الفصل الأول: اَلْبَنَاتُ بَعْدَ الْدَّوَامِ. — بعد_دوام_الملائكة.
(إعدادات القراءة)
انتقال بين الأجزاء
- الجزء 1
「وهذا ما حدث، أونيه-ساما」
في إعدادية توكِوَداي ثلاثُ حُجر استحمام.
في إحدى هذه الحُجر التي تُعرف بمُغتَسَلِ العائدات—وهو ركن من دار المدرسة وقد جُعِل أساسًا لتجهيز الفتيات قبل مغادرة المدرسة—كانت شيراي كُروكو، يغمرها البخار الأبيض والماء الدافئ بدرجة مثالية. قطرات الماء انحدرت على جسدها الرقيق تدفع بزَبَدِ الصابون الملتصق بصدرها حتى ينزلق نحو بطنها.
「عجبا، وصلكم الرذاذ ها؟」 ردّت ميكوتو من خلف الحاجز كما لو أن الأمر برمّته سخيف. 「تدرين يا كُروكو، كلهم يبالغون، وأنا لا أرى أنني فعلت شيئًا يُذكر. كنت منشغلة بضبط قوتي! فمثل ذاك المسبح الصغير لن يكفي أبدًا لصدّ هجوم كامل مني」
كانت حُجر الاستحمام بحجم خمس قاعات دراسية مجتمعة، وبينها حواجز بيضاء وأبواب متأرجحة نُصبت على ما يقارب تسعين صنبورًا. وغير الحواجز، كانت الأبواب مصنوعة من زجاجٍ غير شفاف ولم تكن تغطي إلا ما بين الفخذين والصدر لطالبة متوسطة الطول في المرحلة الإعدادية. لم تكن مصممة للفتيات الطويلات، وبعض أحاديث البنات أحيانا خرجت بقولٍ أن عليكِ الانحناء قليلا كي لا تكشفي ما يجب أن يُستر.
「ثم إنني، حتى لو اضطررت لإيقاف أحدهم، سأحاول حلّ الموقف بالكلام أولًا. على الأقل لو كان الأمر بسيطًا كما في حالة ذلك المسبح. ودائما ما أحاول أن أتحلى بشيء من التعقل في اختيار هجماتي حسب خصمي. أعني، الوحيد من أرتاح في إطلاق كامل قوتي عليه هو ما غيره ذلك الغبي」
وفي جملتها الأخيرة خرج نوع من الارتياح في صوتها، وهذا أرجف حاجب شيراي. أصاب الماء الفاتر فقاعات الصابون البيضاء على بطنها، تزحف ببطء نحو فخذيها.
(الغبي. مجددا قالت "ذلك الغبي"...)
وبينما لم يتحرك سوى حاجب واحد من حاجبي شيراي، مدت يدها فوق الباب المتأرجح. إلى حيث شريطان رفيعان لربط شعرها على شكل ذيلين توأمين (قرنين).
فجأة، وبتعمد واضح، أسقطت أحد الشريطين على الأرض. على الرخام الأبيض تجمع لماء الاستحمام الدافئ، فحين سقط الشريط، حمله الغشاء الرقيق من الماء الجاري نحو حجرة الاستحمام المجاورة عبر الفجوة في الحاجز.
「آه آه، يا لإهمالي وحمقي! شريطي... انزلق إلى المنطقة المحرّمة، منطقة حبيبتي أونيه-ساما!」
「إياك وأن تفكّري حتى في التسلل ولو بالخطأ!」
وقبلما تنفذ انتقالها الآني مباشرة، صرخت ميكوتو، ثم سمعت شيراي صوت ارتطام قوي على الحاجز من الجهة الأخرى. توقّف الطالبات في مناطق الاستحمام الأخرى لحظةً من الدهشة.
بسبب الصوت والارتطام اختل توقيت شيراي تمامًا وأُجبِرَت إلى إلغاء قدرتها. فَلِكيْ تُفعّل تنقّلها الآني كان عليها إدخال قيم نظرية من أحد عشر بُعدًا فتُحَوّله إلى هذا العالم ثلاثي الأبعاد، ثم تعيد تشكيل إدراكها للواقع. الحسابات المطلوبة مرهقة للغاية، ويمكن أن تصير قدرتها عديمة الفائدة عند التعرّض لفزع أو ارتباك مفاجئ.
「هيهي-هيه. اعتراض دقيق دون أي تخطيط مُسبق. هذا دليل على التوافق الطبيعي بين جسدينا—حتى أن أنفاسنا متناغمة. هيه. هيه-هيه-هيه-هيه!!」
「يع يا مقرفة، ولن أرد على ذلك. بأي حال خذي شريطك」
امتدت يد ميكوتو الرشيقة المبللة من فوق الحاجز، وبين أصابعها علق الشريط المبلل. شكرتها شيراي وأخذت الشريط منها. كانت قطعة القماش الرفيعة لا تزال تحمل دفئا دفينا من يد أختها.
بدأت شيراي تمرر أصابعها ببطء من أعلى جسدها إلى أسفله لتزيح بقايا الفقاعات العنيدة، ثم أغلقت صنبور الماء. 「بالمناسبة أونيه-ساما، أعندك خطط بعد المدرسة اليوم؟」 استدارت نحو الحاجز المجاور، ومسحت بعض قطرات الماء الدافئة التي انزلقت من تُرقوتها إلى صدرها.
「أجل. سأقِيل، كما أَقيلُ في كل يوم من أيام السنة،」 ردّت ميكوتو بلهجة جافة. وسمعت شيراي فتفشةً بالأغراض—علّ أختها تبحث عن عبوة شامبو في حقيبة الاستحمام.
「ليت هذا كان صحيحًا—لحظيتُ بك وكُلَّكِ في نومك...آهخ」
「لا تتنهدي يا منحرفة. صوتك يوحي وكأنكِ حزينة فعلًا، وهذا يُقشعرني. عمومًا، أكنتِ تريدين مني شيئًا بعد المدرسة؟」
سمعت شيراي صوت فقاعات تُفرك، وانبعث إلى أنفها عبق شامبو حلو الرائحة. وصار صوت الماء خلف الحاجز أعلى—لابد أنها زادت تدفق الماء من الطَشّاشة (رأس الدش).
「لا، لا حاجةً مُلحّة」 أسندت شيراي ظهرها إلى حاجز حجرة ميكوتو. 「إنما، يعني، بين الحين والآخر! بين الحين والآخر فقط، أفكّر يا ليت لو نخرج ونتسوق سويًا أو نأكل الحلوى أو مثل هذا. قد كنتُ منشغلة كثيرًا مع مهامي في الجدجمِنت، ولم تتح لنا فرصة للخروج سويًا آخر الأيام. وبصراحة أنا، كُروكو، بدأت أشعر ببعض الوحدة في الآونة الأخيرة. وغير هذا، ألم تذكري منذ أيام أنك تبحثين عن حُلِيًّا مُعيّنا؟」
「كُروكو...」
تغيّرت نبرة ميكوتو خلف الحاجز إلى نظرةٍ أعطف وأحنَّ.
(جَسُورة! اليوم يا كُروكو تكونين مِقدامةً جَسُورة! حتى وإن أنكرتْ أختك، فهي في قرارة نفسها لن تشتهي أكثر من أن تضمني بين ذراعيها الحانيتين الثابتتين فتُدلّلني حَبِيبَتُها. كهكه، إيهيهي-هِي-هيه-آههاهاها!!)
ابتسمت شيراي كُروكو ابتسامة صعلوك—ومن حسن الحظ أن الحاجز حالَ دون أن تراها ميكوتو.
لكن ميكوتو، التي تجهل تمامًا التعبير المرتسم على وجه زميلتها الصغرى، بدأت تتحدث إليها بنبرة حنونة، 「أتعلمين، في كل يوم بعد دوامكِ في الجدجمِنت، تلتهمين كميات هائلة من الحلوى حتى التخمة، لا؟ ولهالسبب مهما اجتهدتِ في الحمية، لا يعود بطنك أبدًا كما كان」
وبلحظة...
وبينما لا تزال ابتسامة الصعلوك تعلو وجهها، تنقلت شيراي كُروكو آنيا إلى ميساكا ميكوتو وهاجمتها.
أو بشكل أدق، انتقلت إلى موضعٍ مائل فوق ميكوتو مباشرة.
وهناك لحظات تضطر فيها المرأة إلى تنفيذ ركلة إسقاطية حتى وإن كانت تعرف مسبقًا بخسارتها.
- الجزء 2
الحديقة المدرسية، وهي المنطقة المشتركة التي أُنشئت لخدمة خمس مدارس للفتيات، كانت أشبه بمدينةٍ صغيرةٍ صغيرة.
شيراي كُروكو تراها مثل قاعدة عسكرية أمريكية داخل اليابان، على أن هذا التشبيه مشكوك في دقته. هناك أسوار عالية تمنع الغرباء من الدخول، واحتوت المنطقة على مساكن ومختبرات. بل وتضم أيضًا متاجر خدمية أساسية، كالمقاهي ومحلات الملابس. ازدحمت المدينة، لكن فقط بما هو ضروري.
شيراي وميكوتو تسيران معًا داخل المدينة المصغرة.
وعلى أن المنطقة كانت مغلقة بأسوار، فإن الحافلات التي تجوبها تقودها نساء. وكان لطالبات هذه المدارس خمس أزياء مدرسية مختلفة، وكلهن فتيات. فمن ناحية بدت الحديقة المدرسية هذه —بمظهرها الغريب— أشبه بمدينة ساحلية قديمة مليئة بالمباني البيضاء والطرقات المرصوفة بالحجارة. أما المباني نفسها فقد كانت ذات طراز غربي، لكن العديد منها اتخذ شكلًا مربعًا مسطحًا، كأن الأسطح اليابانية التقليدية المثلثة قد سُحقت إلى الأسفل. كان ذلك شكلًا يُستخدم عادةً في المناطق قليلة الأمطار. كما بدت وكأن المباني الحديثة قد أُعيد تشكيلها بزينة تقليدية.
لكن على مدينة مستوردة من العالم الغربي، هناك شيئان أساسيان مفقودان.
الأول كنيسة.
والثاني تمثال إنسان.
أما غياب الأول فلا يحتاج تفسيرًا، والثاني غالبًا ما يكون تمثال قِدّيسٍ أو شخصية دينية.
بمعنى، صحيح أنّ المدينة استُلهمت من المدن الغربية، إلا أن غياب هذين العنصرين جعل بنيتها تختلف جوهريًا—فالمدن الغربية الحقيقية عادةً ما تُبنى من حول دور العبادة والساحات العامة.
وهنا، كانت المدارس الخمس هي التي تؤدي هذا الدور. ومن الأعلى، يمكن تمييزها بسهولة. كانت متقاربة ومتصلة بممرات رفيعة فيما بينها، ما جعل شكل المنطقة يبدو كشبكة عنكبوت—نمط معقد من الطرق المتشابكة والتقاطعات التي لا تُحصى.
ونتيجة لذلك، كانت الممرات داخل الحديقة المدرسية ضيقةً ضيقة. وبالإضافة إلى محدودية المساحة من الأساس، فقد ظلت المنشآت التجريبية تُضاف واحدة واحدة، ما جعل الطرقات الضيقة تلتف بين المباني كأنها متاهة.
وعلى أي حال.
بعد انتهاء اليوم الدراسي، وفي تلك المدينة الغريبة المصغرة، سارت بِنتان جنبًا إلى جنب.
شيراي كُروكو وميساكا ميكوتو.
بِنتا مدرسة توكِوَداي الإعدادية، وهما محط إعجاب فتيات المدينة الأكاديمية كلها، لكن لسبب ما، كانت تسريحتاهما مبعثرتين وشعرهما في فوضى—النتيجة المؤسفة لمشاجرة بينهما.
كانت ميكوتو المنهكة والمتكاسلة تمرر يدها في شعرها تحاول إصلاحه. 「...تدرين، عيب تنفذين ركلة إسقاطية على وجه أحد وأنتِ عارية! كِنتِ مكشوفةٍ مفضوحة لدرجة جمّدتني يا بنت!」
「هيهي. بدأتُ أفهمك مؤخرًا، أونيه-ساما. قد يكون من السخافة تحدّي كهربائبية خارقة في قتال شريف، لكن حُجرة الاستحمام كلها مياه، فلا يمكنكِ رمي الكهرباء عشوائيا وإلا خرّبتِ الدوائر الكهربائية! لكن أسوأ خطأ ارتكبتُه أنني لم أدرك كيف أنكِ مقتدرة على القتال "بأساليب قذرة" بيديكِ عارية!」
أنهت شيراي كلامها بنبرة فيها شيء من الندم، ومُتَبسّمة. لم تكن أي منهما تبدو كمن تربّت على مبدأ توكِوَداي التأسيسي: إعداد شخصيات قادرة على التعامل مع الواقع حتى في مراحل التعليم الإلزامي.
لوّحت شيراي حقيبتها الخفيفة من جهة وأخرى، تبتسم بثقة متحدّية.
نظرت إليها ميكوتو بطرف عينٍ تقول، 「أرى أنكِ كنتِ جادة بشأن الحمية، هُــــۤــه؟」
「بل إني أتساءل أكثر كيف تحافظين على هذا القوام المتكامل دون مبالاة. هَئ! لا شك أن معكِ خدعةً ناه؟ كأن تسيطري بمجالك البيوكهربائي لتحرقي الدهون—أو غيرها من خدعة لا يسع غيرك أن تمتلكه...؟!」
「خيالك واسع، ليس لدي مثل هذا، لذا كفّي تحديقك هذا بي وكأنني نوع من الآلهة! قلت لكِ، لا خدعة! فاتركي عنكِ كتفيّ وهزّي بهذه القوة! ليس وأنني لا أفهم شعورك ومقصدك، لكن أليست مثل هذه الحمية مخالفة لأنظمة مدرستنا؟」
الحميات الغذائية الصارمة تعيق النمو، مما قد يُعرّض تطور قدرات الإسبر للخطر، ولذلك منعت بعض المدارس طالباتها من اتباعها.
توقفت شيراي عن أرجحة حقيبتها وتنهدت قائلة، 「القدرات مهمة، إي نعم... لكن أوتستحق التضحية بأنوثتي؟ لا أريد أن أتحول إلى تِلِبورتية بشرية」
「وكذلك كأنني سمعت أن أول ما تخسره الفتاة عند بدء الحمية هو دهون الصدر. وأيضًا إذا بالغتِ، فإن الزيوت التي تنعم البشرة ستجف، ويبدأ الشعر يتساقط من نقصان التغذية」
「آآآآاااهـ! لا تُسمعيني هذه الحقائق المروعة!」 صرخت شيراي تغطي أذنيها وتهز رأسها.
عادةً ما يُعتبر هذا النوع من الحديث تصرفًا غريبًا في مدينة الأكاديمية، لكن الطالبات الأخريات اللواتي سمعن الحوار تعاطفن معهما، فلم يتلقين أي نظرات استغراب. بل إن إحداهن —وهي تمسك ببطاطا مقلية بين أصابعها— ابتسمت بكئابةٍ وأعادتها إلى علبتها.
شيراي تدرك أن ميكوتو عادةً لا تتحدث عن الوزن أو المكياج في المدينة. لسبب ما، كانت تقلق من نظرات الصبيان إليها. ومن هذه الزاوية، ما زالت حديقة المدارس في نظرها مدرسةً للفتيات، أولا وآخرا.
واصلتا السير في هذه البلدة الغربـية المصطنعة.
في [الحديقة المدرسية]، لم تكن متاجرها ضخمة كالمجمعات أو المولات. بل شاعت فيها متاجر صغيرة متخصصة، كلٌّ منها يبيع سلعة واحدة مما يلزم الطالبات لحصصهن أو حياتهن المدرسية، كزيّ الرياضة أو أدوات القرطاسية. أما المباني الضخمة الشاهقة، فجميعها مؤسسات بحثية.
تحوّل كل ممر وكل زقاق في هذه المتاهة إلى حيّ تسوّقي.
وحين رأت شيراي لافتة معينة وسط هذه المتاجر، أمسكت بيد ميكوتو وسحبتها إلى داخل المحل.
دخلت شيراي وهي تتنهد بخيبة أمل. 「عندما قلتِ مشينا إلى مكان، قصدتِ هذا؟」
「آه منكِ، هذه ضرورية من ضروريات الحياة!」 أجابت شيراي وكأنه البديهي.
محلٌ لملابس اللانجري.
المحل الصغير والضيق اتسم بتصميم داخلي بموادٍ ذات ألوان داكنة أساسيا على غرار متاجر التحف ومحلات الهدايا التذكارية. كان الضوء البرتقالي للغروب يتسلل عبر النوافذ —زودًا بزينة المصابيح— يملأ الداخل بضوء ناعم دافئ. وعموما، كان واضحًا أن الديكور صُمم لإضفاء جو من الراحة.
وإنّ ما زيّن المحل نفسه كان الملابس النسائية الداخلية بجميع الألوان والدرجات. إنّ دانتيلهم وألوانهم الزاهية ما كانت تتناغم تمامًا مع فكرة أجواء التسوق الهادئة. ولربما هذا ما قُصد من تصميمها، لإبراز البضائع أكثر وتترك انطباعٍ أقوى في أذهان الزبائن.
「أعني، أحس أنه لا ينبغي عليكِ أن تأتي إلى هنا مع من تعرفيهم. وكأنكِ تتباهين بذوقك في الملابس الداخلية」
「لا تخجلي. مِثلُ هذه المخاوف لا تعني شيئًا بيننا. فأنا أعي أن بذوق حبيبتي أونيه-ساما ومَيْلِها إلى الألوان الباستيلية والطفولية—أخ، أخ أخ! من فضلك لا تقرصي أذني فجأة أونيه-ساما!」
「...تنقلك الآني حقًا لمزعج، ولا لا يا كُروكو؟ هيا، اعترفي. متى تتحققين من نوع ملابسي كل يوم؟!」
「ول-ولماذا يهمك الأمر؟ فأنتِ أيضا ترين ملابسي الداخلية كل يوم」
「ليس وأنني أريد! يا ربي، ليس عليكِ أن تلبسي الفَضْلة [1] كالبيجامة! عَلّكِ تعرضينها عمداً لأنها تثيرك أو شيء، لكني أتقرف!」
「أوه، إذا تكلمنا عن البيجامات، فإن مَيلكِ نحو البيجامات الفضفاضة والباستيلية والطفولية هو أمـ—أخ! وأعلم جيدًا أنكِ عشقتِ ماركات كوين لوك هذا العام—آخ، كك؟!」
سحبت ميكوتو أذن شيراي اليمنى، لكن الأخيرة بدت سرورة بذلك.
على كل هذا الضجيج، لم يجذبن انتباه من حولهن. كانت الزبائن الأخريات مجموعة من ثلاث فتيات من مدرسة أخرى للبنات، وخلف الصَرّافة تقف عجوز، صاحبة المحل وحرفية الدانتيل، تبدو كأنها جزء لا يتجزأ من الصَرّافة وقد جلست هناك لعقود. لم يبدو على أحد منهم الانزعاج من صوتهن—كانت صاحبة المحل تقرأ صحيفة بالإنجليزية بهدوء. ولم تكن أصوات صريرهن الحادة مرتفعة بما يكفي لتثير الازعاج في هذه [الحديقة المدرسية] المليئة بالفتيات.
「أوه، أونيه-ساما. ألا ترين طقم الملابس الداخلية ذي القطعتين المعروض هناك حلوٌ؟」
「إني أسحب أذنك هنا، فكيف لك أن تقدمي توصيات هادئة سخيفة؟... هيه، يا غبية؟! ثمانين بالمئة تقريبا من هذه الثياب شفافة. ستضحكين الناس عليك إن اخترتِ هذا!」
「لكن هذا هو تخصص المحل، أفلن ترينه غريبا لو أنهم عرضوا ملابسًا غير احترافية؟」
「كأنك خبيرة في الموضوع، كُروكو」
「بالطبع، أنا المحنكة شيراي كُروكو، لا أَخبَرُ إلا في أشياء كثيرة تُحرِجُكِ خاصّة، أونيه-ساما—آخ!! ...آلمتِني، لا تفعليها أرجوك. مثل هذه العلاقة انقلبت... وصارت شيئًا مثيرًا بشكل غير متوقع. كِه كِه... كِهكِه. أرى لو أن أونيه-ساما أمسكت جزءًا من جسدي في وضح النهار وتعذبني حتى التأوه لهُوَ نوعٌ مشروعٌ من التسلية!」
「كُروكو؟ إذا سحبت أذنكِ أكثر من هذا، فلسوف تتمزق ونُحدث فوضى」
قالت ميكوتو وهي تبتسم وتُمدد أذن شيراي، لكن ميكوتو لم تغفل. عندما نظرت إلى طقم الدانتيل ذي القطعتين الذي أوصت به، احمر وجهها مسرعةً لتصد عينيها عنه. ابتسمت شيراي، سعيدة جدًا لرؤية ملامح ميكوتو المليئة بالخجل، لكنها فجأة انتبهت إلى أن ميكوتو في لحظةٍ وهي بدأت تنظر إلى شيء آخر بوجهٍ جاد.
「؟」
نظرت شيراي بفضول إلى نفس الاتجاه.
كان العالم خارج النوافذ المطلة على الشارع يغمره توهج الشمس بعد الظهر، ومنطادٌ ضخمٌ يطفو بعيدًا في السماء. كان المنظر غريبًا وسط المدينة العتيقة ذات الطراز الغربي. وعلى جانب المنطاد شاشةٌ كبيرة تعرض أخبار اليوم في المدينة الأكاديمية.
كان العنوان الرئيسي الذي تَرَيانه من محلهما عن إطلاق مكوك فضائي ناجح في الولايات المتحدة. ومقطعٌ مسجلٌ لإطلاق المكوك يُعرض مرارًا وتكرارًا من عدة زوايا.
حدّقت ميكوتو في الأخبار بجدية وطَوّلت، ناسيةً كل ما يتعلق بالملابس الداخلية، وشيراي لم تكن مهتمة. 「بتنا نسمع عن هذا كثيرا مؤخرا. إن لم تخنني الذاكرة، فرنسا وروسيا وإسبانيا أجروا إطلاقات الأسبوع الماضي. أليس من المقرر أن تطلق الصين وباكستان بعثاتهما في هذا الشهر؟ معلمتي في [الاقتصاد المُثَلّى] [2] دائمًا ما تخرج بمواضيع جانبية حول مزايا وعيوب المشاريع الفضائية」
وبينما تتحدث، نقرت برفق شحمة أذن ميكوتو بطرف إصبعها.
「بفف! ل-لِمَ فعلتِ، كُروكو؟!」 التفتت ميكوتو بسرعة نحو شيراي. 「أيا يكن، مدينة الأكاديمية أطلقت مكوكًا فضائيًا الشهر الماضي أيضًا. لحظة، مرة ثانية أخذتِ مادةً اختيارية لا تفيد؟ وبعد، لا تداعبي شحمة أذني! سيزيد غضبي إذا حاولتِ ودغدغتها!!」
كانت إعدادية توكِوَداي منظمةً للتعليم الخاص للبنات الموهوبات ذوات الإمكانية على أن يصبحن قادة في كل مجال من مجالات العالم خلال تعليمهن الإلزامي. وهذا يعني أن دروسهن مُنظَّمة بطريقة مختلفة عن كتب المدارس الإعدادية العادية.
「يبدو أنه منذ زمن بعيد...كانت التكنولوجيا والتمويل اللازمان لإطلاق صواريخ متعددة المراحل ومكوكات فضائية باستخدام مواقع إطلاق كبيرة يعني أن ليس كلَّ دولة أو منظمة تقدر على ذلك. لكن العالم اليوم اختلف... معي تقرير عن ذلك هذا الأسبوع، وكنت أبحث...،」 ثم أشارت بلا مبالاة إلى طقم دانتيل أسود من قطعتين قدمته لميكوتو.
「لا أظن [الاقتصاد المُثَلّى] سيُفيدك في الحياة أبدا. حسنًا، لو لديك تقرير، سأخبرك. عندما حصلنا على التقنية لربط صاروخ بأسفل طائرة وإطلاقه من الجو، انخفضت الحواجز عند الاختراق إلى الفضاء. طُوِّرت في بداية القرن، لذلك لن تجديها في أي من المصادر القديمة. انتبهي على هذا عند بحثك في المصادر لتقريرك」 تنهدت، وأعادت الملابس الداخلية السوداء إلى شيراي دون تغيير تعبير وجهها.
ثم لاحظت زوجًا معينًا من السراويل الصفراء الفاتحة وأبدت اهتمامًا، لكن...
「أوه، أونيه-ساما. إذا كنتِ مُصرة على هذا الطابع الطفولي، فالكل سيَصُدُّ عنك」
حدّقت ميكوتو إليها بعينين تسألان: ماذا؟ لكن هذا أمرٌ ما كانت شيراي لتتزحزح عنه. علّها لمحت جديّة في تعابير شيراي المتصلّبة، فحوّلت ميكوتو بتردد نظرها إلى ملابس داخلية أخرى. لكن كان هذا بالضبط ما قد يفعله الطفل.
「هف، ولكن حين يتغير كامل المحتوى المعرفي في موضوع كهذا، يصبح الأمر مربكًا حقًا. يبدو أن أمامي عملٌ شاق. وما عساي أتجاهل المَصَادِرَ القديمة أيضًا، فلعلّ بها معلومةً لا توجد في الحديثة」
「إنّ تَعلُّمَ تمييز المعلومات القديمة من الجديدة والخاطئة من الصحيحة هو جوهر الدراسة! بالإضافة إلى أن مجال الفضاء عرضة للتغير—تحدثي هكذا، وستكونين في ورطة لحفظ المعلومات. مثل كيف انتعشت الصناعة بفضل الخصخصة، أو كيف سُجِّلت أرقام قياسية جديدة باستمرار ويضطرون لإعادة كتابة الجدول الزمني—بفف! ت-تمهلي، كُروكو! صحيح أنه ليس طفوليًا، لكنه فوق الحدود...!!」 تلفظت ميكوتو وارتعشت لَمّا رأت اللبس التي التقطته شيراي، والذي كان مكشوفا متطرفا مبالغا إلى حدّ السوء.
「؟؟؟ ما المشكلة، أونيه-ساما؟」
「ل-لا شيء، ما عدتُ أهتم. لِكُلٍّ ذوقها. إنما أرجو ألا تسمع المعلمات أو المرشدات عن هذا」 أزاحت ميكوتو نظرها عن الملابس الداخلية المجنونة التي كانت في يد شيراي وتنهدت بعمق. 「ط-طيّب، هذا موضوع معقد. الأماكن التي لديها مواقع إطلاق لن ترغب في السماح للوافدين الجدد باقتحام سوق البحث والتطوير الفضائي. والأماكن التي تملك التكنولوجيا الجديدة تريد أن تُظهر أن لديها تقنيات أرخص وأضمن من الصواريخ والمكوكات القديمة. إذا دعموا التقنية القديمة أو الجديدة، فسوف تتراجع الأخرى. لذا كل الدول الآن تطلق إطلاقات كثيرة ليُثبتوا لرعاتهم أن تقنيتهم هي الأضمن」 لا زالت ميكوتو تحاول ألا تنظر إلى الملابس الداخلية في يد شيراي، لكنها تسترق النظرات بين الحين والآخر، وبدون قصد تمتمت، 「(على هذا الحال لِمَ لا تتعري فهو أسهل لك...؟)」
「؟؟؟ لماذا تصُدّين النظر عن هذه الأشياء؟」 وكانت تحمل بين ذراعيها عدة أزواج مختلفة من الملابس الداخلية التي أعجبتها. 「مدينة الأكاديمية هي المكان الوحيد الذي يمتلك كِلا النوعين من التكنولوجيا، لذا لا مشاكل معها. إضافةً نحن نحتكر كل الصفقات مع أكبر راعٍ لنا، الحكومة اليابانية، لذا الوضع مريح جدًا، لكن—أح」
توقفت شيراي، ورفعت يدها إلى فمها، شاعرةً بتشقّق طفيف في شفتيها.
راقبها ميكوتو وسألت، 「لمَ لا تضعين بلسم شفاه؟ التكييف يجففك مرة」
「أ-أنا بخير. في الواقع، نَفِدَ مني منذ البارحة」
المكياج ممنوعٌ عامةً في مدرسة توكِوَداي الإعدادية. وكانت القوانين صارمة جدًا—فأحمر الشفاه والماسكار الواضح كان ممنوعا بلا شك، وحتى بلسم الشفاه العلاجي وكريم اليدين (الذي كان الجميع يشك فيما إذا كان يدخل ضمن فئة "المكياج" من الأساس) كانا أيضا مستهدفين.
لذلك، أصبحت عادة بين الطالبات أن يستخدمن فقط كمية قليلة جدًا منه بحيث لا تُلاحَظ من بعيد. ولربما تُكتشف إذا اقترب أحدهم عن كثب، لكن لون ولمعان شفتي ميكوتو وشيراي كانا مختلفين قليلًا. وعلى أن هذا الأسلوب كان في الأصل حلاً اضطراريًا، إلا أنه بدأ يحظى بشعبية متزايدة حتى خارج توكِوَداي، مترافقًا مع مصطلحات غامضة كمثل "آداب الفتاة".
「همم...」 غاصت ميكوتو في شنطتها وأخرجت عودًا من بلسم الشفاه العلاجي. 「إذن، لنمر على محل المكياج بعد هذا ونشتري منه. استخدمي هذا مؤقتًا إذا أردتِ」
「؟!」 تفاجأت شيراي كُروكو عند رؤيتها بلسم الشفاه، الخالي من أي إثارة، والذي قُدم لها عفويا.
اتسعت عيناها وبدأت ترتجف بالكامل.
(ب-بلسم شفاه. أونيه، أونيه-ساما... شفاه أونيه-ساما، كانت تضعه عليها يوميًا، كان على شفتيها الخلابتين، هذا البلسم!! آه، آه. كُروكو، نعم، كُروكو سوف يااااااااااااااااااااااهـ!!!)
「ها؟ ما؟ هـ-هيه، ما بكِ—مهلاً، مهلاً، توقفي، كُروكو! لماذا تحاولين أكلها يا غبية؟!」
「أهـ!!... ذُهلِت فجأة لدرجة أنني قد أبتلعها بالخطأ」
「أظن أني أعرف السبب، لكن هذا البسلم جديد. أخرجته من علبة. وأصلا، لا يريد الناس استخدام بلسم شفاه استخدمه غيرهم أول المقام」
「هئ... جديدة؟...تشه، خيّبتي الآمال. آه، لكن! إذا أعدتُ بلسم الشفاه مجددا لأونيه-ساما، إذن...!」
「لن أحتاجه. فمعي غيره اثنان، فخذي هذا لك. يع، كُفّي! لا تفرضي على شفتي هذا البلسم بعدما لحستيه!」
بدأت شيراي وميكوتو تتشاجران كأبطال وأشرار أفلام هوليود، حيث يتصارعان على مسدس في نهاية الفيلم. فجأة توقفت ميكوتو تمامًا.
حينها أدركت شيراي—ميكوتو لم تكن تنظر إليها، بل اختُطِفَت عيناها بشيء آخر، شيء خلفها.
「؟」
بنظرة متشككة، استدارت لتنظر.
إلى وِسَادَةِ صَدر.
إن تلك الوسادات تُلبَسُ أساسًا تحت حَمّالات الفتيات اللواتي يفتقرن الثقة في أحجامهن، قيل إنها تحافظ على كبريائهن وفخرهن—نعم، تلك الوسادات الصدرية. لكن في الحقيقة وفي [الحديقة المدرسية] التي تملؤها فقط الفتيات—بمعنى آخر، لا أحد لتفرض عليه الفتاة كبريائها—لم تكن تلك الوسادات مطلوبة؛ بل كانت بضاعة باقية مهملة في الزاوية، تحوم حولها هالة من الحزن.
بقلق بسيط، مالَت شيراي برأسها قليلاً... ثم تذكرت.
ألم تقل ميكوتو شيئًا لها سابقا وهما تسيران في الحديقة المدرسية؟
—وكذلك كأنني سمعت أن أول ما تخسره الفتاة عند بدء الحمية هو دهون الصدر.
「هَهَهَه، إذن فهذا ما أزعجك! آهٍ يا أونيه-ساما، بفف. أرى أنكِ قد قستِ حجم صدركِ وخصركِ على الميزان فاخترتِ الأول، لا؟」
「ها...؟」 تصلّبت ميكوتو.
「لا... ليس هذا. ما كنتِ لتهتمي هذا القدر بنمو صدركِ، أونيه-ساما. مما يعني أنكِ ربما تخطّطين بآمالٍ غامضة بعض الشيء، كأن ترغبي في جسدٍ ناضج سريعًا أو أن يتوقف الناس عن معاملتك كطفلة. آهخ يا حُلوكِ يا أونيه-ساما! من يا ترى يكون الرجل المحظوظ الذي ترغبين في أن تتفاخري أمامه لهذا الحد؟ أيكون من في قلبك رجلا أكبر منكِ سنًا؟ فعلاً، أذكر أنني رأيتكِ وكأنك تنتظرين أحدًا أمام السكن في آخر يوم من عطلة الصيف. لم يبدو عليه أنه طالب في الإعدادية، لا؟」
توقعت شيراي أن مثل هذا الاستفزاز في هذا الوقت بالذات سيُبلِعُها لكمة من ميكوتو، وكانت قد خططت للحوار الذي سيأتي بعدها في رأسها.
لكن...
ميساكا ميكوتو، ذات المستوى 5 في المدينة الأكاديمية، والمعروفة بنجمة توكِــوَداي، احمرّ وجهها بدل الغضب، ونظرت إلى الأسفل دون أن تنطق بكلمة.
「أوه؟ أونيه-ساما؟ هيه، أونيه-سا—」
حينها شحب وجه شيراي كُروكو.
(ق-قلتها على سبيل المزح، فما بها أخذتها بجدية! أتُراها، أتُراها حقًا... )(ذلك؟! ذلك الرجل؟!—هاه. ذلك القرد اللعييييييييييييييييين!!!)
تخيّلت في ذهنها وجه ذلك الشاب فعضّت على منديلها، بل فعليًا مزقته. استغرقها الأمر بعض الوقت حتى تهدأ. فلَمّا هدأت، رأت ميكوتو تنظر إلى الوسادات الصدرية في تغليفها البلاستيكي من طرف عينها، متظاهرة بعدم الاهتمام أبدا. تُتمتم بشيء مثل، "هـ-ها، إذن فمثل هذه الأشياء تُستخدم،」 وكانت تبذل جهدًا كبيرًا لإخفاء اهتمامها، لكنه واضحًا جليًا.
「...جاءت وسادات الصدر بأنواع وأنواع. واه، كهذه — كأنها بالونات مائية، أو فيها جل أو مثل هذا」
انشغال ميكوتو أغضب شيراي، لكنها ما كانت لتتجاهل ما تقوله حبيبتها أونيه-ساما.
بمزاجٍ كئيب بسبب عدة أمور الآن، تنهدت فقالت، 「يبدو أنهم يحشون أكياس الفينيل بالجل عند تركيب زرعات الصدر. أعني، معظم الفتيات تحتجن مساعدة اصطناعية ليجعلوها تتحرك وتترجرج」
「تتحرك وتترجرج... وهـ-ومنها أشكال كثيرة مختلفة」
「لكلٍّ احتياجاته، أظن. ويا أونيه-ساما، أرى أن حجم صدرك سيتحول إلى ذلك النوع بعد أن ينمو قليلاً، ألا ترين الأمر كذلك؟」
「لا تشيري! حولنا زبائن آخرون!!」
دفعت ميكوتو إصبع شيراي بسرعة بعيدًا، لكنها أبقت عينيها وتركيزها على المنتج الذي أشارت إليه شيراي. وشيراي التي بدت شاردة الذهن، تنهدت—لو وضعت وسادة صدر ضخمة كهذه في حمالة صدرها، فسيلاحظ الجميع الخدعة بوضوح.
لبضع لحظات، نسيت ميكوتو الوقت، وراحت تراقب الوسادات بتركيز تام. ثم فجأة، تراجعت خطوة عن الرف الذي كانت عليه الوسادات ومالت برأسها. 「لكن في نهاية الأمر، ما إن أخلع ملابسي، ستنكشف الحقيقة」
「......................................؟! أ-أونيه-ساما. ل-لا تخبريني أنكِ قد خططتِ للمستقبل إلى هذا الحد؟!」
「هِه؟ أه، لا، ليس هذا يا كُروكو!! خلال حصص الرياضة! أتحدث عن تغيير الملابس خلال الحصة!!」 أصرت ميكوتو وهي تهز رأسها، وظلّ وجه شيراي متفاجئا متصلبا كوميدي.
- الجزء 3
انغمرت المدينة الأكاديمية بوهج المساء.
كانت [الحديقة المدرسية] تستخدم اللون الأبيض لونًا أساسيًا لمبانيها، والتي تعكس لون السماء برونقٍ فاخر. وحركة مرور الطالبات اللواتي يرتدين خمسة أنواع مختلفة من الأزياء المدرسية في تجمّعٍ عند المحطة؛ إذ يقترب موعد آخر حافلة. ومثل ميكوتو وشيراي، ربما كانت مساكنهن تقع خارج [الحديقة المدرسية].
لا إلزام عليهن أن يستخدمن الحافلة، لكن بعض أُولاءِ الفتيات كن جاهلات بعادات وشكل العالم الخارجي، بل يذعرن حتى من الخروج إلى المدينة الأكاديمية نفسها. وبعضهن يعشن في فقاعة ذهنية تحتوي فقط على السكن والحافلة والحديقة المدرسية.
شيراي وميكوتو تمشيان ببطء وسط زحمة العودة إلى المنزل المحمومة. بل في الحقيقة، غلبهما الإرهاق والتعب من أن ينضما إلى تلك الاندفاعات. وكانت حقائبهما الخفيفة تتمايل بصعوبة في أيديهما.
「ق-قلت لكِ مئة مرة، كنت أقصد بكلامي عن تغيير الملابس أثناء حصص الرياضة. أ-أعني، ليس هناك من شاب أعجبني أو لا — أو أقول لك؟ لا يهم أيا كان ما تفكرين」
「و-وكما قلت ألف مرة، لا زال الوقت مبكرًا جدًا عليك أن تخططي لمستقبلٍ به تخلعين ثيابك أمام رجل!」
「غغ! ما تسمعين! يا غبية الملابس الداخلية الدانتيلية الشفافة وأم الذوق الرديء!」
「ذ-ذوق رديء؟! ب-بل تلك الملابس التي وجدتيها كانت ظريفةً لدرجة طفولية، وبصفتي امرأة مثلك، فذلك قشعرني!」
ومجددًا تصارعتا، لكن سرعان ما انتهى ذلك، إذ أن طاقتهما قد استنزفت بعد جدالهما الطويل الأول. تنهدتا وسقطتا خائرتين من جديد.
لم تركبا الحافلة أصلا، لذا لم يزعجهما ذهاب آخر حافلة. ومع سيرهما وسط الطالبات في طريق المنزل، بدأت المتاجر تغلق أبوابها.
نظرت شيراي إلى المتاجر الدافئة وهي تمر بجانبها وقالت، 「أونيه-ساما، لا شك أنني سأبحث عن الحقيقة حول هذا الموضوع لاحقًا. لكن ماذا نفعل الآن؟ قد مر وقت طويل بسبب جدالنا. خطتي الحالية، خطة كُروكو العظيمة، هي الذهاب لأكل تصبيرة بعد التسوق」
「إيه. حتما سأوضح سوء الفهم لاحقًا. ألا نختم بهذا لليوم؟ فكل شيء في [الحديقة المدرسية] يُغلق بكيرا」
「همممم. ولكن ما يزال الكثير من المتاجر في الخارج مفتوحة. فعليًا ما نبدأ إلا بعدما نغادر. ولنا أن نذهب لأكل الحلوى في بيت الكُرُمِتسو」
「مم، كُروكو، استسلامك لهذه الإغراءات سَيَئيلُ بكِ سعيدةً وممتلئةً ونادمة في أماكن لا تريدينها—اكك؟!」
قبل أن تكمل ميكوتو كلامها، شعرت بانفجار تهديدي. بجانبها، كان وجه شيراي مائلًا للأسفل فلم تستطع رؤية تعبيره جيدًا. وإنها تُتمتم في نفسها.
「ك-كُروكو؟ أعِدُك، كنت سأختتم بالقول إذا أكلتِ تلك الأشياء، فسيتوجب عليك فقط بعض التمارين!」
「أونيه-ساما... واصلي في التلفظ بأشياء تجرح قلب العذراء، ولسوف أفرح بنقل ملابسك إلى شارع مزدحم وسط النهار والناس」
كانت شيراي —ويديها ممدودتان وأصابعها تتحرك— هي العدو الطبيعي لكل الفتيات في العالم. فإذا لمست أي شيء بتلك اليدين، سواء كانت تنورة أو ملابس داخلية، ستُشوّهها وتُنقِلُها إلى حيثما تشاء. نصف عارية أو عارية تمامًا — كل شيء تحت سيطرتها الكاملة.
بينما تخشى ميكوتو كارثة التعري التي تقترب، رنّ جَوّال إحديهما فجأة. لحنه خفف التوتر بينهما.
استمعت ميكوتو إليه — كان مختلفًا عن نغمة هاتفها فقالت، 「كُروكو...أما زلتِ تحملين كل تلك النغمات العبثية؟ أوتحتاجين حقًا إلى كل هذه النغمات؟」
「هِهِه هِهِه. وفوق ذلك، فهو صغير جدًا، وسهل الضياع، وصعبٌ الضغط على أزراره، ومشقةٌ النظر في شاشته」 ضحكت شيراي بتعب، وأخرجت جَوّالها.
لكنّه كان مختلفًا تمامًا عن أشكال الجَوّالات المعتادة. كان أسطوانيًا، كأنبوب أحمر شفاه، قُطره سنتيمتر وطوله خمسة سنتيمترات. الجزء الفعلي منه، شفاف ورقيق كالورقة، ينزلق من فتحةٍ على الجانب.
「يبدو مستقبليًّا جدًا، ولكن فائدته تكاد تنعدم」 قالت ميكوتو. 「جَوّال النصابين هذا」
「لم يسألك أحد! وأنا أحب الأشياء المستقبلية الغريبة. يومًا ما أريد أن أركب قطارًا يمر عبر أنبوب شفاف... أوه، اعذريني لحظة」
التفتت شيراي إلى ظهر ميكوتو، نظرت إلى الشاشة، ثم وضعت جزء الجَوّال الفعلي إلى أذنها. كان الرقم في قائمة جهات الاتصال خاصًا بمجموعة أمنية في مدينة الأكاديمية تُدعى الجدجمنت، وهي منظمة شرطة مضادة للأسابر، تشكلت لحل مشاكل المدينة وإن شيراي تنتمي إليها.
「نعم، معك شيراي! أُعلِمُكم أنني تسوقت أخيرًا مع أونيه-ساما اليوم وكنا في لحظةً ما أحلاها. فما الذي قد يكون مهمًا إلى درجة يعوق ذلك؟」
『واه... يا بختي أنني تمكنت من حماية عفة ميساكا-سان』
كانت المتحدثة على الجوال زميلتها من الجدجِمِنت. كان صوت الفتاة حُلواً حَلواً. وفكرت شيراي لو تقطع المكالمة هنا.
『شيراي، واجهتُ مشكلة لا تستطيع هاوية مثلي التعامل معها وحدها. أود أن أستشير سينباي في الأمر』
「تقصدين من حيث المستوى؟」
『نعم』
「على أنني الآن واقفة قرب أونيه-ساما وأستمتع بأفضل أوقات حياتي؟」
『إي. ويا لها من صدفة ما أنجزت. أنا متفاجئة حتى من نفسي! فهلا أضحك بصوت عالٍ لفوزي؟ وها-ها-ها-ها!』
ضربت شيراي مِصوات (ميكروفون) الجَوّال على جدارِ محلٍّ قريب.
『آي؟! ر- رنَّيْتِ أذناي، والسمّاعة كأنها اختربت لثواني...』
「اسخري مني أكثر وسأهديك هدية حُلوة. ما رأيك بصوت أظافرٍ على الزجاج؟」
『ع-على أي حال، سأكون في الفرع السابع وسبعين ومئة (177). الوضع في تصاعد، فتعالِ في ثلاثين دقيقة』
أنهت الفتاة المكالمة.
تنهدت شيراي كُروكو وهي تضع الجَوّال بعيدًا. ونظرت إلى ميساكا ميكوتو بأسف. 「أعتذر منك أونيه-ساما. هذا... حسناً، صعب جدًا عليّ قوله، لكن إحدى الحمقى الوقحين من الجَدجمنت كلفتني بعمل...」
「لا عليكِ. سأودعك بابتسامة كبيرة」
「...أشعر وكأنني سأبكي الآن. لا ندم لي. انتبهي على نفسك، أونيه-ساما」
توجهت شيراي نحو محطة الحافلات وقد تغيرت وجهتها. وأمكنها استقلال آخر حافلة لتقلل الوقت بدل المشي عبر مدينة الأكاديمية.
ففجأة قالت ميكوتو، 「كُروكو، أعلم أنه عليك الذهاب لعملك، لكن حاولي أن تُبكري العودة الليلة. فقد تَسُوءُ الأحوالُ بعد حلول الظلام」
「أوه، لم ألاحظ. نسيتُ التحقق من نشرة طقس اليوم. شكراً جزيلاً. وأراكِ في المهجع، أونيه-ساما」
انحنت شيراي تحية قصيرة، ثم استدارت وتوجهت إلى محطة الحافلات. سمعت خطوات ميكوتو وهي تبتعد، لكنها خفتت تدريجياً.
شعرت بالقلق من منظر السماء، فنظرت إلى الأعلى. لم يبدو أنها ستمطر، لكن—
(همم...؟)
شعرت فجأة بأمرٍ غير صحيح فيما قالته ميكوتو.
قد تسوء الأحوال بعد حلول الظلام.
قد يبدو هذا تعبيرًا عاديًا في البداية. لكن من بين الأقمار الصناعية الثلاثة التي أطلقتها المدينة الأكاديمية في الفضاء، كان أحدها، [المخطط الشجري]، وهو جهاز محاكاة مثالي يتنبؤ بكل شيء. وما كان الطقس استثناءً. فإن استخدام ميكوتو لكلمة "قد" الغامضة لم يكن شيئًا يُسمع كل يوم هنا.
(هذا يعني أن أونيه-ساما...)
رغم انشغالها بالمشكلة الحالية، كانت تلك الملاحظة تثير قلقها. آخر حافلة ستغادر خلال أقل من عشر دقائق. ضبطت حمل حقيبتها الرخيصة وبدأت تجري بكل قوتها نحو وجهتها. وبعد قليل، كادت تلك الفجوة في كلام ميكوتو أن تختفي من ذهنها تمامًا.
- ما بين السطور 1
الحي المدرسي 7 من المدينة الأكاديمية.
في زاوية من زوايا المدينة، في نفس الحي الذي تقع فيه [الحديقة المدرسية] ولكن بعيدًا وخارج منطقة مدارس الفتيات وبريقها، كان سكنٌ طلابي يعيش فيه فتى يُدعى كاميجو توما.
كان سكنًا مخصصًا للذكور بطبيعة الحال، لكن هذه الغرفة الواحدة استُثنَت من القاعدة. فقد كانت فتاة في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرها، ذات شعر فضي طويل، وترتدي حُلةً بيضاء بالكامل، تتقلب على الأرض هنا وهناك. وتعيش بالمجان.
إندكس المتقلبة على الأرض قد استحوذت تمامًا على التلفزيون.
كان برنامج الأرصاد الجوية يُعرض على الشاشة. في الخلفية خريطة ضخمة لليابان، وآنسةٌ مبتسمة ترتدي بدلة رسمية تُقدّم مؤشر "مدى ملاءمة الجو لتجفيف الملابس". حتى قبل بضعة أيام فقط، كانوا يُعلنون عن مستويات الأشعة فوق البنفسجية. أما بالنسبة لكاميجو، طالب الثانوية العادي، فقد بدأ يشعر قليلًا بتغير الفصول. (على أنهم ما زالوا في عِز موجة الحر الباقية من فصل الصيف)
قالت الراهبة دون أن تلتفت للخلف، 「توما توما! كيف يعرفون طقس الغد؟ كل ما يظهر على الخريطة يشبه حلقات جذوع الأشجار!」
جاءها صوت توما المليء بالضيق من مساحة المطبخ الصغيرة في الشقة ذات الغرفة الواحدة، 「إندكس، بَعّدي عن التلفزيون ولا تقربينه」 وكان يواصل إسقاط قطع الدجاج المتبلة في الزيت. يُحضّر العشاء: دجاج مقلي. 「وتلك "حلقات الأشجار" كما سميتها تُدعى خطوط الضغط أو الإيزوبار. فَبِها يُقدّرون بشكل تقريبي إن كان الطقس سيكون غائمًا أو لا، بناءً على الضغط الجوي في الجبال والوديان وما شابهها. في الواقع، أحيانًا تصطدم السحب بالجبال فتهطل أمطار، لذا ليس الأمر بالضغط الجوي وحده」
「هاه؟ تمهل... أحقًا؟ تقرؤون الكوارث من الجغرافيا...؟ أوه! فهمت! مدينة الأكاديمية اكتشفت طريقة للعِرافة الأرضية بوسائل صناعية!!」
「أراكِ ترتجفين من الفرحة، لذا سأدعكِ وشأنك. وأُكلّم القط بدلا منك. هيا تعال حان وقت تذوّق الطعم المقلي!」
أخذ كاميجو قطعة من الدجاج المحمّر الخارج للتوّ من الزيت بملقط معدني، وضعها على طبق صغير، ثم وضع الطبق على الأرض. فانتفض القط الكاليكو فجأة، والذي كان ملتفًا بجانب إندكس. وكأنه سهم أُطلق من قوس، اندفع نحو الطبق وبدأ يلتهمه بلُقيمات صغيرة، ثم تدحرج على الأرض كأنه يقول: "حرقتني! إنه حار لكنني سآكله! لكنه حار!" ثم عاد ليأخذ لقمة أخرى. أخرج توما طبقًا آخر وسكب فيه ماءً. لا يبدو أن هذا القط كان قطّ شوارع من قبل؛ من المؤكد أن أحدًا رباه من قبلهم. حتى صوت القلي المتواصل لم يجعله يتصرف بحذر.
عندما رأت إندكس هذا المشهد، هبّت واقفة من أمام التلفاز وصرخت منفعلة، 「ي-يا ظالم! كلما أخذت الطعام بهذه الطريقة، تصرخ في وجهي! أما مع سفنكس فأنت تُدلِلُه! أنت ظالم يا توما!」
「ماذا؟ لا، أنتِ حرفيًا تفترسين كل شيء حالما أغفل عنكِ لحظة... واااه، انتظري! هذه القطعة لم تنضج بعد! لقد تبلّتها توّي! توقفي!!」
وببراعة بالملقط المعدني، خاض كاميجو معركة يائسة للدفاع عن عشاء الليلة، محافظًا عليه من آلة التنظيف البشرية القادمة نحوه بكل طاقتها. وفي أثناء ذلك، بدأت بعض القطع تحترق. أما الراهبة الجائعة الغاضبة، فقد عضّت رأسه مكان الطعام.
ثم فجأة، أمالت رأسها ببراءة طفولية وقالت، 「مهلا يا توما... أحيانًا تقول الآنسة في نشرة الطقس أشياء خاطئة. هل العَتاهة صفةٌ تُميّز المذيعات؟」
「بما أنكِ أَنْتِ القائلة، فيا لَنَحسِها أن تُلَقّب بذلك من خفيفةِ عقلٍ—أح! هيه!!」 صرخ متزامنًا مع صوت "قضمةٍ". 「يـ-يعني، ليكن في علمك، توقعات الطقس ليست مثالية، حتى وإن تصرّفوا وكأنها كذلك. كانَتْ مثالية، لكن يبدو أن أجهزة حساباتهم تعطلت」
「؟؟؟」
إنّ علامات الاستفهام ملأت ذهنها، لكن كاميجو لم يشرح لها أكثر.
المخطط الشجري.
أقوى حاسوب خارق في الوجود. كان يستطيع التنبؤ بحركة كل جسيم هواء على سطح الأرض بدقّة مذهلة. وكان أحد الأقمار الصناعية الثلاثة التي أطلقتها المدينة الأكاديمية إلى الفضاء — لكنه لم يعد موجودًا في هذا العالم.
نظر كاميجو نحو التلفاز.
كانت نشرة الطقس، التي لم يعد يقف خلفها أي ترس مثالي، قد انتهت، وبدأت نشرة المرور مع أخبار التأخيرات.
اختر اسم وأكتب شيء جميل :)