الفصل الثالث: تبتسم الجريموار بسلام. — "لا _ تنساني".
(إعدادات القراءة)
- الجزء 1
لم يفهم مقصدها. لم يستطع فهم الكلمات التي خرجت من فمها.
وبينما كان منهارًا على الشارع ومغطى بالدماء، نظر إلى كانزاكي وظنّ أن كل ما قالته كانت هلوسةً ناجمة عن ألمه، لأنه بدا أمرًا مستحيلاً. إندِكس كانت تُطارَد من قِبل السحرة وتهرب بحثًا عن كنيسة انجليزية. فلا يمكن أن يكون السَّحرة المطارِدُون جزءًا من نفس الكنيسة أيضًا.
«أسمعتَ يومًا بالذاكرة المثالية؟»
طرحت كانزاكي سؤالًا. كان صوتها ضعيفًا، ونبرتها مؤلمة، وبالتأكيد لم تبدو واحدة من أفضل عشر سحرة في لندن. لم تبدو سوى فتاةٍ عادية مُرْهَقة.
«نعم... هكذا حفظت مئة وثلاثة آلاف كتاب...» قالها كاميجو وهو يتألم من شفتيه المتقطعة. «...حفظتها كُلّها... كما قالت. وكان صعبًا عليّ أن أُصدِّقها... أو في وجود قدرة تسمح لأحدٍ بتذكر كل شيء فقط برؤيته مرةً واحدة. هي غبية وبدت مُتَهَيّئة. [1] فبالتأكيد لم تبدو... ذلك النوع من العباقرة.»
«...وكيف تراها؟»
«مجرد فتاة.»
لم تتفاجئ كانزاكي. وبدا تعبيرها تعبًا، وتنهدت.
«أتظن أن فتاةً عادية ستنجح في تفادينا لعامٍ كامل؟»
«...»
«لدى ستيل لَهَبٌ، ولدي الناناسِن واليويْسِن... وهي في مواجهة سحرة بمُسمّى سحري، ولا يمكنها الإعتماد على الخوارق أمثالك أو الغرائب أمثالُنا، ما عساها سوى الهرب.» ابتسمت كانزاكي وأردفت. «كنا أنا وستيل أكثر من كافيين لإحداث هذه الجلبة، ولسنا سوى عضوين. ولا حتى أنا سأصمد شهرًا كاملًا أمام جميع أعضاء نِسِسَريوس.»
كَلامُها صحيح.
أدرك كاميجو أخيرًا قيمة إندِكس الحقيقية. حتى مع قدرته الإماجين بريكر، القادرة على إبطال حتى المعجزات، لم يتمكن من التهرّب من السَّحرة لمدة أربعة أيام. وهي فعلت كل ذلك...
«إنها عبقرية حقيقية،» أعلنت كانزاكي. «إذا عوملت بسوء، فإن الدمار الذي يمكنها أن تسببه سيُقاس بحجم الكوارث الطبيعية. السبب في أن الكنيسة لا تعاملها مثل الشخص العادي واضح. لأن الجميع يخافون منها.»
«ولكن...» عضّ كاميجو شفتيه الملطختين بالدماء. «... هي... إنسانة. ليست أداةً... واسمها... كيف سمحتي بذلك...؟!»
«أنت محق.» أومأت كانزاكي. «...من ناحية، مواصفاتها لا تختلف عن الأشخاص العاديين أمثالنا.»
«....؟»
«أكثر من خمسة وثمانين في المئة من دماغها مُعَبّأٌ تمامًا بكُتُبِ المِئة وثلاثةُ آلاف جريموار... والخمسة عشر الباقية تُعَيِّشُها كباقي الناس.»
كان قولًا عجيبًا ومثير، لكنه أراد معرفة شيءٍ آخر.
«...ولَوْ؟ ما الذي تفعلونه حتى؟ أليست نِسِسَريوس كنيسة إندِكس؟ فلماذا تطاردها كنيسة الشرور اللازمة؟ ولماذا سمَّتكُم إندِكس بالسَّحرة الأشرار من عصبةٍ سحرية مُعَيّنة؟» صرَّ كاميجو أسنانه للحظة. «أو ماذا؟ أتقولين أنها كذبت علي؟»
ما صدّقها. إذا حاولت استغلال كاميجو لمصالحها، فلم يكن هناك من داعٍ لتُعرض نفسها للخطر وتتلقى جرحًا عميقًا في الظهر لتحاول إبعاد قلنسوتها عنه.
وبغض النظر عن المنطق، لم يُرِد الاعتقاد بذلك.
ترددت كانزاكي كاوري قليلاً قبلما تجيب، «لم تكذب عليك.» تحدثت كما لو كانت الكلمات عالقة في حلقها، كما لو كان قلبها على حافة التحطم. «هي لا تتذكر أي شيء. ولا تعرف أننا مرتبطون بـ نِسِسَـريوس أو لماذا نُطاردها حقًا. ولأنها لا تتذكر، استنتجت استنادًا إلى أيِّ معلومةٍ تبقت لها. ظنّت باحتمالية استهدافها من قبل عصبةٍ سحرية مُعَيّنة تبتغي كُتُبها المئة وثلاثة آلاف جريموار.»
فكَّر كاميجو واسترجع ذكرى.
قالت له إندِكس أنها لا تحمل ذكرى واحدة قبل سنة.
«لكن... لحظة، تمهلي لحظة. شيءٌ ما غريب في قِصّتك. أليس لإندِكس ذاكرة مثالية؟ فكيف نَسَت؟ ولماذا فقدت ذكرياتها في المقام الأول؟»
«لم تفقدها.» احتجزت كانزاكي أنفاسها. «سيكون أدقًا القول أننا مَحَوْناها.»
لم يحتج سؤالها عن كيف فعلوها.
‹––من فضلك لا تجبرني على نطق مُسَمّاي أيها الفتى.
‹––لا أريد ذِكْرَهُ مرة أخرى أبدًا.›
«...لماذا؟» سأل مُصِرًّا. «لماذا؟! كنتِ صديقةً لإندكس! ولم تكن إندِكس وحدها من اعتقدت ذلك؛ بل هذا واضحٌ على وجهك! كانت إندِكس زميلتك وصديقتك العزيزة! فلماذا؟!»
تذكر كاميجو الابتسامة التي منحته إياها إندِكس.
كانت تلك ابتسامةً لرابطها الوحيد في العالم، أتت من وِحْدة.
«كان هذا...آخر أملنا...»
«لماذا؟!» صاح كاميجو بنبرة عجزٍ نحوها وفي صوته كَسْرَة.
«لو لم أفعل، لماتت إندِكس.»
توقف نَفَسُ كاميجو. اختفى احساسه بحرارة ليلة منتصف الصيف فجأةً. وتضائلت حواسه تدريجيًا كما لو حاول الهروب من الواقع.
كما لو... كما لو أنه صار جثة.
«قُلتُ لكَ أن خمسة وثمانين في المئة من دماغها محجوزٌ لتخزين 103,000 كتابًا سحري،» قالت كانزاكي وكتفيها ترتعش. «هذا يعني أنها تستخدم الخمسة عشر في المئة الباقية لتعيش طبيعية. لو واصلت خلق الذكريات كأيّ شخصٍ عادي، لانفجر دماغها مثل إطار سيارة.»
«غـ-غير معقول...»
مُنكِرًا. بدون منطقٍ أو مُبرِّر، هرع عقل كاميجو نحو الإنكار.
«ولكن... لكن هذا ليس صحيحًا. قلتِ أنها مثلنا بالخمسة عشر في المئة...»
«نعم. ولكن، إندِكس لها شيء ما عندنا: ذاكرة مثالية.» تدفقت العاطفة ببطء في صوت كانزاكي. «لنتحدث فرضًا، ما هو بالضبط التذكر المثالي؟»
«... ألا ينسى المرء شيئاً حال رؤيته مرة، أليست هكذا؟»
«إذن، هل النسيان بالضرورة سيء؟»
«...»
«كمّية المساحة الحرة في دماغ الإنسان في الواقع أقل بكثير مما نعتقد. إذا عشتَ لمِئة عام، فالسبب الوحيد في مقدرتك على ذلك هو لأن دماغك يُحافظ على نفسه؛ فهو يُمحي الذكريات المُفْرِطة... لن تتذكر غالبًا ما تعشَّيْت قبل أسبوع، صح؟ يُنظف عقل الإنسان نفسه بشكلٍ غير واع. وإلا لَما اقتدرنا العيش، ولكن...» استمر صوتها بتردُّدٍ جليدي. «هِيَ لا تستطيع ذلك.»
«...»
«من عدد الأوراق على كل شجرة من كل شارع؛ ومن كُلُّ وجهٍ تراه في حشود ساعات الذروة؛ ومن شكل كلِّ قطرة مطرٍ تسقط من السماء... دماغها غير قادر على نسيان أي من هذه الأشياء، ولذلك امتلأ بالتوافه والزيادات،» قالت ببرود وأكملت. «...لإندكس، التي تعيش بالخمسة عشر في المئة الأخيرة، فهذه حالةٌ قاتلة. ولتبقى حيّة، فلا بديل لها سوى أن تعتمد على قوّة شخصٍ ما لأن يُنسيها.»
انهار عقل كاميجو.
...ما... هذه الحكاية الخرافية؟ فتاةٌ منحوسة تُطارَد من قبل سحرة أشرار وثم ينقذها فتى مُمل. ويصيروا أصدقاءً، وفي النهاية، يودعان بعضهما بالأحضان والدموع... ألم يُفترض أن تكون هذه هي القصة؟
‹––لذا قبل أن يأتي من يأخذها ويستغلُّها، جئتُ هنا لتأمينها.›
‹––أود تأمين الفتاة قبل أن يتعين علي إعطاء مُسمّاي السِّحري.›
«...لمتى...؟»
ولأنه طرح هذا السؤال بدلاً من الاستمرار في النكران، فلا بد أنه قبله في مكانٍ ما في أعماقه.
«لمتى يمكن لدماغها أن يتحمل؟»
«تُمحى ذكرياتها بفترةٍ دقيقة تدوم سنةً واحدة،» أجابت كانزاكي بتعبٍ. «...تبقى لها ثلاثة أيام. لو أبكرنا أو تأخرنا كثيرًا، فسينتهي أمرها. يمكننا محو ذكرياتها فقط في وقتٍ دقيق مُحدَّد... آمل أنها لم تعاني من صداع الذي يظهر قُبَيْل النهاية.»
ارتجف كاميجو. كان صحيحًا أن إندِكس قالت أنها لا تحمل ذِكرى واحدة قبل عام.
والصداع... بما أنها كانت الوحيدة التي تعرف السِّحر، فقد أخَذَ بقولها عندما قالت أن انهيارها طريحة الفراش كان نتيجة السِّحر الشافي.
ولكن ماذا لو أخطأت إندكس في قولها؟
ماذا لو كانت على شفا، وكان دماغها المُجْهَد على حافة الانهيار في أي لحظة؟
«أفهمت الآن؟» سألت كانزاكي كاوري بصوتٍ تعب. لم تظهر دموع في عينيها. ربما لم تسمح لنفسها بعرض عاطفةٍ رخيصة. «ليس لدينا نية في إيذاءها. وفي الحقيقة، بدوننا، لن يمكن إنقاذها. فهلّا تُسلِّمُها من فضلك قبل أن يتعين علي ذِكرُ مُسمّاي السِّحري؟»
«...»
تخيل كاميجو وجه إندكس أمام عينيه. رصَّ أسنانه وأغلق عينيه مُحكمًا.
«وعليك أن تعلم أنها لن تتذكرك بعد محو ذكرياتها. لاحظ تعامُلها معنا وستعرف. مهما اهتممتَ بها، في لحظة استيقاظها من طقس محو الذاكرة، ستراك مفترسًا يطارد معرفتها.»
«...» فجأة شَعَرَ كاميجو بالتباس.
«إنقاذُها لن يفيدك شيئا.»
«ما قلتِ؟» انفجر الشعور في عقله كرمي النار في بنزين. «ما قلتِ؟! لا تستهبلي عليّ! لا يهمني إطلاقًا ما إذا تذكرتني أم لا! يبدو أنكِ لا تفهمين فدعيني أوضح لكِ شيئًا. أنا صديق إندِكس، وهذا ما سأظل عليه، مهما كان المكتوب في كتبكم المقدسة الغبية!!»
«...»
«ظننتُ أن شيئًا ما غريب، وعلمتُ الآن. لو أنها فقدت ذكرياتها، فألا يمكنكِ أن تشرحي لها كل شيء بعد الحَدَث؟ لماذا تركتيها وحيدة؟ لماذا تطاردونها كما لو كانت عدوًا؟! لماذا تخليتم عنها؟! لماذا لم تفكروا في مشاعرها—»
«اخرس! فأنتَ لا تعرف شيئًا!!»
غطَّ صراخ كانزاكي غضب كاميجو وغلبه. بدت عاطفةً صريحة خرجت من أعماقها أكثر من مجرد طريقة لسحق قلب كاميجو.
«لا تتصـرف كما لو كنتَ تعرف!! وما تظن بمشاعرنا؟ نحن من وَجَبَ علينا سرقة ذكرياتها عامًا بعد عام؟! من تظن نفسك؟! تكلّمت وكأنك تصِفُ ستَيْل بالمجنون السفّاح! ما تظنه حسَّ عندما رأاكُما معًا؟! ما تظنه عانى؟! كم من القوّة اتخذه ليواجهكما عدوًا؟! هل لكَ حتى أن تتخيل العبء الذي تحمَّلهُ ليتظاهر بأنه الشرير لأجل صديقةٍ محبوبة؟!»
«ما—؟»
قبل أن يتمكن كاميجو حتى من رفع صوته دهشةً على هذه التغييرات الجوهرية في السلوك، التحم جسمه بقدمٍ قاسية بلا رحمة لتقذفه يطير عبر الهواء ككرة قدم. اصطدم بالرصيف بقوة متدحرجًا لثلاثة أمتار تقريبًا.
استطعم الدم الخارج من بطنه.
ولم يملك وقتًا حتى ليتكيف مع هذا العذاب الأخير عندما قفزت كانزاكي فوقه حيث بدا القمر إطارًا لها.
لابد أنها نكتة. فلقد ضربت الأرض لتقفز ثلاثة أمتار في الهواء بقوة ساقيها و—
«...؟!»
سَمِعَ كاميجو صوت تكسير.
طعن طرف غمد سيف الشيچيتن شيچيتو جسده كأن حذاءً ذو كعب عالي طعنه.
ولم يُسمح له حتى بالصراخ ألمًا.
أبدت تعبيرات كانزاكي كاوري وكأنها على وشك ذرف الدم.
كان كاميجو خائفًا.
لم يخف من هجماتها الناناسِن أو اليويْسِن أو بقوتها الحقيقية لأحد أفضل عشر سحرة في لندن.
كان خائفًا من عاطفتها البشرية المُفرَغة مباشرة نحوه.
«وأنا أيضًا بذلتُ قصارى جهدي! بذلت أقصى ما أستطيع! في الشتاء والربيع والصيف والخريف! حاولنا كلَّ شيء! صببنا قلوبنا في اليوميات والألبومات الصورية لإعطائها ذِكرى لا تُنسى!!»
كان طرف الغمد ينهمر مرارًا وتكرارًا كماكينة الخياطة.
الذراعين، الساقين، البطن، الصدر، الوجه—ضربته الأداة الخام بوحشية، سحقت أجزاء مختلفة واحدة تلو الأخرى.
«...لكن كلها كانت بلا جدوى.»
سَمِع كاميجو صرير أسنانها.
وتوقفت يدُها فجأة.
«حتى لو قَرَأت اليوميات ونَظَرت إلى ألبومات الصور... فكل ما فعلته هو قول "آسفة". مهما بدأنا من الصفر لإعطائها ذكرياتٍ جديدة، مهما تكررت الدَّوْرة من مرات... أسرة، أصدقاء، أحباء، كل شيءٍ وكلُّ علاقةٍ بنتها ستتلاشى.» ارتجفت بقولها، كما لو كانت غير قادرة على الخطو. «لم نتحمّلها... لم نتحمّلها بعد الآن. لا أتحمل رؤية ابتسامتها بعد الآن.»
بالنظر إلى شخصية إندِكس، فلابد أن يكون التفريق بينها وبين أحبائها أكثر تعذيبًا من الموت.
وكانت مُحاصَرَة في هذه الدورة الجحيمية الأمدية، مُجبرة على ابتلاع ذلك الألم مرارًا وتكرارًا.
فراقٌ أكثر إيلامًا من الموت، ليعقبه نفس البؤس المحتوم. كان عيشًا مُضنِكًا ومأساوي.
لذلك قررت كانزاكي والآخرون أنه بدلاً من تحمل لقاءات مؤلمة، فإنهم سيخففون من معاناة كلّ فراق قدر الإمكان. وإذا لم تحمل إندِكس ذكرياتٍ قيمة في المقام الأول، فلن تُلقى بصدمةٍ كبيرة عندما تفقِدُها. وهكذا تخلوا عن صديقتهم، ووضعوا أنفسهم أعدائها.
صبغوا ذكريات إندِكس—كُلَّ ما كانت عليه—بالسَّواد.
وحاولوا جعل لحظاتها الأخيرة—نهاية دورةِ جحيمها—أقل ألمًا قدر الإمكان.
«...»
استوعب كاميجو الموقف.
هؤلاء الناس محترفون في السِّحر. بإمكانهم جعل المستحيل مُمكنًا. وبينما استسلمت إندكس لذكرياتها مرارًا وتكرارًا، فلا شك أنهم سعوا إلى بدائل أخرى.
لكنهم لم يُوَفّقوا في الحصول على إجابة. ولا حتى مرة.
وإندِكس، الضحية في كل هذا، لن تلوم أبدًا ستيل أو كانزاكي.
ولطالما تحملت العبء وحدها بنفس الابتسامة.
دائمًا ما يبدآن من الصفر، ويُجبران على لقيانها في كل مرةٍ أوّل لقاء، حتى لامت كانزاكي وشريكها نفسيهما ورأيا الاستسلام خيارًا وحيد.
ولكن هذا كان...
«تبّاً...لهذا...» صرّ كاميجو أسنانه. «هذا منطق غبيٌّ وأناني يأخذكم وحدكم في الاعتبار. لم تفكروا في إندِكس للحظةٍ واحدة! إياكم وفرض جُبْنكم اللعين عليها!!»
لعامٍ كامل، كانت إندكس في هربٍ مستمر دون أحدٍ يساعِدُها.
لن يقبل أن هذا كان أفضل حل. لن قبله أبدًا. ولم يُرِد ذلك.
«إذن، ماذا... ما غيرها كان أفضل؟!»
شدّت كانزاكي قبضتها على غمد سيف الشيچيتن شيچيتو ووجَّهتهُ نحو وجه كاميجو بكل قوتها.
حرَّك كاميجو قبضته اليمنى المحطمة وأمسك الغمد قبلما يصيبه.
لم أعد خائفًا من هؤلاء السَّحرة بعد الآن.
جسدي يتحرك.
بتُّ أتحرك!
«لو كنتِ أقوى بقليل فقط...» صفَّ كاميجو أسنانه. «لو لم تكونوا محتالين تتابعون أكاذيبكم... لو كنتم خائفين من فقدانها لذكرياتها... فعليكم إذن إعطائُها ذكريات أفضل للعام التالي...! لو عَرَفت مقدار السعادة التي تنتظرها في المستقبل، لَما كان فقدانها الذكرى مخيفًا هذا القدر. ولَما كان على أحدٍ الهرب بعد الآن! كان هذا كل ما عليكم فعله!!»
على الرغم من أن كتفه مهشم، قبض بيده اليمنى غمد السيف بقوة أكبر. استخدم كل قطرة من قوته ليسحب نفسه نحو الأمام، وكان الجهد يسبب في تمزقات وخروج دماء جديدة عبر الجروح الطازجة التي غطَّت كامل جسده.
«أحقًا لا تزال... تعتزم القتال بتلك الجروح؟»
«...اخرسي...!»
«ما الذي تبتغيه بالفوز في هذه المعركة؟» كانت كانزاكي مندهشة. «حتى لو هزمتني، فكُل الـ نِسِسَريوس يدعمون ظهري. قد أكون واحدة من أفضل عشر سحرة في لندن، ولكن هناك آخرون فوقي... إذا نظرت إلى الكنيسة ككل، فلستُ سوى بيدقًا يُستبعَدُ في مهمةٍ في أقصى الشرق.»
نعم، على الأرجح صَدُقت في كلامها.
لو كانت هي وستيل حقًا أصدقاء إندِكس، لاعترضوا على معاملة الكنيسة لها. وحقيقة أنهم لم يفعلوها تعني فشلهم؛ وكانت هناك فجوة كبيرة في القوة.
«أخبرتك... أن تخرسي... سحقا!»
ولكن أيّاً من ذلك لم تكن القضية.
ارتجف جسده. ورغم شعوره بانهيار جسده في أيِّ لحظة، إلا أنه أجبر نفسه للأمام مجددًا شازرًا بكانزاكي.
كانت نظرةً ضعيفة، ولكنه أرجعت واحدة من أكبر عشرة سحرة في لندن خطوةً للخلف.
«هذا لا يهم! أتحمين الناس لأن قوّتكِ تُلْزِمُك بذلك؟!»
تقدم الفتى كاميجو خطوةً واحدة بساقين مُتهالكة. «لا! ليس الأمر كذلك!! لا تخدعي نفسك! حصلتِ على القوة لأن هناك شيئًا أردتي حمايته!»
بيده اليسرى الممزقة، أمسك رقبتها.
«لماذا امتلكتِ القوة؟»
بيده اليمنى الممزقة، قَبَضَ قبضةً دموية.
«من ابتغيتي حمايته بيديكِ هذه؟!»
ضرب كاميجو بقبضة بطيئة وجهها. لم تَحْمِل ثِقلًا ولا قوّة، وعندما ضربت، بدأت قبضته تنزف كما لو كانت طماطم مهروسة.
ومع ذلك، تراجعت كانزاكي إلى الخلف كما لو تلقت ضربةً حاسمة.
سقط سيفها [الشيچيتن شيچيتو] من يدها وسقط على الأسفلت.
«فما الذي تفعلينه هنا حتى؟!» وقف ينظر نحو كانزاكي القابعة أرضًا. «عندك كل تلك القوة؛ عندك كل تلك الموهبة... فلماذا أنتِ عاجزة هذا القَدْر...؟»
اهتزت الأرض أمام عينيه.
وما إن لاحظ، انهار كاميجو ساقطًا وكأن بطاريته قد نفذت.
انـ ... ـهض... ستُـ ... ـهاجِم... مرة أخرى...
امتلأت رؤياه بالظلام.
حاول أن يجبر جسده على الاستجابة، حاول أن يستعد لهجوم كانزاكي على الرغم من فقدانه كمًّا من الدم حتى صار عميًا تقريبًا، ولكن كل ما استطاع بذله كان بالكاد كافيًا لتحريك إصبع صغير.
لكن هجومها لم يأتِ.
لم يأتِ.
===============
ملاحظة: في هذه النقطة، أنصحكم بقراءة الفصل 7 من المانجا (بنفس الاسم)، فيها اضافة حلوة، وهي قصة قصيرة عن ستيل وكانزاكي وإندِكس "أوَّل مرّة"
- الجزء 2
استيقظ كاميجو على حَلْقِهِ الجاف وجِسْمِهِ المُتَعرّق.
«توما؟»
عندما أدرك أنه في شقة الأستاذة كوموي، رأى إندِكس تحدق بحاله، وأدرك أنه كان هاجعًا على فوتون.
مُندهشًا، رأى أشعة الشمس الساطعة تتسلل من النافذة. تذكر خسارته أمام كانزاكي كاوري في تلك الليلة وفقدانه الوعي. لم يعلم حينها خاتمة الأمور، لكن تاليًا ما عرفه هو أنه هنا.
وعمومًا، كان مذهولًا برُمّة القِصّة ولم يستطع الفرح لنجاته.
لم يرَ الأستاذة كوموي. ربما كانت خارجة.
رأى وعاءً من الحساء موضوعًا على طاولة الشاي جِوارَ إندِكس. وفي ذهنه، اعتذر لإندكس إذ أنّه فكَّر باستحالة أن الفتاة التي تعلَّقت على شرفته وعرَّفت نفسها بشحاذتها [2] الطعام قد تطبخ له أو لنفسها حتى. وكان من المنطقي أن يفترض أن الأستاذة كوموي هي من صنعته وتركته على الطاولة.
«يليل... وكأنني مريض.» حاول كاميجو تحريك جسده. «أتش، تشَ، تشَ... ما هذا؟ طلعت الشمس وانتهى الليل... كم الساعة؟»
«ما مرّت ليلة وحسب،» أجابت إندكس، وكأن الكلم علق في حلقها.
«؟» رفع كاميجو حاجبًا، وأخبرته إندكس بهدوء. «ثلاثة أيام.»
«ثلاث... أيام... لحظة، ها؟! لماذا نمت هذا الكثر؟!»
«ما أدري! لا تسألني!!»
صاحت بفُجائية ودفاعية.
بدت كمن تفرغ غضبها وإحباطها. جاءت مُنفجرة على كاميجو دون سابق إنذار.
«ما أدري، ما ادري، ما أدري! حقًا لم أعلم شيئًا! ركّزتُ كثيراً على هروبنا من ساحر اللهب ذاك حتى طار عن بالي أنك قد تقاتل آخر!»
كلامها الطاعن لم يكن موجهًا صوب كاميجو.
كانت تعاتب نفسها وتجرحها، وغلبه ذلك حتى وجد نفسه عاجزًا عن الكلام.
«توما، قالت كوموي أنها وجدتك مرميًا في الشارع وجلبتك إلى الشقة مُمزقًا. لم أُفكر سوى في نفسي تلك الليلة، كنتُ فرحة كثيرًا لهروبنا من ساحر اللهب ذاك حتى لم أعلم بصراعك مع الموت!» توقّفَت هنا فجأة. وبعد لحظة، سحبت نَفَسَها ببطء كما لو كانت تعتزم قول شيء حاسم وأردفت. «...لم أستطع إنقاذك يا توما.»
ارتعشت أكتاف إندكس الصغيرة. توقفت عن الحركة وعضت شفتها السفلى.
لكن حتى الآن، لم تكن إندِكس تبكي لنَفْسِها.
لن تسمح لقلبها حتى بأدنى قدر من المشاعر أو التعاطف. أدرك كاميجو أنه لا يستطيع إعطاء أي كلمات تعزية لشخص أقسم ألا يظهر أي دموع حتى لنفسه.
وبديلًا، فكَّر في شيءٍ آخر:
ثلاثة أيام.
لو رغبت كانزاكي في قتله، لأمكنها ذلك في أي وقتٍ تشاء. وهو أمرٌ مستغرب أنهم لم يستعيدوا إندِكس أثناء غيابه لثلاثة أيام.
فلماذا؟ تساءل في داخله. لم يحمل فكرةً عمّا كانوا يخططون.
إضافةً لذلك، أتته شكوك مُضنكة بأن هناك معنىً أعمق في "ثلاثة أيام". شَعَرَ وكأن حشراتٍ تتسلل بصمت على عموده الفقري. ثم عادت إليه ذِكرى.
الحد الزمني!
«مم؟ توما، ما بك؟»
ولكن إندكس المرتبكة نظرت إلى استغرابه. حقيقة أنها تذكرته تعني أن السَّحرة لم يمحوا ذكرياتها بعد. وزيادة على ذلك، لم تبدو الأعراض ظاهرةً بعد.
حسَّ بالراحة، ولكنه أيضًا تمنى قتل نفسه إذْ أنّه ضَيَّع الثلاثة أيام القيمة الأخيرة على نوم. لكنه قرر الاحتفاظ بذلك لنفسه. لم يرد من إندِكس أن تعلم.
«...تبا. لا يمكنني تحريك جسدي. ما هذا؟ صرت مومياء أو ماذا؟»
«هل يؤلمك؟»
«يؤلم؟ لو تألمت، لوجدتيني أتلوى على الأرض. ولماذا وضعتم عليّ كل هذه الضمادات؟ ما بالغتوا بعض الشيء؟»
«...»
لم تقل إندكس شيئا.
ثم انهمرت دموعها كما لو لم تستطع كبحها أكثر.
وهذا أثر في كاميجو أكثر من أيّ صراخ. وحينها تبادرت إليه فكرة أن عدم شعوره بالألم ربما يعني أنه في حالة أسوأ بكثير مما ظن.
لا يمكن للأستاذة كوموي استخدام السحر الشفائي مرة أخرى. كان متأكدًا من سماع إندكس تقولها. في ألعاب الفيديو، كان من السهل التعامل مع الجروح إذا امتلكت ما يكفي من نقاط السِّحر، ولكن يبدو أن العالم الحقيقي كان مختلفًا.
نظر كاميجو إلى يده اليمنى.
كانت يُمناه المكسورة والمُشوَّهة ملفوفة بالضمادات.
«أوه، صحيح، قلتِ أن الأسابر الذين خضعوا لمنهج التطوير لا يمكنهم استخدام السِّحر، صحيح؟ هذا محبطٌ بعض الشيء.»
«...نعم. العاديون والخارقون لهُم دوائر مختلفة، لذا...» بدت غير راضية. «يبدو أن جروحك ستشفى بالضمادات وحدها، ولكن... عِلمُكُم هذا مزعج كثيرًا. سِحرُنا لكان أسرع.»
«نعم، نعم... لا داعي لتلك الهراءات السِّحرية، سأكون بخير.»
«ما تقصد بـ "هراءات سحرية"؟» أعبست إندكس شفتيها على هذا القول. «توما، بعد كل هذا ألا تزال تنكر السِّحر؟ أنت عنيد كعند عنترة! يا أبو عنيد!!» [3]
«ما قصدتها هكذا!» ردَّ كاميجو وضغط رأسه في وسادته. «أنا... إن أمكن، لا أريد أن أرى تعبيرك عندما شرحتِ السِّحر آنذاك مجددًا.»
تذكر كاميجو شرح إندكس للسحر الروني في ممر مسكنه. كانت عيناها فارغة وميكانيكية كتروس الساعة. وكانت كلماتها أكثر تهذيبًا من إعلان الحافلة وأقل إنسانيةً من جهاز الصرافة.
كيانٌ مُتَفرِّدٌ فريد: مكتبة الجريموار، فهرس الكتب المحظورة. (باللاتينية)
لا يزال عاجزًا عن التصديق أنها نفس الفتاة آنذاك.
أو بالأحرى، لم يُرِد أن يصدق ذلك.
«؟ توما، أتكره الشروحات؟»
«ها...؟ لحظة، ما تتذكرين؟ كنتِ تطنطنين مثل الدمية المُقلِّدة عن الرونات وتقنية ستيل. يا بنت، لقد جذبتِ انتباهي كثيرًا وقتها.»
«...أوه... فهمت. لقد... استفقت مرة أخرى، يبدو كذلك.»
«استفقتِ؟»
تعبيرها هذا أبداها وكأن تلك الدمية هي "الحقيقية".
مُشيرةً إلى أن هذه الفتاة الطيبة الجالسة جواره كانت "مزيفة".
«نعم. لكن أُفضِّلُ ألا تسأل كثيرًا عن يقظتي.»
قبل أن يضغط عليها بالأسئلة، واصلت إندكس.
«قول أشياء لا تتذكرها يشبه الحديث أثناء النوم، لذا فهو مُحرِجٌ قليلاً. وأيضًا» وأردفت بعد لحظة، «أكثر فأكثر أحس بنفسي أتحول تدريجيًا إلى آلةٍ بلا مشاعر، وهذا يخيفني.»
ابتسمت.
ببسمةٍ أخبرت الجميع ألا يقلقوا عليها، رغم أنها بدت على حافة الانهيار.
لا يمكن لآلة أن تظهر تعبيرًا مثل هذا.
فقط الإنسان من يمكنه أن يبتكر تلك الابتسامة.
«...آسف،» اعتذر كاميجو تلقائيًا. كان محرجًا لأنه فكر فيها على أنها أقل من الإنسان، ولو للحظة.
«لا عليك يا غبي.» قالتها بصوتٍ خفيض، ولم يستطع أن يعرف ما إذا كانت فعلاً على ما يرام أم لا. «أتريد شيئًا لتأكله؟ فلدينا هنا وجبة كبيرة جاهزة لمريضنا الزائر. عندنا شوربة وفاكهة وحلوى.»
«طيّب، ولكن كيف آكل بهذه اليدين—»
قبل أن ينهي، رآها تُمسك بعودَيْ طعام في يدها اليمنى.
«...إندكس-سان؟»
«نعم؟ لا داعي للخجل يا سخيف. لو لم أطعمك هكذا لمدة ثلاثة أيام متتالية، لمُتَّ جوعًا.»
«...لا شكرًا. من فضلك، يا ربي، على الأقل أعطيني وقتًا لأستعد.»
«لماذا؟ ألستَ جائعًا؟» ألقت إندِكس بعيدًا العودَيْن. «أتريدني أن أمسح عرقك؟»
«.....................................................................................عذرًا؟»
حسَّ بإحساسٍ لا يُوصَف جعل جسده كله يُشعِرُهُ بالحكّة.
ما هذا؟ ما نذير السوء المُنفِرِ هذا؟ ما هذا الشعور السيء؟ إذا رأيت شريط فيديو وهي توكلني لثلاثة أيام، قد أنفجر وأموت حرجًا...
«...على أي حال، أعلم بأنكِ تنوين خَيرًا، حقًا ولا شيء خبيث، ولكن هل لكِ الجلوس هناك يا إندكس؟»
«؟» توقفت لحظة. «أنا أصلًا قاعدة.»
«...»
كانت إندِكس فتاةً ذي نوايا حسنة وهي تحمل المنشفة، لكن كاميجو وجد نفسه عاجزاً على ربط مصطلح "بريئة" بها.
«ما الأمر؟»
«أخ،» حاول كاميجو متلعثمًا فورًا تحويل انتباهها. «حسنًا، فأنا هاجعٌ على هذا الفوتون، وأنظر إلى وجهك، و...»
«أهذا غريب؟ أنا راهبة، فأقل ما أفعل هو رعاية المرضى.»
لم يكن الأمر غريبًا. رداء رهبانيتها البيضاء وسلوكها الأمومي البريء جعلها تبدو وكأنها حقيقةً –(آسفٌ لقولي يا إندكس)– راهبة.
ولكن الأكثر أهمية...
عندما نظرت إليه بخدودٍ وردية من كثرة البكاء وبدموعٍ تمليها، بدت نوعًا ما...
ولكن لسببٍ ما، لم يجرأ على نطقها عاليًا، وبدلًا من ذلك قال: «لا، لا. فكَّرت في كيف أن شَعْرَ أنفكِ فضيٌّ كذلك.»
«.......................................................................................؟»
تجمد وجه إندكس فورًا.
«توما، توما. ما تظنُّ في يدي؟»
«... هذه شوربة، لكن... مهلا! لحظة، لحظة، لا تُمَيلينها هكذا فالجاذبية—»
وبسوء حظه الرفيق، امتلأت رؤية كاميجو للأسف ببياض الشوربة.
- الجزء 3
كاميجو تعلَّم عن تجربة أن شوربة الرز لا تُزال بسهولة من الفوتونات والبيجامات، وإندِكس كانت تقاتل حبّات الأرز اللزجة بدموعٍ في عينيها، وكلاهما سَمِع دقةً على الباب والتفتا إليه.
«هل هي كوموي يا ترى؟»
«...على الأقل اعتذري يا حمقاء!»
وبالمناسبة، على الرغم من أن شوربة الرز كانت باردة ولم تحرقه، إلا أن كاميجو فقد وعيه لبضع ثوانٍ مُتشنجًا مذعورًا في اللحظة التي هبطت فيها الكربوهيدرات عليه مُتوقِّعًا أن الحساء كان فعلاً ساخن للغاية.
‹ ها؟ ماذا تفعلون خارج منزلي؟ › سَمِعوا صوتاً وراء الباب. كانت للأستاذة كوموي، التي كانت في الخارج حتى الآن. بدا وكأنها صادفت زُوّارًا طرقوا الباب.
‹كاميجو-تشان، لا أعرف من هم، ولكن عندك ضيوف.›
انفتح الباب بنقرة عالية.
ارتجف كاميجو.
وراء الأستاذة كوموي وقف ساحِرَيْنِ مَألوفَيْنِ.
بدت على وجوههما ارتياحٌ طفيف لوجود إندِكس جالسة هناك عفويًا.
حمل وجهه تعبير الشك. كان افتراضه الفوري هو أنهم جاءوا لتأمين إندكس... لكن لأمكنهم بسهولة فِعلُ ذلك في أي وقت شاءوا خلال الثلاثة أيام التي كان كاميجو فيها غير واعي. بغض النظر عن موعد "علاجهم" المُحَدّد، لا سبب ليتركوها هنا. أمكنهم ببساطة أن يحتجزوها في مكانٍ ما خلال تلك الفترة.
...فلماذا انتظروا حتى الآن ليأتوا؟
ارتعش. فتذكر فجأة لهيب وسيف السَّحرة، واشتدت عضلاته.
ومن ناحية أخرى، صارت دوافعه لمواجهة ستيل وكانزاكي في المرتبة الأولى غامضة إلى حد ما. فهم لم يكونوا "جنود عصبة السحرة الشريرة أ و ب" بعد الآن، بل كانوا "أصدقاء إندِكس من نفس الكنيسة الذين جاءوا لمساعدتها". كان قلقًا على إندكس أيضًا، ففي النهاية، لم يتبقَ سوى التعاون وتسليمها للكنيسة.
ومع ذلك، كانت هذه وجهة نظره وحسب.
من وجهة نظر السَّحرة، كان التعاون مع كاميجو غير ضروري تمامًا. سيكون أسهل لهم أن يعدموه الآن ويصطحبوا إندِكس إلى المنزل.
بدا ستيل مستمتعًا بالتوتر الذي أظهره كاميجو.
«هم؟ همم همم هممم~ يبدو أنك لن تهرب بسهولة بهذه الجراح.»
أخيرًا، كَشَفَ كاميجو نوايا "العدو".
لو كانت وحيدة، لأمكنها التهرب من السحرة والكنيسة؛ فقد قضت ما يقرب من عام هكذا. يمكنها بسهولة أن تفلت وتختبئ في مكانٍ ما لو كانت وحدها.
وبالأيام الثلاث الباقية حتى الحد الزمني، لن يستطيعوا في الغالب إيجادها. إذا تركوها جديًا تُفلِتُ منهم مرة أخرى، فحينها...
لقد تجنبت الكنيسة لقُرَيْب عام. حتى لو احتجزوها في مكانٍ ما، لهربت ربما، ولربما هربت أيضًا أثناء المراسم (طقوس).
ومع ذلك، تغيّرت الحكاية بوجود كاميجو.
لهذا السبب لم يقتله السَّحرة. لهذا السبب تركوا إندِكس معه: حتى تبقى بجانبه، وليكون لها أغلالًا يمنعها من الرحيل.
قد لطَّخوا أرواحهم فقط ليضمنوا بقاء إندكِس في قبضتهم.
«ارجعوا حيث جئتم أيها السَّحرة!»
وقفت إندكس في طريق السحرة – من أجل كاميجو ولا غيره.
وقفت هناك وذراعيها ممدودتين عرضًا، كما لو تَعلَّقت على صليب لخطاياها.
تمامًا كما أراد معذبوها.
قد قصّوا جناحيها بصَفَدٍ يسمى "كاميجو".
«...»
فجأة، ارتعش ستيل وكانزاكي بخفة.
بدا أنهما لم يستطيعا تحمل رؤيتها هكذا وإن سارت الأمور كما خططا وتنبأا.
ما عسى كاميجو سوى أن يتَصَوَّر كيف بدت تعابير إندِكس وهو يرى ظهرها.
وبأي حال وقف الساحران هناك ثابتين. والأستاذة كوموي، التي لم تتحمل العبء الأكبر هنا، نظرت بعيدًا عندما فاضتها مشاعر جُمَّة.
تساءل ما شَعَروا فيه هنا؟
تساءل ما شَعَروا فيه أن يُحكم عليهم وأنهم مُنفِرون في نظر من حاولوا حمايتها إلى حدِّ إرتكاب أشنع الجرائم؟
«...توقفي... إندكس، إنهم... ليسوا أعداء—»
«ارحلوا!!» لم تكن إندكس مُستمعة. «أرجوكم... سأذهب أينما تريديون... سأفعل أيَّ ما تريدون، أرجوكم، أتوسل إليكم...» تحت كرهها السائد، امتزج صوتها مع صوت فتاةٍ تبكي، وسقطت الدموع من جفنها، وأنهت قولها:
«أتوسل إليكم، من فضلكم لا تؤذوا توما بعد الآن!»
لِكَمْ؟
لِكَمْ تضرَّر السَّحرة جراء قولها هذا وهُم كانوا "رفاقًا" لا يُعَوَّضون؟
للحظة وفقط لحظة، ابتسم الساحران بألمٍ شديد للغاية. كما لو تخليا عن شيء.
ثم تجمَّدت أعيُنُهما وكأن مفتاحًا قد قُلِب.
لم تكن هذه نظرات تُوَجَّهُ لصديق؛ لقد كانت نظرات باردة بغيض.
حَمَلَت هذه النظرات أمل ضرورة تخفيف مصيبة الفراق قدر الإمكان بدلاً من منحها مشقة التعرف عليهما...
المشاعر التي أجبرتهم على التخلي عن رفيقتهم وأن يصيروا أعداءً لها هي بالضبط لأنها صديقةٌ عزيزةٌ لهم...
لا يمكن كسر الروابط كهذه.
إذا لم يكن لدى كاميجو الشجاعة ليعبر عن رأيه، فلن يقدر سوى أن يشاهد بصمتٍ ما يحدث عند حدوث السيناريو الأسوأ.
«تبقت اثنتي عشرة ساعة وثمانية وثلاثون دقيقة قبل الحَد.»
أدلى ستيل بهذا البيان بنبرة ساحر.
ربما لم تفهم إندكس ما عناهُ بـ "الحَد".
«أتينا لنرى كيف يبلي قيدُنا، لنرى ما إذا كنتِ ستهربين أم لا. وقد خرج هذا الأمر قليلاً عن توقعاتنا، أليس كذلك؟ إذا لم تريدي منا أخذ لُعبتكِ السخيفة هذه، فعليكِ الاستسلام وترك أي أفكار ساطعة عن الهروب. هل فهمتِ؟»
لابد أن هذا تمثيل. في الواقع، ربما أراد أن يبكي فرحًا لسلامة إندكس. لابد أنه أراد أن يمرر يديه عبر شعرها ويضع جبينه بجبينها ليقيس حرارتها. هكذا كانت صديقةً ثمينة له.
وأن يخاطبانها بقسوة لابد أن يكون ببساطة تمثيلًا بكمال. كم من إصرارٍ تطلبه ليمنع نفسه من ذلك؟ لم يتصورها كاميجو.
لم تُجِب إندكس.
لم يتحدث الساحران أكثر، وغادرا الشقة دون كلمة أخرى.
لماذا...؟
لماذا تحوَّلت الأمور لهذا...؟ فكَّر، ورصَّ أسنانه.
«كل شيءٍ تمام... لا تقلق.»
أخيرًا، نزّلت إندكس ذراعيها والتفت ببطء لتواجه كاميجو.
لم يستطع إلا أن يغلق عينيه. لم يتحمل النظر إليها.
لم يتحمل رؤية وجه إندكس المغطاة بالدموع والارتياح.
«إذا أقمتُ صفقةً معهم...» سَمِع صوتها في الظلام. «...فإن حياتك اليومية لن تتدمر بعد الآن. يا توما، لن أسمح بوجودهم مرة أخرى، لذا لا تقلق.»
«...» لم يستطع كاميجو الرد. لم يتمكن سوى من التفكير، في الظلام، بعينين مغلقتين.
...هل سأتركُها ذِكرى؟ أترك وقتنا معًا يضيع؟
- الجزء 4
هبط الليل.
استلقت إندكس بجانب الفوتون نائمة. قد غفت قبل مغيب الشمس، ولم تشتغل الأضواء في الشقة حتى الآن.
بدا أن الأستاذة كوموي ذاهبة إلى حمّامٍ عام، لذا كانا لوحدهما في الغرفة.
على ما يبدو. لم يكن كاميجو في أفضل حال، فقد غشى نائمًا أيضًا وعندما استيقظ رأى الليل. لم تكن هناك ساعة في غرفة الأستاذة كوموي، لذا لم يعرف كم الساعة. عندما تذكر "الحَدَّ الزمني"، اقشعر جسده.
قد غابت إندكس بسرعة في النوم من الإرهاق، ربما نتيجةً للتوتر التراكمي للأيام الثلاثة الماضية. بفمها مفتوحٌ نصفيًا، ذكَّرته بطفلٍ مُرهق بعد الرضاعة من أمه.
يبدو أنها قد تخلت عن هدفها الأصلي في الوصول إلى كنيسة الأنجليكان. ربما لم ترغب في سحب كاميجو المُتعب معها.
بين فترةٍ وأخرى، كانت تذكُرُ اسمه في نومها، مما أحرجه قليلاً.
أتته مشاعر معقدة عندما نظر إلى وجهها الشبيه بالقطة، بدون دفاع.
لم يهم كم حاولت أو عاندت؛ ففي الآخر ستسير كل الأمور وفقًا لتخطيط الكنيسة. سواء وصلت إلى كنيسة بسلام أو اُعتُقِلَت من قبل السحرة في الطريق، ستعود إلى نِسِسَريوس، وستُمحى ذكرياتها.
فجأة، رنّ الهاتف.
الهاتف في شقة الأستاذة كوموي كان من نوع الأنتيك الأسود باختيار الأرقام دائريًا. نظر كاميجو إليه ملولاً وهو يصدر صوتًا مزعجًا.
ردُّ الاتصال كان بديهيًا، لكن كاميجو حسَّ أنه من الخطأ أن يرد على هاتف الأستاذة كوموي وهي ليست موجودة. أمسك بالسماعة على أية حال. ليس لأنه أراد الرد، ولكن لأنه سيأنب ضميره إذا أيقظ إندكس.
‹«إنها أنا... هل عرفتني؟»›
ما سمعه من الطرف الآخر من الخط كان صوت امرأة مُحترمة. حتى عبر الهاتف، عرف أنها كانت تبذل جهدًا للتحدث بهدوء كما لو كانت تتلفظ بسر.
«كانزاكي...؟»
‹«كفى. لصالحنا، من الأفضل ألا نذكر أسماء بعضنا. هل هي... هل إندِكس هنا؟»›
«إنها نائمة، لكن... انتظري، كيف عرفتي هذا الرقم في المقام الأول؟»
‹«بنفس الطريقة التي عرفتُ بها عنوانكم. ببحثٍ بسيط.»› كان صوتها جامدًا ومتصلبًا. ‹«إذا لم تستيقظ بعد، فهذا أفضل. من فضلك استمع لقولي.»›
«؟» رفع كاميجو حاجبًا بتشكك.
‹«كما ذكرنا سابقًا، حدُّها الزمني ينتهي في منتصف هذه الليلة. ولقد أعددنا جدولًا لإنهائها صحيحًا في الموعد.»›
تجمد قلب كاميجو.
كان يعرف. كان يعرف أنه لا طريقة أخرى لإنقاذ إندِكس. ولكن باقتراب النهاية أمام عينيه، حسَّ بنفسه عاجزًا مُحاصر.
«لكن...،» بدأ كاميجو بصوتٍ أجوف. «لماذا تكلّفتي عناء اخباري؟ كفى... لو استمريتي في الحديث، فقد أحاول إيقافكم حتى لو كانت حياتي على المحك.»
‹«...»› سكتت المتلقية.
ومع ذلك، لم يكن صمتًا تامًا. كان بإمكانه سماع تنفسٍ مكبوت ممزوجًا. لقد كان صمتًا إنسانيًا للغاية.
‹«أتقول أنك لا تحتاج وقتاً لتُوَدِّعَها؟»›
«ما—؟»
‹«سأتحدث صراحةً. عندما حاولنا مسح ذاكرتها للمرة الأولى، انشغلنا بمحاولة خلق ذكريات معها خلال تلك الأيام الثلاثة الأخيرة. وفي ليلة الميعاد، تشبثنا بها وبكينا مذعورين. وأظن أنك تستحق على الأقل أن تُعطى نفس الاهتمام.»›
«لا... تستهبلي... علي...،» رد كاميجو مُمتعضًا، وظن نفسه يسحق الهاتف تقريبًا بقبضته. «كل ما تقولينه هو أن أستسلم! أتخبرينني بالتخلي عن حقي في تحدي هذا الموت؟!»
‹«...»›
«اسمعي، بما أنكِ لا تفهمين فاسمحي لي أن أوضح لكِ شيئا: أنا لم أستسلم بعد. لا، لن أستسلم مهما كان! فإذا خسـرتُ مئة مرة، سأنهض من مكاني مئة مرة، وإذا خسـرتُ ألف مرة، فسأزحف على الأرض ألف مرة! هذا كل ما في الأمر، فقط انظروا إليّ وأنا أنجز ما عجزتم عن فعله!!»
‹«هذا ليس حوارًا ولا تفاوضًا، بل نذيرٌ لك. مهما ابتغيت الفعل، سنأخها بحلول منتصف الليل. وإذا ما زلت تحاول منعنا، فسَنسْحَقُك.»› كان صوت الساحرة ناعمًا كصوت موظفة البنك. ‹«وقد تحاول استغلال الرحمة البشرية المتبقية فيّ... ولكن هذا سببٌ آخر لجعلي هذا مطلبًا صارمًا.»› كان صوتها باردًا كسيف كاتانا يقطع هواء الليل. ‹«قبل وصولنا، ودِّعها واترك المكان. كان دورك هو أن تكون قيدًا لها. مصير الأصفاد هو أن تُقطع عندما تُنفذ غايتها.»›
لم تُحمَل كلمات الساحرة بكُرهٍ ولا سخرية.
بدت وكأنها تحاول منع شخص مجروح من النضال حتى لا يتمزق جرحه أكثر.
«هُراء...» لسبب ما، ضرب ذلك وَتَراً في كاميجو، وجعله ينفجر على المُتلقية وراء الهاتف، وقال:
«كلُّ واحدٍ منكم يلوم ضعفه على الآخرين. ألستم سحرة؟ ألا يمكن لسِحرِكُم جعل المستحيل ممكنًا؟! فما هذه الفوضى؟ هل السِّحر حقًا خاوي وعديم فائدة؟! أيمكنكم مواجهة إندكس والادعاء لها بأنكم جربتم كُلَّ تعويذةٍ الواحدة تلو الأخرى؟!»
‹«...لا أستطيع بالسِّحر شيئا. ولستُ فخورة بهذا، ولكني أرفض أن أُهدِّئها بكلماتٍ خاوية.»› بدت كانزاكي وكأنها ترصُّ أسنانها. ‹«إن كانت هناك طريقة، لوجدناها منذ زمنٍ بعيد. لن يرغب أحد في اختيار مثل هذه الطريقة القاسية ما لم يكن مجبورًا.»›
«...ماذا تعنيين؟»
‹«لا يمكنك الاستسلام لجهلك بالحقائق. فمِثلُكَ أردتُ ألا أبقى متفرجة في تلك الساعات الأخيرة، ولن أمنعك من الانغماس في اليأس.»› وكأنها تقرأ بسلاسة كتابًا مقدسًا، أردفت: ‹«قدرتها الكاملة على التذكر ليست من الخوارق أمثالك، ولا من الغرائب أمثالنا؛ إنها طبيعية. لا تختلف عن ضعف البصـر أو الحساسية. حالتها ليست شيئًا يُكسَرُ بالعرافة والسِّحر.»›
«...»
‹«نحن سحرة. يمكننا تبديد السِّحر بالسِّحر في بيئة أُنشِئت بواسطة السِّحر.»›
«إذن فهو نظامٌ دفاعيٌّ مضادٌ-للغرائب صَنَعَهُ خَبيرٌ في السِّحر. يا للازعاج. ألا تستطيعون القيام بشيء إذا استخدمتم كتب إندكس المئة وثلاثة آلاف جريموار؟! بعد كل هذا الكلام حول أن امتلاك مكتبتها الكاملة سيعطيك قدرة لوي وتعديل الواقع كما يُرى، سيكون سخيفًا أن تقولوا بعجزكم عن علاج دماغٍ واحد حتى!»
‹«أنت تشير إلى الآلهة السِّحرية. أكبر مخاوف الكنيسة هو أن تتمرد فهرس الكتب المحظورة عليهم. ولهذا السبب وضعوا عليها "طوقًا" يتطلب صيانة الكنيسة لمسح ذكرياتها كل عام. أتظنهم سيتركون لها وسيلةً لإزالة طوقها؟»› سألت كانزاكي بهدوء. ‹«...من المرجح أن هناك تحيزًا في تلك الكتب المئة وثلاثة آلاف جريموار. على سبيل المثال، قد تكون عاجزة على الوصول إلى كُتب متعلقة بتلاعب الذاكرة أو شيء من هذا القبيل. من الطبيعي أن نستنتج وجود نظامٍ أمنيٍّ ما.»›
تبا لهم، شتمهم كاميجو في نفسه. «...قلتِ أن ثمانين في المئة من رأس إندكس ممتلئ بمعرفة تلك الكتب الـ 103,000، صحيح؟»
‹«نعم. بالتحديد ثمانية وثمانون في المئة. ولكن لنا نحن السحرة، فإن محو تلك الكتب الـ 103,000 أمرٌ مستحيل. ولا حتى مُحققوا الكنسيين يقدرون على تدمير نص الكتاب الأصلي. لا يمكننا توسيع المساحة الحرة في رأسها دون إفراغ الخمسة عشر في المئة الأخرى، أي ذكرياتها.»›
«...فماذا عنا نحن من الجانب العلمي؟»
‹«...»› صمت الطرف الآخر من السماعة مرة أخرى.
فكّر كاميجو في الاحتمال. فكّر أنَّ السَّحرة فتّشوا كل حلول المشكلة من جميع الجوانب في مجالهم الخاص –السحر– ولم يكن ذلك فعالًا، فماذا لو لم يستسلموا وبدلاً من ذلك توجهوا نحو مجالٍ جديد؟ ألن يكون هذا المسار المنطقي؟
على سبيل المثال، إذا كان ذلك المجال هو العِلم...
من المؤكد أنهم سيحتاجون إلى شخص ما ليُوَجِّه مسارهم. سيكون مثل توظيف مترجم في بلد أجنبي حتى تتمكن من التفاعل مع السكان المحليين.
ومع ذلك، كلمات كانزاكي القادمة ألقته في حيرة.
‹«...نعم، أتتني نفس الفكرة في وقتٍ ما.»› لم يتوقعها كاميجو، وأردفت الفتاة. ‹«بصراحة، لستُ واثقة مما يجب. وقد عهدت طوال عمري واثقةً في قوة السِّحر المطلقة، ومع ذلك لم يمكنه حتى إنقاذ فتاةٍ واحدة. أتفهم شعور محاولة الإمساك بالقشة، حقًا أفهمك، ولكن...»›
«...» أمكنه أن يخمن ما سيأتي بعد ذلك.
‹«...بصراحة، أنا مترددة في تسليم صديقةٍ عزيزة لقوى العِلم.»› حتى عندما توقعها، فإن سماعها طعن دماغه. ‹«جزءٌ مني يؤمن أنه لا يمكن لعِلمكم تحقيق ما عجز عنه سِحرنا. فملئ جسدها بالأدوية الغريبة وتقطيعها بسكينٍ وإبر... هذه التكتيكات الوحشية لن تقوم إلا بتقصير فترة عمرها بشكل عبطي. لا أريد أن أراها تُنتهك بواسطة آلة.»›
«أنتم... كيف عساكم القول بذلك وأنتم لم تجربوها حتى؟ إن كان هذا موقفكم، فلدي سؤال واحد لكم. تحدثتم عن قتل الذاكرة بكل بساطة، لكن هل تعرفون ما هو فقدان الذاكرة في المقام الأول؟»
لم تكن لديها إجابة.
كما اشتبه، لم تعرف الكثير عن عِلم الأعصاب. سحب كاميجو كتابًا عن المناهج على الأرض بقدميه. كان وصفة تطويرية مع رشة من علم الأعصاب الممتاز وعلم النفس الاستثنائي والصيدلة الانتقائية.
«تتحدثون دائمًا عن إزالة ومحو ذكرياتها، والذاكرة المثالية، ومثلها. ولكن على الرغم من أن فقدان الذاكرة كلمة بسيطة، إلا أنه هناك أكثر من نوع واحد.» قلب الصفحات. «الشيخوخة... حسنًا، الشيخوخة هي واحدة منها، فضلاً عن الفقدان الجزئي للوعي بسبب التسمم. هناك مرض يُسمى الزهايمر، و TIA... حيث يتوقف تدفق الدم إلى دماغك وتختفي ذاكرتك. الهالوثان، الايزوفلوران، الفينتانيل، كل مخدرات الجسم بالكامل – وبعد هناك الآثار الجانبية للأدوية مثل مشتقات حمض الباربيتوريك والبنزوديازيبينات التي يُمكن أن يُفقد المرء ذاكرته.»
‹«؟؟؟ بنزو... ماذا؟»›
ترددت كانزاكي بصوتٍ ضعيف لم يعتد عليه كاميجو، ولكنه تجاهلها. لم يكن ملزمًا بشرح كل شيء بأدب لها.
«باختصار، هناك العديد من الطرق لإزالة ذاكرة الشخص طبيًا. مما يعني أن هناك طرقًا لم تجربوها لغسل تلك الكتب 103،000 يا حمقاء.»
أخذت كانزاكي نفسًا مندهشة.
ولكن هذه كلها طرق لتضرر خلايا دماغك، بدلاً من طرق للتخلص من ذكرياتك. يفقد الأشخاص الكبار في السن المصابون بالزهايمر ذاكرتهم مع مرور الوقت، ولكن ذلك لا يفسح المجال لتذكر أشياء جديدة.
ومع ذلك، لم يجرؤ على قولها. تركها خدعة، ولكن أولاً كان عليه العثور على طريقة للتعامل مع عملية تطهير الذاكرة التي كان يحاول السِّحرة فرضها عليها.
«علاوة على ذلك، هذه مدينة الأكاديمية. هناك الكثير من الأسابر الذين يتلاعبون بالعقول باستخدام تقنيات مثل القراءة النفسية والتحكم في الدمى. وعلاوة على ذلك، هناك الكثير من المختبرات الباحثة في هذا المجال. لا يزال الوقت مبكرًا كثيرًا لفقدان الأمل. في مدرسة توكي-واداي وحدها، توجد إسبرة من المستوى الخامس يمكنها محو ذكريات المرء فقط بلَمْسِه.»
إن بقي شيءٌ، فهذا كان آخر شعاع أمل.
ظلّ الطرف الآخر من الخط صامتًا.
واصل كاميجو الحديث مهاجمًا كانزاكي التي بدأت تظهر علامات الشك. «إذن ماذا ستفعلون أيها السحرة؟ أستواصلون الوقوف في طريق الناس؟ هل ستستسلمين وتأخذين الطريق السهل والمؤقت وتظلين توزنين حياة البشر على الميزان؟»
‹«...هذه كلماتٌ رخيصة لتقنع بها عدوًا،»› ردت كانزاكي بلمحة من التصغير للنفس. ‹«من ناحية أخرى، وحاليًا، لدينا الإيمان والنتائج التي أنقذت حياتها في الماضي. لا يمكنني الوثوق بمخاطرتك إذ أنها لا تحمل سجلًا ناجحًا. ألا تظنك تُقامر بحياتها في لعبتك هذه؟»›
الآن حان دور كاميجو في الخرس للحظة.
حاول أن يجد حجة مقنعة، ولكنه لم يأتي بشيء.
كان عليه الاستسلام.
«...لكِ وجهة نظر. ففي آخر الأمر، لم نتوصل إلى فهمٍ مُتبادل.»
كان عليه أن يعترف تمامًا بأنها عدوته، حتى وإن شاركته نفس الظروف في الماضي.
‹«نعم. لو صار الأشخاص الذين يحملون نفس الهدف حلفاءً في كل موقف، لصار العالم بالتأكيد أكثر سلامًا مما هو عليه الآن.»›
قبض كاميجو السماعة بقوة أكبر.
بيده اليمنى، السلاح الذي يُقال أنه قادر على محو العجائب حتى.
«...إذن سأسحقك يا عدوي اللدود.»
‹«بالنظر إلى الفارق في مواصفاتنا، فإن النتيجة واضحة كوضح النهار. فأما زلت تراهن؟»›
«نعم. سأرفع رهاني. وسأُجركم إلى ساحةٍ مؤكدٌ فوزي فيها.» كشّر عن أنيابه باتجاه المتلقي.
لم يكن ستيل أقل قوة منه إطلاقاً. فاز لأن ستيل سقط ضحية مرشات المياه. المقصد هو أنه لابد دائمًا أن تكون هناك طريقة لإلغاء مزايا الخصم باختيار نهج قتالٍ صحيح.
‹«سأخبرك مُسبقًا: في المرة القادمة التي تنهار فيها تلك الفتاة، اعتبر الأوان قد فات.»› كان تحذير كانزاكي حادًا كطرف سكين. ‹«وعلى أي حال، سنأتيكم في منتصف الليل. عندك وقتٌ قليل للغاية، ولكني سأتطلع إلى جهدك الخاوي.»›
«سأزيل ابتسامتكم الساخرة عن وجهكم أيها السحرة. سأنقذها وأخذ كل الفضل منكم!!»
‹«أتطلع لنضالك.»› تهكّمت ثم قطعت الاتصال.
وضع كاميجو السماعة بصمت وثم نظر إلى السقف كما لو استطاع رؤية القمر في السماء الليلية وراءه.
«سحقا!»
ضرب بيده اليمنى الأرض بقوة كما لو ضرب خصمًا مُثبتًا. يده اليمنى المدمرة لم تؤلمه أبدًا. كان ذهنه في فوضى تامة لدرجة أنه تجاهل الألم تمامًا.
تحدث بشجاعة على الهاتف مع السّاحرة، ولكن كاميجو ليس جرّاحًا عصبيًا ولا أستاذًا في الفسيولوجيا الدماغية. حتى لو أمكن للعلم أن يفعل شيئًا بطريقة ما، لم يخطر ببال فتى الثانوية مثله أي ابتكار حول العلاج المناسب.
لكنه لم يستطع الاستسلام الآن فقط لأنه عالق.
تسلل شعور شديد الذعر ومُجْهِد فيه، كما لو رُميَ فجأة في منتصف صحراء مسطحة ولامتناهية حدّ الأفق وقالوا له بأن يعود إلى المدينة لوحده.
عندما يحين الحَدُّ الزمني، سيقضي السَّحرة بلا رحمة على ذكريات إندِكس. وربما كانوا مختبئين خارج الشقة الآن، وقد جهَّزوا تدابير مضادة في حال هروبهما.
لم يفهم لماذا لم يهاجموا حتى الآن. هل يتعاطفون معه؟ هل حالة إندِكس هشة جدًا لتتحرك وهي بهذا القرب من النهاية؟ لم يعرف، ولم يهتم.
نظر إلى وجه إندِكس المستدير وهي نائمة بسلام على حصير التاتامي.
ثم بـ «هيّا!» حاول تحفيز دماغه.
على الرغم من وجود أكثر من ألف منشأةٍ بحثية في المدينة الأكاديمية كبيرةً كانت أو صغيرة، ولطالبٍ في السنة الأولى في الثانوية، لم يكن لكاميجو علاقات أو سلطة مع أيٍّ منهم. وكان عليه الاتصال بالأستاذة كوموي لطلب المساعدة.
قد تعتقد أنه لا مجال للأمل بوقته القليل المتبقي. كان حدُّ إندِكس الزمني يقترب بسرعة، ولكن... كان لفتى الثانوية خُطّة سرّية. نظرًا لأن دماغ إندِكس قد ينفجر إذا استمرت في إنشاء ذكريات، إذا تمكن بطريقة ما أن يحافظ عليها نائمة، فهل ستتوقف عن إنشاء الذكريات وتُمنَحُ مزيدًا من الوقت؟
عندما فكّر في الأدوية التي تسبب الشلل الشبيه بالموت، بدت الفكرة سخيفة وكأنها مستوحاة من روميو وجولييت. لم يكن عليه المبالغة إلى هذا الحد. سيكون غاز الضحك –مخدر كامل الجسم يُستخدم أثناء الجراحة– أكثر من كافي لوضعها في نوم عميق.
لم يخف من احتمالية أن تؤدي أحلامها إلى استهلاك ذاكرة إضافية، فقد تعلم القليل عن عمليات النوم في دروسه. الوقت الوحيد الذي يحلم فيه الشخص هو عندما يكون في نومٍ خفيف. الشخص المنغمس في نومٍ عميق سيرخى دماغه وسينسى حتى أنه حَلَم.
لذلك، احتاج كاميجو إلى شيئين.
أولاً، احتاج إلى أن يطلب من الأستاذة كوموي أن تتصل بمنشأةٍ بحثية في عِلم الأعصاب أو القدرات العقلية.
ثانيًا، احتاج إلى تجنب مراقبة السَّحرة وتهريب إندِكس من الشقة، أو أن يخلق موقفاً حيث سيهزم السّاحِرَيْن.
بدأ يتصل بالأستاذة كوموي.
...على الأقل، كان أوشك ذلك، لكن عندما فكر، أدرك أنه لا يعرف رقم هاتفها.
«آخ، أنا حمار...» أراد قتل نفسه، ونظر حول الغرفة.
كانت غرفة عادية تمامًا وكانت ضيقة بحجم 4.5 حصير تاتامي وبدت مثل متاهةٍ مربكة. كانت الغرفة المظلمة تمامًا مثل ليل البحر، وحتى الظلال الصغيرة من كومة الكتب وعلب البيرة المقلوبة بدت أنها تخفي أشياء. داخ قليلاً عندما توقع كمية الأدراج في خزانتها وخزائنها.
عَلِمَ أنه من الجنون أن يبحث في كل هذا عن رقم هاتف نقال لا يعرف حتى بوجوده. وكأنه وُكِّلَت إليه مهمة العثور على بطارية رماها أحدٌ ما بالخطأ في مكب النفايات.
لكنه لم يستطع السماح لذلك بإيقافه. قرَّر البحث عن رقم قد يكون مُدَوَّناً على ورقة مهملة وبدأ في قلب الأشياء من حوله. وفي الوقت الحالي، كانت كل ثانية حاسمة، لذا البحث عن شيء ليس متأكدًا من وجوده جنون. مع كل نبضٍ نَشَب الفزعُ في عقلِهِ أكثر، ومع كل نَفَسٍ جَزَعَ صَبْرُهُ في نفسِهِ أكثر. وطبعًا، ولو رآه أحد المارة من وراء النافذة، لظنه حرامي ينبش المكان.
وصل إلى الجزء الخلفي من درج الخزانة وسحب كومة من الكتب، ألقى نظرة خاطفة على إندِكس وهي لا تزال راقدة غافلة. ورغم كل الجنون المحيط بالفتاة، بدا زمنها متجمدًا حيث كانت.
رؤية إندِكس في طور "قطة الكوتاتسو النائمة" بينما كان يتعب نفسه أرغبته في أن يضربها، ولكنها لم تُفَوِّتهُ الورقة التي يبدو أنها انزلقت نوعًا ما من دفتر حسابات منزلي. كانت فاتورة من أرقام الهواتف الخلوية المُفصَّلة.
استعجل كاميجو التقاطها. كان فيها إحدى عشر سطرًا من الأرقام. وعلى هامش، رأى أن أستاذته كانت مديونة برصيدٍ قيمته 142,500 ين في الشهر السابق. ربما نَصَبَ عليها بائعٌ مُتَجَوِّل ما. عادةً، كان ليقضي ثلاثة أيام متوالية يتدحرج على الأرض ضاحكًا على هذا، ولكنه الآن ليس وقت الضحك. لازم أتصل عليها، فكّر مُتّجهًا نحو الهاتف الأسود.
بدا وكأنه أخذ قرونًا حتى يُحَدِّدَ الرقم المناسب.
من منظوره المُشَوَّه، ربما مرّت ساعات أو دقائق. كان عقله مُحاصرًا لدرجة أنه فقد أي مفهوم للوقت.
اتصل بطل قصتنا بالرقم المتاح وردَّت الأستاذة كوموي بعد الرنّةِ الثالثة.
على وشك أن ينفجر عليها غضبًا، صرخ كاميجو "شارحًا الحكاية كلها" حيث حتى أنه لم يفهم كلامه ولم يعرف كيف يرتب أفكاره.
‹«مم؟ تخصُّصُ أستاذتك هو القوى الحركية، وليس لي خبرةٌ كثيرة في مجال التلاعب بالذاكرة. حاليًا، عليك سؤال منشأة تاكيزاوا أو مستشفى جامعة توداي، ولكن منشآتهم من الدرجة الثانية. أحسن لك أن تتّصِل بإسبرٍ يتفوق في هذا المجال. لو ما خانتني الذاكرة، فإن الآنسة يوتسوبا من [الجَدجمنت] هي إسبرة متخاطرة من المستوى الرابع وهي فتاةٌ مُتعاونة جدًا.»›
رغم أنه لم يشرح التفاصيل، إلا أن أستاذته كوموي أعطته لَمْحَةَ إجابة.
بدأ يُفكر بجدية في يا لَيْتهُ سأل الأستاذة كوموي منذ البداية.
«ولكن يا كاميجو-تشان، حتى لو كان الأساتذة في المختبرات البحثية يسهرون الليالي، سيكون صعبًا جدًا على طالب الاتصال بهم في هذه الساعة. هل أُرتِّبُ لكَ موعدًا معهم؟»
«موعد... لا يا أستاذة، آسف، لكن هذه مسألة وقت. أيمكنك إيقاظهم من نومهم أو أي شيء؟»
«لكن...» قالت الأستاذة كوموي منزعجة. بعد فترة من التردد، أجابت: «ما ودي أحبطك، ولكننا بلغنا منتصف الليل تقريبًا، أتدري؟»
ما–؟ تجمَّد كاميجو.
لم تكن في الشقة ساعة. وحتى لو كانت، لم يكن لكاميجو الشجاعة ليتحقق منها.
نظر ببطء متوترًا صَوْب إندِكس النائمة.
بدت هادئة وساكنة فوق حصير التاتامي. لكن أطرافها الممدودة لم تتحرك. لم تتحرك البتة.
«...إندِكس...؟» همس بتردد.
لم يرى ردة فعل. كما لو كانت عاجزة تمامًا من كثرة الحمى، لم ترد.
أطلق الهاتف أصواتًا مستغربة.
ولكنّ كاميجو أسقط الهاتف قبل أن يستوعب ما قيل. اندلع عرق بارد وبلل فجأة في كفّيه. شعر بتهدُّدِ شيء، كما لو أن كرة بولينغ قد وُضِعَت في بطنه.
ثم، سمع قعقعاتٍ معدنية لخُطى تسير في ردهة الشقة.
‹––على أي حال، سنأتيكم في منتصف الليل. عندك وقتٌ قليل للغاية، ولكني سأتطلع إلى جهدك الخاوي.›
انفتحت باب الشقة بعنف في لحظة تذكره هذا التحذير.
تسرب ضوء القمر الأزرق إلى الغرفة تمامًا كما يتسرب شعاع الشمس من خلال الأشجار في الغابة.
كان الساحران في إطار الباب مع القمر المستدير خلفهما.
وفي تلك اللحظة، رنَّت ساعات اليابان مُرَحِّبَةً بمنتصف الليل.
وهذا يعني أن وقت فتاةٍ مُعَيّنة قد حل.
بمعنى آخر، كانت النهاية.
اختر اسم وأكتب شيء جميل :)