حتى لو حمل اثنان نفس الجينات. وقد أدّى هذا الواقع إلى نشوء مختلف النظريات لتطوير القدرات، بل وبدأت المدارس نفسها تُصنَّف بألقاب مثل "الممتازة" و "النخبوية".

لم تُبدِ مُسُجيمي أي انزعاج واضح. 「أوه، لا لا. كل فرد [مُستنسَخ] خُضِعَ صناعيًا لنفس عملية الإزهار الكامنة للمواهب التي خضع لها [الأصلي]. ومع ذلك، لم يتمكنوا من الوصول إلى النتيجة المرجوّة. إذا كان الدماغ نفسه لا يعطي النتيجة نفسها، ألا ترين أنّ هناك [أشياء] آخر غير الجينات وبنية الدماغ يرتبط بآلية عَمَلِ القدرات؟ وإذا اكتشفنا تلك [الأشياء] الأخرى، ألا يعني ذلك أنّه يمكننا منح [وحدات معالجة] —ليست أدمغة بشرية— قدرات خاصة؟ ما أسأله هو...」

متجاهلةً دمها الذي تناثر على خدها، أوقفت إسعافها الأولي فجأة وقالت، 「هل ظهور القدرات لازمة مع وجود دماغ بشري؟」

شهقت شيراي.

كانت الأفكار المبنية على النظرية الكميّة متجذّرة بعمق في تطوير القدرات في مدينة الأكاديمية؛ إذ تقوم القدرات بعمليات قياس وتحليل للواقع باستخدام معالجة وتشويه مقصود لآليات اتخاذ القرار، وهو يُعرف باسم "الواقع الشخصي". ثم، استناداً إلى النتائج، تُحدِث القدرات ظواهر معيّنة عبر تغيير احتمالات [العالم المجهري] بشكلٍ غير طبيعي.

「ما الذي...تهذرينه؟」 لكن شيراي لم تستطع منع نفسها من السؤال. 「المناهج الدراسية في مدينة الأكاديمية...أليست ثمرة أبحاث الدماغ؟」

「إي نعم، لكن...المعالجة الخاصة بكل تلك الظواهر—أقصد فعل [رَصدِ] الهدف—هل يلزم أن تكوني إنساناً لتفعلي هذا؟」 قالت ذلك بلهجة تنم عن سرور. 「فعلى سبيل المثال، حتى النباتات تستطيع قياس الضوء. بعض الأوراق والزهور تُغلق في الليل. فهل لكِ أن تقولي أنّ تلك النباتات لا تقوم بقياس العالم من حولها؟」

حاولت مُسُجيمي إغلاق الجرح في كتفها، لكن تنورتها قد صارت مزرية وغير صالحة للاستعمال. لذا، خلعت سترة الشتاء التي كانت ترتديها على كتفيها، ومزّقت قطعة من كمّها الطويل، واستخدمتها كضمادة.

(ورطة)

حالما تنتهي مُسُجيمي من علاجها المؤقت، ستفعل شيئا. لكن الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام شيراي لإعاقة ما تنويه كانت الهجوم بالكلمات.

「هـ-هذا هراء. هل تسمعين نفسك وأنتِ تتكلمين؟ إذا كان التفاعل مع الضوء هو كل ما يلزم، فأنتِ تقولين إنّ الصور الفوتوغرافية والملصقات التي بهت لونها بفعل الأشعة فوق البنفسجية يمكنها أيضا [رصد] العالم. الأساس في القدرات هو ما تفعلينه بتلك المعلومات. لهذا تخوض مدينة الأكاديمية في موضوع [الواقع الشخصي]، الذي يختلف من شخص لآخر. ما هو مميّز ليس حواسنا الخمس، بل قدرتنا على معالجة العالم من حولنا」

لم تُبدِ مُسُجيمي الكثير من الانفعال تجاه تلك الكلمات أيضًا. أخذت الحزام الذي كان كشافها متدلّياً منه وحاولت لفّه حول آخر جرح في جانبها، لكن الحزام السميك المصنوع من صفائح معدنية لم يسمح بذلك. وعوضا، أزالت قطعة القماش الزهرية التي كانت على شكل ضمادة حول صدرها، ولفّتها حول جانبها. ورغم أنّهما من نفس الجنس، فإن مُسُجيمي لم تُظهر أي تردّد في كشف صدرها أمام غريبة. أقصى ما أبدته كان شيئاً من الاعتذار وهي تلتقط سترة الشتاء ذات الكمّ الممزق لتغطي بها صدرها العاري.

「تقولين إنه لا يمكن استخدام القدرات من دون [درجة عالية من نشاطٍ عقليٍّ بشري]؟」

「نعم」 أجابت شيراي، رغم أنّ في قلبها شعورًا بالارتباك. كانت تعرف أنّها تُساق في الحديث. وعدم مجادلة مُسُجيمي أكد ذلك.

「فماذا عن النمل؟」 تابعت مُسُجيمي. 「يتحرك النمل في جماعات، ويستخدمون علم النفس الجمعي ليبنوا المستعمرات ويأمنوا الغذاء. يأخذون العسل من كائنات أخرى تُسمّى المنّ، ويطردون الدعسوقيات—ذلك شكلٌ بسيط من التكافل. أو شكلٌ بدائي من التفكير إن شئتِ القول... إذا ترين أن بنيتهم العقلية شاذة، فأنتِ بذلك تنكرين طريقة تفكير أشخاص يشبهونك تماما. الفارق مجرد فرقٍ في المستوى」 قالت وهي تتحقق من أن القماش على جرحها لن ينفكّ.

「ما أنتِ إلا تدققين في تفاصيل لا أهمية لها...」

「أدقق في تفاصيل؟ حتى هم لهم مجتمعٌ فيه تقسيم للعمل وفق البنية الجسدية—ذكورٌ وملكاتٌ وعُمَّال. فهل تنكرين قدراتهم على التواصل بقرون الاستشعار أو الأعضاء المضيئة حسب نوعهم؟ فإن كنتِ، فما هي الدرجة العالية من النشاط العقلي البشري؟ حتى الحشرات تملك أخلاقيات وقِيَماً. النملة الأم تحمي بيوضها كما نحمي نحن أطفالنا」 ابتسمت مُسُجيمي أواكي ابتسامة رقيقةً، رقيقةً رقيقة. 「حتى النمل يستطيع قياس (رصد) الظواهر」 وتوقفت لحظة هنا. 「كمثلنا يفعلون. فمن أنتِ لتقرري أيّنا يدرك هذه الظواهر بشكلٍ صحيح؟ كيف لكِ أن تجزمي بأنهم لن يتمكنوا أبدًا من استخدام القدرات؟」

شعرت شيراي كُروكو بقشعريرة تسري في كامل جسدها. رجفة واحدة، تُهدّد بنفي أساس وجودها إسبرة. ونظرت إلى الشيء الذي كانت مُسُجيمي أواكي تتكئ عليه.

「ألا تظنين أنّه قد يكون هناك الكثير من الأشياء المساوية للبشر أو حتى تفوقهم؟ إذا لم يبدُ الأمر كذلك لكِ، فلعله يكون غرورًا بشريًا」 ابتسمت مُسُجيمي ببطء، ثم مرّرت أصابعها على الحقيبة. 「إذا غيّرتِ منظوركِ قليلاً، فلربما تدركين كم أنّ مثل هذا الشيء قريب. نعم... قريبٌ جدًّا جدّا」

سطح الحقيبة لمع بحدة مع انعكاس الضوء.

البقايا.

النواة المعالِجة من السليكونكُرندوم.

المخطط الشجري.

دماغ اصطناعي أكثر كفاءة من دماغ الإنسان، وأكبر منه، وأعقد منه...ولكنه أقل مرونة بقليل.

「شيراي كُروكو-سان، تعلمين كيف نقول أحياناً إن للأشياء "عقلاً تُسَيّرها"؟ إن كنتِ متشبثة برأيكِ إلى هذا الحد بأن البشر يتربعون القمة، فسأقول لكِ إنكِ خيبتِ أملي」

قياس الطبيعة...حتى النمل قادرٌ عليه.

القدرات الخارقة يمكن أن تظهر طالما "العقل" موجود.

وإذا لم يكن البشر شرطًا أساسيًا...

...إذن، فإن ذلك سوف...

حدّقت شيراي كُروكو في الحقيبة التي كانت مُسُجيمي أواكي تتكئ عليها. 「أأنتِ...جادة؟ أتقولين إن قدرات مثل قدراتنا قد ظهرت في أعماق ذلك الحاسوب العملاق؟ هل تصدقين هذا حقاً؟ هراء—تزعمين أن للآلات عقولا」

ومع ذلك.

ورغم ذلك، تساءلت شيراي. هل النظام الفعّال المسمى "العقل البشري" ضروري حقاً لـ [رصد] الواقع وتحليله من الأساس؟

لم تغضب مُسُجيمي بعد. 「حسناً، نعم. عَلّه تكون مبالغة. ما الآلات إلا آلات في نهاية المطاف. حتى لو أخذنا ذكاءً اصطناعياً يضبط اهتزاز الكاميرة والتعرض الضوئي مثلاً، وقدمنا له ظاهرة ما، فإن أقصى ما يستطيع معالج البيانات فعله هو ترتيب وحدات البكسل للمعلومات الضوئية على الشاشة. معالجة البيانات تسير في اتجاه مختلف تماماً عن قياس الظواهر من الأساس」 بدا وجهها في غاية الاسترخاء. 「وكذلك أيضًا، صحيح أنه لم يُكتشف أي شكل من أشكال الحياة الحيوانية أو النباتية القادرة على استخدام القدرات. ولا نعلم إن كان هناك مثل هذا الشيء، ولكن...」 ثم مررت يدها مجدداً على الحقيبة. 「بهذا، سيمكننا التنبؤ بذلك. باستخدام آلة المحاكاة المطلقة، القادرة على إعادة إنتاج أي ظاهرة بدقة تامة، سنتمكن من رؤية أي شيء وكل شيء: احتمال وجود مثل هذه الكائنات في عالمنا، ومسار تطور المخلوقات بعد عشرة آلاف عام من الآن. لهذا السبب سأجمع أجزاء هذه [البقايا] وأحصل على [المخطط الشجري]. عندها سأطرح عليه كل الاحتمالات تحت الشمس—حول ما إذا كان بإمكان أي كيان أن يستخدم القدرات غير الإنسان」

كان في عينيها بريقٌ غريب. رأت شيراي أنه وهم.

「إذن لهذا...تواصلتِ مع منظمة خارجية...؟」

「نعم. قد تكون [البقايا] ذات قيمة بحد ذاتها، لكن لا يمكنني إصلاحها وحدي. احتجتُ إلى مجموعة تملك المهارات والتقنية والمعرفة، ويشاركونني هذا الهدف بالتحديد」

ابتسمت مُسُجيمي أواكي.

كان من الصعب على شيراي أن تصدق أن تلك المنظمة غارقة في أفكار مُسُجيمي. على الأرجح لهم أهدافهم. فالكثير من الناس سيرغبون في [المخطط الشجري] إذا اطلعوا على مواصفاته.

「شيراي-سان، كيف كان شعوركِ عندما حصلتِ على قدرتكِ أول مرة؟」

لم تستطع شيراي الحركة، لكنها بالتأكيد استطاعت الكلام. ومن تحت الطاولات، أجابت كما لو أن الأمر بديهي، 「مـ-ما يهمك؟ كان الكبار وقتها متحمسين، لكن بالنسبة لي أنا التي حصلت على القدرة، ما كنتُ متفاجئة. كان طبيعيًا بالنسبة لي」

「هذا صحيح」 توقفت مُسُجيمي لحظة. 「أما أنا، فقد خفتُ كثيرا،」 قالت وكأنها استذكرت ذكرى من الطفولة. 「كنت خائفة مما يمكن أن أفعله بهذه القدرة. وعندما تأكدت مخاوفي، أصبحت كابوسًا أعيشه. إعرفي يا شيراي-سان. كنت أخاف مما حصلت عليه أكثر من أي شيء آخر في العالم. فبها أمكنني قتل إنسان بمجرد فكرة طائشة」 وفي هذه اللحظة، لم تعد الفتاة ترتجف من ذكرى الماضي. 「وما كنتُ مُخيّرة في الأمر. كنا نحن من امتلكنا القوى. وبنا ستُجرى الأبحاث فيها وتُحَلّل في مختبرٍ لن نراه أبداً ثم تُستخدم لفائدة العالم. لهذا كان عليّ الاحتفاظ بهذه القوة. ونوعا ما تَحَمَّلتُ، ولكن...」

ابتسمت مُسُجيمي—ابتسامة أخذت تشق وجهها ببطء، مثل مثلجات تذوب.

「إن لم أكن الوحيدة التي تمتلك هذه القدرة، لما كان هناك داعٍ أن أمتلكها منذ البداية. وفرضًا يا شيراي-سان، إن لم يكن على الإسبر أن يكون إنساناً، فلماذا تُمنَحُ القدرات للبشر؟ إن لم يكن عليّ أن أكون [أنا]، فلماذا منحوها لي أنا تحديدًا؟ شيراي-سان، كنتِ قد تناسيتِ الأمر في مرحلة ما، معتبرةً إياه طبيعيًا. وغير الكبار، أولئك الأطفال الأسابر الذين كانوا معي آنذاك فكروا بالمثل. أخذوا من المبنى غير المكتمل درعا، لكنهم كانوا أول من أعطاني الفكرة. وقبل أن يفقدوا الوعي، ابتسمتُ لهم ببساطة وقلت أن يعتمدوا علي ويتركوا الأمر لي」

「...」

كثيراً ما سمعت شيراي قصصًا عن أطفال من المستوى صفر، الذين لم يتمكنوا من الحصول على قدرة مهما حاولوا، وهم يتحولون إلى جانحين ومجرمين صغار. لكن الأمر هنا كان مشابهًا. حتى أولئك الذين حصلوا صدفةً على قدرات قوية، قد لا يستطيعون التكيف معها. كانت القدرات الخارقة أشبه بوحوش الكايجو في الأفلام. إذا أردتَ أن تعيش بين الناس، كان عليك أن تسير دائمًا على أطراف أصابعك، وأن تتحرك بحذر شديد طوال الوقت. فإذا خطوتَ خطوة كبيرة وحرة، ستأخذ معك المباني. في الواقع، القدرة على استخدام القوة الكاملة لقدر على مستوى الريلڠن كان أمرًا نادرًا. لقد كانوا يعيشون حياة تفرض عليهم ضبط النفس باستمرار تحت ضغط خارجي. ومن وجهة نظر، كانوا مكبّلين بالأصفاد والقيود.

「ألا ترغبين في المعرفة؟ أوكُتِب علينا هذه القدرات؟ ألا تريدين أن تعرفي إن كان من سبب لوجودها؟」

فتحت مُسُجيمي يديها برفق—كما لو كانت تدعو شيراي إليها.

「ولستِ استثناء. قد آذيتِ أحدًا بقدرتك من قبل. ولا بد أنكِ تساءلتِ لماذا حصلتِ على مثل هذه القوة」

كأنما تعانقها—كأنما تجذبها.

كأنها لم تُنهِ أمر شيراي كُروكو بعد، فقط لتقول لها هذه الكلمات التالية.

「لكنني أفهمك. أنتِ مثلي. عندما تُغمضين عينيك، تفكرين في من آذيتهم. ولهذا...」

كما لو تغني. كما لو تهمس في أذن عزيز.

كما لو أن مُسُجيمي لم تكن تنوي أبدًا قتل شيراي كُروكو بادئ الأمر.

「أفهم آلامك. أكثر من أي شخص آخر. ولهذا، أعرف كيف أجد طريقة لأزيلها. ما رأيكِ يا شيراي؟ أدعوكِ لمعرفة الحقيقة معي」

فضح وجهها عن رغبتها في إلقاء هذه الخطبة الطويلة، رغم خطر وصول ميساكا ميكوتو.

وربما كان ما قالته مُسُجيمي شيئًا يسأله كل إسبر مرةً في عمره.

كشخص قاتل في هذه المدينة مستخدمًا قدرات خارقة، كان هناك أمر لا بد وأنها فكرت فيه.

إلى أي مدى تستطيع أن تؤذي خصمك بقدرتك؟

كم من الضرر تستطيع أن تلحقه؟

هل سيتألم؟ هل سيعاني؟ هل قد يتحطم؟ هل سيُشَل؟ هل سيُسحَق؟ هل تطرحه أرضاً؟ هل تقذفه بعيداً؟

وبعد أن ينتهي كل ذلك، ستشعر فجأة بقشعريرة.

لماذا امتلكَتْ شيئاً كهذا؟

وكانت لتسأل.

هل كان عليّ أن أشعر بتلك القشعريرة؟

لماذا لا أتواصل مع منظمة خارجية وأعيد بناء [المخطط الشجري] لأجد الإجابة؟

صرّت شيراي أسنانها.

السبب الذي مُنحت من أجله قدرتها.

والسبب الذي قد يسهل عليها تقبل ألا تُمنح إياه أصلاً.

شعرت بأن أساس ما قد شيّدته لدعم عقلها يهتز، فقالت،

「سوف أرفض منكِ هذا الاقتراح」

رغم كونها مسحوقة تحت كومة من الطاولات، رمقت مُسُجيمي بنظرة حادّة وتكلّمت بصوت خفيض ينضح بالتهديد.

「كنت أتقرب منكِ أي قولٍ عظيم ستنطقين بعد أن سبّبتِ كل هذه الفوضى. ويا أنكِ أحبطتني. أونيه-ساما دائمًا ما تؤكد على مدى بؤس حال الأشرار」

「ما...قلتِ...؟」

「إياكِ عنكِ، لا تنصدمي من أمرٍ بهذه البديهة. أحسبتِ أن حديثك السكرانَ هذا يكسب شيراي كُروكو إلى صفك؟ بدوتِ مرتاحة طيلة هذا الوقت. لا بد أنكِ كنتِ تحت انطباع أنني قد أتعاطف معكِ، ثم أقنع أونيه-ساما معي، لا؟ أه، أم هل تُرى أن كل ما أردته حقًا هو أن تشعري ببرودة نظراتي عليكِ وترتعشي؟ هِئ، لا أهتم،」 وأضافت، 「حيوانات؟ تطوّر؟ احتمالات؟ هاء! أتظنين أنها مهمة؟ لنقل أنكِ انتقيتِ وربَّـــيتِ بعض النمل الصغير حتى حصل أحدها على قدرة إسبرية. كيف يغيّر ذلك أي شيء فينا؟」

「ألا تفهمين؟ لو أمكن أن تمنح القدرات لكائنات أخرى، لما اضطررنا أن نكون وحوشًا خارقة! ولو لم يكن علينا أن نحمل قدرات خطيرة كهذه، فما—」

「فما وما، كله هراء! واسمحي لي أن أكون صريحة. كنت أسألكِ، بغض النظر عن الاحتمالات، كيف سيغيّر ذلك حالنا نحن الذين أصبحنا فعلا أسابر

「...」

「لو كنتِ تسعين لاحتمالٍ من أجل الأجيال القادمة، لربما تأثرت حتى الدموع. لكن ماذا سيجلب عرض احتمالٍ مختلف علينا نحن الذين أصبحنا أسابر؟ وفوق ذلك،」 استهلّت الحديث، وشدت قبضتها على الأرض بيدها الخارجة من بين الطاولات، 「قولكِ إن الإسبر يؤذي الناس ما هو غلا دليل على الهزيمة. لو كانت لدي قدرتكِ، لكنت أصلحت الجسور أو أي شيء أنفع به الناس. وكنت لأرافق الناس العالقين في المجمع التجاري تحت الأرض إلى السطح. إذا أردتِ أن تمارسي قدراتكِ إلى أقصاها، فتفضلي. فقط إلى حدٍّ لا تسيئين استخدامها」

مع صريرٍ، اهتزّت كومة الطاولات قليلًا.

شدّت شيراي كُروكو أسنانها، تحاول حشد كل ما تبقى من قوة في جسدها المملوء بالجروح وقالت، 「من وجهة نظري، فإن تسميته هراءً وسفسطة هو إطراء أكثر مما يستحق. تخافين من القوة؟ لا تريدينها لأنكِ قد تؤذين بها أحدًا؟ هذا ما تنطقينه، لكن أيّنا نحن هي الحمقاء التي جرحت الآخرين؟! إذا أردتِ أن تعرفي ما إذا كان ما تفعلينه صوابًا أو لا، فانظري إلى جروحي! وهاكِ جوابك!!」

تأرجحت الطاولات الكثيرة التي تسحق الفتاة وتمايلت. غرست قدميها في الأرض. شدّت كل عضلة في جسدها طلبًا للقوة فوق الدم الذي يتدفّق من جروحها.

「هل تصدقين حقًا أن امتلاك قوة خطيرة تجعل الناس يظنون أنكِ خطيرة؟ أما فكرتِ يومًا كيف أن القوة العظيمة تأتي مع مسؤولية عظيمة؟ أنتِ يا آنسة، أم البلاهة! لا تجرؤي وتعتقدي أن أونيه-ساما أو أنا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم بهذه السهولة!! قد كَدّينا وبذلنا الجهد والوقت نفكر مليًّا فيما يسعنا فعله بقدراتنا قبل أن نتصرف! وما أدركنا ذلك حتى صنعنا لأنفسنا مكانًا في هذا العالم اليوم!!」

تزلزلت جبال الطاولات واهتزت بعنف. رفعت شيراي كُروكو قوتها، محاولةً أن تتخلص من الضغط الشديد المنهال عليها.

「خذي وانظري لِكَم ركضت أونيه-ساما في الخارج! لو أرادت أن تستخدم الريلڠن بكامل قوتها، لصارت هذه المشكلة التافهة من الماضي في لحظة! السبب الوحيد الذي جعلها تتخلى عن أبسط الحلول هو لأنها لا تريد أن تنتهي هذه المسألة بمأساة دامية!! هي تعرض نفسها للخطر من أجل ذلك!! وأنا أريد أن أساعدها لأنني حليفتها، لكن حتى أنتِ، وأنتِ عدوها، غبية لدرجة أنها تريد حقًا أن تنقذك أيضًا! وهذا بالضبط هو السبب الذي يجعلني أناديها أونيه-ساما!!」

تحوّل اهتزاز كومة الطاولات وصريرها إلى جلبة صاخبة.

وبدأت تسقط.

كل ذلك الثقل الذي كان يضغط عليها بدأ ينهار.

「وإنما أنّ كل ما تقولينه حقًا هو أنكِ إسبرة موهوبة، وكل من سواكِ ليس سوى من الحشود المتواضعة—تفرّين بعقلكِ القذر المتعالي المفضوح! سأشرع الآن وأغرس بعض المنطق في أحشائك الفاسدة. وحين تهزمك وضيعة، عندها ستعترفين بمدى وضاعتك! ولأعيدنكِ إلى الحشود الوضيعة التي جئتِ منها وتكبّرتِ!!」

وقفت شيراي كُروكو.

جسدها وثيابها تزلجّت بالدماء الجارية من جروحها المفتوحة. أخذت بلا اكتراث مصباحًا أرضيًا طويل كان قريبًا وأمسكته إلى جانبها. لم تستطع يداها المتدليتان بعد الآن استخدام الانتقال الآني.

لكن...

فماذا؟

كان تعبير شيراي يصرخ، 「ولَأكسرك مهما اختلفت قدراتنا」

بصمت، أعلنت أنها لن تهزم عدوّها بمهارة مذهلة...

...بل لأنها تواجهه لسببٍ أقوى من ذلك.

تحركت شيراي كُروكو إنشًا.

مُتقدِّمَة.

خطوة، خطوتان، ثلاث.

كل ما فعلته أنها تمايلت وتحركت بصعوبة، غير قادرة على الحفاظ على توازنها، غير قادرة حتى على رفع المصباح أمامها، بل تسحبه خلفها.

ومع ذلك، دفعت قوتها مُسُجيمي إلى التراجع.

وخرجت من الأخيرة عَويَةٌ خفيضة 「ءِهـ」.

شيراي قوية.

في الجوهر قوية بطريقة مختلفة، ولا يهم عما إذا امتلكت قدرة خارقة أم لا.

تراجع جسد مُسُجيمي أواكي، مع سترتها الممزق كُمِّها على صدرها، وحاولت الهرب. أمكنها التحرك أكثر كفاءةً بقدرتها موڤ پوينت، لكنها نَسِيَت. لم تستطع إجراء الحسابات وسط كل الذعر والخوف. لم تعد عيناها تنظران إلى الواقع — بل إلى صورة شيراي كُروكو تمشي ببطءٍ مُقتربة.

—سأخسر.

ما كان لمُسُجيمي أواكي أيُّ أساس لذلك.

—سأخسر. ليس من منطق. بل حقيقةٌ مطلقة. سأخسر.

شيراي كُروكو قد وصلت أمامها. رفعت مُسُجيمي رأسها وهي على الأرض جالسة، ورأت شيراي تشزر فيها.

ارتفعت يد شيراي ببطء.

أمسكت بالمصباح كعصا بيسبول، ترفعه بارتباك فوق قرنَي شعرها.

كان سلاحا عظيم.

لِمُسُجيمي موڤ پوينت، لكن ما جسدها إلا جسد طالبة في الثانوية.

حدث ارتطام خافت.

وقبل أن تدرك، سقط الكَشَّاف من يديها على الأرض.

مُسُجيمي صارت تؤمن أنها خاسرة.

مُسُجيمي أواكي، إسبرة الموڤ پوينت، ما كانت لتنتصر أبداً على شيراي كُروكو التيليبورت.

ومع ذلك.

ومع ذلك.

وَمَعَ ذلك.

بعد تفكير أعمق، ربما كان هناك شيء واحد كان على شيراي كُروكو أن تحذر منه منذ البداية.

لمجرد أن مُسُجيمي إسبرة، لا يعني أن قدرتها هي سلاحها الوحيد.

ولعل شيراي أدركت هذا ما إن علمت أن مُسُجيمي تواصلت مع رجال من منظمة خارجية.

التعاون معهم يعني احتمال أنهم زودوها بسلاح.

طاخ!

شيراي كُروكو، تحمل المصباح الأرضي مرفوعاً عالياً فوق رأسها — وبعبارة أخرى، جسمها بالكامل مكشوف — نظرت ببطء إلى خصرها.

فتحة داكنة حمراء انفتحت في بطن زيها الرسمي، وسائلٌ ذو لون غريب تقطر منها. بعد لحظة، تحطمت النافذة خلفها التي كانت تعرض منظر المدينة الليلي إلى قطع صغيرة.

مع تراجع فعالية المكيف، دخل هواء الليل الدافئ إلى الداخل.

مالَ جسد شيراي أطرافا.

بدا وكأن ثقل المصباح غلب عليها فسقطت على الأرض.

「هَئ...」 ضحكت مُسُجيمي أواكي، ويدها اليمنى ترتجف بشدة. تصاعد الدخان الأبيض من المسدس الذي كانت تحمله يدها. 「هَئهَئ...」

تمكنت من إسقاط شيراي كُروكو عندما جاءت نحوها.

ولكن في الوقت نفسه، اضطرت مُسُجيمي للاعتراف بأمرٍ واحد.

لا علاقة لهذا بقدراتهما.

حتى الآن، كانت تعتقد اعتقادا أن إيذاء الناس أمرٌ حتم نتيجةً لقوتها الوحشية. لكن ما لهذا علاقة بموڤ پوينت. مُسُجيمي أواكي كانت قادرة على إيذاء الآخرين حتى من دون استخدام قدرتها. الشر الحقيقي، في النهاية، لم ينبع من قدرتها—بل من هي نفسها.

الشر الحقيقي، في النهاية...

جفت شفاه مُسُجيمي، وجفّ لسانها، وجف حلقها. حاولت أن تنطق شيئًا، لكن صوتها خانها. لذا سَلَّمت استنتاجها بصمتٍ.

الجذر الحقيقي لكل شيء.

الذي كان يؤذي الآخرين من حولها.

مصدر اللون الأحمر المتناثر أمامها.

ضعفها—بحثًا عن الراحة بأن ترمي اللوم على قدرتها البائسة.

استرجعت مُسُجيمي أواكي الذكريات.

إلى الأسابر الذين شاركوها نفس الإيمان. إلى حلفاؤها الذين خافوا من قواهم الرهيبة، يقاتلون بحثًا عمّا إذا كانوا بحاجة فعلاً لتلك القوى. إلى أولئك الذين توسّلوا إليها أن تستخدمهم دروعا يحمونها من هجمات برق ميساكا ميكوتو.

آمنت مُسُجيمي أنها مثلهم.

لكن إيمانها كان مختلفًا عن الجواب الذي توصلت إليه.

هي...

...وقفت معهم فقط بأن تخدعهم.

حتى لو استخدمت [البقايا] وأعادت صنع [المخطط الشجري]، حتى لو تحققت في إمكانية وجود قوى لا يعرفها أحد، كل شيء كان يسير بالضبط وفقًا لخطة مُسُجيمي.

أما جوهرها فلن يتغير أبدا.

ذلك الجزء القادر على إيذاء الآخرين—سيبقى معها إلى الأبد.

「هَه، آه... آه، غاهـ. غااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااههههه؟!」

احتضنت رأسها بيديها، وانحنت للخلف، وصرخت صرخة.

رمت السترة التي كانت تسترها، دون أن تلاحظ حقيقةً بسيطة وهي أن نصفها العلوي كان عاريًا مكشوفا.

وبإصبعها السبابة لا يزال على زناد المسدس، رغم إمكانية إطلاق النار عن طريق الخطأ مرة أخرى — أخذت تمزق شعرها بيديها، غير مدركة حتى لمثل هذا الاحتمال البسيط. تصرخ وتزمجر، وعضلات وجهها تتلوى وتتشوه، كما لو كانت تريد طرد كل ما كان مكبوتًا في أعماق بطنها.

وجاء زئير مدوٍ آخر.

بينما كانت مُسُجيمي جالسة على الأرض تمزق شعرها، في عنفها أطلقت الزناد عن طريق الخطأ. كان المسدس يشير للأعلى، واشتعلت شرارات من فوهته، أطلقت رصاصة نحاسية باتجاه السقف. ارتطمت به دون اختراقه، ثم أصابت الكَشّاف على الأرض، فثنتهُ وقُذِفَ بعيدًا. لكنها لم تكترث لمثل هذه التوافه.

「غه، آه!! أءه، ءهـ، آه، آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااهـــــــــــــــه!!」

مُسُجيمي، ووجهها مشوه كوحش، وجهت مسدسها نحو شيراي.

سحبت الزناد فلم تشعر بردٍّ فعل من زنبرك المسدس. كان الصوت الوحيد هو نقرة فارغة وكأنها تسحب الهواء بين أصابعها.

「ؤؤه، آه. هى، هـ؟」

تلوى رأس مُسُجيمي.

ونظرةٌ ليدها اليمنى بَيَّنت لها أن يدها كانت على شكل إمساك المسدس — لكن المسدس نفسه لم يعد موجود.

سمعت صوت رقيق وصليل من بعيد.

فإذ بالمسدس فجأة سقط على الأرض على بعد خمسة عشر متراً إلى جانبها.

موڤ پوينت.

بالطبع، مُسُجيمي أواكي لم تكن تحاول أن تشوه مسدسها بنفسها. المسدس طار من يدها لا شعوريا منها. استغرقها برهة من الثانية لتدرك السبب.

ومن تلك اللحظة، انفجرت قدرتها.

اجتاح زئيرٌ الأصداء.

كل شيء في نطاق خمسة أمتار من مُسُجيمي — الكراسي، الطاولات، الشوك، السكاكين، النباتات، القوائم، المناديل، الصحون، الأمتعة — تفجّر وطار. كل هذه الأشياء عبرت الفضاء وانتقلت متتاليا باستمرار في دائرة نظيفة ومُسُجيمي في مركزها. وبينما كانت الطاولات والكراسي في الدائرة تنتقل فوقها مباشرة، كانت هناك العديد من الانفجارات الأخرى بسبب تحطمها في أشياء أخرى انتقلت إليها عبر القدرة. لا يمكن نقل أسابر آخرين يملكون نفس القدرة. لو لا هذه القاعدة، لكان من الممكن أن تُقذف شيراي فوق الدائرة مع باقي الأشياء.

「...」

مُسُجيمي بغرابةٍ وبلا تعبير ضغطت سبابة يدها بخفة.

عاد المسدس إلى يدها في تلك اللحظة، لكن ملعقةً عالقة في منتصف فوهته. بدا أن بعد أن نقلت المسدس عبر موڤ پوينت، كانت قد نقلت ملعقة عليه. حتى الهاوي كان ليدرك أن المسدس لم يعد صالحًا للاستخدام.

نظرت أعلاها لترى كل الأشياء فوقها في الدائرة تتحرك وتتلاشى مرارًا وتكرارًا كالعاصفة. العملية كانت تغلف الأجسام فوق بعضها، تحطم بعضها، تدمر البعض الآخر، ثم تعيد شظاياها إلى العاصفة.

حتى لو لم تستطع استخدام قدرتها، فذلك هو الحال. رمت المسدس بغضب جانبًا دون تشغيل الأمان. فانفجر المسدس من الداخل، ناثراً قطعه في كل الاتجاهات، لكن مُسُجيمي لم تعد تهتم.

العاصفة الدائرية المحيطة بمُسُجيمي توقفت فجأة.

الشظايا والأشياء التي كانت تنتقل باستمرار حولها توقفت جميعها وسقطت على الأرض دفعةً.

「سأقتلك...」

بصوت مُنخفضٍ مُلتويٍّ مُشوّه.

وتجمّع العرق على صدر مُسُجيمي كما لو كان دهنًا يُقلى عن قطعة لحم.

「سأقتلك! أنتِ، أنتِ!! كيف تجرؤين على تحطيمي!! لولاكِ أنتِ، لكنت تجاوزت هذا كله!!」

شيراي، منهارة على الأرض، ابتسمت ابتسامة ضعيفة على هذا العذر السخيف. زحفت مُسُجيمي فوقها ووجهها بالغضب مليء، وفكرت أن تخنقها.

لكن فجأة، نظرت إلى الأعلى.

「هَه. هَهَهَه!! يا لخيبة أملكِ يا شيراي-سان!」 كانت تسمع صافرات سيارات الأنتي-سكِل عن بعد — لقد لاحظوا الضجة. 「لن أعطيك وعدا ساذجا بأن أقتلك المرة القادمة. بل اليوم أقتلك. ويمكنني أن أُنهيك في أي مكان أكون، وحيثما أريد. لأنني أسمى، وما أنتِ إلا دون」

نقرّت مُسُجيمي لسانها وارتعشت قدماها. 「...قال لي العلماء إن أكثر من ألف كيلوغرام يجهد جسمي، لكن مع موڤ پوينت أستطيع أن أنقل حتى 4,520 كيلوغرام. ويمكنني أن أهدم عليك المبنى كله حتى وأنا أهرب」 تحدثت بصوت منخفض جداً. 「هِئهِئ، سأدمر كل شيء لكِ. لقد حطمتني، فلَأرُدَّ لكِ الجميل، شيراي-سان. سأهدم هذا المبنى كله عليك. وأتساءل ما سيكون عليه شكل جسدك من بعد؟」

لا رد على صوت مُسُجيمي. شيراي تحدق في السقف وكأنها قد ماتت. بصقت مُسُجيمي على الأرض. ثم، وبحثًا في المكان، التقطت السترة ذات الكم الممزق، ولفتها على ظهرها، ثم وجدت الحقيبة ذات المقبض المكسور—

「أوه...لا زلتِ تحتاجينها؟」

「!」

استدارت مُسُجيمي نحو الصوت لتجد شيراي كُروكو تضحك. رغم كل جروحها وكدماتها، كانت شفاهها تبتسم بسخرية، وكأنها تقول إن كل ذلك لم يكن كافيًا لإيقافها.

ركلت مُسُجيمي شيراي بقوة على جنبها. لم تنتظر لترى الدم الذي ينبثق من الفتاة؛ بل أمسكت الحقيبة وعيونها محمرة. مع انفصال هدفها ومنهجها، تجاهلت حتى العواقب والمستقبل.

لا يزال وجه مُسُجيمي مشوهًا، لكنها اختفت في الهواء مع الحقيبة.

ولكنّ شيراي كُروكو لم تعد تستطيع التنقل.

لو بقيت هنا على هذه الحال، ستتعرض لهجوم مُسُجيمي القادم قريبًا.

وزن أقصاه 4,520 كيلوغرامًا.

على ما يبدو، استخدام قوتها الكاملة يؤذي جسدها، لكن بالمقابل، يمكنها سحق شيراي والأرض تحتها. ولن يتوقف الأمر عند هذا. إذا دمرت الأرض، فمن المؤكد أن المبنى بأكمله سينهار كبرج متداعٍ.

عليها أن تبتعد.

أي إنسان آخر كان ليتخذ نفس القرار، لكن شيراي لم تستطع تحريك إصبع حتى.

(أونيه...ساما...)

همست شفاهها في الفراغ.

كانت بعيدةً بعيدة حتى تصلها المشاعر.

  • الجزء 3

كان الوضع كارثيًا داخل المطعم. النوافذ العملاقة تحطمت، والطاولات المرتبة جُرّت وانقلبت، وقوائم الطعام دُعست تحت أقدام الزبائن الفارين، والأطباق وأدوات المائدة ملقاةً مكسورةً على الأرض، والدماء في كل مكان متناثرة، ووسط كل الفوضى فتاةٌ ملطخة بالجروح على الأرض. وحيدة كانت لا زبائن ولا عُمّال. الضوء الأبيض الساطع والموسيقى الفرنسية الغريبة التي تنبعث من السماعات كانتا الشيئين الوحيدين المسيطرين على المكان. والمكيف لم يعد قادرًا على أداء مهمته الآن بعد تحطم النوافذ.

「...آغ...」

كانت شيراي كُروكو، المستلقية على الأرض مغطاة بالدماء، تحاول أن تستجمع قوتها في أطراف أصابعها. تحركت قُلَيلاً، لكن هذا كل ما استطاعته. لم تتحرك ذراعاها، ولم تتحرك ساقاها. لم تستطع النهوض، ولا المشي للخروج. لم تستطع حتى استخدام ذراعيها للزحف. فوق ذلك، ومن الضبابية في ذهنها، لم تستطع استخدام التنقل الآني.

(النهاية...؟)

مُسُجيمي أواكي قد هربت، لكنها على الأرجح لم تبتعد كثيرًا. المسافة المباشرة أو الزمن لم يكن لهما معنى كبير حين تهرب إسبرة آنية. السؤال كان مدى قدرتها على تمويه أثرها باستخدام امتيازها في تجاهل تدفق المرور وسمك الجدران.

وعلاوة على ذلك، مُسُجيمي تخشى بشدة فكرة تشويه جسدها بتلك القدرة. لذا كانت تختار نقاط التنقل بعناية فائقة لتقلل من عدد قفزاتها إلى الحد الأدنى. ولذلك وفي الوقت الراهن، ستكون مختبئة في مكان آمن، تبني مسارًا يضمن لها الأمان التام.

وقد أعلنت أنها ستقتل شيراي بالتأكيد. وأنها ستسحق الفتاة المحتضرة بقوتها القصوى التي تبلغ 4,520 كيلوجرامًا.

لم تعرف شيراي متى سيأتي ذلك. ربما بعد خمس ثوانٍ، ربما بعد خمس دقائق. لكنها لم تظن أنها ستأخذ خمس ساعات أو خمس أيام.

مهما كان الأمر، ما لم تخرج من هنا، فهي محكومة بالموت.

(هذا...الأسوأ...)

شعرها الملطخ بالدماء التصق بخدها ودخل فمها.

(هذه مأساة...أن تتركي العدو حيًا، وتنتظري هلاكك، ولا تكتفين بذلك بل جعلتيها أكثر حماسةً وجنونًا حتى فقدَتْ السيطرة على قِواها. كم من الناس ستعتذرين إليهم يا شيراي كُروكو حتى يُغفر لك؟)

ظهر في ذهنها فتاةٌ واحدة فورًا في مقدمة قائمة من يجب عليها الاعتذار لهم.

ميساكا ميكوتو.

لم تربطهما أي ظروف من الماضي—لم يكونا صديقتين منذ الطفولة، ولم تكن عائلتاهما تتواصلان. تعرفت شيراي عليها بعد دخولها مدرسة توكِوَداي الإعدادية... أي منذ أبريل الماضي فقط، ولم يكن بينهما أي اتفاق خاص. في البداية، كان الأمر مجرد صدفة تواجدهما في نفس المدرسة ورؤيتهما لبعضهما البعض أحيانًا في نفس المبنى.

لكن هذا كان كافيًا لتتعلم شيراي. أكثر من كافٍ.

كل ما تعلمته شيراي كان بسيطًا.

اللطف—ليس شيئًا تُلبسه على نفسك مفخرةً، بل وسيلة تطمئن بها الآخر وتشعره بالراحة.

اللباقة—ليست شيئًا تفرضه على الآخر، بل أسلوبا لترشيد الآخرين.

العِلم—ليس شيئًا يتباهى به المرء، بل وسيلة لتصغي بها إلى مشاكل الآخرين.

الفخر—ليس لنفسك، بل يُكتسب أولا عند حماية الغير.

ليس وأن شيراي حضرت محاضرة مطولة في هذا الموضوع منها.

بل كانت ترى وتتعلم منها.

أن تُعامل هكذا، سواء أحبته أو كرهته، أفهمها مدى صِغَرها. في الوهلة الأولى، تبدو ميكوتو عنيفةً وعشوائية، لكن ذلك كان فقط لأنها تفهم كل هذه المفاهيم البسيطة وما زالت تبدو غريبة بسببها. حتى المشاجرات في الشوارع لها آداب مختلفة، بقانون شرف القتال ومثلها. وحتى الآن، كانت شيراي تعلم أن ميكوتو مختلفة تمامًا عنها—كل ما فعلته شيراي كان تقليدا، دون أن تفهم الأساسيات حقًا.

هي...

ميساكا ميكوتو...

...لم تكن لتقترف مثل هذا الخطأ الجسيم أبدا. كانت شيراي على يقين. ما هذه إلا وجهة نظرها الأنانية الفجة المتعجرفة وخارج نطاق الصورة، لكنها كانت تعرف أن الريلڠن ما كانت لتكون في خطر في أزمة من هذا النوع. بل ستبتسم وتواجه خصمها وجهًا، وتهيمن على المعركة دون أن تعطيه فرصة للرد، ثم تخرج من الموقف دون خدش واحد.

ستقف متحديةً مثل هذه المصيبة البسيطة.

مهما ساء الوضع وكان، ما كانت لتتراجع خطوة واحدة.

ستركض مباشرة نحو شيراي. وتحملها على ظهرها، رغم الجروح كلها. ولربما تلقي عليها بعض الكلمات التعزية. ثم تقفز من المبنى في اللحظة الأخيرة.

ولعلّها الآن آتية لتنقذ هذه الزميلة الغبية الراقدة على الأرض ها هنا.

فكرت شيراي كُروكو باسم ميساكا ميكوتو، وبوجهها.

ثم تبسمت.

(إيه، لعلي بالغت الخيال حتى ولو كانت من أونيه-ساما المثالية)

كانت سخريتها الذاتية المطمئنة مصحوبة بصرير شيء من حولها. بدا كأنه لوح زجاجي مضغوط.

(ها هو.)

لم يبدو وكأنه انتقال آني أو موڤ پوينت التي رأتها من قبل، لكنها مع ذلك عرفت.

خلال العشر ثوان القادمة، من المرجح أن وزنًا يبلغ 4,520 كيلوغرامًا سيعبر الفضاء ويظهر فوقها.

خارج النوافذ المحطمة، سمعت أصوات محركات السيارات والاضطراب نفسه كما من قبل. الفارق بين ذاك وهذه الغرفة، التي غلفها صمت مخيف—باستثناء موسيقى البوب الفرنسية الغريبة القادمة من السماعات، التي كانت تسبب لها شعورًا بالقشعريرة—أرغبها في الابتسام.

(لا أريد أن أموت)

وفي الوقت نفسه، وهي تعلم أن هذا لن يصل أبدًا، كانت تدعو بأقصى ما تستطيع إلى ميساكا ميكوتو.

إلى الريلڠن، التي ربما تكون تسرع إلى هنا في هذه اللحظة بالذات، بعد أن لاحظت الاضطراب.

(أرجوك...)

لم تستطع شيراي أن تتحرك البتة.

لكن بدعم من أحدٍ، أمكنها أن تخرج من هنا.

لو جاء الإنقاذ في هذا التوقيت...

لو جاء أحدهم من أجلها في اللحظة الأخيرة، كأحد أبطال القصص الخارقين القدماء المهترئة...

(أرجوك...)

هذا ما تمنته فتاة القرنين.

وفي آخر كل شيء، على بعد خطوة من النهاية الكبرى، في هذه اللحظة بالذات.

(ابتعدي...بقدر ما تستطيعين. أرجوك، لا تتورطي في هذا، أونيه-ساما)

تمنت شيراي كُروكو ذلك بشدة. لم يعد بإمكانها تفادي هجوم مُسُجيمي أواكي، الذي سيبدأ في أي لحظة الآن. حتى لو جاء أحدهم مسرعًا من أجلها، ففرص نجاتها ضئيلة. إذا رأت ميكوتو هذا المكان، فمن المحتمل أن تندفع فورًا إلى جانب شيراي الساقطة—دون أن تفكر في الهجوم القادم عبر الفضاء. حتى لو كان حدسها قويًا لرؤية الهجوم تحضرًا وحاولت إخراج شيراي من المبنى معها، فهل تلحق؟ وإذا حدث الأسوأ، سيقتلان كلاهما في انهيار المبنى. وهذه الاحتمالات ليست ضئيلة إطلاقا.

ولكن مع ذلك...

مع ذلك...

(آه...)

كانت تسمع شيئًا.

طقٍّ وطقٍّ. صوت خطوات تتصاعد نحو مدخل الطابق الذي أصبح خاليًا الآن. خطوات تسرع في درج الطوارئ—هل رأى صاحب الخطوات أن استخدام المصعد كان أمرًا مزعجًا؟

لا، مهلا، لم تكن مجرد خطوات.

رافقتها أصوات شرارات كهربائية متطايرة.

(آآآهـ...!! لا!)

شَحُبَ وجهها.

أطرافها لم تتحرك، وما عساها توقف تلك الخطوات مهما أرادت.

لذا اكتفت بتحريك فمها. 「لا... لا تفعلي! لا... أرجوك لا تأتِ!」

وبينما تتكلم، انهمرت منها الدموع على توقيتها المثالي. أجهدت حلقها، وصبت كل ما تبقى من طاقتها في صرختها الأخيرة.

「هجومٌ فضائيٌ قادم! هذا الطابق خطير! لا، أرجوكِ، ابتعدي عن المبنى! إنه على وشك الانهيار!!」 صرخت وهي مستلقية في دمها على الأرض.

المكان من حولها احتكّ وأصدر صريرًا. هل كان ذلك تمهيدًا لهجوم مُسُجيمي، أم أنه مجرد إشارة تحذير؟

(...؟!)

شعرت شيراي بقلق شديد. لقد اقتحمت المطعم بالتنقل الآني، لذا لم تكن تعرف تخطيط المبنى أو توزيع الطوابق بدقة، لكنها على الأقل تعلم أن من كان صاحب الخطوات لن يصل إلى هذا الطابق خلال عشر ثوانٍ. الوصول المباشر إلى هنا أمر، لكن الاضطرار إلى الركض في كل الممرات والسلالم سيضيع الوقت والمسافة—كان ذلك مستحيلًا.

لم تكن شيراي تعرف على وجه اليقين ما هو الشيء الذي سوف تستخدمه مُسُجيمي.

ولكن إذا دخل وزن 4,520 كيلوغرامًا دفعةً واحدة، فلن ينهار هذا الطابق فقط—بل سينهار بقية المبنى أيضًا. وسيُصيب الانهيار كل من فيه.

لن تسمح بذلك.

لن تسمح به أبدا.

「اهربوا...!!」 حاولت أن تصرخ، وتكاد تبكي، لكنها لم تستطع. لم تستطع.

بعد لحظة، انقلب الهواء في الغرفة كله. فجأة صار بصرها كأنها ترى العالم من خلال عدسة عين السمكة؛ ربما كانت هذه نتائج شيء بدأ يمزق الفضاء، مع تغير ضغط الهواء على الأرض مما سبب انكسار الضوء.

بدأ الهجوم.

(...!!)

حكّت شيراي أسنانها بقوة. حاولت بكل ما أوتيت.

لكن أطرافها ما زالت عاجزة. لم تتحرك حتى أطراف أصابعها. قدرتها لم تعمل إطلاقًا أيضًا. كرهت هذا من أعماق قلبها. لو كانت أقوى، لو كانت أقوى فقط، لأمكنها أن تنتقل فورًا بنفسها وبالشخص القادم لإنقاذها خارج المبنى بدون أي مشكلة. ولو لم تخسر أمام مُسُجيمي أواكي، لما اضطرت أصلاً إلى هذا النوع من الأزمات.

لم تعد تملك القوة الآن بعدما شعرت بذلك.

ما كان الواقع أبدًا كما آملت.

(أونيه-ساما...!!)

على كل ذلك، بذلت آخر ما تبقى من قوتها في جسدها الضعيف. هي تعرف أن كل ما سيتغير هو مدى اتساع جروحها التي ستتمزق بلا جدوى—لكنها ما كانت لتسمح لنفسها أبدًا بالتخلي عن طاقتها. وفي الوقت ذاته، كانت تدعو: أن تحدث معجزة غبية، وأن تلك الفتاة الواحدة، القوية لكنها لا تزال فتاة، تنقذها.

اندلع انفجار مدوٍ.

ثم  اخترق خطٌ برتقالي المكان من الأرض إلى السقف وكأن دعواتها قد استُجيبت.

كانت قطعةً معدنية، أُطلقت بسرعة تفوق الصوت ثلاث مرات.

الشعاع الحراري النحيل، الذي اخترق الغرفة بشكل مائل كإبرة، كان سريعًا جدًا بحيث لا يمكن للعين المجردة رصده. كالليزر، بدايته ونهايته مخفيتان عن النظر. مجرد خط مستقيم واحد، يحرق الهواء خلفه من سرعته الهائلة.

نظرت شيراي للحظة إليه، في حيرة.

ثم، اهتز المبنى كله. اندلعت عاصفة من الدمار وكأن الخط البرتقالي كان فتيل. فُتح ثقبٌ هوائي بعرض مترين في الأرض، وسقطت كل الأشياء فوقه، وأزيحت، ودُمِّر كل شيء. شعرت بأن الأرض تميل قليلاً بينما سمعت صوت تحطم الحطام متساقطًا إلى الطوابق السفلى.

ريلڠن.

جاءت في ذهنها القدرة واسم صاحبتها، وشيراي عَمَّلت عقلها وهي لا تزال منهارة.

「مع هذه التهوية، سيكون هناك وقت، صح؟」

سمعت صوت فتاة—صوتٌ آلَفَتهُ كثيرا.

لم يكن فيه أي ذعر، أو خوف، أو شك على الإطلاق.

كان هادئًا، موحيًا أن الوضع الحالي ليس بمشكلة حتى.

「أكره أن أقول، لكن هذا أقصى ما أستطيعه. الآن اذهب بقبضتك وأَعِدها!!」

تفاجأت شيراي من الكلمات.

مدت رقبتها، فرأت.

رأت صبيًا يركض عبر نفق الهواء التي فتحته الريلڠن. رأت الصبي يركض فوق درجٍ صُنع من حطام السقف والأثاث من الطابق الأدنى تَجَمَّع بفعلِ الكهرباء وصار شكله مائلاً يُوصِلُ إلى طابق شيراي.

ما كان ليصلها عبر الدرج العادي.

لذا لم يستخدمها إطلاقًا.

لم يكن الصبي يحمل أي أسلحة في يديه أثناء استخدامه هذا الاختصار العبثي. وبحسب مظهره، لم يكن يملك قدرة خارقة أيضًا. لكنه مع ذلك ركض. ركض إلى هذا الطابق، حيث من الواضح أن هناك ظاهرة غير طبيعية تحدث. فقط ركض وهو يشبك قبضته اليمنى بشدة كالصخرة.

خلال ثانية، سيصل التشويه في الفضاء إلى حده وينفجر من الداخل.

لكن في تلك اللحظة، دفع الصبي قبضته إلى الأمام، دون أن يعبأ بما يطير نحوه.

نحو الشيء الغريب أمامه—هجوم مُسُجيمي العظيم وغير الواقعي.

بوزن 4,520 كيلوغرامًا.

أرجح قبضته كأنه يرمي كرة هدم، يهدف إلى سحق ذلك الوزن الهائل مرةً.

اصطدمت قبضة الصبي بالفضاء.

حكَّم أسنانه، وبطريقة ما اخترقت قبضته ذلك الفضاء مباشرة إلى الجانب الآخر.

وحدث شيء غريب.

سمع فجأة هدير اصطدام المعدن. بدا كما لو كان يستخدم قبضته لسحق التشوه ذاته في الفضاء. وَجَّه لكمةً ليطرد "الشيء" غير المرئي الذي يخرب مسار الضوء في المكان.

تدخلٌ قسري ومباشر من [عامل] ثلاثي الأبعاد إلى [نقطة خاصة] في البعد الأحد عشري. كانت شيراي دائمًا واعية لمثل هذه الحسابات، فكانت تعلم—كان الأمر كأنك تجبر طريقا ذو اتجاهٍ واحد أن يسير بالعكس.

بينما كانت شيراي كُروكو مستلقية هناك، مذهولة من هذه اللاعقلانية، قال الفتى، 「آغغ، آسف على التأخير. أه، يعني، كنت أركض طوال اليوم دون علم بما يحصل بالضبط. لو لم أصادف ميكوتو في الطريق، لما عرفت—هيه هيه! ما بكِ كُلّكِ كسور كذا؟!」

ركض الفتى مسرعًا وكأنه انتبه للتو لحالة شيراي.

「أ  أنت...لماذا... لمَ خاطرّت بحياتك من أجلي؟」 متلعثمةً شيراي.

لم يبدو كشخص يقدر على إنجاز هذا الفعل السخيف المتمثل في إعادة الفضاء المشوّه إلى شكله الطبيعي.

لذا سألت، لتتأكد، 「أنا غريبة تمامًا عنك. لديك هذه القوة... قد تمتلك قوة عظيمة... لكن كيف تكون جادًا هكذا؟ تورطت في كل هذا بدون تردد؟」

لبث الفتى لحظة يبدو عليه الاندهاش من كلامها.

「آه، اسأليني لِمَ وكيف، ولكني بصراحة... الوقوف في وجه الأشياء أسهل وأسرع من الهروب، صح؟ يعني، لو أن الهروب سينقذنا، لاخترته على الفور」

「ليس الأمر... بهذه السهولة يا غبي! أما خفت؟」

لم يبدو الفتى متأثرًا بكلماتها. جاء رده بدون أي تردد، 「يعني، كنت خائف قليلا. لكن هيه، قد قطعتُ وعدا」

「وعد؟」 ردت شيراي بينما كان الفتى ينظر حوله بتمعن.

تساءلت ماذا يفعل، ثم أدركت بعد لحظة أنه كان يتأكد من عدم وجود أحد قريب.

أخيرًا، تحدث مرة أخرى بصوت منخفض وسري، 「...إي، وعد. وعدٌ أن أحمي عالم ميساكا ميكوتو ومن حولها. وعدتُ شابا متكبرا وخجول، ما أعرف حتى اسمه」 ابتسم قليلًا. 「تأخرت قليلا عن الحفلة، لكن أسألك على أي حال. هل استطعتُ أن أحفظ نصيبي من الوعد؟」

نظرت إليه شيراي بحيرة، لكنها أعادت تشغيل عقلها ونظرت حولها—ثم توقفت عند شيء.

ميساكا ميكوتو، الريلڠن، نجمة توكِوَداي، كانت تقترب منهما. تجري عبر نفق الهواء العملاق الذي فتحته بنفسها. تسرع نحو زميلتها الجريحة. بوجه يكاد يبكي.

في عيني شيراي كُروكو، كانت الفتاة التي أرادت حمايتها أكثر من غيرها، سالمة تمامًا.

فأجابت، 「...نعم، وقد أحسنت العمل. في نصفه على الأقل」

النصف الآخر كان يهرب حاليًا مع الحقيبة باستخدام موڤ پوينت.

「فهمت」

لابد أنه عرف أمرا. لم يذكر الفتى شيئًا مما قالته للتو—بل اكتفى بهز رأسه بثبات.

ثم تحدث مرة أخرى.

「إذن سأذهب الآن لأهتم بالنصف الآخر」

  • ما بين السطور 4

مُسُجيمي أواكي وصلت إلى حافة المدينة الأكاديمية عبر طريق آمن.

جسدها مثقوبٌ بجروح ناتجة عن اختراقات متعددة، وترتدي سترة الشتاء بدون أحد أكمامها على جسدها العاري من الأعلى، لكن أزرارها كانت في حالة فوضى تامة ولم تلاحظ ذلك حتى. بَيَّنت عروقها وشرايينها تحت سطح الجلد لإجبارها نفسها على استخدام قواها، وكانت تستمر في نفث كرات من النفس الساخن. حركت بصرها بعصبية، بلا أدنى فكرة عما ينبغي عليها فعله أو من أين تبدأ، وكانت تتمتم لنفسها بصوت منخفض في الوقت نفسه. غطى وجهها العرق — عرق التوتر على الأرجح. ربما السبب فقدانها للكشاف العسكري، لكن سيطرتها على قدرتها بدا أنها أضعف الآن. كانت أصابعها الملطخة بالدم تحمل حقيبة السفر بلا مقبض.

جاءتها ذكرى كريهة إلى ذهنها.

كانت في الأساس أثرًا جانبيًا لاستخدام قدرتها على جسدها. الحادث الذي وقع أثناء المنهج الدراسي قبل عامين عندما خرجت الأمور عن السيطرة. كانت مهمة بسيطة — التنقل إلى غرفة مغلقة — لكنها أخطأت في حساب الإحداثيات. وعندما خرجت من النقل الآني، كانت قدمها داخل جدار.

لم تشعر بالألم.

ولهذا لم تتردد كثيرًا في محاولة سحب قدمها داخل الجدار دفعةً واحدة. وما كان عليها. فبعدها بلحظة...

صوت تمزق.

إحساس تقشر الجلد عن قدمها بفعل القسم الخشن المتقطع لمادة البناء في الجدار.

كان الألم شديدًا.

خرجت قدمها من الجدار—تاركةً الجلد على الجدار ملتصق.

وكأنها...

وكأنها برتقالة مقشرة... لحمها الرخو والمرن والرطب والأوعية الدموية الرفيعة تمتد عليها كشبكة...

(غُه... غرغغغ...!!)

انحنت. اجتاحها شعور بالغثيان من أعماق بطنها، لكنها بالكاد كبحته. شعرت بارتجاف واهتزاز في ظهرها. تحركت قدماها غير مستقرة، وأخذت الغثيان إشارة لتوقف مشيها.

قمعت الغثيان.

بعد توقف قدميها، لم تحاول اتخاذ خطوة أخرى.

(ماذا علي أن... أفعل... الآن...؟)

لقد فقد قلبها المحطم هدفه. حاول عقلها الضائع أن يعيد ترتيب الأمور — احتاجت إلى هدف، حتى لو كان مؤقتًا. أول شيء رأته، بالطبع، كانت حقيبة السفر. لم تستطع تذكر ما كانت تريد فعله بها. الشيء الوحيد الذي دار في ذهنها هو الوسيلة للوصول إلى ذلك الهدف — عليها أن تسلم هذا إلى المنظمة الخارجية.

أخرجت جهاز راديو صغير لاسلكي.

(يجب أن أتواصل معهم. أتواصل... أتواصل. عليّ...وسافعل. هَهَهَه... أترى؟... إني أفعل ما... ترونه... ضروري... حتى الآن...)

سمعَتْ صوت عميل مألوف من الطرف الآخر للراديو.

ابتسمت مُسُجيمي كطفل وبدأت بالتواصل. 「هنا A001 إلى M000. بعد تأكيد الإشارة، سأبلغ عن...」

نقلت مُسُجيمي التعليمات التي أُعطيت لها مسبقًا في الدليل. ولكن فجأة، اندلع صوت ثابت عالٍ، فاصطدمت بالراديو عن جسدها بشكل انعكاسي. وعندما أعادت وضعه على أذنها، لم تسمع سوى إطلاق نار، وزمجرات، وصيحات.

تصاعد غضبها من عدم تلقيها ردًا، فصاحت قائلةً، 「هنا A001 إلى M000. من A001 إلى M000. هذه أنا...هل تسمعونني أم لا؟! لماذا لا تردون؟!」

بدأ جهاز الراديو اللاسلكي يصدر صريرًا مع صراخها — كادت تسحقه تمامًا. ثم جاءت صرخة رجل من الطرف الآخر. ذلك صوت قائد المنظمة.

توقف إطلاق النار عبر الراديو.

وهذه المرة، مكان الرجل التافه، بدأت امرأة ذات صوت أعمق في الكلام.

『تشاهدين من مقعد مريح وأنتِ تخدعين الأطفال للعمل لأهدافك، إيه؟ وراضية عن نفسك. أنا ما كنتُ لأوجه سلاحي على طفل، لكنني لن أتردد في توجيه السلاح من أجل طفل』

سمعت صراخ بشري مع إطلاق رصاصة.

ثم ساد الصمت الطرف الآخر من الراديو.

『هل تظنين أني أقتلك هكذا ببساطة يا غبية؟ لن يُنقَذ هؤلاء الأطفال حتى تُسرّبي كل المعلومات عن عددهم وكيف أغويتهم』

بعد لحظة، لم يعد عبر الراديو سوى ضوضاء ثابتة خشنّة. ضغطت على الزر عدة مرات ولعبت بضبط التردد، لكنها لم تسمع أي صوت. وما عاد هناك من أحد لتتواصل معه أساسا.

(آه، آه... عليّ... عليّ التواصل معهم... علي! لماذا؟ ما أفعل؟ أحتاج إلى هدف، خطة، غاية، وإلا سأجن...!!)

الهز والرطم على الراديو لم يجعلها تحصل على رد أيضًا. أطلقت مُسُجيمي صرخة عاجزة عن تحمل الصمت، ثم رمت الجهاز على الأرض. تحطمت الأجزاء الحساسة وتبعثرت على الأرض، فاختفى الصمت المستمر. هذه المرة، لن تحصل على رد أبدًا، وارتسم على وجهها تعبير مشوه، كادت تبكي.

لم يكن لمُسُجيمي خيار العودة إلى مدينة الأكاديمية. بالنسبة لرئيس مجلس إدارة المدينة الأكاديمية، لم يكن [المخطط الشجري] ذا أهمية كبيرة. في الواقع، إذا أعيد تشغيل التجربة، ستظهر شقوق في "المشروع" الذي يستخدم العشرة آلاف أخت. وعلى ما يبدو، قد يؤثر ذلك على مستوى القوة في العالم كله، وليس فقط داخل مدينة الأكاديمية أو الجانب العلمي. ومع ذلك، لم تفهم مُسُجيمي أي "عالم" مقصود.

(ما أفعل، ماذا أفعل...؟ الأفضل أن أعود إلى قاعدة المنظمة الآن... أو ربما أتواصل مع جهة أخرى. هناك العديد من المنظمات التي تريد ما في داخله. نعم، صحيح. هناك الكثير، الكثير مما يجب القيام به! هدف! طالما لدي هدف، سأكون بخير!)

وبابتسامة ملتوية على وجهها، غافلة عن أن ملابسها قد تحولت إلى تمزقات، وضعت يديها على حقيبة السفر. بدأت تمشي، تدفعها أمامها.

لكن هناك في آخر الشارع من وقف في طريقها.

صوت خطوات.

كانت في طريق ذو درب واحد. طريقٌ واسع تحيطه المباني، وعلى آخره تقاطع ست مسارات. لم يكن أحد في المدينة الأكاديمية يسير في هذا الطريق على الأطراف ليلاً — ولا حتى سيارة. كان الطريق يشبه المدرج، وواحدٌ كان يمشي عكس اتجاهها.

لم تهتم بمن يكون.

بل إنها انزعجت أنه وقف في طريقها. مهما كان، ستمضي في طريقها حتى لو اضطرّت لقتله. بدون تردد، تقدمت مُسُجيمي مباشرة.

وقف ذلك الشخص في منتصف التقاطع المكون من ستة مسارات، حاجبًا طريقها.

وظِلُّهُ كان...

「أهذه نكتة؟」

...كان أبيضًا بياض الجنون، أبيضًا بياض الأُعوجاج، أبيضًا بالجمود...

「الطفلة الشقية أخذت المعلومات من شبكة النسخ اللعينة ذيك وعلّمتني أن كل هذا الأمر مرتبط بكل الأخريات. وها أنا الآن أضيع وقتي في المدينة. بجدية، ما هذا العفن؟ شبكوا دماغي بكهرباء وأعطوني حتى عصا لأمشي. هذا كل ما كان لدي لأصل إلى هالمكان العفن! أقطاب على شكل طوق؟ الوحيدة من نوعها في العالم؟ وإن يكن؟ خرا على ذلك الطبيب الرديء أعطاني أرخص نموذج أولي」

لديه أقطاب صناعية ملتصقة بجبهته وصوادغه وعنقه، وكان يحمل عصا مشي كعصا الطُنفا بتصميم حديث ومقبض في يده اليمنى...

「وها أنا. كنت أتساءل أي معتوه مختل ذاك المسبب لكل أوجاع الرأس هذه الليلة...فما بي أرى واطية وضيعة تحسب نفسها زعيمة المرحلة؟! أتسخرين مني أم ماذا؟! لا تقولي أنني أتعبتُ نفسي بالمجيء لأرى هذه القمامة تمشي؟! على الأقل كنتم أخبرتموني أنها ستكون تافهة أخرى! ألا تدرين كم من متاعب سببتها لي؟!」

واقفًا في الظلام كان أقوى الأسابر ذو المستوى 5 في المدينة الأكاديمية.

أكسِلَريتر الأبيض النقي الشاحب، واقفًا قِبَل الظلام، واسمه الحقيقي مجهول.

「هِي...هِه...!!」

رؤيته وحدها أوقفت أنفاسها ونبض قلبها للحظة.

(هُـ-هُوَ...)

هبت فجوة غريبة من الهواء في رئتي مُسُجيمي أواكي. لم تستطع التمييز هل كانت تستنشق أم تخرج النفس. كان عقلها مشوشًا جدًا ليعرف.

(...إنه هو!! لكن، لا! حتى الريلڠن لم تستطع مواجهته، فكيف لي أنا...؟!)

عقلها، الذي يدور بلا جدوى في محاولة للحصول على هدف، وجد فجأة هدفًا أوضح بكثير من حقيبة السفر — هدفًا قد يكتب نهايتها.

(...ع-ع-ع-ع-علي! عليّ أن أفعل شيئًا...!!)

نظرت إلى الذي يصد طريقها في وسط الشارع المشابه للمدرج وهزت رأسها لنفسها مرة أخرى. عليها أن تفعل شيء. لكن هذا هو السؤال الأكبر. كانت بحاجة إلى فعل شيء.

كان أكسلريتر يشتكي متسائلًا لماذا كان على مُسُجيمي أواكي أن تظهر هنا، لكن مُسُجيمي أرادت أن تأخذ كلماته وتردها عليه.

كان هذا أكثر من مجرد غرابة لا محل لها. هذا الحادث كان صغيرًا جدًا — لم تكن هذه الوليمة فخمة بما يكفي ليظهر لأجل فردٍ بسيط مثلها. الأمر وكأنهم قصفوا أمة بأكملها حتى يوقفوا شجار أطفال.

أفكار مُسُجيمي خرجت عن السيطرة.

لم يكن هذا فرق مهارة بين الهواة والمحترفين في لعبة رياضية. كان أشبه بلعب إنسان شد الحبل مع نفاثة. ولا حاجة لتفسير أيهما سيفوز. ما كان على النفاثة أن تفعل شيئًا، فالإنسان لن يحرك سنتيمتر واحد.

انتهى الأمر.

كل شيء انتهى.

تشنج وجه مُسُجيمي أواكي عند الإدراك...

ولكن ثم...

「...أعرف」

بدأ وجهها، بعضلات مشوهة، يعود ببطء إلى طبيعته كما لو كانت كرة خيط تنفك.

「أعرف كل شيء! أنت قد فقدت قدراتك الحسابية. تلك القوة العظيمة التي امتلكتها مرة قد اختفت! لا يمكنك استخدامها! أنت لم تعد أقوى الأسابر، ولا حتى قريبًا!!」 صاحت وكأنها مفعمة بالفرح من انتصارها.

وفي الظلام وقف أكسلريتر، وتنهد.

「تافهة」 توقف لبرهة، ينتظر الريح أن تمر. 「لو كنتِ جادة فعلاً، آهخ، تافهةٌ بائسة تبعثين على الشفقة لدرجة أود أن أعانقك」

「هاها! أرى خدعتك! كنتُ دائمًا قريبة من ذلك "الشخص". أعرف قليلاً عما يحدث فعلاً في مدينة الأكاديمية. أكسلريتر، لقد خسرتَ قدرتك المُتّجهية من بعد 31 أغسطس، أليس كذلك؟ لو لم تكن، لما كنت واقفًا هناك لا تفعل شيئا! لماذا لا تهاجمني؟ ليس وأنك لا تريد — بل لا تستطيع! أظننت أنكِ تهزمني بتخويفي بلقبك القديم؟

تصريحها الساخر جعل ذلك الأبيض يضيّق عينيه.

فهِمَتْ مُسُجيمي ذلك كنوع من السخرية، فجفنت إحدى عينيها.

「...!! لِمَ لا تقول شيئًا؟! لا تقف صامتا؛ ترعبني!」 صرخت، وفي الوقت نفسه كان هناك شك غريب عميق في داخلها.

شيءٌ خاطئ. بدا أنه لا يتطابق مع صفات المستوى 5 في البيانات.

「حقًا أنتِ بائسة! اسمعي، لأنني سأقولها مرة」 فتح ذراعيه ببطء على الجانبين في الظلام. 「صحيح أنني تعرضت لأضرار دماغية ذلك اليوم. كما ترين من وجهي، عليّ الآن أن أُفوّض كل حساباتي لهذه الأقطاب. وإذا خرجت عن نطاق موجات تلك النسخ اللعينة، فلن يستطيعوا مساعدتي في الحسابات. لا أعلم حتى إن بقي لدي نصف قوتي القديمة. ولا أظنني سأصمد خمسة عشر دقيقة في قتال حقيقي مع عمر بطارية هذا الشيء الرديء」

「لكن—」 ثم أكمل أكسلريتر بعد توقف. 「—ألأنني أصبحت أضعف لا يعني أنك صرتِ أقوى، هاء؟!!!」

ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه.

غطس بعصاه الأرض بقوة.

اهتزت الأرض الصلبة لمّا دعس عليها. ربض أكسلريتر. تمددت شقوق في الطريق الأسفلتي، منشؤها مركزه. بدأت المباني المجاورة تصدر صريرًا، وتحطمت جميع نوافذ الزجاج التي لم تستطع تحمل تشوهات بنية المباني، وتبعثرت شظايا الزجاج في كل مكان.

(لا...مستحيل...؟!)

رفعت مُسُجيمي رأسها. كانت الشظايا تتساقط من كل مبنى على طول الطريق الرئيسي. لم تستطع الهروب بالموڤ پوينت. كانت تغطي مساحة واسعة جدًا. لم يكن الهروب إلى مبنى فكرة جيدة أيضًا. النوافذ كانت مكسورة لأن بناء المباني تشوه. ولم تعد تأمن أن يكون الأثاث داخل المباني في أماكنه. في أسوأ الأحوال، قد تنهي نفسها بالموڤ پوينت بعد ان تقفز في جدار منهار.

(هذا يعني أنه للهرب...سأرتفع!!)

أمسكت بحقيبة السفر واستخدمت على الفور موڤ پوينت لترفرف في الهواء. تجاوزت مطر الزجاج إلى السماء في الليل على بعد عشرات الأمتار فوق الأرض. في الوقت نفسه، ضربها غثيان شديد، لكنها بذلت كل جهدها لقمعه. أعملت عقلها بعنف — لم تعتد هذا، لكنها كانت تحتاج للقفز مرة أخرى إلى سطح مبنى مختلف قبل أن تبدأ بالسقوط...

ثم طار عقلها إلى الفراغ.

تلاشت كل المعادلات التي حاولت بناءها بيأس في ذهنها.

「آها-غيا-ها! شكرًا لكِ على هذه الوضعية المنخفضة التي أعطيتني إياها!!」

دوّى انفجار. داس أكسلريتر مرة أخرى الإسفلت المكسور فانطلق في السماء كالصاروخ. لم يغير فقط اتجاه القوة التي تبذلها ساقاه. خلفه، كانت هناك أربع دفعات هوائية قوية تشبه الأعاصير مرتبطة به، ومن بعيد بدت كالأجنحة.

بغرابة، وفي عين مُسُجيمي، بدا وكأنه ملاك يصعد إلى السماء.

ملاك قد سقط في حفرة الأرض، مذلولٌ ومشوه، يكشف أنيابه نحو الفردوس في الأعلى.

مزق أكسلريتر طبقة مطر الزجاج التي تفصل بينهما. ثم، بصوت تكسير رهيب، اخترقها كلها دفعة واحدة. لم يكن على جسده أي جرح وهو ينطلق مباشرة نحو مُسُجيمي كالرصاصة.

وقد اشتُدت قبضته.

سحق بعصاه التي كانت تدعمه وسقطت بعيدًا عنه كصاروخ متعدد المراحل. جاءت قبضته الشيطانية نحو وجه مُسُجيمي أواكي بسرعة ووزن جسده كله خلفها.

「...........................................................................................................؟؟؟!!!」

فكيف لها أن تبقى هادئة في هذا الوضع؟

تنازلت عن حساباتها، وتحركت فجأة بوضع حقيبة السفر بينهما لتحمي نفسها. لكن قبضته اخترقت دفاعاتها الضعيفة، محطمة إياها. تحطم غلاف الحقيبة الخارجي، وطارت حشوة مقاومة الصدمات، ومحتوياتها التي كانت مثبتة بإحكام في الداخل تفتت إلى قطع متطايرة أمام عيني مُسُجيمي كعاصفة من بتلات زهرة الكرز.

「عذرًا، لكن من هنا وصاعدًا الدرب دربٌ باتجاهٍ واحد」 ارتفعت زوايا شفتي الإسبر بابتسامة. 「ولا مكان لكِ فيه! فالتفّ بذيلك بين ساقيك وازحفي إلى حيث جئتِ!」

خرج من حلق مُسُجيمي زفير غير طبيعي.

اصطدمت القبضة المشدودة، متجاهلة الحقيبة، بوجهها بسرعة هائلة وسخيفة.

أُرسلت مُسُجيمي أواكي تطير أعلى بزاوية إلى السماء العالية. طارت نحو حافة سطح المبنى، بعد أن هبطت من تحت بشكل مائل، ثم اصطدمت بالسياج المعدني الذي يمنع سقوط الناس. سُحبت عدد من الدعامات من جذورها كما لو كانت كرة قدم رُكلت بقوة مخترقة الشبكة. وأخيرًا توقفت.

توقف أكسلريتر في الهواء فجأة، بعد أن نقل كل زخم حركته إليها. ثم ومدفوعًا بالجاذبية بدأ بالسقوط نحو الأرض المظلمة أدناه.

لم ينظر إلى الأرض.

وأثناء سقوطه، رفع ببطء نظره إلى المبنى الذي اصطدمت به مُسُجيمي، وقال بصوت لا يُسمع، 「نعم، إن كان هذا كل ما لدي، فلربما عليّ أن أتقاعد من لقب أقوى المدينة الأكاديمية」

وبهدوءٍ، أغلق عينيه.

「لكن مع ذلك، قررت أن أستمر في أن أكون الأقوى أمام تلك الشقية.....اللعنة」

حملت الرياح الليل كلماته غير المسموعة وهو يسقط نحو الأرض.

تعليقات (0)