-->

الفصل الثالث: ضٓوْءٌ وَسطَ الْخَرَابِ مُخْتَبِئ. — "بقايا".

(إعدادات القراءة)

انتقال بين الأجزاء

  • الجزء 1

كان لمدرسة توكِوَداي الإعدادية مهجعان للطالبات: واحد في الحديقة المدرسية، والآخر خارجها.

وإنّ شيراي كُروكو وميساكا ميكوتو تسكنان معًا في المهجع الخارجي.

「كه... هاه...؟!」

بالكاد جرّت شيراي نفسها حتى الباب الخلفي للمهجع، ثم كادت أن تتقيأ كتلة من الدم. وبعد أن ابتلعت طعمها المرّ في حلقها، واصلت التقدم. تحتاج إلى إسعاف نفسها بأسرع وقت ممكن، لكن جسدها لم يستجب كما تريد. وبالنظر إلى الألم الذي تعانيه، ما كان بوسعها الاعتماد على قدرتها الانتقال الآني إذ أن قوتها الآن غير مستقرة.

كتفها الأيمن وجانبها الأيسر وفخذها الأيمن وساقها اليمنى.

تلك هي المواضع التي غُرز فيها المعدن الحاد، ممزقًا قماش ثيابها، ودافعًا بقوة في جراحها. ومع كل خطوة تخطوها، تشعر الفتاة شيراي بتيبّس غريب بين ثيابها وبشرتها، يضيف إحساسًا غريبًا إلى ألمها.

حقيبتها الهشة ذكّرتها بثقل دمبل.

وهذا أدركها مقدار ما فقدته من طاقة. واستقر في بطنها بردٌ مُرجف.

وحين وصلت إلى وراء المهجع، نظرت إلى صف النوافذ ولاحظت أن أضواء غرفتها مطفأة.

(أشوى... أونيه-ساما لم... تعد بعد...)

ابتسمت ابتسامة واهنة، وجمعت ما تبقى من طاقتها في مركز جسدها.

ما وجدت سبيلا لتدخل من الباب الأمامي وهي بهذه الحالة الممزقة. وبحسابات بالية صاغتها من الألم والارتجاف والذعر، انتقلت آنيًا مباشرة إلى غرفتها.

لبرهة، شعرت بخفة في جسدها.

إحساس عبور الفراغ كان أقرب إلى أن يُقذف المرء في الهواء منه إلى انعدام الجاذبية. كان أشبه بأفعوانية، وتوتر ثقيل أخذ يتصاعد تدريجيًا من معدتها.

「... غه...」

وحين وجدت نفسها بأمان على أرضية غرفتها المظلمة، أخذت تتمايل مترنحة دون أن تشعل الضوء، تجمع عدة الإسعافات الأولية وزيًا نظيفًا. وقلّلت من العمل الذي عليها فعله قليلًا بقرارها استخدام الملابس الداخلية التي اشترتها أول هذا اليوم. وبعد أن فتحت مشبك حقيبتها، أخرجت منها الطرد من محل اللانجري.

وفي يدها الطرد، فتحت شيراي باب الحمام ودخلت. لم تكن نوافذ، لذا حلّت الظلمة المكان وحَلُكَت. وبعد أن أغلقت الباب، تحسست بيدها تبحث عن مفتاح الإضاءة فكَبَسَت عليه. وبصوت نقرة، ملأ الضوء الأبيض الفلوري الحمام الصغير.

「آه... غه...」

خارت من يديها القوة، فتهاوت كل الأشياء التي كانت تحملها على الأرض الصلبة. حاولت أن تسند نفسها على الحائط لكن اللَوْلابة (فَتّاحة الخمر اللولبية) المعدنية المغروسة في جنبها خدشه في الأثناء. ارتجف جسدها وكأن صعقة كهربائية ضربتها، وفقدت توازنها وسقطت فاشتعلت في جسدها آلام أخرى من كل نوع.

(أغسـ...ـطس...الحادي...والعشرون...)

لم تستطع التفكير بصفاء من شدة الألم. ومع ذلك وهي على الأرض جالسة حاولت أن تسترجع الأحداث. هل مِن ما يثير الشكوك في الحادي والعشرين من أغسطس كما قالت تلك المرأة؟

(إن لم تخنّي الذاكرة... أونيه-ساما لم تعد حتى آخر الليل... وهو نفسه اليوم الذي ظهر فيه ذلك الفتى فجأة في مهجع الطالبات...)

وبينما أمسكت بطرف الخيط، بدأت تسحب باقي الذكريات من أعماقها.

(ذلك الفتى اختفى في لمح البصر...آه، صحيح. دُمية الدب الموجودة تحت سرير أونيه-ساما كانت قد سُحِبت إلى الخارج، ثم هبّت عاصفة غريبة عبر الشوارع. سمعت أن ساحة تبديل القطارات في أطراف المدينة الأكاديمية شهدت نوعًا من الانفجار، وأن الناس رأوا أضواء شديدة السطوع...)

وأخيرًا، تذكرت الشائعات التي كانت تتناقلها الألسن في ذلك اليوم، فرفعت رأسها رغمًا عنها.

(معلومات غير مؤكدة بل أقرب لشاعات تقول إن أقوى الأسابر ذو المستوى الخامس في المدينة الأكاديمية قد هُزم...إغ...)

كانت قد سمعت أن هذه القصص جرى التعتيم عليها فورًا من قِبل رئيس مجلس إدارة المدينة الأكاديمية، تجنبًا لإثارة الفوضى والاضطراب العبثي. وبسبب ذلك، لم تعرف شيراي مَن كان بالضبط الذي هَزم الأقوى في المدينة.

انفجار ضخم، أضواء لامعة، وعاصفة تعادل سبع درجات على مقياس ميركالي. ساحة تبديل القطارات، التي يُعتقد أن الحادث وقع فيها، بدت وكأن قنبلة قد انفجرت فيها. كان العمل على إعادة الإعمار بقيادة الأنتي-سكِل، وقد ساعدتهم شيراي أيضًا بصفتها عضو في الجدجمنت. في ذلك الوقت، ردد الجميع نفس الكلمة.

آثار هذا الدمار ليست عادية.

ذو المستوى الخامس الذي تسبب بكل ذلك كان بلا شك الأقوى في مدينة الأكاديمية.

لكن...

كم تُرى كانت قوة ذلك الذي واجَهَهُ بثباتٍ وسط كارثةٍ كتلك؟

(وليس هذا فقط...)

شيراي قد التقطت دليلا آخر وحدها.

(من الممكن جدًا أن أونيه-ساما كانت حاضرة في موقع المعركة بين ذانِ الإسبرَيْن...)

لقد رأته.

رأت كل حاويات الشحن في ساحة التبديل وقد تحطمت، ومحتوياتها متناثرة في كل مكان. أشياء كثيرة من كل الأنواع والأشكال والأحجام ملأت المكان. ما كان أحدٌ ليقف ويفكر بشأن قطعةٍ نقدية ملقاة على الأرض—لكن شيراي وقفت.

وما التقطتها حتى أدركت الحقيقة.

كانت عُملةً رخيصةً تراها في ألعاب الأركيد.

وكانت أيضًا عُملةً تُفضِّلُها فتاةٌ مُعيّنة في مدفعها الريلڠن.

قطع الألمُ الشديد سلسلة أفكارها. لا شك أن الحادي والعشرين من أغسطس لم يكن يومًا عاديًا. لكن إلى أي مدى كان لهذا علاقة بما يحدث الآن؟ ما عساها أن تعرف.

اختتمت بأن علاج جراحها الآن أولوية.

لمست برفق اللَوْلابة (فَتّاحة النبيذ اللولبية) المغروسة في كتفها الأيمن — أول إصابة تلقتها. كان ذلك المعدن الحاد السميك الحلزوني سيُمزق عضلاتها أكثر إن حاولت إخراجه بطريقة عادية. ولحسن حظها...

「بخ...يا لها من قدرة نافعة في مثل هذه الأوقات」

نقلت اللولابة آنيًا. اختفى من كتفها وظهر أمامها، وبما أنه لم يعد هناك ما يدعمه سقط مباشرة على الأرض مُصدِرًا رنينًا معدنيًا واضحًا.

انبثق الدم من كتفها؛ قد فتحت جرحها فسال الدم بغزارة. لم تكن قد أزالت السهام المعدنية وغيرها لأنها لم تكن مستعدة حينها لإيقاف النزيف.

تأوهت بينما كان عالمها يتمايل من حولها، ثم هزت رأسها لتجبر نفسها على التركيز. وبنظرة إلى المفتاح الملطخ بالدم على الأرض، نقرت بلسانها مغتظة.

(مقبض من بورسلان الماجوليكا على فتّاحة من شيفيلد...بلا اهتمام بمكان الإنتاج، أو التاريخ، أو أي تقاليد أو مبادئ — ما هي إلا لَوْلابةٌ بلا هوية. يا لمُتَكَبِّرةٍ صادَفتُها.)

وبينما بدأت في نقل السهام المعدنية في جانبيها وساقيها، أخرجت جَوّالها بيدها الخالية وأدخلت رقم ويهارو كزاري.

『ألو ألو، معكِ ويهارو. شيراي-سان، قد بحثت في ما طلبتِ... واه، أأ، كنتِ بدوتِ تلهثين من الألم...』

كانت شيراي قد أجرت مكالمة سريعة مع ويهارو قبل أن تصل إلى المهجع، وشرحت لها ما حدث — كيف خسرت، وكيف سُرقت الحقيبة مجددًا — ثم طلبت منها التحقيق في [المخطط الشجري]، والبحث عن هوية المتنقلة الآنية، ومحاولة تحديد مسارات الهروب المحتملة التي ربما استخدمتها، رغم أن ذلك سيكون صعبًا بالنظر إلى قدرة تلك المرأة.

كما أوصتها بإبقاء مسألة إصابتها طي الكتمان. فهي تعرف أن عدم فعل ذلك ربما يفتح أمامها باب عرقلة من نوع آخر.

الأنتي-سكِل —بقيادة هيئة التدريس— كانت هي من تتولى المهمات الأهم، وليس منظمة الجدجمنت الطلابية.

وكان لذلك سببان: أولا، لأنهم لن يسمحوا بتعريض الأطفال للخطر، وثانيًا، لأنهم لن يمنحوا الأطفال سلطةً طاغية على الآخرين.

وبهذه الإصابات الكبيرة، كانت المدينة الأكاديمية ستقيدها عن القيام بأي مهام أخرى. لكن تلك المرأة المتنقلة الآنية قد تحدثت عن أمورٍ تثير تساؤلات كثيرة بشأن ميساكا ميكوتو، نجمة توكِوَداي، وأخرى مشابهة.

ما أرادت شيراي الاستسلام بهذه السهولة.

『أحقًا أنتِ بخير؟ البنت المِقدامة ليست هَبّة هذه الأيام لو ما تدرين』

「لا أحد...سألك. هل وجدتِ شيئًا؟」

وبينما تلقي السهام الدموية على الأرض، حركت شيراي جسدها الممزق لتصل إلى ملابسها. خلعت كنزة الصيف، وقميص الأكمام القصيرة، وسَحّابات التنورة، ثم تأوهت. لقد تلوث الأحمر حتى ملابسها الداخلية، كما أدركت، فخلعت كل ذلك وألقته على الأرض أيضًا. ولم تكن قد نزعت حذاءها الجلدي عند دخولها، فخلعته الآن، ثم جواربها، ثم الأحزمة الجلدية المعدنية التي تحمل السهام حول فخذيها. وباتت الآن بلا أي ملابس، فبدأت تفحص جراحها بتفصيل أكبر.

『بالنسبة للإسبرة الآنية — بنك البيانات يقول إن في مدينة الأكاديمية ثمانيةٌ وخمسين إسبرا منهم، بمن فيهم أنتِ. لن تجدي كثيرا ممن يستطيعون إجراء حسابات خاصة في الأبعاد الأحد عشرية』

「هل هناك...من...يطابق...معلوماتي؟」

سحبت حقيبة الإسعافات الأولية نحوها بيد ملطخة بالدماء.

『هناك تسعة عشر شخصًا يمكنهم نقل آنيا عدة أشياء في آن واحد، وأنتِ من بينهم. وكذلك، وجدتُ حوالي ثلاثة يُطابقون وصف الجانية التي أعطيتِني إياها. لكن واحدةٌ فقط منهم غائبة بلا عذر. الآخران ظهرا في تسجيلات الكاميرات』 ثم، وبغير استعجال، أعطت ويهارو خلاصة بحثها، 『مُسُجيمي أواكي، طالبة في السنة الثانية في أكاديمية كيريڠاوكا للبنات. تستخدم قدرة انتقال آني مثلك، لكنها تعمل بطريقة مختلفة قليلًا』

「كما... اكتشفتُ... أعني، فهي أخَذَتْ... عشرة رجال دفعةً... وجعلتهم يصدّون الضربات عنها! لابد أن وزنهم...كان حوالي سبعمئة كيلوغرام بالمجموع. هذه... قوة تفوق بكثير... قدرتي」

لم تنكر شيراي ضعفها — ما دامت تؤمن بوجود مخرج من هذه الورطة.

فتحت غطاء حقيبة الإسعافات وأخرجت أداة أسطوانية الشكل. ثم أغلقت الغطاء وضغطت على الأنبوب فأفرغت الجل على جراحها. كان هذا طقم علاج إسعافي للجروح الخارجية بثلاثة تأثيرات: تعقيم الجرح، وقف النزيف، ومنع انفتاحه. ويُقال إن عالمًا طبيًا بارعًا يُلقب بهِڤن كَنسِلر قد صنعه، لكنه غير متاح لعامة الناس. يمكن به إغلاق معظم الجروح، لكنه لا يتعامل مع الحالات الدقيقة غير المنتظمة. وإن لم يُجدِ نفعًا، فالخطوة التالية هي زيارة الطبيب.

『طيب، نعم، الأمر مختلف جذريًا. انتقالك الآني يُلزمك أن تلمسي شيئًا ثم ترسلينه إلى البعيد — أي من عِندك إلى النقطة أَلِف. أما مُسُجيمي، فتستطيع تحريك الجسم البعيد إلى مكان آخر — أي أنها ترسل الشيء من النقطة أَلِف إلى النقطة بَاء. في حالتها، نقطة النقل ليست ثابتة』

「إذن لهذا السبب... تلك الفتاة سَمَّت قدرتها موڤ پوينت...」

عضّت شيراي شفتها وفكرت قليلًا. لقد كانت مُسُجيمي تحرك الأشياء في كل مكان دون أن تلمسها بيديها. لكنها لم تحاول أبدًا استخدام قدرتها على جسد شيراي نفسه. ولو كانت قادرة، لَغَرستها على الحائط مباشرة بدل اللجوء لوسائل ملتوية كاستخدام أسلحة مقذوفة. ذلك مؤكد.

『معي هنا بيانات تجريبية مشوقة. على ما يبدو، لا يمكن لقدرتها أن تُستخدم لنقل الأسابر الآخرين الذين يملكون قدرات مشابهة. وبما أن [حقول انتشار AIM] لا تزال موضوعًا جديدًا في الأبحاث، فلا أحد يعرف السبب، لكن من الواضح أن [حقول AIM] لإسبرين متشابهين تعيق قدرة مُسُجيمي... ووفقًا لهذا التقرير، فإن الأمر لا ينطبق على مُسُجيمي وحدها، بل على أي شخص يمتلك قدرة انتقال آني — لا يمكنهم نقل شخص آخر يملك القدرة نفسها. هل هذا صحيح يا شيراي-سان؟』

「لا أعلم! هذه أول مرة أقابل فيها أحدًا آخر متنقل آني」 وشمت.

لم تجرب ذلك من قبل، لكنها خَمَّنت. فذوو الانتقال الآني يتنقلون وهم يضعون في أذهانهم إحداثياتهم المطلقة في أحد عشر بُعدًا، لا في ثلاثة فقط. وحتى لو حاول أحدهم تغيير الإحداثيات المكانية لمنتقِلٍ آخر، فإن نظام تحديد الموقع الذهني ذاك سيعيق العملية مثل إسفينٍ.

『ولدي أيضًا بيانات قديمة مملة. قبل عامين، في منهجها الدراسي، خرجت قدرات مُسُجيمي أواكي عن السيطرة، ويبدو أنها أُصيبت بجروح بالغة آنذاك』

「...نعم، هذه بالفعل بيانات مملة. لا شيء في كل هذا يوحي بوجود نقطة ضعف. فكيف لوحشٍ مثلها أن ينحصر في تصنيف المستوى الرابع؟」

وبينما تفكر، أخرجت شيراي بعض المناديل من جيب تنورتها الممزقة، وبدأت تمسح الدم العالق بجراحها. كانت بشرتها —على نحو غريب— باردة قليلًا وهي تستشعر مرونتها الخفيفة تحت لمساتها.

『أرى أنكِ تستطيعين القتال على قدم المساواة حتى وإن كان الخصم من ذوي المستوى الخامس رسميًا، وذلك يعتمد على أسلوبك في المواجهة. وعَلّك تجدين فيها نقطة ضعف』 (الكلام كلام، سهلٌ قوله عبر الهاتف،) كما فكرت شيراي. 『أما بخصوص [المخطط الشجري]، نعم...』

「أود أن أصدق أنها كانت تهذي كالمجنونة، لكن من نبرتك لا أستبشر خيرا」

بدأت شيراي تلف الضمادات فوق الجل الذي غطّت به جراحها. أمكنها أن تشعر بأنها تتعرق قليلًا، ولمس القماش أكّد ذلك.

『لا. لقد بحثت عن تقارير إخبارية حول تدمير [المخطط الشجري]، لكن لم أجد شيئًا. يقولون إنه ما زال يحوم في مدار القمر الصناعي، وأن الصيانة خارج المركبة المقررة لمكوك مدينة الأكاديمية الذي أُطلق الشهر الماضي لا علاقة له بالموضوع』

「إذن ما الذي يحدث فعلًا؟」

عقدت شيراي حاجبيها، وأوقفت عملها للحظة، ثم عادت بذاكرتها إلى الصورة الوحيدة التي أُريَت لها وهي ملقاة في ذلك الزقاق — صورة لقمر صناعي محطّم.

ويبدو أن ويهارو لم تكن مقتنعة أيضًا. 『أفترض أن هذا خبرٌ حسن...؟ إحدى فرقنا أمسكت بالشخص الذي سُرقت منه الحقيبة، لكنه كان مجرد ساعيًا. قال إنه تلقى أوامر من الحي المدرسي 23، وإنه لا يعرف شيئًا عن أي قمر صناعي. استخدمنا إسبرًا قارئا للأفكار للتحقق من أقواله، وقد أكّد ما قاله』

ساعي.

خمّنت شيراي أنه كان محترفًا، فقد بدا متمسكًا بعَمَله بشدة إذ حاول ملاحقة مجموعة الجناة حتى بعد أن سرقوا أمتعته...

「إذن من المنطقة 23 ستصل محتويات الحقيبة إلى منشأة أبحاث أخرى في المدينة الأكاديمية. ولهذا استخدموا ساعيا لنقلها. ثم جاء أحدٌ آخر — على الأرجح مجموعة مُسُجيمي نفسها — وسرقتها. والساعي أراد استعادة الحقيبة، لكنه لم يستطع إثارة ضجة لأنها عملية سرية من الأساس. ولهذا أرادوا لاستعادتها بأنفسهم — أهذا ما حصل؟」

حرّكت شيراي ذراعيها وساقيها المضمّدتين ببطء لتتأكد من عدم خروج أي دم. كان الجل سريع الجفاف قد تصلب، مغلقًا الجراح تمامًا.

『أتساءل لأي قسم في الحي 23 حاول إيصاله، لكن التحقيق مع اللصوص يبدو أكثر أهمية. أظن أن هناك احتمالا لوجود منظمة خارجية معادية لمدينة الأكاديمية تعمل خلف الكواليس. لديكِ شهادة شاهد عيان، وأكثر، لو كانوا من المدينة أيضًا لما لجؤوا إلى عملية سطو فجّة كهذه』

「...منظمة خارجية معادية للمدينة. أيمكن أن تكون مُسُجيمي مرتبطة بشيء كهذا؟ فمن تكون بالضبط؟」

『لقد تغيّبت كثيرًا عن أكاديمية كيريڠاوكا للبنات. وكل تلك الغيابات كانت بعذر أيضًا. وهذا لا ينبغي أن يحدث إطلاقًا إن لم تكن تقوم بعمل لصالح الجدجمنت』

「أتقولين أن العمل الذي تعمله يضاهي عملنا؟」

وانخفض صوت ويهارو أكثر، 『لا أؤكد، لكن وفقًا للبعض...هي [ الــمُــرْشِـــدَة ] . إلى المبنى عديم النوافذ』

『...مقر رئيس مجلس مدينة الأكاديمية』

كان هذا أشبه بإشاعة في الأفلام—أنّ زعيم المدينة الأكاديمية يعيش في مبنى خاص قادر حتى على امتصاص وتفريق أثر ضربة من صاروخ نووي. لم يكن له مداخل أو مخارج، لا أبواب ولا نوافذ، ولذا—على ما يبدو—يحتاجون لاستخدام 「مرشِدٍ」 قادر على الانتقال الآني إلى الداخل والخارج.

لكن إن كانت تلك الشائعات صحيحة (أو إن كان الأمر أكبر)، فإن مُسُجيمي ستكون مطّلعة على ظروف يجهلها عامة الناس. ولن يكون غريبًا أن تكون على اتصال ببعض الأشخاص المميزين. وربما كانت المنظمة الخارجية ترى أن هذا مهم.

「لا أعلم ما هي ظروف مُسُجيمي، لكني سأضع في اعتباري أنها كانت على اتصال بمنظمة خارجية وتسببت في هذه الحادثة. محتويات الحقيبة... سمّتها [الــبــقــايــا]. والآن بعد أن صارت لها...」

『...كل ما عليها هو إيصالها إلى المنظمة التي تنتظر خارج المدينة فتُسلِّمها لهم』

「أتعرفين أي طريق سلكته؟」

مدّت يدها لتغير ملابسها الداخلية، لكنها لاحظت مجددًا أن على يديها دمًا. فتوجهت إلى المغسلة عوضا وغسلت يديها. في موقف عادي، لبدت وكأنها حمقاء—فتاةٌ بنتُ قرنين (تسريحة شعر ذيلين جانبين) تغسل يديها وهي عارية، والجوال بين وجهها وكتفها.

『هذا صعب. مع الانتقال الآني، لن يهم أي طريق ستسلك. أنتِ تعرفين كما أعرف أن حتى أنظمة أمن المدينة الأكاديمية بها نقاط عمياء』 وتوقفت قليلًا، 『أوه، لكن إن كان الأمن قد يتمكن من كشفها، فهذا قد يعطينا دليلًا』

「ماذا تقصدين؟」 سألت شيراي وهي تجفف يديها بمنشفة، ثم أدخلت قدميها في سروالها الداخلي، وشدته إلى خصرها دفعةً—لكن بالغت بعض الشيء، فأنزلته بيديها قليلا.

『إن كانت ستتسلل عبر نقاط ضعف أنظمة الأمن، فعلينا فقط أن نفحص جميع النقاط العمياء. مقارنةً بكامل المدينة الأكاديمية، فما يسعنا أن نغطي إلا مساحة أقل بكثير، صح؟』

「...تقولينها وكأن الأمر سهل. تراني مصابة... أخ!」

فور أن حاولت ربط مشبك حمالتها الصغيرة خلف ظهرها، شعرت بألم في جنبها. لا بد أنها قرصت جلدها. عبست لعدم اختيارها حمالة أمامية الإغلاق أو حمالة بلا مربط، ثم فركت جنبها. لحسن الحظ، لم يؤد ذلك إلى فتح جرح جديد.

「...」

ألقت شيراي كُروكو نظرة سريعة على ملابسها الداخلية. قد قالت ميساكا ميكوتو إن ذوقها سيئ، وقد أحبطها ذلك (بدرجة جدّية إلى حد ما). ولكنها لم تهتم كثيرًا بتصميم الملابس الداخلية بحد ذاتها. فالملابس الداخلية ليست للعرض—بل للبس. وهي تفضل الملابس الأريح على غيرها في أي يوم. الأقمشة في الملابس الداخلية ذات التصاميم الطفولية أحيانًا تكون سميكة ورخيصة، ويزعجها احتكاكها بالجلد عند الحركة. وبصدق، إن كنت ستختار شيئًا كذاك، فكانت تفضل ألا ترتدي شيئًا تحت التنورة أصلًا (ولكن في حالتها عليها أن تحافظ على وقارها لتتمكن من استخدام قدراتها). هي وميكوتو لم تتفقا على هذا، وهو أمر مخيّبٌ لها.

بعد انتهائها من الملابس الداخلية، لفت الأحزمة الجلدية التي تستخدمها لحمل السهام المعدنية حول فخذيها. لم يكن لديها قطع بديلة. وبعد أن مسحت بالكحول المعقم اللولابة التي كانت مغروزة في جسدها من حقيبة الإسعافات الأولية، أعادتها إلى أماكنها.

『مم، حسناً، اسمعي. إذا كانت تحاول الخروج من مدينة الأكاديمية بالانتقال بين النقاط العمياء انطلاقاً من مسرح الجريمة، فباحتساب المسارات فوق الأرض وتحتها، هناك بطبيعة الحال عدة طرق متاحة لها. لذا، فإن البحث الشامل سيكون—』

「...أص!」

شعرت شيراي بوجود أحد، فأغلقت الجَوّال بسرعة. وبعد لحظة، سمعت أصوات دخول إلى الغرفة من وراء باب الحمّام الرقيق. وبنظرة خاطفة نحو الباب، أدركت أنها نسيت قفله، فسارعت إلى إغلاقه بالمزلاج. وصوت المعدن حين انغلق بدا مصطنعاً على نحو مزعج.

『...كُروكو؟』

لا مجال للخطأ في هذا الصوت. فحتى مع كونه مكتومًا قليلاً بألواح الباب الرفيعة، عرفت على الفور من هي. بل كانت لتكتفي بسماع تنفسها لتجزم بأنها ميساكا ميكوتو.

『ما الأمر؟ تأخذين حمامًا؟ ليتك على الأقل شغّلتِ الأنوار حين عدتِ. المكان كان مظلمًا حالَك. ماذا كنتِ تفعلين؟』

ارتجفت شيراي فجأة. لن تسمح لميكوتو أن تراها وهي بهذه الحالة المزرية. بل يجب ألا تتصرف حتى بطريقة قد تُخَيّلها ذلك. فالفتاة أمامها من النوع الذي يحمل هموم الآخرين على عاتقه أكثر مما تدرك هي نفسها.

「أ-أسميها الحفاظ على الطاقة، أونيه-ساما. كُروكو الصغيرة المسكينة كانت لطيفة ومراعية تحاول أن تُبطئ ولو قليلاً من الاحتباس الحراري العالمي」

『هَهَهَه. تعلمين أن جلّ المدينة الأكاديمية تعمل بطاقة الرياح. لا علاقة لثاني أكسيد الكربون بهذا. ولها دعمٌ بمصادر لا تعتمد على الوقود، كالطاقة الشمسية مثلا. أعني، تشغيل المكيّف مشكلة أخرى، لكن...』

「ماه، أونيه-ساما، إنما كنتُ أريد ذريعة لأدعوكِ إلى أجواء لطيفة وخافتة الإضاءة. —آه، كفاكِ، أونيه-ساما، فمثل هذا التنهد لا يليق بآنسةٍ محترمة」 ضحكت شيراي وهي تسند جسدها إلى الباب. اهتز الباب قليلاً؛ فلا بد أن ميكوتو فعلت الشيء نفسه من الجانب الآخر. وبينما تشعر شيراي بذلك، تذكرت قولاً.

—ألم تظني أن هذه القضية كانت مريحةً سهلةً عليكِ؟ أي كيف أن العقيم ذا الذي سرق هذه الحقيبة ركض في الزحام كأنه نوى ذلك؟ أفلم تخمني سبب انقطاع الكهرباء في إشارات المرور؟ لا أحسبك تجهلين نوع القوى التي تمتلكها نجمة توكِوَداي تلكِ.

هي تعرف أن شيئاً ما يحدث.

—يا للمسكينة ميساكا ميكوتو تعاني. قد فجر أحدٌ ما [المخطط الشجري] لأجلها، فأنهى كابوسها.

وكانت تعرف أن لميساكا ميكوتو علاقة كبيرة بالأمر.

—لكنهم الآن قالوا إنهم سيعيدون إصلاحه. فإذا حدث، سيعاد تنفيذ التجربة. ولذا، إيه، أتفهمُ إلى حدٍّ ما شعورها وحاجتها في أن تكافح بشدة ضد هذا.

وكانت تعرف أنه رغم تورط ميكوتو في هذه المشاكل، فإنها لن تُظهر لشيراي أي أثر للضيق أو القلق—لا، بل إنها لا تريد ذلك.

تعرف. وكل ما عليها فعله هو جمع القطع معاً لتفهم. ميكوتو لديها قضاياها، لكنها لا تريد كشفها لشيراي، وهناك آخرٌ يتعامل معها. ومهما كانت أسبابها، فهي فضّلت أن تبقى شيراي جاهلة بأحوالها...وكأنها تبعدها عن دائرةٍ خاصة.

لو أن شيراي قد بذلت كل ما في وسعها، وعملت بجد حتى أراقت دمها...

...فلعلَّ ميساكا ميكوتو ما كانت لتسعد بذلك أبدا. أبدًا. لأن ذلك يعني أن ميكوتو قد جرّتها إلى شؤونها.

ولكن وعلى ذلك...

شيراي تشعر بقوة برغبةٍ في أن تفعل شيئًا من أجل ميكوتو. أرادت أن تخفف عبئها، وإن كان قليلاً ما ستفعل. حتى وإن لم يُعرف أبدًا عمّا كرّسته من جهد، وحتى لو نُسب الفضل إلى شخص آخر — ما كانت لتكترث. فهذا ما تتمناه. وهي تحدّق في ملابسها الملطخة بالدم، من جسدها المغطى بالجراح، عضّت أسنانها وأخذت تدعو.

شيراي كُروكو لم تعرف أي تفاصيل.

لم يُخبِرها أحد بشيء، فما عساها أن تحكم على الأمور.

لكنها أرادت إنهاءها أيا كانت.

أرادت أن تخرجها من هذا الوضع — من أن تريق دمها من أجل شيء.

وحين تضع نهاية حاسمة، أرادت أن يتمكنا من الضحك معًا مجددًا بلا أي هموم في الخفاء، تمامًا كما كانتا اليوم بعد المدرسة.

وحيدة، اتخذت شيراي كُروكو قرارها.

(ولأجل ذلك...سأهديك ما يتطلب من الأكاذيب يا أونيه-ساما، حتى وإن كرهتِ.)

「أونيه-ساما، أين كنتِ؟」

『همم؟ أظن كنتُ أبحث عن زينةٍ فاتني شراؤها. مؤخرًا أبحث عنها في كل مكان، لكني ما وجدتها. إنما عدتُ إلى هنا لآخذ شيئًا نسيته. وسأخرج مرة أخرى بعد قليل. آه، لكن لا تترقبي أي هدايا، كُروكو』

كانت حجّة واهية. تساءلت شيراي عمّا ستفعل لو أنها قالت بأنها سترافقها، كما اعتادت دائمًا.

(مؤخرًا... هذا يعني أن أونيه-ساما كانت تفعل شيئًا وحدها في الآونة الأخيرة. البحث عن زينة؟ زينة فائقة السريّة، ربما...؟ ياه، قد قلتِها بنفسك.)

ابتسمت شيراي ابتسامة باهتة، لكنها لم ترجع. فمعها أمرٌ واحد يجب أن تقوله. القول الذي قالته لها ميكوتو بعد ظُهر هذا اليوم. سترد إليها مغزى تلك الكلمات، لكن بعكس معانيها هذه المرة.

「آمل ألّا تمطر الليلة. فتوقعات الطقس ليست دقيقة آخر هذه الأيام」

『...』

لبرهة، التقطت ميكوتو أنفاسها كما لو تفاجأت. ثم، بعد بضع ثوانٍ من الصمت تكلمت، وصوتها أهدأ قليلًا من ذي قبل — كما لو أن ثقلا أثقله.

『معك حق. شكرًا على قلقك. سأبذل جهدي لأعود في أسرع وقت』

شعرت بخطواتها تبتعد عن الباب. وبعد أن سحبت ظهرها عن الألواح الرقيقة، بدا أنها غادرت الغرفة. سمعت صوت فتح باب غرفتهما وإغلاقه.

「والآن...」

أخذت نفسًا عميقًا، ثم، ولا تزال بملابسها الداخلية، التقطت زيّها الصيفي الاحتياطي وأخرجت الجَوّال. رأت حاجة إلى سؤال ويهارو.

「ألو، نعم. هلّا تكرمتِ وأخبرتني أين ذهبت كتلة القذارة تلك」

  • الجزء 2

بعد أن نظفت بقع الدم في الحمّام وتعاملت مع ملابسها الممزقة، قفزت شيراي بتنقلها الآني مجددًا وظهرت في الطريق خلف سكن الفتيات.

في ساعة العتمة، [1] الثامنة والنصف مساءً.

وبينها ونفسها، اندهشت قليلًا من أن الأمر لم يمضِ عليه حتى ساعتان منذ خرجت للتسوق مع ميكوتو.

في مثل هذا الوقت، تكون مرافق النقل في مدينة الأكاديمية قد أغلقت أبوابها في الغالب لبقية الليل. فجداول عمل الحافلات والقطارات كلها متزامنة مع نهاية اليوم الدراسي، وأحد الأسباب لذلك هي منع الأطفال من البقاء خارج البيوت في الليل. ولم يكن على الطرق سوى سيارات الأساتذة وطلاب الجامعة، وسيارات الأجرة، وبعض الشاحنات لأغراض العمل.

ويبدو أن حركة المرور كانت قد خلت.

وبطبيعة الحال، لم تكن المدينة الأكاديمية تحوي الكثير من المركبات ذات العجلات أصلًا، مما جعل كل شيء يبدو سلسًا.

استنشقت شيراي الهواء، وقد تغيّر عبيره وطعمه إلى طابع الليل.

『أمم، عندي لك بعض الأخبار المفيدة يا شيراي-سان،』 من جَوّالها جاء صوت رفيقتها. 『لا يبدو أن مُسُجيمي أواكي قادرة على تحريك جسدها باستمرار كما تفعلين أنتِ. وجدت ملاحظة حول ذلك في قاعدة البيانات. أتذكرين كيف أخبرتك أن قدراتها قد خرجت عن السيطرة أثناء أحد المناهج التي درستها قبل عامين؟』

「نعم، وماذا بها؟」

『بعد ذلك، لجأت كثيرًا إلى مستشاري المدرسة. أتساءل إن كان الأمر قد سبب لها نوعًا من الصدمة النفسية. فهي لم تحقق نتائج جيدة في التجارب التي تهدف لتحريك جسدها بنفسها، ويبدو أن لديها سجلًا من الإرهاق الجسدي الحاد بسبب الضغط على نفسها. كأنها في كل مرة تحرك فيها جسدها تضطر لاستدعاء كل شجاعتها لتفعل. وهذا يعني...』

「...أنها إذا واصلت محاولة نقل نفسها، فسوف تُستنزف ذهنيًا في وقت قصير جدًا...؟』 عضّت شيراي شفتها قليلًا. 『لم أرَ مُسُجيمي تنقل جسدها خلال تلك المعركة. ولو كانت قادرة على ذلك منذ البداية، لربما كان أسرع لها أن تسرق الحقيبة بنفسها وتهرب، بدلا من استدعاء عملاء من الخارج. فنحن المتنقلون قادرون على التحرك بسرعات عالية، متجاوزين الجدران والطرق، ولسنا مضطرين لتقييد أنفسنا بوسائل المطاردة التقليدية」

حتى قدرات شيراي نفسها كانت تتفاوت بدرجة كبيرة حسب حالتها الذهنية في ذلك اليوم. ولعل قوة مُسُجيمي ستنهار أيضًا إذا ما استثيرت صدمتها أثناء القتال.

(أيا ترى... هل هذا هو السبب في أن إسبرة بهذه القوة لا تزال عالقة في نفس المستوى معي؟)

وبهذه الفكرة المُرّة في ذهنها، بدأت شيراي تنتقل آنيا. فكلما تقدمت ثمانين مترًا وهبطت على الأرض، كانت تحدد وجهتها التالية على الفور فتنتقل إليها.

والحق يقال، جسدها كان في حالة مزرية إلى درجة أنها بالكاد تستطيع المشي. وفي مثل هذه الظروف، بدت لها القدرة على التحرك المستمر بسرعة عالية أمرًا موثوقًا للغاية.

「في حالة مُسُجيمي، قد تكون قادرة على تحريك الأشياء من بعيد، وهو ما لا أستطيعه... لكن في المقابل، فإن الحسابات المطلوبة منها ستكون أكثر تعقيدًا بكثير. أنا لا أستطيع تحريك سوى الأشياء التي ألمسها، لكن هذا يعني أنني لست مضطرة لحساب إحداثيات موقعها الأصلي」

『نعم... أظن ذلك. —بهذه الطريقة يمكنكِ... تقليص الحسابات... بأي حال—بالنسبة للمسارات المتوقعة...التي يمكن لِمُسُجيمي أن تستخدمها من دون... الاستعانة بموڤ پوينت...』

أصغت شيراي بانتباه شديد إلى الصوت الخارج من الجَوّال، والذي كان يتقطّع بسبب الآثار الجانبية للانتقال الآني، لكن قبل أن تكمل ويهارو حديثها، جاءتها التوجيهات الدقيقة من مصدر آخر.

انطلق من مكان بعيد صوتٌ أشبه بدوي الرعد.

رفعت شيراي كُروكو رأسها نحو سماء الليل.

「أيمكن أن يكون...؟」

إنّ مرافق النقل في مدينة الأكاديمية، إضافة إلى مواعيد عمل المتاجر وما شابه، مُهيأة جميعها تقريبًا لتتوافق مع ساعات الدراسة. وإن الأضواء تخفت سريعًا مع غروب الشمس، ولهذا فإن المدينة أقل إضاءة صناعية من غيرها من المراكز الحضرية. ورؤية السماء هذه الليلة وقد ازدحمت بالنجوم دلّ على صفائها، ما يعني غياب السحب الرعدية—وبالتالي لا شيء قد يُحدث صاعقة.

فمن أين جاء ذاك الأزيز الكهربائي عالي الجهد؟

『شيراي-سان، لدينا تقارير عن معركة واسعة النطاق بين إسبرين خارقين في الحي 7، المنطقة الأولى. وهي تقع تمامًا على مسار الهروب المتوقع لمُسُجيمي!』

ولكي يطغى على صوت ويهارو ويمنع انتقال الموجات الكهرومغناطيسية، دوّى الرعد مرة أخرى.

وهي تعرفه. لا خطأ في تمييز الصوت.

「أونيه-ساما!!」 صاحت، مغيرةً مسارها.

ورغم شعورها بأن الاندفاع نحو ميكوتو بهذا التهور يناقض أسلوبها المعتاد، فإن مجرّد تخيّلها أختها وهي تتعرض لهجوم جعل خيار البقاء في مكانها أمرًا مستحيل.

بدأت تتنقل آنيا، قافزة من نقطة إلى أخرى عبر الفراغ قفزةً قفزة.

وبينما تفعل، كانت أصوات الشرر العنيف تتردّد في الجو كأنها هجمات قصف.

أما الرجال والنساء المارّون، وكلهم أكبر سنًّا من شيراي، فكانوا ينظرون نحو مصدر الصوت بشيء من الريبة، وقد انقطعت نزهاتهم الليلية.

تابعت شيراي اندفاعها وكأن الصوتان كلاهما—صوت الشرر الأزيز وصوت ويهارو—يحُثّانها على الإسراع، حتى اكتشفت أن وجهتها باتت قريبة. فأوقفت حركتها السريعة المتواصلة، واتجهت نحو زاوية المبنى—حيث كانت نقطة العمى—التي وصلتها منها أصوات الهجمات الكهربائية الهائلة.

وكما المحقق حين يراقب مشتبهًا، أخرجت رأسها قليلًا من خلف المبنى لتلقي نظرة.

وحينها رأتها.

  • الجزء 3

كانت ساحة معركة.

ميدانَ معركةٍ صنعته فتاةٌ واحدة.

موقعه: مبنى قيد الإنشاء. وعند التذكر، كان هو نفسه موقع الحادث الذي انهار فيه الإطار الفولاذي في الحادي والثلاثين من أغسطس. وقد أُزيلت الأجزاء المكسورة التي كانت تعيق العمل، وتمت دراسة سبل تدعيم الأجزاء المتبقية—وكانوا قد شرعوا للتو في إعادة بنائه...أو هكذا تذكرت.

رأت حافلة صغيرة مقلوبة على جانبها أمام مدخل المبنى.

تحطمت نوافذها وتناثرت محتوياتها، لكن لم يكن بداخلها أحد.

جميع من كانوا على متنها احتموا داخل المبنى قيد الإنشاء، آملين أن يمنحهم الركام المبعثر من الهياكل الفولاذية حمايةً ولو تفيد.

بالمجموع، كان هناك نحو ثلاثين رجلًا وامرأة يختبئون في المبنى. بعضهم مسلحون بأسلحة نارية، وآخرون من أسابر المدينة الأكاديمية.

(تلك الأسلحة! أتذكرها... هي نفسها التي كان يحملها أولئك الذين هزمتهم مع الحقيبة...!!)

حبست شيراي أنفاسها وهي تطل من ظلال المبنى. كان تصميم الأسلحة وطريقة إمساكهم بها متشابهين.

وغير ذلك، كانت ميساكا ميكوتو تقف هناك بكل هدوء جوار الحافلة المقلوبة.

(أعرف من يكون هؤلاء المسلحون... وتلك الفتاة الحمقاء قالت إن أونيه-ساما كانت متورطة بشدة مع تلك الحقيبة. وهذا يعني...)

من شكل الموقف، استنتجت أن هؤلاء هم الذين يحاولون تسليم [البقايا] إلى المنظمة الخارجية.

وكان بين صفوفهم فتاة تعرفها.

مُسُجيمي أواكي.

لم يكن بوسع أحد أن يشكل عائقًا أمام ميكوتو. قد تكون هناك حافلة صغيرة مقلوبة أمامها، لكنها لم تحاول حتى الاحتماء بها. ومنطقيا وحسب الحس العام، كانت تبدو بلا أي دفاع أمام عشرات الأعداء المسلحين جميعًا بأسلحة بعيدة المدى...

...لكنها حطّمت ذلك الحسّ العام بسهولة، مبيّنةً لهم المعنى الحقيقي للقب الريلڠن.

انطلقت الومضات من أطراف أصابع ميساكا ميكوتو.

أُطلقت العملة بثلاثة أضعاف سرعة الصوت، فشقت بسهولة الهياكلَ الفولاذية السميكة التي كانت تدعم المبنى. تلقّى الرجالُ المسلحون وابلًا من الشظايا المتطايرة فاجتاحتهم الرياح العاتية وأطاحت بهم فيما فقد الإسبر الذي كان يُصَوّب نحو رأس ميكوتو من طابق علوي توازنه مع انهيار الدعامات تحت قدميه فابتلعته الفوضى. اخترقت طلقة الريلڠن وحدها ما يقارب عشرين إطارًا فولاذيًا، ولم تتوقف إلا بعدما أحدثت شقوقًا في جدار مبنى آخر.

حاول بعض الرجال المذعورين الانسحاب إلى الداخل، لكن كهرباء ميكوتو أوقفتهم. انطلقت أضواءٌ مزرقة باهتة من بين خصلات غُررها فأصابت جزءًا من الهيكل الفولاذي ثم اندفعت فورًا عبر المبنى بأكمله. أيُّ أحدٍ لمس ذلك الإطار قُذف إلى الوراء في الحال، وحتى من لم يلمسه سقطوا أرضًا إذ اخترقتهم الكهرباء من كل جانب وهم يحاولون التوغّل أعمق داخل ذلك التابوت المعدني.

بقي بضعةُ أسابر إمّا بالصدفة أو لعوامل أخرى وحاولوا إعادة تنظيم صفوفهم. لكن أوانهم قد فات. فالفارق في القوة عظيم. أزالت الريلڠن شفرةَ فراغٍ كأنها سيفٌ خفي من يدِ إسبرٍ بعد أن أحدثت أكثر من مجرد هبّة ريح. وجاءها محركٌ ذهني آخر أطلق حفنةً من الأوتاد الخشبية نحوها لكنها أغرقتها بتيارٍ كهربائي عالي الجهد فانفجرت. وحتى أن أحدًا من متحكمي الكهرباء مثلها قد وعيه من الرعب قبل أن يستخدم قوته.

كانت قَهّارة.

وقد تجاوزت هذه الساحة مستوى اليأس، وصارت ما هي إلا استعراضا لما هو المستوى 5.

هكذا اختلف السبعة الأقوى في المدينة الأكاديمية عن الباقين من الأسابر.

أما حقيقةُ أن أحدًا لم يلقَ حتفه وسط هذا الجحيم فقد بدت لشيراي أشبه بنكتة. لو لم تأخذ ميكوتو في الحسبان تحركات خصومها ومسار الأجسام المدمَّرة وردود أفعالها، لما أبدت عليهم مثل هذه الرحمة. كانت هجمةً عابرة، ومع ذلك انهار فريقٌ مختلط من عشرات المقاتلين في هرج ومرج.

عندها تذكّرت شيراي الساعة التي عادت فيها إلى غرفتها لتعالج جراحها في الحمام. وجدتَ أن غطاء حصالة الادخار على الطاولة الجانبية قد أُزيل. ذلك الوعاء الصغير المصمَّم على هيئة صندوق كنز كان من المفترض أن يكون مليئًا بعملات صالة الأركيد التي تستخدمها ميكوتو لـريلڠنها.

ميكوتو لا تزال في مكانها، لم تخطو خطوةً. كل ما فعلته هو أن حدّقت بثبات في ميدان المعركة بعد انتهائه، وأعلنت بازدراء، 「اخرجي أيتها الجبانة. ما أحببت أسلوبك في التخبي وراء حلفائك وأخذهم دروعا بشرية」

「فهل ستحبين لو أسردت عليكِ قصةً حلوة عن عدم ترك موت أصدقائي يذهبُ سدى؟」

جاء الرد بصوتٍ ما زال متماسكًا بما يكفي ليُجيب. مُسُجيمي أواكي قد ظهرت في الطابق الثالث، واقفةً فوق بعض العوارض الفولاذية، وبيدها حقيبةٌ بيضاء كبيرة وتبتسم ساخرة. أما الرجال الذين صعقهم الكهرباء فكانوا متناثرين حولها مغشيين. على الأرجح أنها نقلتهم لحظة الهجوم إليها واستخدمتهم درعا بشري. وكان في يدها اليمنى مصباحٌ يدوي بخمولٍ تدلى.

「أمثالكِ من الأشرار تافهون. أراكِ بَهِجة. لا تقولي إنكِ ظننتِ أن إفلاتكِ مني لأربعين ثانية يعني أنكِ هزمتِ الريلڠن؟」

「أبدًا ما كنت. لو كنتِ جادة، لَحَوّلَت تلكِ الضربةُ الساحةَ بأكملها إلى حطام. أم رُبَّما؟」 وضعت مُسُجيمي الحقيبة على العارضة الفولاذية، ثم جلست فوقها. 「نعم، تبدين على عجلة من أمركِ الليلة. حسبتك تفضلين حرب المعلومات. فما وجدتُ أنكِ جلبتِ قوة الريلڠن مرةً لتعطيل التجربة، رغم جبروتك. أوأنتِ حقًّا خائفة من إعادة تركيب [البقايا]؟ أم برجوع [المخطط الشجري] فيُعاد بناؤه ويُباع على نطاق عالمي؟ أو ربما...بإعادة بدء [التجربة] من جديد؟」

「...اخرسي أيتها القذرة」

شرّت شرارات من بين غُرر ميكوتو.

ما زالت مُسُجيمي جالسة فوق الحقيبة، تلوّح بالكَشّاف اليدوي صعودًا وهبوط.

(...)

أطلّت شيراي مجددًا من خلف المبنى لتتأكد بنفسها أن ميكوتو كانت تواجه مُسُجيمي. لم تكن قد استوعبت بعد طبيعة العلاقة بينهما، لكن من المؤكد أنهما في مواجهة.

عادت بذاكرتها إلى كلماتٍ سمعتها من مُسُجيمي.

—ما عرفتِ؟ هئهئ، ولكن لا أظنك بيدقاً لها جاهل... فإن ريلڠنَ توكِوَداي ليست بتلك الفتاة التي تفعل.

(واضحٌ أنهما ليستا غريبتين عن بعض...)

لم يكن حديثهما يوحي البتة أن هذه أول مرة تلتقيان. الأغلب أنهما اشتبكتا في الماضي، وما تراه شيراي الآن ليس سوى لمحة صغيرة من تلك.

(تقاتَلا من قبل؟ ضد أونيه-ساما؟ وعادت تقاتلها مرةً بعد؟)

المعارك لا يلزم أن تُخاض بشرف. بل إن شخصية مُسُجيمي—من القليل الذي عرفته شيراي عنها—توحي بأنها من النوع الذي يفضل الهجمات المفاجئة من الظلال.

وعلى ذلك، فمجرد القدرة على الوقوف بعد مواجهة الريلڠن يُعد أمرًا غير طبيعي.

بدأت تفكر في أفضل طريقة لاستغلال الوضع الحالي. فليس بوسعها أن تخرج بكل بساطة إلى الساحة؛ فبينها وبين مُسُجيمي فارقٌ واضحٌ في المهارات. إضافةً إلى أنها أرادت تجنب أي تصرف متهور قد يفسد المعركة ويتسبب في إصابة ميكوتو.

「كِهِهِه. لماذا تخافين على حالِ الضعفاء؟ ثم إن تلك "الأشياء" التي تبدين تُعِزّينها كثيرًا قد صُنعت لأجل التجربة. فلا بأس في تدميرها. فذلك كان هدفها」

「أأنتِ جادّة فيما تقولين؟」

「هيا عنكِ. ففي آخر الحكاية، ما أنتِ تقاتلين إلا من أجل نفسكِ، أم تراني مخطئة؟ إيه، وأنا مثلك. أولئك من يقاتلون من أجل أنفسهم، وبقوةٍ تنفعهم، وبالطريقة التي تناسبهم—أولئك هم من يتسببون في أذى الآخرين. فما الخطأ في هذا؟ بل إنّ الأغرب هو أن تتحمّلي مشقة أمرٍ ليس بيدك. ولا؟」 سخرت تلك التي استخدمت بهدوء أجسادَ حلفائها دروعا بشرية.

كانت تقول إنّها، في نهاية المطاف، تستخدم قوتها لإرضاء نفسها.

وأنّهما في الجوهر متماثلتان، لذا فغضبُ إحداهما الشديد من الأخرى لَأمرٌ مستغرب.

ورَدًّا، ابتسمت ميساكا ميكوتو قليلًا.

「نعم」 هذه المرة، لم تكن الشرارات الزرقاء الباهتة تتطاير من خصلات غررها فقط، بل غطّت جسدها كله. 「أنا غاضبة. غاضبة أشد الغضب لدرجة أشعر معها أن عِرقًا في رأسي سينفجر. نعم، موضوع إعادة نبش بقايا [المخطط الشجري]، وظهور حمقى لسرقته سعيا لمكاسبهم الشخصية، ومحاولة إعادة إشعال [التجربة] التي انتهى الجميع أخيرًا من تسويتها—كل هذا يغضبني. يغضبني لدرجة أنني أفكر في شن حرب رقمية على كل الأطراف فأسحقهم دفعةً واحدة」 ركّزت عينيها مباشرة على مُسُجيمي أواكي. 「لكنني الآن أكثر غضبًا من ذلك بكثير」

تلك الكلمات جعلت شيراي، التي كانت تضع خطة لمساعدة ميكوتو—أو على الأقل لتجنب إفساد الأمر—تتوقف عن التفكير.

「...تلك الغبية. أظنَّتْ أنني لم ألحظ؟ لم تسجّل دخولها، والغرفة كانت في فوضى، وحقيبة الإسعافات الأولية اختفت. أظنَّتْ أنني لم أرى مدى سوء حالتها بسماع الألم في صوتها من وراء الباب...؟」

كادت شيراي تختنق. الآن فهمت سبب غضبها الحقيقي.

「هذا وحده وفوق كل شيء أكثر ما أغضبني. أنني وَرَّطتُ زميلتي في كل هذا. أسعَفَت نفسها في المهجع بدل أن تذهب إلى طبيب، وحتى وهي مصابة بتلك الحالة لم تستسلم! والأسوأ من ذلك أنها تصنّعت سلامتها! كل ما قالته لي زادني قلقًا!! أنا غاضبة أشد الغضب أن زميلتي قد تكون بهذا الغباء!!」

انقبض صدر شيراي. مُسُجيمي على الأرجح لم تفهم ما كانت ميكوتو تتحدث عنه. وفوق ذلك، فإن ريلڠن توكِوَداي لم تكن تعرف أن شيراي هنا أصلًا. فإذن على من كانت تصرخ؟

أخفت الأمر عن شيراي. جاءت بعذرٍ شفافٍ جاهزٍ عن بحثها لـ "زينة" في المدينة. حذرتها مرارًا بذلك التحذير المبهم عن احتمال سوء الطقس. وها هي الآن، وحيدة. فلأجل مِن، ولأجل ماذا، تقاتل ميساكا ميكوتو منذ لحظات وهنا بالذات؟

「نعم، أنا غاضبة أشد الغضب الآن، وهذا نبع من أنانية مني! غاضبة من تلك الزميلة المثالية اللا معقولة، غاضبة من كتلة العفن هذه التي تجرأت على إيذائها، وغاضبة قبل كل شيء من نفسي لأنني سببتُ هذه الفوضى منذ البداية!!」 صرخت ميكوتو وكأنها تطعن صدرها بسيف، وكأنها تضع حدًا لحادثة [المخطط الشجري] وللتي تصرخ عليها. 「إن كنتِ تقولين أن هذه الحادثة بدأت مع التجربة، إذن فالمسؤولية تقع عليّ. مسؤولية إصابة زميلتي الغبية، ومسؤولية أنكِ آذيتِ زميلتي الغبية! كلها علي، فلسوف أوقفكِ بكل ذرة من حق وواجب في يدي!!」

وشيراي تعرف.

لماذا جاءت ميكوتو لقتال مُسُجيمي وحدها من وراء ظهر شيراي؟

ما كانت حليفة شيراي، ولا عدو مُسُجيمي.

قد اختارت طريق إيقاف الجميع هنا، دون أن تتعاون مع أي طرف.

بمفردها.

حتى أنها وجهت سيفها المجازي نحو الكابوس الذي حَمَلَتهُ بداخلها.

「لأضعن حَدًّا لهذا الآن. ولن أدع سببا أن يَعلق أيٌّ منكما في تلك التجربة—في ذلك اليأس」

جلست مُسُجيمي متقاطعة الساقين فوق الحقيبة تضحك بخفة. 「طيبةٌ أنتِ على قدر عاطفتك. الأمر ليس وأنكِ أنتِ من أنشأ وحدة السيليكورندوم. لو اكتفيتِ بالتذمر وادّعيتِ أنكِ كنتِ ضحية أيضًا، كما يفعل الناس العاديون، لما تقاتلنا الآن」

「تقولين إن سبب بدءكِ لهذه المعركة كان بسبب [تجربتنا]. سواء كان مشروع [التحول إلى المستوى 6] أو [الضوضاء الراديوية]」

(؟؟؟ التحول إلى المستوى 6؟ الضوضاء الراديوية؟)

تلك الكلمات تبدو كرموز غامضة بالنسبة لشيراي. ما الذي أشارت إليه؟

لكن مُسُجيمي بدت تفهم. 「لا تقولي تجربتنا فلستِ منهم—بل هي للأخوات ولأقوى الأسابر، صحيح؟... وأرى أنكِ انتزعتِ القصة من حلفائي الذين هزمتِهم. وبما أنكِ إيضا إسبرة، فافهمي—لن أدع نفسي تخسر هنا. ولا أهتم بمن أضحي، ولا أي وسيلة أستخدم، سأهرب اليوم منكِ غصبا عنك」

أسقطت نبرتها الخفيفة في تلك الجملة الأخيرة. كانت شيراي تستعد خلف زاوية المبنى. ما هو أقصى مدى لقدرتها على الانتقال الآني؟

ضيقت ميكوتو عينيها. 「تحسبين أنكِ تهربين من كهربائي بمستواك الـ4 الهزيل؟」

「ماه، صحيح أنني لن أستطيع تفادي هجوم بسرعة الضوء بعد رؤيته، لكن هذا حَدُّك. إن قرأتُ حركتكِ مسبقًا وانتقلتُ لحظتها—」

「لن تنفعك」 قاطعتها ميكوتو بحسم. 「هذه ليست أول مرة قاتلتك فيها. وإني واثقة أنكِ لاحظتِ ذلك بنفسك. ففي قدرتك خلل بسيط. يمكنكِ تحريك أي شيء تريدين، لكنكِ تعجزين على تحريك جسدكِ. وهذا منطقي. لو انتقلتِ آنياً إلى مكان خطير، مثل داخل جدار أو في وسط حركة المرور، فسينتهي أمرك. أنتِ لا تهتمين بعدد الذين سيصابون لأجل إنقاذ نفسك، لكنكِ ستودين أن تزيلي أدنى احتمال قد يقضي عليكِ، لا؟」

「...」

「هيّا تكلمي؟ حسبتِ أنني ما كانت لأعرف؟ أنتِ تستخدمين قدرتكِ موڤ پوينت على أجساد الحلفاء واللافتات وغيرها لتُشَوّشي، لكنكِ طوال الوقت كنتِ تهربين جسديًا. فطبيعي أن ألاحظ أمرًا كهذا」 ثم تنهدت ميكوتو، تفكر بسخافة الأمر. 「وبالمناسبة، أي إنسان طبيعي كان ليفر في موقف غير مواتٍ كهذا. أم أنكِ ببساطة لا تريدين؟ واضحٌ لي أنكِ محاصرة لا تملكين مجال」

ابتسمت مُسُجيمي أواكي ابتسامة باهتة، لكن من كان يملك عينين حادتين كان ليلحظ ارتجاف أطراف أصابعها قليلاً—غير طبيعي.

「أتراهُ ربما له علاقة بذلك الحادث في البنك حين ثارت قواكِ؟ أنتِ لا تترددين في نقل الآخرين أو الأشياء. ولكن تختلف الحكاية إذا نقلتِ نفسك، ها؟ أراهن أنك تحتاجين إلى ثانيتين أو ثلاث لتُأكّدي تمامًا على صحة الإحداثيات」 ثم قالت ميكوتو، 「كم طلقة برأيك أستطيع إطلاقها في ثلاث ثوانٍ؟」

「...هل كان في البنك كل تلك المعلومات؟」

「لا تُعيديني الكلام. ليس ضروريا أن تكون كل هذه المعلومات مكتوبة في البنك حتى أستنتجها من وجهك وأسلوب قتالك」

عند ذلك، اتسعت ابتسامة مُسُجيمي أواكي. وضعت ساقيها المعلقتين على الهيكل الفولاذي، ثم رفعت نفسها عن الحقيبة التي كانت جالسة عليها، ووقفت برشاقة. وتوقّف الكَشّاف المتحرك.

「لكن كما ترين... إذا لم يكن جسدي أنا، فلن أتردد في استخدام موڤ پوينت」

وبهذا، جمعت مُسُجيمي أمامها نحو عشرة. كلٌّ منهم كان من الذين طرحتهم ميكوتو فاقدي الوعي بهجومها. كان بينهم غرباء عن مدينة الأكاديمية وأسابر على حد سواء. كبار وصغار. لقد كان درعًا بشريًا بالمعنى الحرفي.

عدا...

「درعك هذا...فيه فجوات!!」

أطلقت ميكوتو شررًا من بين خصلات غررها على أي حال. الأجساد البشرية لا يمكنها تكوين سطح مستوٍ كألواح المعدن. وإذا جمعت عددًا منها، فستظل الفجوات دائما موجودة. وميكوتو تنوي اختراق تلك الفتحات الصغيرة.

برمح من كهرباء يزيد عن مليار فولت. وقبل لحظة من انطلاقه من غُرة ميكوتو، ابتسمت مُسُجيمي من الجهة الأخرى لدرعها.

「ولكِ سؤال」 جاء صوتها مرحًا رغم الموقف. 「كمّ مِن بريء في هذا الدرع تظنين؟」

ضربت ميكوتو المكابح فورًا.

وفي ترددها، انقضت الثواني الثلاث. وبعد لحظة، اختفت مُسُجيمي أواكي في الهواء، مع الحقيبة.

وسقط كل واحد من المغشيين نحو العوارض الفولاذية بالأسفل. كانوا جميعًا ممن طرحتهم ميكوتو للتو، من أصحاب مُسُجيمي. لم تستخدم مُسُجيمي أي بريء في درعها.

「اللعنة!!」 شتمت وهي تنظر حولها. بطبيعة الحال، لم تنتقل إلى أي مكانٍ يُرى. المزعج في التنقّل الآني أنه ينقلك من نقطة إلى أخرى دون خط واضح يُــتَتَــبَّع.

لمحت شيراي وجه ميكوتو للحظة. لم تكن تنظر إلى أحد. ولو كانت، لما سمحت لأحد برؤية أنها على طرف البكاء.

استندت شيراي كُروكو إلى الحائط، وأخفت نفسها، وحدّقت في الفراغ.

(حسنًا. حان دوري الآن يا أونيه-ساما.)

لو هي مُسُجيمي، إلى أين ستذهب لتفلت من مطاردة ميساكا ميكوتو؟

ثم، إلى أي حد ستُعرض نفسها للخطر لتضمن هروبها من الريلڠن؟

(أعتذر منك يا أونيه-ساما. حتى وإن سمعت زميلتك الصغيرة الغبية ما قلتِ وعرفت كم تقلقين عليها، فلن ينحني عزمُ كُروكو على إنهاء هذا الأمر ولو قيد أنملة.)

سيحتاجون إلى إسبر ذو قدرة مشابهة لملاحقتها. إسبر يمكنه التحرك بحرية متجاهلًا حركة المرور وسمك الجدران.

「حسنًا يا شيراي كُروكو، يمكنك فعلها. مرة أخرى نحو الخطر—وتأكدي من العودة حيّة」

وضعت شارة الجدجمنت على كتف زيها.

وبعد ثانية، وبعد أن جدّدت عزمها على مهمتها، اختفت.

  • ما بين السطور 3

(—عليّ أن أُسرِع)

في غرفةٍ حالكة السواد في أحد المستشفيات، وقد أُطفئت الأضواء، نهضت فتاةٌ من على السرير.

(—عليّ أن أعجّل، تفكّر ميساكا وهي تعيد ترتيب أولوياتها)

تشبه ميساكا ميكوتو، لكنها لم تكن. بل ميساكا إيموتو ذات الرقم التسلسلي 10,032 التي أُنشئت من جينات ميكوتو.

وعلى وجه العموم، كانت إسبرة قادرة على التحكم بالكهرباء، وأيضًا جزءًا من مجموعة من الأسابر يتواصلون عبر إشارات كهربائية مع كل من يكون على نفس الموجة الدماغية. وبعد حادثةٍ معيّنة، أقامت في هذا المستشفى لتلقي العلاج لجسدها. معظم الأخوات الأخريات ذهبن إلى مرافق خارج مدينة الأكاديمية، أما الوحدات مثل ميساكا إيموتو اللواتي بقين في المدينة فكنّ أقلية.

الذي كان يدفع ميساكا إيموتو للتحرّك في هذه اللحظة هو المعلومات القادمة من الأخوات الأخريات من نفس الطراز اللواتي أُرسلن إلى مرافق في أنحاء العالم، والخلاصة التي توصّلت إليها ذات الرقم التسلسلي 20,001، لاست أوردر، والتي تُوَحِّد وتدير كل تلك المعلومات.

كانت تُجمِّع بياناتٍ مجزّأة من بقية العالم حتى الآن، لكن ما إن تراكمت وتوحّدت تلك البيانات حتى برزت مشكلةٌ جسيمة.

(ميساكا تعيد التأكيد الآن، تقول ميساكا رقم 10,032 وهي تبدأ في تحسين بيانات ذاكرة الجميع عبر [شبكة الميساكا].)

نظرت من حولها، ثم أمسكت بيمينها النظارات العسكرية الموضوعة على الرفّ قرب السرير.

(السبب في أنّ ثماني دول وتسع عشرة منظمة أطلقَتْ أو تخطّط لإطلاق مكوكاتٍ تحت ذريعة البحث والتطوير الفضائي، هو رغبتهم في استرداد بقايا [المخطط الشجري] المُرجَّح وجودها في مدارٍ صناعي؟ تقول ميساكا وهي توجّه سؤالًا إلى العديد من الوحدات في شبكة الميساكا)

إن صَحَّ ذلك، فهذا يعني أنهم يريدون إعادة بناء [المخطط الشجري].

ولهذا السبب بالتحديد كانت الحوادث تتوالى حول [البقايا] اللازمة لذلك الغرض.

إن استعادة أقوى معدّات المعالجة الموازية في العالم يعني استئناف [التجربة] ذاتها. تلك التي خاطر فتى وفتاة معيّنان بكل شيء من أجل وضع حدٍّ لها.

(تحركات مشابهة موجودة في إشبيلية، تؤكّد ميساكا رقم 10,854)

(خطط إطلاق صواريخ مؤكَّدة أيضًا في شلِسفيغ، تبلغ ميساكا رقم 16,770)

(لقد وصلَتني معلوماتٌ بأن نوفسبرك قد جمعت جزءًا من الشظايا، تضيف ميساكا رقم 19,999)

(ولا تزال في نوفسبرك، تشير نتائج الدراسات إلى أنّ الجزء الأساسي اللازم للاستعادة وهي وحدة [السيليكون كوروندوم] موجودة في المدينة الأكاديمية، وأن [المخطط الشجري] لا يمكن إكماله ببقية [البقايا] وحدها، تقول ميساكا رقم 20,000 مُكمِلةً الشرح)

بينما جلست ميساكا على السرير وأنزلت قدميها على الأرض، تدفقت العديد من الأصوات والمشاعر والصور مباشرة إلى رأسها كانهيار ثلجي. كانت تلك أصوات الأخوات اللواتي تُركن في رعاية وكالات ومنظمات تدعم المدينة الأكاديمية حول العالم، وهن الآن يتلقين العلاج. عبر بناء شبكة باستخدام الموجات الدماغية لجميع الأخريات، استطعن الحصول على معلومات من 9,969 مكانًا في العالم في طرفة عين.

(حالياً، القطعة الوحيدة المتبقية التي لا بد من وجودها لاستعادة [المخطط الشجري] يجب أن تكون في المدينة الأكاديمية، تفترض ميساكا رقم 10,044)

(ربما الشظايا التي حصلت عليها وكالات أخرى، إضافةً إلى القطع الموجودة حالياً في مدار الأقمار الصناعية، تتجاهلها المدينة الأكاديمية ببساطة لأنها لا يمكن استخدامها بمفردها لإعادة البناء، كما تفترض ميساكا رقم 14,002)

(على نفس المنوال، [كيب كينيدي] تتقدم حالياً بخطة لاختراق مدينة الأكاديمية لسرقة [البقايا]، كما تبلغ ميساكا رقم 18,820)

(يبدو أن مجموعتهم تسمى أسوسياسيون دي سي-إينسيا ((م.م: جمعية العلوم بالإسباني))، تقول ميساكا وميساكا تضيف، آه؟ أم ترى هل كان علي أن أقول ميساكا رقم 20,001؟ تسأل ميساكا وضاعت ميساكا.)

صرت ميساكا إيموتو أسنانها تجاه تدفق الآراء الذي لا ينتهي.

لم يكن أي منها خبرًا جيدًا.

والسبب في حصولها على تأكيدات متعددة للإجابة يعود جزئيًا إلى رغبتها في لو يكون الأمر كله مزحة، لكن يبدو أنها لم تكن مدركة لهذا حتى.

「لقد تجاوز الوقت الذي يُسمح لميساكا بالخروج فيه، لكن ميساكا لن تتحمل البقاء هنا أكثر، تقول ميساكا وهي تحفّز نفسها على العجلة」

وضعت يديها على ثيابها للنوم؛ لم تكن بيجاما بل رداء جراحيا بسيط. فتحت الخيط من الأمام، تكشف عن بشرتها البيضاء عاريةً. خلعت الرداء الجراحي كما لو تخلع روب استحمام أمام حبيب، ثم أمسحت عرق جسدها بمنشفة. وشعرت بها أن حرارتها مرتفعة قليلاً عن المعتاد. حالتها البدنية السيئة صاحبتها حُمَّى خفيفة. كما كان لون بشرتها كله يميل قليلاً إلى الحُمرة.

بأرجل متذبذبة بعض الشيء، ارتدت سروالًا داخليًا، مدّت يدها للخلف تثبت حَمَّالتها، أزررت قميصها الأبيض ذو الأكمام القصيرة، رفعت سحاب تنورتها من الجانب، أدخلت رأسها ويديها من خلال سترة الصيف، ثم جلست على السرير وارتدت جواربها واحدة واحدة.

بعدها وضعت نظاراتها العسكرية على جبهتها وانتعلت حذاءها. ثم أخيرا رفعت الرداء الجراحي من الأرض وطَوَتهُ فَوَضَعتهُ على السرير. الاستعدادات الدنيا المطلوبة قد أُنجزت في وقتٍ قياسي. ألقت نظرة نحو الباب، لكنها هزّت رأسها وتحركت نحو النافذة، فتحتها ودفعت نفسها خارجها.

نظرت إلى الأرض. كانت الطابق الثاني.

لكن ميساكا إيموتو لم تُعر ذلك أي اهتمام.

(على أي حال، التعامل مع [البقايا] داخل المدينة الأكاديمية لها الأولوية القصوى، تختتم ميساكا رقم 10,032. نعم، يجب تجنب استعادة [المخطط الشجري]، تفكر ميساكا وهي تجدد عزمها متذكرة ذلك الفتى والفتاة. ميساكا لا ترغب في أن يُغَمَّ محياهما)

رغم عزمها، كانت عيناها الخاليتان من التعبير تحملان لمحةً من الألم.

ركض الفتى في تلك الليلة إلى ساحة التبديل ليُنقذ ميساكا إيموتو، التي كانت قد تعرَّضت لضرب مبرح.

صاح بها، متجاهلاً حتى أقوى الأسابر في المدينة الأكاديمية.

وكانت تتذكر. تتذكر ما قاله لها.

「...」

هزّت رأسها المريضة قليلاً والمرتبكة، ثم عادت لتفكّر في الأمور العملية.

الشأن شأنهن، وهو في تطور مستمر حتى الآن. لم يكونوا في مركز الحادث، لكن بجمع المعلومات من أماكن مختلفة في قشرة الأرض، نجحوا في الحصول على فكرة عامة عما يجري.

ومع كل هذه المعرفة...

...لا ميساكا إيموتو، ولا أي من الأخوات، عساهن يدخلن في القضية.

بقي منهن أقل من عشرة في المدينة الأكاديمية، بمن فيهن إيموتو.

وكان معظمهن يتلقين علاجًا بسبب التعديلات الجينية المفرطة والآثار الجانبية لتسريع نموهن. لم تكن أي منهن في حالة تؤهلها للتعامل مع حالة طارئة، ناهيك عن المشاركة في قتال.

وإنّ ميساكا إيموتو تعرف.

كانت تعرف اسم من وقف إلى جانبها حين كانت حياتها في خطر.

فمرة أخرى، قررت أن تترك مصيرهن لذلك الفتى.

للفتى الذي جاء وحده إلى ساحة التبديل في تلك الليلة. للفتى الذي تحدى أقوى إسبرٍ من المستوى 5 في المدينة الأكاديمية بقبضة يده فقط. للفتى الذي صمم ووقف مجددًا مهما أسقطوه أو نُكِّل.

أول ما خطر في بالها في مثل هذا الوقت كان وجهه.

وتعبيره—الثابت، مهما كانت الظروف.

وطبعا ما أرادت أن تجرّه إلى هذا الأمر.

لكن من غيره تثق به.

كانت عاجزة.

عضّت على شفتيها قليلًا من عجزها عن حل مشكلتها بنفسها. وكان ذلك مع شعورها بأنها تُدخل أحدًا آخر في مشكلة كبيرة لا تستطيع حلها.

ومع ذلك هي، أو بالأحرى هنّ، لم يدركن.

أن المعاناة التي يشعرن بها الآن كان من قلوبهن، نفس القلوب التي لم تكن [تشعر] من قبل. ولم يدركن أن تلك المعاناة هي الوجه الآخر لنفس العملة — لِلُطفٍ يضع للآخرين وزنا.

كانت الأخوات يعرفن تمامًا مكان سكنٍ طلابي معين. حصلت ميساكا إيموتو على هذه المعلومات من حملها علب العصير إلى هناك في إحدى أيام أغسطس الفائت. والآن، من بين كل الأخوات الموجودات حاليًا في مدينة الأكاديمية، كانت هي الأقرب إلى هذا الموقع. الرقم التسلسلي 20,001، المعروفة أيضًا باسم لاست أوردر، كانت موجودة في المستشفى في نفس المنطقة، لكنها كانت عينةً غير مكتملة، ولا يُتوَقَّعُ منها أي قدرات جسدية.

وضعت إيموتو قدمها على إطار النافذة المفتوحة.

(سأؤكد مرة أخيرة، تؤكد ميساكا رقم 10,032. ووفقًا للخطة 228، ستتحرك كل الأخوات في مدينة الأكاديمية لاستعادة [البقايا].)

(الرقم 10,032، كنتِ أنتِ الأكثر ضررا من غيرك من الأخوات، ألا تركزين على العلاج أولا؟ تسألك ميساكا رقم 10,774 معبّرة عن قلقها)

حينما وصل الصوت إلى عقلها، ارتعش جسد ميساكا إيموتو قليلًا.

كانت الأخوات عبارة عن نسخ من خلايا جسدية تمتلك عمرًا قصيرًا في الأصل. وقد خضعت لتعديلات عدة لكي ينمو لهنّ جسم في فترة زمنية أقصر بكثير. والآن هن في علاج لاستعادة التوازن الذي فقدنه.

ومع ذلك، كانت حالة ميساكا إيموتو الحالية هي الأضعف بين جميع الأخوات، بسبب الهجمات المستمرة من أكسِلَريتر أثناء التجربة. التجوال لفترات قصيرة داخل المستشفى أمر ممكن، لكن حتى هيڤن كنسلر لم يمنحها الإذن للقيام بنشاط حقيقي على مستوى القتال الفعلي.

كان جسدها لا يزال يعاني من حمى خفيفة. وكان إحساسها بالتوازن يتأرجح قليلاً، وكأن الأرض تحتها صارت رخوة.

وهذا كل ما يمكنها تحمله الآن.

لو أجبرت نفسها على القيام بأكثر من قدر معين من التمارين، ستزيد الحمى سوءا فجأة. وربما تتعرض لخطر السعال الدموي فتنهار.

(لا يهم، تجيب ميساكا رقم 10,032)

أعلنت ذلك متناسيةً كل شيء، وهي تحدق بثبات في الظلام خلف النافذة.

(ما قيمة هذه الجروح مقارنة بالوضع؟ تسأل ميساكا 10,032 ردًا على ذلك. ميساكا لن تقف مكتوفة الأيدي حتى تفي بوعدها لذلك الفتى، تكرر ميساكا 10,032 بفهم كامل)

توقفت لثوانٍ قليلة عن استقبال المعلومات من شبكة ميساكا.

وفي النهاية، مثل مَدٍّ يعود نحو الشاطئ...

(مفهوم؛ نعهد إليك بهذا، تقول ميساكا رقم 14,458 وهي تومئ برأسها)

(سوف نترك لكِ هذا، توافق ميساكا رقم 19,002)

(ميساكا تعتمد عليك أيضًا، تقول ميساكا وميساكا تؤكد. هيه لحظة، ميساكا تريد أن تفعل شيئًا أيضًا؛ لن تتحمل ميساكا اللاشيء، و [هُوَ] لم يَعُد بعد من المكان الذي ذهب إليه، تقول ميساكا وميساكا تضرب بيديها وقدميها كل شيء)

عبست ميساكا إيموتو قليلاً.

(ميساكا رقم 20,001، دورك في الخطة 228 هو البقاء حيث أنتِ وأن تكوني بدور محور معالجة المعلومات، تنصحك ميساكا 10,032. وأيضًا بعيدًا عن ذلك، من تقصدين بـ [هُوَ] بالضبط؟ أسألـ...ميساكا رقم 20,001. يرجى الرد، كما تُعلِن ميساكا 10,032 وإن كانت لا تبدو متفائلة بالحصول على إجابة)

يبدو أن الرقم التسلسلي 20,001، لاست أوردر، قد قطعت الاتصال بعد قولها ما تريد، ولم ترد على نداء ميساكا إيموتو. اعتبرتها أمرًا مزعجًا. فقد صُنعت [لاست أوردر] أصلاً نموذجًا مضيفًا يمكنه إرسال طلب إيقاف طارئ إذا خرجت الأخوات عن السيطرة، ولذلك لا يمكن للأخوات إصدار أوامر للاست أوردر أو تقييد تحركاتها عبر [شبكة الميساكا].

(على أي حال، ميساكا تذهب بمفردها، تقول ميساكا 10,032 قبل أن تفصل الاتصال)

قفزت من النافذة دون أن تكترث لتنورتها. كان زيها الصيفي لمدرسة توكِوَداي الإعدادية يرفرف في نسيم الليل. وفي اللحظة التي هبطت فيها، طوت ساقيها تحتها لتخفف من وقع السقطة. فقد كانت مبرمجة أصلاً لتجنب رد فعل إطلاق بنادق مضادة للدبابات في المعارك. سقوط بضع بوصات لن يلحق بها أي ضرر على الإطلاق. بالطبع، لن تتمكن من إجراء الحسابات العملية بسرعة إذا كان الأمر مفاجئًا وغير متوقع — مثل إصابة في قتال مفاجئ.

انطلقت بأقصى سرعة، مخترقة أسوار المستشفى. قفزت فوق سياج، ثم اندفعت إلى الطريق، وبدأت فورًا تقصير المسافة باستخدام شبكة متاهة من الأزقة الخلفية.

ورغم جريها، كانت تتعرق. ولو كانت أكثر عاطفية، لربما اعتبرت العرق أمرًا مقززًا. كانت تتلقى العلاج من طبيبٍ وجههُ كوجهِ الضفدع — وكانت في حالة أضعف بكثير من الأخوات الأخريات بسبب معركتها مع أكسِلَريتر.

لكنها استمرت تركض.

إذا كانت معلومات الرقم التسلسلي 20,001 صحيحة، وإذا استُعيدت [البقايا] وأُعيد بناء [المخطط الشجري] باستخدامها، ثم أنتجت بكميات كبيرة، فهناك خطر من استئناف التجربة نتيجةً لذلك. هذه الحقيقة التي حسبوها تشير إلى تهديد لحياة جميع الأخوات اللاتي يقترب عددهن من عشرة آلاف.

تهديدٌ—وخطورة.

ومع استمرارها في الركض بأقصى سرعة، تساءلت ميساكا إيموتو في نفسها كيف أمست قادرة على اتخاذ مثل هذه القرارات.

「ميساكا لديها الآن سببٌ يمنعها من الموت موتاً هيّن، كما تستنتج ميساكا. وعموما، سأمتنع عن الموت، فشكرًا جزيلاً، كما تعلن ميساكا」

نعم—قد قطعت وعدًا لذلك الفتى.

احتاجت إلى العلاج. وعندما ينتهي كل شيء، ستكون معه مرة أخرى.

كان وعدًا يبعث على الطمأنينة.

ووعدًا ما أوجعه كثيرا إذا خالفته.

وصلت ميساكا إيموتو إلى شارع رئيسي من زقاق، ثم انطلقت في زقاق آخر. أسقطت سلة قمامة، وأهربت قطة ضالة مذعورة من صوته. ضيّقت عينيها بحزن، لكن لا وقتًا لها للاعتذار.

ما بقي سوى واحدٍ تعتمد عليه في مثل هذه المصيبة.

ليس من منطق يقول، بل عن خبرة.

ولذا الآن وبعد أن استشعرت خطرًا، حاولت إبلاغه لفتى معيّن.

「وعلى ذلك...」 قالت ميساكا إيموتو في الهواء الفارغ.

لو طلبَت عونه، فذلك يعني إرسال الفتى إلى ساحة معركة مرة أخرى. وعلى ذلك، كانت تعرف أنه حتى لو تجنبت إشراكه وأبقت الأمر سرًا، فعندما تبدأ التجربة من جديد، سيندفع هو مرة أخرى دون أي تردد.

نعم—تكاد تجزم بأنه سيفعل.

سيأتي مهما كان.

إذا استؤنفت التجربة، وبدأوا يقتلون الأخوات مجددًا وفق خطةً معينة، فسوف يشد قبضته ولن يفكر لحظةً في مدى خطورة التدخل.

「إذا كان سيشارك مهما كانت الظروف، فمن الأفضل أن أخبره قبل أن تتدهور الأمور، كما تستنتج ميساكا. وبالطبع، تتمنى ميساكا ألا يتدخل أحد في مشاكل ميساكا، لكن ميساكا لا يسعها أن تملك مثل هذه الرفاهية، خاصة وأنها قد تركت الأمر مرةً لأحد آخر، تقول ميساكا وهي تواصل ركضها بأقصى سرعة」

خرجت إلى طريق واسع، ثم انزلقت على كعبيها والتفّت. ثم بدأت تركض أسرع تتخلخل بين جموع الناس.

في لحظتها.

ألمٌ حاد طعن في صدغها.

(...!)

دار رأسها. وصلها ضجيج أبيض عبر الشبكة الكهربائية التي تتكون من موجات دماغ الأخوات، وكان أمرًا نادر الحدوث. بينما ترسل ميساكا إيموتو رسالة لشبكة الميساكا تحذرهن من حدوث شيء غريب، شددت حواسها بحثًا عن السبب، وأسقطت النظارات الواقية من جبينها إلى عينيها.

(تداخل موجات كهرومغناطيسية بسبب تيار كهربائي فائق الشدة... ربما [الأصلية] قادرة على توليد مثل هذه القوة، تفترض ميساكا بلا دليل. يمكنني تقدير الموقع في نطاق خمسمئة متر، لكن...)

مثل هذا التيار عالي الجهد الهائل لا يفيد سوى في القتال. وقد قلقت ميساكا إيموتو بشأن ذلك، لكن التوجه إلى سكن الطلاب الآن له أولوية. أعادت وضع النظارات على جبينها وركضت أبعد.

بعد ثانية، وصلت إلى مدخل السكن.

انزلقت إلى المصعد، وضغطت زر الطابق السابع، ثم بينما يصعد المصعد ببطء، راجعت في ذهنها كيف تحلل وتختصر المعلومات التي تحتاج إلى إيصالها لذلك الفتى. على أي حال، الوقت ضيق. عليها نقل المعلومات الصحيحة بسرعة، مع إيصال شعورها بالخطر من الوضع.

تساءلت إن كان سيستمع إليها إذا جاءت في هذا الوقت المتأخر. أرادت معرفة الوقت بالضبط، لكنها لم تملك ساعة. أرسلت إشارة إلى شبكة ميساكا، فتلقّت على الفور أوقاتًا مختلفة من أماكن حول العالم من الأخوات الأخريات. بعد دمجها وإعادة الحساب، توصلت إلى الوقت الحالي بتوقيت اليابان القياسي.

صدر صوت إلكتروني من المصعد.

فتحت الأبواب بصوت متذبذب مضطرب. استأنفت ميساكا إيموتو ركضها الكامل فورًا. كان مدخل وجهتها هو الباب الوحيد الذي أُعيد بناء درابزينه مؤخرًا لسبب ما.

توقفت فجأة أمام الباب، كبست جهاز الاتصال بأدب، ثم بعد لحظة التفتت وأمسكت مقبض الباب، غير مبالية بما قد يظنه الآخرون. تحرك المقبض بسهولة وبدون مقاومة تذكر. ربما —بالنسبة لمن يعيشون هنا— لم يكن الوقت متأخرًا بما يكفي لتُعتبر وقاحة؟ كما استنتجت ميساكا إيموتو بغموض لنفسها، ثم فتحت الباب بقوة.

كاميجو توما بداخل الغرفة.

والفتاة المسماة إندكس معه.

كلاهما في البيجاما، ولسبب ما تسلقت الفتاة على ظهر الفتى تعضُّ رأسه. والقط يرتعش وحيدا في الزاوية، عَلَّهُ استجاب غريزيًا لرؤية تلك المفترسة الأنثى. عند صوت فتح الباب المفاجئ، نظر كلاهما إلى ميساكا إيموتو عند المدخل.

فكرت.

ما هي الجملة التي ستغير مزاجه بأسرع ما يمكن في هذا الوضع؟

ترك المنطق الإجابة، وتسلّمت الخبرة الزمام.

فتكلمَتْ.

「أطلبك، تقول ميساكا وهي تنظر إليك مباشرة وتقول ما في خاطرها」

وأثناء حديثها، تساءلت ماذا تغيّر فيها حتى سمحت لنفسها أن تقول ما تقول.

「أرجوك أنقذ حياة ميساكا وأخوات ميساكا، تترجاك ميساكا وتنحني إليك」

لم يطرح الفتى أي أسئلة.

إنما حثّها على الاستمرار.

تعليقات (0)