الفصل الثاني: صَيْدُ السّٰاحِرات بالنّار. — بالصَّليبِ _ المُقَدَّس...
(إعدادات القراءة)
الجزء 1
قرَّر كاميجو أن يُفكر في الفتاة التي تُدعىٰ إندِكس.
أخبرتهُ معرفته أنها تمتلك ميزة تُعرف بالذاكرة المثالية، حيث أنها لا تنسىٰ أيّ شيء تعلمتهُ قط. بهذه الميزة، حفظت مئة وثلاثة آلاف جريموار في عقلها.
كانت هذه الميزة سلاحًا ذو حدّين. عدم النسيان تعني أيضًا أنها لن تنسىٰ أبدًا أيّ شيء لا تريد تذكّره، من إعلانات متجر عمرها ثلاث سنوات إلىٰ كل وجهٍ من الوجوه التي تمر بها في المحطة خلال ساعات الذروة، كل ذكرىٰ تافهة وصغيرة تتراكم باستمرار في رأسها، ولن تقدر محْوَها.
للتعامل مع هذا، كان عليها الاعتماد على السِّحر لمسح كل ذكرياتها مرة في السنة. إذا لم تفعل، فإن دماغها كان لينفجر وتموت.
ولكن الآن، كانت تسترخي جوار كاميجو، تبتسم وكذا.
وفقًا لقصتها، كان كاميجو نفسه هو من أنقذها من هذا الوضع اليائس. لكنه لم يفهم ما كان يشعر به ذاك الوقت، ولم يعرف ما الذي فعله.
والآن إذن، كما فكّر كاميجو.
كان قد انفصل عن ستيل بعضاً من الوقت. جلب كاميجو إندِكس إلى مسكنه، لكن كان عليه أن يغادر مرة أخرى للتوجه إلى ساحة معركة مدرسة ميساوا التحضيرية. أخْذُ إندِكس معهُ لم يكن خيارًا، لذا الخيار الأذكىٰ كان إخفاء حقيقة ذهابه إلى هناك كُلّيًا.
لكن إذا قال إنه سيخرج لفترة ولم يعطِ سببًا، ستشتبه في الأمر. وربما تصر على الذهاب معه.
«توما؟»
بدأ العرق يتصبب من راحتي يديه.
ربما لن يعود حيًا. تحت أي ظرف كان، لن يمكنه إطلاقاً أن يأخذ إندِكس إلىٰ مكان كذلك.
«تسمع يا توما؟»
لذا كان الأمر بسيطًا.
حاليًا، ابتلع قلقه وقرر أن يبدأ هَذَياناً جنونياً.
«علي أن أذهب إلى معهدٍ ثقافي أوّلي فائق التقنية لفترة. فما رأيك؟ أفضل لك ألا تأتي؛ فأنتِ سيئة مع الآلات، وربما لا تعرفين حتى كيفية تشغيل كاشف القشرة المُخّية فائق المغناطيسية. مما يعني أنك ستعلقين هناك أمام الأبواب ذاتية القفل، حيث أن مستواها الأمني من الدرجة الرابعة. وكذلك، إذا حلّلتي الحلول الأساسية دون تسجيل الإكسونات أولاً، ستُصعقين بالكهرباء بشعاع أيون سلبي مشحون!»
«غيااااه!»
كما توقع، صرخت إندِكس عاليًا، مُشوشة من سَيْلِ المصطلحات التقنية.
كان ذلك مُتفهَّماً. فهذه إندِكس. كان حِسُّها الحديث معدومًا لدرجة أنها كانت تنحني عفويًا لماكينات بيع التذاكر في المحطة قائلة لهم: "مرحبًا!"
«إذن سأخرج. عشائك في الثلاجة، لا تنسي أن تُسخنيه لاحقًا قبل الأكل. ولا تضعي الملعقة في المَيكرويف لتلعبي بالشرارات، ولا تفتحي باب الثلاجة لتُبردي نفسك، ولا أي شيء مثل ذلك.»
«ها؟ أوه، آه... أظنني لا أُحسِن استخدام المَيكرويف.»
قد لا يفهم بعضٌ كيف يمكن لأحدٍ أن يُخطئ عند استخدام المَيكرويف. لكن، لقد أثبتت له إندِكس أنها مقتدرة علىٰ الإتيان بالعديد من الطرق لتُخرّب الأشياء، مثل تفجير عبوة الصلصة في وجبة البِنتو عند تسخينها في المَيكرويف وهي لا تزال في الغلاف، أو أن تُفَجّر البيض المسلوق نصف المُستوي أثناء محاولة تحضيره، أو أن تُذيب صندوق البنتو عند تسخينه زيادة عن اللزوم... على أي حال، كانت نهايتها دائمًا بانفجار. ربما تعلمت خطأً أن المَيكرويف هو جهازٌ يُفجّر الأشياء؟
...على الأقل لا يبدو أنني سأقلق بشأن ظهوري بمظهر المشبوه.
تنهد كاميجو نحو إندِكس التي كانت تخوض مسابقة تحديق مع المَيكرويف، وكأنها تقول أن هذه المرة لن تفشل.
ثم أدرك شيئًا.
«مهلاً. ما عندكِ في ملابسك؟ وبشكل أدق، عند بطنك.»
«ها؟» نظرت إندِكس إليه بدهشة. «م-ما أخفي عليك شيء، تمام؟ أعدك، باسم أبينا في السماء، ولا تنسىٰ أنّ الراهبات لا يكذبن!»
بمجرد أن انتهت من قولها، سمع صوت مواء قطة من بطن إندِكس.
«غُرااه! وتُسَمّين نفسكِ متدينة؟! بثواني كسرتِ وعدك! أياً كان، أخرِجي تلك القطة الضالة التي تخفينها في ملابسك!»
لم يلاحظ ذلك من قلقه أثناء حديثه مع ستيل، لكن بعد أن تذكر وتمعن، وَجَدَ أنّ إندِكس طَوَّلت في الزقاق نوعًا ما. لقد قالت شيئًا عن الرّونات، لكن لا بد أنها غيّرت مهمتها إلىٰ البحث عن القطة الضالة في منتصف الطريق.
«مغغ. ت-توما، هذه الملابس تُدعىٰ الكنيسة السائرة.»
«طيّب؟»
«الكنائس تمد يد الخلاص للأغنام الضالة دون انتظار مقابل. ولذلك أخذتُ سفِنكس، التائِهِ في الشوارع، تحت ذراع الكنيسة. آمين!»
«...» بدت شفتا كاميجو مخدرة عندما أكمل. «...إذن سوف تُربّين قطة ضالة داخل ملابسك؟ حسنًا، أفهم من ذلك أنه لا بأس ما إذا صبّيت فضلات القطة داخل ياقة عبائتك؟»
«...»
«...»
«م-ما أمانع! قد قررت أن الكنيسة ستوفر الملاذ لسفِنكس!»
«واه، أنتِ حقًا لا تُخططين لأي شيء، هاه؟ على الأقل فكري في مسؤوليتك تجاه حياة كائن حي آخر!»
«إذا رَبّيناه واحدًا من العائلة، فستمشي الأوضاع!»
«لا أريد أن أكون "بابا" هذه القطة!»
قد يوجعني قلبي لاحقاً، لكنني على الأرجح سأرمي هذه القطة الضالة في طريقي إلى مدرسة ميساوا، هكذا فكّر كاميجو... لكنه كان متأكدًا تمامًا أنه إذا فعل ذلك، فإن إندِكس ستلاحقه بنسبة 100% لاستعادة القطة الضالة.
«غبي! توما يا غبي! قد قررت الاعتناء بها وانتهىٰ!»
«...انتظري حتى تكسبي المال بنفسك أولاً ثم قولي ما شئتِ من السخافات.»
«لكن ما عليك! قلتُ أنك غبي، لهذا قُلتها بالهيراجانا!»[1]
«اسمعيني! لحظة، ما الذي يعنيه هذا بحق السماء؟!»
من ناحية أخرى، شَعَرَ أن إندِكس ستتراجع إذا قرر ترك القطة تسكن.
...كيف أقولها... يا لحظي السيئ.
تنهد كاميجو مُسْتَسلِمًا. عندما فكر في تكلفة طعام قطة الشوارع، أدرك أنه يتعين عليه التخلي عن طبق واحد في العشاء يوميًا من الآن فصاعدًا. كان مرهقًا حقّاً. حقاً، من بين كل الأشياء، وفي كل الأوقات، لماذا اختارت أن تلتقط قطة ضالة غبية؟ كما فكر.
«.................................................طيّب.»
«ها؟ توما، قلت شيئًا؟»
«..........................................أستسلم، لذا سأتركها معك، تمام؟»
لكن، حسنًا...
بدت إندكس سعيدة بما يكفي لتذرف دموع عند سماع تلك الجملة البسيطة. ترك ذلك كاميجو يفكر أنه، نعم، ربما كان الأمر حسنًا حقّاً.
«يا أبونا في السماء! يبدو أن نورك الدافئ قد وصل أخيرًا إلىٰ قلب هذا الظالم القاسي السادي شبيه الأفعىٰ. لن أنسىٰ أبدًا بركتك التي أنقذت روح هذه القطة البريئة!»
.....ولكن قولاً ما زعزع رضاه التام وعكر مزاجه.
الجزء 2
عندما غادر غرفته، رأىٰ ستَيْل يُعَلّق أشياءً تبدو كأنها بطاقات تداول في الممر. ظنّ أنه ودّعه ومَضىٰ كُلٌّ في دربه منذ آخر لقاء، ولكن يبدو أن السّٰاحِر تتبّعه.
«مم، ماذا تفعل؟»
«كما ترىٰ، أنشر حاجزاً وأبني معبدًا هنا»، أجاب ستيل دون أن يتوقف عن عمله. «لأننا لا نتيقن أبدًا من أن ساحرًا آخر لن يطارد إندِكس ونحن منشغلون بميساوا. حسنًا، ربما تكون راحة بال مؤقتة، ولكن بتركي إنوكينتوس هنا، يجب على الأقل أن يمنحها وقتاً للهروب إن وصل الأمر.»
إنوكينتوس، مَلِكِ صَيْدِ السّٰاحِرات.
لم يكن لدى كاميجو "سجل" عنه. لكن معرفته تحدثت عنه. هو سلاحٌ نهائي على شكل بشر، فيه قدرة مطاردة تلقائية، وشكله مصنوع من نيران تحترق عند أكثر من 3000 درجة مئوية. نقطة ضعفه كانت—
«—لا يمكنك استخدامه إلا إذا كان داخل "مدىٰ" الرونات التي تنشرها، وسينهار إذا تدمرت تلك، صحيح؟»
«...دعني أخبرك شيئاً.» ارتعشت أذنا ستيل. «هذا بالتأكيد لا يعني أن قوتي أدنى من قوتك. كانت مشكلةً مكانية لا أكثر. لو كنا في مكان بدون مرشّات...»
«ها؟ تقاتلنا من قبل؟»
كان لدى كاميجو فقط معرفة، وليست ذاكرة. فَهِمَ كيفية هزيمة إنوكينتوس ولكنه لم يعرف من أين تعلم تلك المعلومات.
«أغغ... لم يكن أمرًا يستحق التذكر حتى، أهذا ما تقوله؟» واصل ستيل المحادثة بعد أن أساء فهم شيء. «تمام، تمام. بمجرد أن أضع الرّون الأخير، سيكون الحاجز مُكتملاً، ثم لنذهب نحو هدفنا الرئيسي... يا له من عبء. هذا حاجز ضد السحرة، ولكن إذا قَوّيتُهُ كثيرًا، فسوف تلاحظه.»
رغم تذمر ستيل لنفسه، بدا سعيدًا لسببٍ ما.
جعل هذا كاميجو يدرك شيئًا.
«لحظة، أيعقل أنكَ مُغرمٌ بإندِكس؟»
«بواهه؟!» اِحمَرّ وجهُ ستيل كأن قلبه توقف. «م-ماذا تقول فجأة؟ إ-إندِكس هي شيءٌ يجب حمايته، وليست بالتأكيد موضوعًا للرومانسية––!»
قهقه كاميجو ساخرًا، لكنه قرر أن يوقف النقاش في هذا.
توقف لأنه شعر أن التعمق في هذا الأمر بعشوائية سيودي بنهايته. ما كانت الحكاية تتعلق في حُبِّ كاميجو الحالي لإندِكس أم لا، ولكن علىٰ مشاعر كاميجو الحالي ألا تختلف عن مشاعر السابق حتى لا ينتهي أمره في موقفٍ صعب.
ما مَلَك أدنى فكرة عن شعوره تجاه إندكس قبل فقدانه الذاكرة أو كيف كان يُعاملها.
إذا قال شيئًا بعشوائية ووجدوا تناقضاً بين ذاك وما قاله كاميجو القديم، فلربما يُكشف أمره.
كأنه فيني اثنين...، فكّر مُضطربًا.
ما كان صحيحًا ودقيقاً أن يُقال إنه كان منه اثنين. بَدَت أقرب لكوميديا سَمِجة حيث دَخَل مزيفٌ وسَرق مكان الأصيل؛ وها هو يتظاهر جاهدًا ليكون مَحَلّه.
«حسنًا، إذن قبل أن نتوجه إلى مدرسة ميساوا التحضيرية، يجب أن أُطلِعَكَ على العدو»، تابع ستيل، الذي ربما كان يحاول توجيه المحادثة بعيدًا عن هذا الموضوع مُتجنبًا التساؤلات.
خرجوا من السكن. وفي سَيْرِهِم في الشوارع تحت ضوء المساء، استمع كاميجو إليه.
«اسم العدو أَوْريولُس إزارد»، قدّم ستيل. «هناك واحدٌ فقط يُدعىٰ أَوْريولُس، ولكن... نعم؟ ماذا، متفاجئ من شهرة الاسم؟ ولكن هذا ليس إلا من ذُرّيته. ليس لديه تلك القوىٰ التي تسمع عنها في الأساطير.»
«مم؟ لحظة، من ذا الأوريولس؟»
«...نعم. نسيت أنك جاهلٌ تمامًا بشؤوننا. ولكنك بالتأكيد سمعت على الأقل مصطلح باراسِلْسُس، أليس كذلك؟»
«؟؟؟»
«أغغ...! إنه اسم واحد من أشهر الخيميائيين في العالم!» عبّر ستيل مُتضايقاً.
استمع كاميجو وهم يسيرون عبر الطرق المظلمة. «إذن، هل هذا يعني أنه بغاية القوة؟»
كُلٌّ من نوافذ المباني ومراوح عنفات الرياح جنبًا إلى جنب مع كل شيء آخر كانت مُطلاة بالبرتقالي كما لو أنّ شفق أغسطس يحرقها. بدت أشبه بصورة فاقدة للون كما لاحظ كاميجو، ربما لبُعدِ محادثتهما عن الواقع كثيرًا.
«ليست هذه مسألة كبيرة بحدِّ ذاتها... لكنه حصل على شيءٍ يجعله يفوق ديب بلود. ولا أريد أن أفكر في هذا... لكن في أسوأ الحالات، قد يستغِلُّها للسيطرة على مخلوقٍ مُعَيّن.»
بدا أن ذلك يقلق ستيل أكثر من أَوْريولُس إزارد.
لكن كاميجو لم يستطع قبول ذلك. مهما كانت فريدةً هذه الحالة، لم يشعر أنه من الصواب النظر إلى العدو الفعلي علىٰ أنه ثانوي.
«مهلاً، ألا بأس في التفكير بهذا الشكل؟ لا أعرف مدىٰ لا اعتيادية أولئك مصاصو الدماء أو ديب بلود، لكن ألا يجب علينا التركيز على العدو الزعيم؟ تخيل أنك تحارب أحدًا ومن حولك النار تتصاعد. إذا تركت النار تشتتك، ستُغلَب وتُضرَب.»
«مم؟ أه، لا، هذا ليس شيئاً تقلق فيه إطلاقاً. قد يكون اسم أَوْريولُس من الأساطير متميزًا، لكن قوته تراجعت. الخيمياء ليست مهنة في عالِم السِّحر في المقام الأول،» أشار ستيل بملل. «الفلك، الخيمياء، الاستدعاء... بكلماتك، هذه ليست إلا لغة ورياضيات وتاريخ. حتى معلمو اللغة يدرسون بعض الرياضيات، أليس كذلك؟ إذا كنتَ ساحرًا، فعليك أولاً أن تغطس في كل بحر ثم تختار مجال تخصصٍ يُناسبك. هذا أساس. وكذلك، يُطلق على أَوْريولُس إزارد لقب الخيميائي فقط لأنه لا يمتلك أي موهبة غيرها. وأيضًا... الخيمياء نفسها ليست مجال دراسة مكتملة في المقام الأول.»
«...»
حتى بعد هذا التفسير، كان مع كاميجو فكرةً شحيحة عن الخيمياء في الخط الزمني التاريخي حسب معرفته. كانت وسيلة للغش تُستخدم على نطاقٍ واسع في القرن السادس عشر، حيث استغل الناس أموالاً جُمَّة بخداع الملوك والنبلاء.
«الخيمياء، خاصة الخيمياء في أواخر زيورخ، هي محاكاة لموضوع يُسمى الهرمسية. عمومًا، يعرفها الناس على أنها شيء مثل... تحويل الرصاص إلى ذهب أو تخليق اكسير الخلود.»
لم يبدو ستيل مهتمًا. ربما لأنه لم يكن مجاله.
«كانت تلك ليست سِوىٰ تجارب. السبب في أن العلماء يستشيرون باستمرار المُختَبَرين هو لأنهم يريدون معرفة أي نظريةٍ أو قانون تستند. هؤلاء المُختَبَرين ليسوا في ذلك ليخلقوا شيئاً، صح؟ الخيميائيون كذلك مثلهم – جوهرهم ليس إبداعًا وإنما معرفة.»
«إذن، أهو مثل كيف كان هدف أينشتاين أن يدرس النظرية النسبية، وكانت القنبلة النووية مجرد نتاجٍ جانبي؟»
إن كانت القضية كذلك، فكّر أن العلماء كانوا مجموعة من الأكابر. يخلقون أشياءً، ولكنهم لا ينظرون أبدًا إلى تأثيرها علىٰ العالم. المصطلح المُعَبّر عن ذلك كان "مجنون".
«تقريبًا صحيح. لكن بعيدًا عن دراسة الصيغ والنظريات، لدىٰ الخيميائيين هدفٌ آخر، هدفٌ نهائي.» توقف ستيل لِنَفَس. «–ليقتدروا علىٰ محاكاة العالم بأكمله داخل عقلهم.»
«...»
«إذا فهمت كل قانون في العالم، سيمكنك إنشاء محاكاة مثالية في عقلك. وبالطبع، إذا أخطأت في قانونٍ واحد، فستتشوّه صورتك الداخلية.»
«؟؟؟ ما تقول؟ أتقصد مثل النمذجة النظرية؟»
قيل أنه في الجزر الجنوبية مثل فيجي أو ميلانيزيا، شروط أن تصبح رئيسًا عليها هي أن تكون لديك الموهبة على التنبؤ بدقة بطقس اليوم التالي.
من أول لمحة، يبدو هذا "التنبؤ بالطقس" كمهارةٍ خارقة. ولكن في الواقع، يمكن للمرء أن يشعُر بشكلٍ لا واعي بتيارات الهواء وأشكال الغيوم ودرجة الحرارة والرطوبة وأشياء أخرى. التنبؤ ببساطة هو نتيجة تكرار حسابات ضخمة في رأسك. رؤساء الجزر لا يعرفون شيئًا عن هذه القياسات اللاواعية، لذا يتنبأون بدقة طقس اليوم التالي فقط بـ "الاستماع إلى أصوات الرياح".
كان ستيل يقول بالتأكيد شيئًا في ذلك الصوب.
رؤساء الجزر كانوا يحاكون بدقة طقس اليوم التالي. ومع ذلك، العالم الذي تصوّروه كان وهميًا – عالم يتهاوى لو تراجعت حساباتهم المثالية ولو بشكل طفيف.
«...لكن ما الفائدة من شيء كهذا؟ أيريدون آلة حاسبة تتنبأ بالمستقبل؟ مثل التنبؤ بالطقس؟»
«لا، ليس كذلك»، قال ستيل بغضب، وسأل. «ماذا لو، علىٰ سبيل الافتراض، كنتَ قادرًا على سحب ما تصوّرته في عقلك إلىٰ العالم الحقيقي؟»
كان هذا بياناً صادمًا بحق.
«أن تسحب ما تتصوّره في عقلك إلىٰ العالم الحقيقي، مثل الإيكتوبلازما أو استخدام صورة طلسمانية (تيليزما) لاستدعاء ملاك، ليس بطريقةٍ شاذة في عالم السِّحر.» ربَّع ستيل ذراعه وأكمل. «لذلك، القدرة على تصور عالمٍ دقيق له عواقب هائلة. ببساطة، ستكون قادرًا على استخدام كل شيء في العالم كأنه يديك وقدميك، حتى الآلهة والشياطين.»
«...مهلاً.»
«إنها صعبة للغاية بالتأكيد. تدفق الماء، تدفق السحب، تدفق الناس، تدفق الدم – الكون يحتوي على عددٍ لا حصر له من القوانين التي تحكم مثل هذه الأشياء المهمة. إذا أخطأت في أحدها، فلن تتمكن من بناء العالم في عقلك. عالمٌ مُشوّه مثله كمثل جناحٍ مشوه – ما أن تستدعيه، سيُدمِّرُ نفسه ويختفي.»
أظن هذه الجزئية تشبه البرمجة في الحاسوب، فكر كاميجو. مهما كان البرنامج جميلًا، فإنّ نسيان كتابة سطر واحد سيتسبب في خطأٍ يُعطِّله.
«لكن من ناحية أخرى، ألن نكون عاجزين تمامًا إذا نجح في تحقيقه؟ بالتأكيد لا يمكنك الفوز ضد العالم بأسره.»
لم يستطع إلا أن يعبر عن هذا الرأي بسهولة نسبية، لأنه في أعماقه، كاميجو لم يكن يؤمن بأي من هذا.
ومع ذلك، لا يمتلك الإنسان القدرة على الفوز ضد العالم بأسره. ليس لأن الآلهة أو الشياطين قوية بشكلٍ ساحق أو كهذا.
لكن لأن العالم بأسره يشمل كاميجو وكل من يعيش فيه معه.
إنها حقيقة بسيطة. تخيل مِرآة غامضة تسحب منها كل انعكاس. مهما قَوَت شوكة كاميجو، إذا سَحَب نسخة مماثلة بالضبط، فنهاية كليهما الهزيمة.
لكن على الرغم من ذلك، لم يبدو ستيل متوترًا ذاك القدر.
«قد قلت لك، لا بأس. بالنسبة لمجال دراسة، لا تزال الخيمياء غير مكتملة.»
«ها؟»
«على سبيل المثال، فكر في كل شيء في هذا العالم... من كل حبة رمل علىٰ الشاطئ إلى كل نجم في السماء. إذا تحدثت عن كلٍّ من هذه الأشياء، كم سنة ستستغرقك؟ لا أظنه شيئاً تنتهي منه في مئة أو مئتي سنة.»
«...»
«هذا ما أقصده. التعويذ نفسه مُكتمل. لكنّ عُمر الإنسان لقصير جدًا ليتلُوها كاملاً،» همس ستيل. «على الرغم من أن هناك ناسًا يحاولون كل أنواع الأشياء لإنجازها. فمثلاً، يحاولون حذف الأجزاء غير الضرورية لتقصيرها قدر الإمكان. أو عن طريق تقسيم مئة تعويذة إلى عشرة أجزاء، ثم نقل تلك الأجزاء من الأب إلى الابن، ومن الابن إلى الحفيد، وترديدها قليلاً كل مرة.»
على الرغم من ذلك، لم يظهر أي أمثلة ناجحة.
لا توجد أجزاء غير ضرورية في تعزيمةٍ مُكتملة في المقام الأول، ونقلها من الأب إلى الابن ومن الابن إلى الحفيد قد يُشوه التعويذ كلعبة هاتف.
«من ناحية أخرى—» لأول مرة، بدا ستيل يظهر روحًا للقتال. «—مخلوقٌ بلا فترة حياة يمكنه ترديد التعاويذ الطويلة جدًا علىٰ البشر. وهذا سببٌ آخر لماذا يشكل هذا المخلوق تهديدًا مرعبًا للسَّحرة.»
ربما لهذا السبب كان يريد مصاصي دماء،.
بالنسبة للعلماء، ربما كان محزناً أن تعرف الإجابة ولكن تعجز عن إثباتها.
وإذا كانت أمنيةً عجز جسم الإنسان تلبيتها...
فإن عليهم فقط إدخال شيءٍ خارج فئة الإنسان في السِّحر.
«حسنًا، الخيمياء تُشكل تهديدًا أكيد، ولكن أَوْريولُس إزارد ليس لديه حاليًا القدرة على السيطرة عليها. أفضل ما يستطيع فعله هو صنع الأشياء... هو الآن مشغول بتحصين مدرسة ميساوا وإعداد مليون فخ ليمنع الدخول.»
«....؟»
قال ستيل ذلك بثقة كبيرة. شعر كاميجو بأن فيه شيئًا غريبًا.
«ماذا، هل تعرف إزارد؟»
«بلىٰ أعرفه. فنحن ننتمي إلى نفس الديانة،» قالها عفويًا. «أنا مع الأنجليكان، وهو مع الكاثوليكية الرومانية... ننتمي إلى طوائف مختلفة ولكننا معارف. ولكن لا تخطئ وتحسبنا أصدقاء.»
بسماعه "كنيسة" و"ساحر" في جملةٍ واحدة أبدَتهُ غريبًا تمامًا لكاميجو.
كانت كنيسة الشرور الضرورية نِسِسَريوس التي ينتمي إليها ستيل وإندِكس تهدف إلى قتل السحرة من خلال دراسة السِّحر. ولكنهم كانوا هراطقة الهراطقة. حتى لو اعترفت البروستانتية الإنجليزية بهم، لم يكن يعتقد أن طائفة مختلفة—الكاثوليكية الرومانية—ستكون مثيلةً في الوكالة...
عندما عبّر كاميجو عن كل هذا، رفع ستيل حاجبه قليلاً وقال. «نِسِسَريوس استثناءٌ بين استثناءات. لن تجد مثيلًا لها في الكنائس الأخرى.»
تنهد ستيل كمن يشعر بالملل.
«ولكن إن كُنا استثناءً بين استثناءات، فهو حالةٌ خاصة بين أخريات: هو كَنسِلَريوس. لأُلخّص لك، كَنسِلَريوس هو من يكتب كتب الجريموار للكنيسة. إنه ينشئ نفس نوع الكتب، ولكنها تُستخدم بالطريقة المعاكسة. هو دفتر للتعليمات يقول مثل "في الآونة الأخيرة، بدأت السّٰاحرات في استخدام هذا النوع من التعويذ، لمحاربتها، اِقرأ أيّ صفحة من الكتاب المقدس".» حرّك ستيل يده في الهواء. «ليس من الغريب على أُناس الكنيسة أن يكتبوا كتب لتحذير الناس من هذه الأمور. جريموار بابا هونوريوس الثالث وجَيمس الأول هي بعضها الشهير، علىٰ ما أعتقد.»
«...إي. إذن هذا هو السبب في أنك تستمر في القول بأن قدرة أَوْريولُس إزارد ليست بالأمر الجلل.»
«صحيح. إنّ لديه معرفة لا محدودة، ولكن لا شيء منها تتناسب في القتالات الفعلية. هو عبقري وصاحب كتب، وليس رياضيًا. ولكن في الوقت نفسه، فهو أيضًا خصمٌ مُزعج. إنه واحد من قلة الكَنسِلَريوس حتى داخل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ولديه تأثير عظيم. في الواقع قد تحركت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية لتُعاقبه علىٰ خيانته.»
«لا، ما قصدت ذلك. أعني أنّ أَوْريولُس هذا مُهِمٌّ كأهمية الباباوات والملوك، أليس كذلك؟ أيمكن أنك ربما غيورٌ منه؟»
«...أوه، أفهم منك أنك تريد أن تبدأ معركة معي؟»
«ما أمانع القتال، ولكن لا تخطئ فيمن نحارب هنا.» نظر كاميجو إلى الأمام. «فأنا أرىٰ ساحة المعركة.»
توقف الاثنان.
وكان المبنى مستعدًا لهما، مضاءً بضوء الغسق.
الجزء 3
«لكن...،» مُتمتِماً كاميجو ناظرًا إلىٰ المبنى.
"مبنى لاانتظامي" سيكون وصفاً جيّدًا. حسناً، المبنى نفسه كان برجًا عاديًا مستطيلًا ذو اثني عشرة طابقًا. ومع ذلك، كانت هناك أربعة مثل المبنى. ورأىٰ في وسطهم تقاطعًا، وكل ذلك أبْدَا من الهيكل بأكمله مربعًا بصليب في الوسط عند النظر إليه من فوق. وكانت المباني ترتبط بممراتٍ رفيعة علوية.
يجب أن يكون هذا مخالفًا لقانون تخطيط المدن، كما فكر كاميجو وهو ينظر إلى الممرات العلوية. بشكلٍ عام، تنتمي حقوق السماء إلى مالك الأرض تحتها. وبعبارة أخرى، يجب أن يكون أي شيء فوق الطريق مِلكًا عامًا.
«طيّب، أياً يكن، لا أهتم» قال بصوت عالٍ ، وهو يتطلع إلى فرع المدرسة الرابع في معهد ميساوا التحضيرية الخاص بمدينة الأكاديمية.
ومن نظرةٍ أوّلية للمبنى، لم تعطه الانطباع غير التقليدي الذي هو مصطلح "عبادة العلوم". لقد كانت مدرسةً تحضيرية عادية تمامًا. حتى الطلاب الذين يدخلون من حينٍ لحين لم يُقدموا أي شيء يبدو مخالفاً للعادة.
«على أي حال، وجهتنا الأولىٰ هو الطابق الخامس في المبنى الجنوبي – جوار الكافتيريا. يبدو أن في ذاك المكان غرفةٌ مخفية» قال ستيل عفويًا.
أشعلوا خرائط المبنى بعد أن نظر فيها كاميجو، فهل يعني ذلك أنه حفظها كلها في ذهنه؟
«غرفة مخفية؟»
«أجل. أعتقد أنها تستخدم خدعة أو حيلة لإخفاء نفسها عن الناس في الداخل. يوجد في هذا المبنى ثقوبٌ أكثر من أي بيت بناه طفلٌ صغير بألعابه.» نظر ستيل إلى المبنى. «...وجدتُ سبعة عشر غرفة مخفية بعد التحقق من المخطط. ورأيتُ أقربها في الطابق الخامس من المبنى الجنوبي جوار الكافتيريا.»
«...همم. لا يبدو وكأنه معبد نينجا مشبوه أو مثل ذلك» أخبر كاميجو دون سبب حقيقي. ثم تذمر ستيل مُحدثًا نفسه مستاء.
«.....لا يبدو مشبوهًا، ها؟»
«أجل؟» نظر كاميجو إلى ستيل. كانت عينيه على المباني التي تخترق السماء والأرض، لكنه هز رأسه أخيرًا، وكأنه يأخذ نفسًا.
«لا تقلق. حتى وأنا متخصص، لا أستطيع تحديد أي شيء مشبوه. ما قدرت أن أُحَدِّد أي شيءٍ مشبوه، رغم أنني ، المتخصص، أبحث في الأمر بعناية.»
على الرغم من قوله ذلك، لم يبدو ستيل سعيداً وهو يشاهد المدرسة. كان الأمر كما لو كان طبيبًا ينظر بوضوح إلى شيء غير طبيعي في الأشعة السينية ولم يتمكن من العثور على منبع الضرر.
«...» كان ذلك غريبًا، كان يجهل السبب الذي أشعره بالغرابة.
قال ستيل أنه لم يستطع أن يرىٰ أي شيء مشبوه، ولكن هذا لا يعني أنه يؤكد عدم وجود أماكن خطيرة في هذا المبنى. في الواقع، لم يتمكن فعلاً من التحقق مما يحدث بالضبط. قد تكون هناك أطنان من الألغام الأرضية التي لم يرصدها، أو ربما لا يوجد شيء على الإطلاق. كأنه صندوقٌ أسود.
وبصراحة، أكان من الحكمة أن يدخلوا مبنىً لم يستطع ساحرٌ مخضرم أن يُخبر بأمانه؟
«طبعًا لا.» أجاب ستيل سريعًا. «ولكن علينا الذهاب. نحن هنا لإنقاذ أحدٍ ما، وليس لقتل أحد. فقط يا ليتني أقدر أن أحرق المبنى كله» قال ذلك نصف جاد.
«علينا الدخول...لحظة واحدة. أتطلب مني أن أدخل في الباب الأمامي؟ أما عندك أي خطة فعلية، مثل طريقة للتسلل دون أن يلاحظنا أحد أو طريقة للهزيمة العدو بأمان؟!»
«ماذا، هل عندك حِيَلٌ في جعبتك؟»
«...أغغ! يا...أنتَ من البداية تريدها هكذا؟! ترانا نهجم فعليًا علىٰ مبنى يختبئ في إرهابي! ألا ترىٰ أن حتى الشخصيات في أفلام الأكشن الرخيصة يبتكرون خطةً أو اثنتين للتغلب على العدو!»
«...همم، نعم، إذا كتبت علامة "أنسوز جيبو" على جسدي بسكين أو ما شابه ذلك، فسوف يمكنني على الأقل إخفاء وجودي.»
«إذن افعلها! لا أريد أن أتأذى!»
«اسمعني حتى النهاية»، قاطعه ستيل. «حتى لو كبتُ وجودي أو صرتُ رجلًا خفيًا، لا يزال علي استخدام السِّحر. لا يمكنني تزوير ذلك.»
«...ها؟»
«نظرًا لأنك معتوهٌ لم تتعود على مصطلح الطاقة السحرية، يجب علي أن أشرح بالكامل.» تنهد السّٰاحِر. «مِثال. فكّر في لوحة رُسِمت بلون أحمر فقط، تمام؟»
«...هذا يبدو لي وكأنه كابوس نفسي.»
«اسمع وانصت. على أي حال، هذا الدهان الأحمر هي مانا أَوْريولُس، والمبنى كله يعج بذلك. إذا وضعت الطلاء الأزرق على لوحة حمراء، فسيكون واضحًا للجميع، أليس كذلك؟»
«...ما فهمت صراحة، أتقول أنك مثل جهاز إرسال متحرك؟»
«شيء كهذا. ولكنك أقرب لهذا مني.»
قبل أن يطلب كاميجو تفسيرًا لذلك، أكمل السّٰاحِر: «الإماجين بريكر هو ممحاة سحرية تمسح الطلاء الأحمر بالكامل، ألا تعتقد أن أي شخص سيلاحظ أن رسمته تتلاشى تدريجيًا؟ في حالتي، لا أضطر إلى استخدام السِّحر، ولن يلحظ مني أي غرائب. ولكن في حالتك، سيلاحظ ظهور عددًا كبير من الأمور الغريبة!»
«...إذن ماذا؟ أتقول أننا سنذهب بلا مبالاة لمكانٍ به إرهابي وندق الجرس بأدب؟ دون أي نوع من الخطط؟ ونحن جهاز إرسال متحرك؟!»
«هذا هو سبب وجودك معي اليوم. إذا لم تُرِد أن تُرمىٰ بالنار، فأكد موضع يدك اليمنى لتوقي بها نفسك.»
«يا ملعون! تتكلم وكأنها مشكلة واحدٍ آخر تمامًا! وها أنا سأدفع ثمن نقصك في التخطيط؟!»
«هَهَهَه. يا لها من نكتةٍ تقولها. يدك اليمنى هي الخطة الوحيدة التي نحتاجها ضد الخيميائي، فهي تقدر حتى علىٰ صَدِّ نَفَسِ تنين القديس جورج. علاوة على ذلك، لا يمكنك الاعتماد علي، فأنا أستخدم إنوكينتوس لحماية تلك الطفلة، وجئت هذه المرة فقط بسيفِ لهبٍ واحد.»
«واااااااهه!! حقّاً لم تُفكر بالمرة!»
«إذن، ماذا سنفعل؟ هل تريد البقاء هنا أو ماذا؟»
«...!»
نظر كاميجو إلى الباب التلقائي. كان بابًا زجاجيًا تمامًا.
بصراحة، لا أريد دخول مثل ذلك المكان. أكيد لا. فيها من سيحاول قتلي، ولقد وضعوا ألغامًا في كل مكان. لا أريد الذهاب. وهذا دون ذكر حقيقة أن هذا هو المقر الرئيسي لطائفةٍ غريبة،.
ولكن...
إن كانت هذه هي القضية، فكان هذا خاطئًا.
رجلٌ بالغ إرهابي ينتظر وراء هذا الباب الخارجي، وفتاةٌ تدعىٰ "ديب بلود" مُقيدة هناك منذ فترة طويلة جدًا. كان ذلك بالتأكيد خطأً.
«لنذهب» هَمَسَ السّٰاحِر ستَيْل ماغنوس.
وقف كاميجو عند الباب التلقائي دون كلمة.
دخل عبر الباب الزجاجي، ولكن مشهدًا عاديًا تمامًا كان ينتظره.
رأىٰ العديد من الألواح الزجاجية الموضوعة في جميع أنحاء القاعة ليدخل الكثير من أشعة الشمس. كانت القاعة عريضة بما يكفي؛ فقد بلغت ثلاثة طوابق أيضًا. المبنى كان مدرسةً تحضيرية، وهذا كان مظهرها "الخارجي". ما صُمِّمَت للطلاب. كان مكاناً لجذب الضيوف الراغبين في الانضمام. وهذا يُفسر مظهر الزينة الفخمة.
في خلفية القاعة كانت هناك صف من أربعة مصاعد. التي في النهاية كانت أكبر قليلاً من الأخريات، لذا كانت المستخدمة على الأرجح لإحضار الأمتعة. كان الدرج بعيدًا بضع خطوات فقط من المصاعد. لم يكن لديه الكثير من التأثيرات، مما يدل على أنها كانت موجودة فقط باعتبارها ممر طوارئ بسيط.
يبدو أنهم كانوا في فسحةٍ طويلة حاليًا – بطول فترة الغداء العادية في المدرسة، كانت القاعة مليئة بالطلاب الذين ذهبوا والذين اشتروا طعامهم. لم يلفت كاميجو وستيل الانتباه بشكل خاص. لم يكن ذلك يشغل بالهم بالنسبة لوجوه الطلاب، كما لو كأنهم أتوا هنا لطلب معلومات التسجيل.
...أمري مختلف. لكن الذي يقف بجواري هو كاهنٌ غريب الأطوار برائحة العطر الفواحة والشعر المصبوغ بالأحمر وكُله أقراط وخواتم! على الرغم من ذلك، كانت المدارس المتحضرة على هذا النحو عبارة عن أعمالٍ تجارية، لذلك لم يكن بإمكانهم رفض الخدمة لأي أحد كان.
حاليًا، لا يمكنه العثور على أي شيء لافت للنظر.
حتى الناس الذين دخلوا وخرجوا لم يبدون غريبين بشكل خاص.
«مم؟»
لهذا السبب، كانت هناك فجوة واسعة واضحة بشكلٍ فريد. صفٌّ من أربعة مصاعد. بين الأول والثاني من اليمين، رأىٰ هناك روبوتاً على شكل آدمي مائلاً على الحائط. في الواقع، بدا كأنه قد وُضع على الجدار. كانت يديه وقدميه محطمتين ومكسورتين. وأيًا كانت ذلك، كان واقعًا على الأرض، وكأنه صار كتلة من المعادن الصناعية التي انتهت في حادثٍ مروري.
شكلها يشبه كثيرًا درعًا كاملاً غربي. ومع ذلك، كان الشكل المنحدر الخاص بها أكثر حداثة بطريقة ما – نعم ، كطائرة شبحية مقاتلة. كان لها جمالٌ حسابي ووظيفي. لمعانها الفضي أعطى له الانطباع بأنها ليست فقط حديد.
قوس ضخم بطول 80 سم سقط بالقرب منها، وكأنه جزء من معدات الروبوت أيضًا.
كان الجزء الأيمن من ذقن الروبوت محفورًا به كلمة "Percival". ربما كان اسمه؟
ولكن ، كان من الواضح لأي أحدٍ ينظر إليه أن هذا الروبوت لم يعد يؤدي سعته بعد الآن.
كانت جزئية اليدين والقدمين قد هُمِّشتا وانبعجتا، وقد غُطت مفاصلها التالفة بزيتٍ أسود قاتم كالفحم.
اشمئز وجه كاميجو لا إراديًا عند شمّه رائحة الصدأ.
ما الذي أراه؟
––أولاً، لم يعرف ما ذلك الروبوت. يمكن رؤية الروبوتات الأمنية والتنظيف وغيرها من الروبوتات في مدينة الأكاديمية، لكنها جميعًا بدت وكأنها براميل زيت. لم يسمع عن روبوتات غير فعالة شكلها كشكل الإنسان في الأرجاء.
––ثانيًا، لم يعرف لماذا انكسر هذا الروبوت. لا يعرف مدى قوته، لكن إفساده في شيء مشابه لحادثة سيارة يتطلب الكثير من القوة. ماذا حدث في قاعة هذه المدرسة التحضيرية؟
––وأخيرًا...
لماذا لم يلحظه أحدٌ آخر هنا؟
هذا ما أربكه أكثر.
لا أحد هنا يحاول التحدث عن الروبوت. ولم ينظروا إليه حتى. لم يكن كما لو أنهم كانوا يحاولون تجنب النظر إلى شيء لا يرغبون في رؤيته أو شيء لا يريدون تذكره. بدا وكأن الآلة مجرد حصى ملقاة في الطريق، شيء لا يستحق الانتباه إليه.
كان الأمر وكأن...
...مشهد هذا الروبوت المكسور امتزج مع حياتهم اليومية.
«ما الخطب؟ لا يوجد شيء هنا. سواء بحثنا عن هِميڠامي أو نَوَينا سحق إزارد، أعتقد أنه من الحكمة التحرك،» قال ستيل بعبوس.
«ص-صحيح.»
أخيرًا أبعد كاميجو عينيه عن الروبوت. لم يكن أحد يولي أدنى اهتمام به، لذا كان تحت وهم أنه ينظر إلىٰ شبحٍ وحدهُ من يراه.
لكن هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا.
لأن هذا الروبوت كان موجودًا بالتأكيد أمام كاميجو.
«ماذا، هل أنت قلق من ذلك؟ حسنًا، أظنه مشهدًا لم تألفه كثيرًا.» لاحظ ستيل أخيرًا حيث كان ينظر.
«ص-صحيح، أعتقد... مهلاً. الروبوتات هي من مجالنا العلمي، أنسيت؟»
«مم؟» عبس ستيل على كلمات كاميجو للحظة قصيرة.
«ما الذي تقوله؟ هذه مجرد جثة.»
«ها؟»
ما عاد يفهم عليه.
«حماية إلهية من درع جَرّاحي ونسخة قوس السماء – ربما كان أحد فرسان الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الثلاثة عشرة. من الجيّد أنهم جاءوا سعيًا لرأس الخائن، لكن من حالته، يبدو أنهم أُبيدوا تمامًا. أبحق السماء فعلوا. فرقة الفرسان هي قوة الأنجليكان. هذا جزائكم إزاء محاولتكم نسخنا بسوءٍ فظيع.» هز ستيل سيجارته في نهاية فمه. «...تشه. علىٰ أي حال، ذاك اللقيط هو من فعلها بالتأكيد. ذلك اللعين أعدّ الأمر بحيث يُهاجمون مبعثرين بينما كان أعضاءٌ من كنائس أخرى هناك جميعًا. أكان يستهدفهم مترصدًا فشلهم...؟ الآن لن يأتي بعدهم إلا من أشاوس صِلدان الكنيسة. إن تقليل أعضاؤهم ولو بواحد ربما تكون هبةً "لذلك الشخص"، لكن...»
كان ستيل يتمتم بشيء لنفسه، لكن كاميجو لم يفهم أيًا من ذلك، لذا تجاهله.
بدلاً من ذلك، نظر إلى الشيء المنهار على الجدار بجانب المصاعد مرة ثانية. إلىٰ كتلة المعدن التي تبدو وكأنها تعرضت للصدم بواسطة شاحنة، وكسرت أطرافها جميعًا. إلىٰ حطام الروبوت، الذي كان ينسكب منه زيت أحمر داكن. إلىٰ جسده المعدني الفضي مدمرًا.
لا.
ماذا لو لم يكن زيتاً أحمر داكن –– وكان سائلاً ذو لونٍ أعمق؟
لا.
ماذا لو لم يكن هذا روبوتًا –– وكان ببساطة إنسانًا يرتدي درعًا؟
«ما الذي يدهشك؟» سأل ستيل، كما لو كان من الطبيعي تمامًا رؤية ذلك. «هذه ساحة معركة، أنسيت؟ ما الغريب في أن ترىٰ فيها جثةً أو اثنتين؟»
...
بحث كاميجو عن شيء يقوله.
لقد عرف. كان يجب عليه أن يعرف ذلك منذ البداية. هذه منطقة حرب، حيث يقتل الناس بعضهم بعضا.
سيضع العدو فخاً لقتل المتسللين أمثال كاميجو وستيل وينتظرهم. حتى أنّ كاميجو لم يعتقد حقّاً أن التحدث إلىٰ عدوٍّ يُصَوّب سيفه نحوهما سيحل أي شيء...
نعم، كان يحتاج إلى فهم ذلك.
لكن بينما كان يفهمه، لم يستطع أن يبقى صامتًا طويلاً.
«اللعنة...!»
ركض. لم يعرف كيف سيساعده الركض. كل ما يمكن أن يفعله هو لف الضمادات؛ فطرق العلاج الأولية الحقيقية كانت خارج متناول هاويٍ مثل كاميجو. ففي آخر الأمر، لم يكن يعرف ما إذا كان الشخص داخل الدرع المدمر البراق حيّاً حتى. كما لم يستطع أن يفكر في طريقة لإخراجه من الدرع.
ومع ذلك، لا يزال لا يوجد دليلٌ واضح على أن الذي داخل الدرع ميّت.
لذلك، إذا سارع، قد ينجح بطريقة ما.
ركض كاميجو عبر القاعة الواسعة في عشر ثوان. بسبب الدروع التي تغطي وجه الفارس، لم يعرف حتى أي نوع من التعبيرات كانت لديه. ومع ذلك، وصلت إلى أذنيه الصوت الخافت للهواء يتسرب من الفجوة في خوذته الحديدية.
لا يزال يتنفس...!
بينما كان يشكر حظه السعيد، أدرك حقيقة أخرى: أن ذلك يعني أنه لا يقدر أن ينقله بعجلة. فكّر أن عليه الاتصال بسيارة إسعاف. ولكن فجأةً بعد ذلك، أصدرت أبواب المصعد القريبة منه صوتاً وانفتحت.
بدأ عدد قليل من الفتيان والفتيات من نفس عمره ينزلون منه. لم يهتموا بالذي يشبه الموتى جوارهم، كما لو كان منظراً عادياً. كانوا يضحكون، يُدردشون عن أمور مثل مدىٰ غلاء وجبات الغداء المدرسية، وسوء نوعيتها، وسرعة مللهم منها، وكيف يكون من الأفضل شراء وجبات بِنتو من المتاجر بدلاً من ذلك.
«أ...أنتم...!»
أهم ما كان عليه القيام به هو إنقاذ هذا الفارس المهشم. فَهِم ذلك. لكن رغم ذلك، ما استطاع أن يبقىٰ صامتاً.
أمسك كاميجو بشدة كتف أحد الطلاب القريبين دون تفكير.
«ما الذي تفعلونه سحقاً لكم؟! اتصلوا بالإسعاف، حالـ––!»
توقفت كلماته في منتصف جملته.
ذلك لأن ذراع كاميجو انسحبت بشدة.
لا.
لم يكن ببساطة "سحبًا". كان الأمر كما لو أن يده قد التصقت بشاحنة نقل متحركة. كانت الصدمة على مستوى مختلف تمامًا.
«ما–؟»
ظن أن كتفه سينخلع من مكانه.
لكن هذا ليس السبب في أن كاميجو لم يستطع التحدث. الطالب الذي أمسك به لم يكن يمسك بذراع كاميجو أو شيء كهذا. انسحبت اليد التي وضعها على كتف الطالب، كما لو كانت بالونة ملتصقة بسيارة.
بالإضافة إلى ذلك، لم يبدو الطالب حتى يلاحظ أن كاميجو قد وضع يده على كتفه. ولم يكن هو فقط. لم يبدو أحد في القاعة يسمعه، على الرغم من أنه كان يصرخ عالياً.
تمامًا مثل الدرع المدمرة أمامه.
«ما الذي يحدث؟»
تذكر كاميجو الإحساس في راحة يده.
لابد أن نسيج ملابس الطالب ناعم، لكنه بدا صلبًا كما لو نُقِع بغراءٍ فوري ثم تصلب. لا، لم يكن قريبًا حتى من سحب جسم الطالب، لم يتمكن حتى من أن يضغط النسيج بأصابعه.
«هذا ما يفعله الحاجز. هذا المكان مثل عملة؛ لها جانبان. أولئك الذين يعيشون على "وجه العملة" -الطلاب الجهلة- لن يلاحظوا ساحرًا على "ظهر العملة". وأولئك الذين يقيمون على "ظهر العملة" -نحن الدخلاء- لن يمكننا التدخل مع الطلاب السذج. انظر لذلك»، غنى ستيل، مشيرًا إلى أقدام فتاة تخرج من المصعد.
الأرض. نحو الدم الأحمر الداكن الذي ينساب من الدروع التي انتشرت مثل بركة، والفتاة مشت فوقها كما لو كانت تسير على الماء.
«....»
حافظ كاميجو عينيه عليها وهي تمر. لم تكن هناك أي بقع على أسفل حذائها، ولم تترك بصمات قدم حمراء. تعاملت مع بحر الدم كما لو كان من البلاستيك الصلب.
«همم.» حرك ستيل بلا مبالاة سيجارة من زاوية فمه وضغط بنهاية مضاءة بقوة ضد زر المصعد البلاستيكي.
لكنها لم تترك أي بقايا من السخام ولا حتى أي علامة على ضغط الزر. «فهمت. يبدو أن المبنى نفسه على "وجه العملة". حسنًا، هذا أكثر ملاءمة لكونها معقل لحرب السِّحرة. كاميجو توما، يبدو أننا لم نعد قادرين على فتح بابٍ حتى بقوتنا. نفس الشيء ينطبق على الباب التلقائي في المدخل، لذا يبدو أننا حوصِرنا.»
«...»
حاجز.
بالتأكيد، لم يكن لدى كاميجو الكثير من المعرفة بالمصطلح، حيث كان يعيش في عالمٍ علمي. لكن إذا كانت هذه قوة غير طبيعية، فهل لم يحن وقت كاميجو توما ليتألق؟
قبض يُمناه قبضةً متينة.
الإماجين بريكر. ستُبطل حتى المعجزات فقط بلمسها. كانت قدرةً بين القدرات وغريبةً بين الغرائب.
رفع يده إلى الهواء...
وكأنها لتحطيم الحاجز نفسه، ضرب بها الأرض بكل قوته!
...حسنًا، ضربها، ولكن كل ما نتج هو صوت ضرب باهت.
«هاه! ميااااهه؟!»
«...ما الذي تفعله بالضبط؟»
تنهد ستيل مُتشفياً عند رؤيته كاميجو يتألم.
«ربما يكون نفس إنوكينتوس. لا يمكننا كسر هذا الحاجز إلا إذا سحقنا نواة التعويذة. وهذه مجرد نظرية، لكن... النواة نفسها ربما وُضِعَت خارج الحاجز. بهذه الطريقة، سيتأكد من أنّ الناس المحاصرين في الداخل لن يقدروا على قلب الطاولة عليه. مُزعج حقًا.»
«...اللعنة.» كان كاميجو مرتبكًا قليلاً حول كيفية التعامل مع ذلك ولكنه سأل، «إذن ماذا نفعل؟ هناك شخص مصاب أمامنا، لكننا لا نستطيع استدعاء طبيب أو حتى إخراجه من هنا...»
«لا داعي لفعل أي شيء. قد مات.»
«اترك هذا الحديث المجنون، وتحقق بنفسك من تنفسه! لا يزال حيّاً، تعال وانظر!»
«نعم، إذا كنا نعتمد فقط على نبض قلبه، فإنه حيٌّ نعم. لكن ضلوعه المكسورة قد أنفذت رئتيه، وقد انهار كبده، واختفت الأوردة من يديه وقدميه... هذه ليست جروح يمكن إنقاذها. هناك كلمة لمن علىٰ شاكلته. جثة.»
ربما تحقق بها باستخدام سحره الرّوني. كانت كلمات ستيل صريحة بلا رحمة، كطبيب يُخبر الحقيقة القاسية لمريض يعاني من مرض لا يُعالج.
«...!!»
«لماذا تُبدي إلي هذا الوجه؟ لقد عرفت بنفسك من نظرة أولى، أليس كذلك؟ حتى لو كان لا يزال يتنفس، فقد تخلت عنه الحياة بالتأكيد ولا نجدة له.»
بلحظةٍ لاحقة، كان كاميجو يمسك بياقة ستيل بيديه.
لم يفهم. لم يفهم شيئًا. كيف يمكن لهذا الرجل أن يظل هادئًا بهذا الشكل؟ كيف يمكنه التحدث بهذا الشكل أمام أحدٍ على وشك الموت؟!
«ابتعد. قد انتهىٰ وقتـ––»
ومع ذلك، دفع يدي كاميجو جانبًا لا أكثر.
«ما عندنا وقت لنقدم تعازينا أحادي الجانب إلى جثة. إرسال الموتى هو عملي الكاهن. الهواة الخضر ينبغي لهم أن يخرسوا ويشاهدوا.»
«...»
جاءت عاطفةٌ غريبة من كلمات ستيل.
أزال كاميجو يديه دون تفكير وأخيرًا فهم الأمر. نظر إلى الكاهن الذي أعطىٰ ظهره ليواجه الفارس المسحوق والمكسور، الذي بدا أن شعلة حياته على وشك الانطفاء...
هُوَ... غاضِب؟
كان وجهًا لا تتصوره علىٰ محياهُ المعتاد الذي لطالما امتلئ سخريةً وازدراء. لكن لا يمكن أن يكون شيئًا آخر. في الوقت الحالي، ستَيْل ماغنوس لم يكن ساحِرًا. هذا الظهر، الملفوف بشيء مثل الكهرباء الساكنة التي قد تنفر كاميجو منها إذا لمسها، كان ينتمي بلا شك إلى ستَيْل ماغنوس الكاهِن.
لم يفعل شيئًا خاصًا.
«...»
قال شيئًا واحدًا فقط. كان بلغةٍ أجنبية، لذا لم يعرف كاميجو معناها.
كانت تلك كلمات ستيل ماغنوس الكاهن، وليس الساحر.
لابد أن في تلك الكلمات معاني كثيرة. على الرغم من أن الفارس لم يقم برفع إصبع حتى الآن، بدأت يده اليمنى في التحرك بشكلٍ غير ثابت. رفع اليد نحو ستيل كما لو كان يمسك شيئًا يطفو في السماء...
«...»
وقال شيئًا الفارس شيئاً.
أماء ستيل رأسه بخفة. لم يفهم كاميجو بعد كم من الوزن حملتها تلك الكلمات. ومع ذلك، ذاب التوتر في جسم الفارس بأكمله كما لو قد أخبر الكاهن كل ما كان يحتاج أن يقوله. كان هناك استرخاء وراض فيه، كما لو قال إنه قد تخلص من جميع أسفه الباقي.
سقطت يد الفارس اليمنى.
أصدرت يدٌ مغطاة بالفولاذ صوتًا يشبه جرس الجنازة على الأرض.
«...»
في النهاية، قام ستَيْل ماغنوس الكاهن بعمل علامة صليب على صدره.
طقوس لإرسال إنسان واحد، بغض النظر عما إذا كانوا من التنوير الإنجليزي الصافي أو الكاثوليك الروماني.
هنا، أدرك كاميجو أخيرًا حقيقة واحدة...
هذه كانت بلا شك ساحة حرب حقيقية.
«هيّا،» قال ستيل ماغنوس بصوت الساحر، وليس الكاهن.
«بات لدينا سببٌ آخر للقتال.»
الجزء 4
شعر بالكآبة.
كان هدفهم في اللحظة الحالية هو البحث عن الغرف المخفية في الفجوات عبر المبنى. أقرب غرفة كانت في هذا المبنى الجنوبي، جوار المقصف في الطابق الخامس، لذا كانوا يصعدون درج الطوارئ.
لماذا يعتريني الضيق؟
وهم يصعدون، بدأ كاميجو يُفكّر. في البداية، اعتقد أن السبب في ذلك كان ما حصل للفارس، ثم ظن أن السبب هو هذه الدرج الضيقة والمظلمة.
لكن لحقته مشكلة جسدية بعيدًا عن تلك العقلية.
«قدماي...»
نظر إلى قدميه حيث ظهرت عليها علامات التعب.
قوانين وَجهَيْ العملة. كان السَّحرة (وهو يُحسَبُ مَعَهُم) الدخلاء والذين لديهم عِلم بما يجري لا يقدرون إعاقة أو لمس الساكنين علىٰ "وجه العملة" بشكلٍ أعمىٰ. كان المبنى نفسه ينتمي إلى وجه العملة الأمامي كذلك، وفقًا لستيل.
ما يعنيه هذا هو أن كل صدمة تأتي من الوقوف على الأرض ترتد إلىٰ قدميهم.
بعبارة بسيطة، كان الأمر كالفرق بين لَكمِ الناس ولَكمِ الخرسانة. كانت الأرض صلبة لدرجة أنها كانت ترهقه بمعدل يصل إلى مرتين أو ثلاث مرات.
«أظن أن... كل ما علينا هو أن... نأمل أن العدو يَمُرّ بنفس الأمر، صح؟»
يبدو أن ستيل كان مضطربًا حيث بدا عليه التعب سريعًا أيضًا. كانت بُنيَتُهُ كبيرة، لكنه على ما يبدو لم يتدرب على القفز أو الحركة عمومًا في المقام الأول.
«لعنة... لو كان الحال هكذا أيًا كان، ألا يكون أفضل أن نركب مصعدًا؟»
«نحن علىٰ "ظهر العملة"، لذا إذا كنت تعرف كيف تضغط الزر الذي يوجد علىٰ "وجه العملة"، فسأكون ممتناً وسعيد.»
«...»
«حتى لو دخلت مع الطلاب القادمين والمغادرين من "وجه العملة" ونزلت معهم، أين ستقودنا؟ إذا دخل مجموعة كبيرة من الناس إلىٰ نفس المصعد، سنُحشر كالحشرات.»
لا يمكن للناس في "ظهر العُملة" التدخل مع الناس في "وجه العملة".
فمثلاً مِثال، حتى لو أتت سيارة من "ظهر العملة" بأقصىٰ سرعتها واصطدمت بإنسانٍ من "وجه العملة"، فإن السيارة من ستتحطم ويظل الإنسان سليما مُعافى.
إن انتهىٰ أمرهما محشورَيْن كالسردين في مصعدٍ....
فإن جسديهما ستهمش برمشة عين، كبيضة نيئة أُحضِرت إلىٰ قطارٍ مكتظٌ حتى الحَد.
اغغ، هذا الموضوع يُكئبُني أكثر فأكثر.
نظر كاميجو ببطء. الآن كانت أفكاره المظلمة تتصادم مع تعبه المتراكم. أدى هذا إلىٰ الشعور بأن عقله على وشك الانقسام نصفين.
شيءٌ ممتع... ألا أرىٰ شيئاً ممتعًا هنا؟ سأل كاميجو نفسه، متمنيًا بجشع الراحة.
وها هو.
«اوه نعم. ماذا عن الهواتف؟»
«ماذا؟»
«حسنًا، أتحدثُ عن وجه وظهر العملة. كنت أتساءل وحسب ما إذا كانت الهواتف قادرة على الاتصال،» قال وأخرج هاتفه الخلوي من جيب سرواله.
وعلى الرغم من قوله ذلك، أدرك كاميجو نفسه أنها كانت مظاهر. حدثت أشياءٌ غريبة تلو الأخرىٰ. أراد هاتفه ليُعيده إلى الواقع وإلا لقاد أقرب إلىٰ الجنون.
لم يتردد فيما يخص من يتصل به.
سيتصل بمسكنه – بمعنى آخر، الغرفة التي كانت فيها فتاةٌ تنتظر. وكان على وشك، لكنه في اللحظة الأخيرة فكر في شيء.
«...مهلاً. هل من الممكن أن يلاحظني الشرير عند استخدامي الهاتف ويهاجمنا أو ما شابه؟»
«من يعرف؟ على أي حال، أنا متأكد أنه يعلم بالفعل أننا داخلين. فلقد اقتحمنا بوابته الأمامية.»
«فلماذا لا يأتي ليصطادنا؟»
«لا أدري، ربما يُعِد العدة أو ما شابه حتى يقتلنا بضربةٍ واحدة مؤكدة، فهذا الخيميائي الذي نتحدث عنه. من المرجح أنه يجري إجراءاتٍ وقائية ليقيس في نفسِهِ احتمالات ردّنا المُضاد.»
«...»
في هذه الحالة إذن، لماذا هذا الشخص هادئٌ كثيرًا؟ تفكّر كاميجو بشك. إذا كان العدو قد لاحظهم بالفعل، فلا داعي للتظاهر بالهدوء. قرر ببجاحة أن يجري المكالمة.
دق الجرس ثلاث مرات.
حسنًا، لا يعمل؟ دق الجرس ست مرات.
...ربما أستسلم. دق الجرس تسع مرات.
اللعنة، هيّا أجيبي! شتم في نفسه، بلغ صبره عليَّ وما عاد يُمسك. رغم أنه ما كان في مزاج للحديث. وبينما ينتظر، جاءت له فكرة أخرىٰ. ماذا لو لم تكن لها علاقة بوجهِ وظهرِ العملة، وأنّ إندِكس فقط لم تجب علىٰ الهاتف؟ وافتراضاً، ماذا لو لم تقدر، وكان هناك سبب يمنعها؟
ماذا لو...
ماذا لو حدث شيء لإندِكس؟
إند –، تمامًا كما خالجته قشعريرةٌ غريبة ارتفعت من أعلى ظهره.....
...رُدَّ على اتصاله.
«ه-هنااا! إنها، امم، إندِكس لَيبرور– لا، ليس هذا... هذا منزل الكاميجو، أمم، الوو؟! من معي؟!»
...حينها سمع صوت إندِكس، بدت مرعوبة تمامًا.
«اه، ودّي لو أسألكِ شيء—» قال كاميجو بإرهاق كمن جرب نظام غذائي خاطئ، «أهذه أول مرة لكِ تجيبين فيها على الهاتف؟»
«نعم؟! لحظة، ماذا؟ صوت توما. ها؟ أيعقل أن كل شخص على الهاتف يحمل نفس الصوت؟»
ثم سمع صوت طقطقة من الطرف الآخر.
كان هذا على الأرجح صوت إندكس وهي تضرب مقبس الهاتف، كان رأسها مائلًا مرتبكًا.
«إندِكس، لا تضربي الجهاز فقط لأنك تعتقدين أنه لا يعمل! هذا، تراكِ بالضبط مثل العجائز وهم يصلحون التلفاز.»
«...هذا عجيب. ما غير توما يقول شيئاً غبيًا كهذا.»
ردّ كاميجو في أعماقه شيئاً.
لا شك فيه، كانت هذه مرّتها الأولىٰ التي تستخدم فيها هاتفاً (على الرغم من أنها عرفت كيف تقول "ألوو" ويبدو أنها على الأقل رأت أو سمعت آخرين يفعلون ذلك). ربما ذعرت عندما رأت أن الجرس لم يتوقف كلما انتظرت. وفي آخر الأمر، بدون أي مخرج آخر، أعدّت نفسها ورفعت المقبس. أو شيء من هذا القبيل.
بالرغم من أنها خبيرة سحرية تمتلك مِئة وثلاثة آلاف جريموار، لم تمتلك إندِكس الحس السليم الأساسي عندما يتعلق الأمر بالعلوم أو التكنولوجيا. اعتَبَر كاميجو هذه الصفة ظريفة، ولكنها جعلته يفكر في الوقت نفسه.
عرف من نَفسِهِ من معرفته...
...أن إندِكس لا تمتلك ذاكرة من قبل العام الماضي.
الأفعال التي تبدو ظريفة على الظاهر كانت في الحقيقة تشوهات ناجمة عن فقدانها للذاكرة. آلمهُ الأمر عندما نظر إليها هكذا.
«نيا؟ إذن يا توما، ما بك؟ لماذا تستخدم هذا الشيء — المزعج والمبالغ فيه والزائف والذي يؤذي قلبك؟ لابد أنك قلقٌ حقًا بشأن شيء.... آه، لا.» يبدو أن إندِكس لم تعتبر الهواتف شائعة. «آه! وجدتُ قطعتين من لازانيا في الثلاجة، أكانت إحداهما لك؟»
«أكلتيها؟»
«آه!»
«...!»
«رأيت كذلك بودينغ بجانبها...!»
«أكلتِ هذه بعد؟! حقًا أكلتيها؟! »
«لكن كانت فيه واحدة فقط!»
«أما عندكِ أدنى احترام لصاحب البيت؟! بودينغ مخبز كُرُمِتسو كان بسعر 700 ين! غياااه!» صاح كاميجو. «اغغ! طيّب طيّب. انحرفنا عن الموضوع. كل شيء على ما يرام ما دام يمكنني الاتصال.»
«؟! توما، ما كنتُ تريد شيء؟»
«لا. أردت اختبار الهاتف وحسب. مع السلامة.»
«؟؟؟»
تخيل كاميجو وجه إندكس ربما كان يميل مستغربًا. فقال، «اه، نعم هل تعلمين يا إندِكس؟ يبدو أن لِكُلِّ دقيقة تتحدثين فيها علىٰ الهاتف، يُسلب يومٌ من عُمُرك.»
«جياياااا!» صاحت قبل أن يُفصل الهاتف. ربما ألقت المقبس بقوة.
«...يا للحمقاء» قال كاميجو في نفسه وهو يغلق هاتفه، منتقماً لحلوىٰ البودنغ.
و...
«.............................................................................................................................................»
لسببٍ ما، كان هناك ساحرٌ ينظر إليه وكأنه حقًا يريد أن يقول شيئًا.
«ماذا؟»
«لا شيء.» نفث ستيل مُتنهدًا. «كنت أُفكر في أنك تفتقد بعض التوتر. يا رجل، هذه ساحة معركة وها أنتَ هنا بلا هَمِّ وتحادث فتاة، إذا كان كِبرك سبب سقوطك... نعم، لا أهتم، وكنتُ لأقفز فرحًا، ولكن إذا أعقتني حينها–»
«غَيران؟»
«أغ....ها؟!»
ظل ستيل صامتًا، وكأن 60% من أوردته قد انفجرت. حَسَبَ كاميجو أنه يتعمق تدريجيًا في كيف يتعامل مع هذا الشخص.
«...نعم، أنا كذلك.»
شَعر كاميجو وكأن قلبه انطعن أكثر مما توقع عند سماع هذه العبارة.
لم يدرك لماذا صدمته كثيرًا، ولكن استمر ستيل في حديثه.
«...لا تُفهمني خطأ. لست أعتبر تلك الفتاة شيئاً أو هدفاً يُثير المشاعر.» لم يكن ستيل ينظر إلىٰ كاميجو. «ما أقصده، لزمنٍ طويل كانت تمتلك جسدًا لم يقدر علىٰ النجاة ما لم تُمسح جميع ذكرياتها سنويًا. لذا بالطبع تفهم أنّ العديد من الناس كانوا في نفس موقعك قبلك.»
«...»
«هناك من حاول أن يكون والدًا لها. وهناك من حاول أن يكون أخاً لها. وهناك من حاول أن يكون صاحبًا لها. كما هناك من حاول أن يكون معلمًا لها.» قال ستيل وكأنه يغني لوحده. «هذا هو. هذا كل ما في الأمر. في الماضي، فشلتُ أنا ونجحتَ أنت. هذا هو الفارق الوحيد بيننا.»
نظر ستيل إلىٰ عيني كاميجو.
كان وكأنه ينظر إلى مبتغىٰ -مستقبل- ما عاد ضمن متناوله مرة ثانية.
«علىٰ ذلك، سأكذب لو قلت أنّ ما لي أسف.» نفث ستيل مُتنهدًا ثانيًا. «في آخر الأمر، لم ترفضنا إندِكس فعلًا. إنها فقط لا تتذكر. لو كانت، لركضت تحتضننا.»
«...»
لم يستطع كاميجو إعطاء رد.
إذا كان لديه أحدًا عزيزاً مهمًا له... لو فقد ذلك الأحد المهم كل ذكرياته... ماذا لو رافق غريبٌ ما ذلك الأحد الجاهل؟ هل سيبقىٰ هادئاً عاقلاً؟
لا، ما تعلق الأمر فقط بوجود غريبٍ ما يلتزم جوارهم.
ألن يشعر بالخيانة من ذلك الأحد المهم الذي نسي عنه كل شيء؟
ولكن الشخص الواقف أمامه الآن كان يؤمن بنفسه وما زال يتبع قناعاته.
كانت هذه في نظرهِ قُوةً حقيقية.
نظر كاميجو إلى هاتفه الخلوي. لقد كان مجرد حديث عفوي لمدة خمس دقائق أو نحْوَها. وقام شخص بالتضحية بكل شيء فقط من أجل ذلك، لحماية أحدٍ غالي عليه، حتى لو كان يعلم أنه لن يبلغها مجددًا.
مشاعرهم جميعًا...
هل لدىٰ كاميجو الحالي الحق في أن يدهس كل تلك المشاعر ليبقي الفتاة مِلكًا لنفسه؟
...لا أدري.
إذا كانت هذه مَنية إندِكس الوحيدة، فإنه ليحميها حتى النهاية.
لكن الحكاية هي أنّ إندِكس لا تتذكر من هم أساسًا. إنها لا تدرك حتى أنّ لها خيارًا في أوّل المقام، لذا جعلها تختار شيئًا كان من البديهي جدًا أن يكون غير منطقي.
لا أعرف، ولكن... قالوا أنّ كاميجو توما هو من أنقذ إندِكس...
...نعم، إن كانت هذه القضية، فعليه أن يتحمل عِبء إنقاذها.
إعطاء الطعام لقطة مهجورة من باب الانزعاج وعدم أخذها إلى المنزل، على الرغم من معرفتك أنها ستموت جوعًا، كان أشد شرًا كأن تعطيها أملاً في أن تأخذها وتعتني بها والذي لن يأتي أبدًا.
ومع ذلك...
الذي أنقذها ليس أنا الحالي–
كلما فكر في ذلك أكثر، وَجَدَ أن الأمر يعود لها دائمًا في النهاية.
–إندِكس تبحث عن شخص آخر... كاميجو توما من قبل فقدانه الذاكرة.
الجزء 5
بعد صعودهما لخمس طوابق من الدرج، خرج كاميجو وستيل إلى الممر.
كان لدى ستيل الخريطة المخططة لمدرسة ميساوا التحضيرية محفورة في عقله. كان هناك معنى لقدومهم هنا. في هذا الطابق توجد اختلافات ظاهرة بين مخططات المبنى الورقية وحجمه الفعلي المُقاس من الخارج باستخدام الأمواج تحت الحمراء والموجات فوق الصوتية.
وهذا ما جعلهم يعتقدون أن هناك غرفة سرية.
«وفقًا للمخططات، يجب أن تكون قريبة.»
دق ستيل برفق الحائط العادي تمامًا في وسط الممر المستقيم.
«...يجب أن تكون، لكن إذا لم تُفتح، فنحنُ في ورطة.»
«نعم.»
لم يكن بإمكانهما فتح أي باب علىٰ جانب "وجه العملة" حتى لو لم يكن بابًا سريًا في الأصل، لأن كليهما كانا على جانب "ظهر العملة". الدخول والخروج من الغرف سيتطلب منهما الانزلاق من خلال الفجوات التي تركها الطلاب عند فتح الباب، لكن بالطبع لن يكون يجدوا أحدًا يتردد غرفةً خفية.
«لكن من الأفضل التحقق من مواقعها. مهما كان هذا الحاجز قويًا، أَوْريولُس هو الذي صنعه. التعامل مع الحاجز أمر بسيط بقدر تهديده... يمكننا ببساطة قتله إذا تطلب الأمر.»
«...»
نظر كاميجو بدون قصد إلى ستيل.
فَهِم أن هذه كانت ساحة معركة، وأنّ أَوْريولُس كان عدوًا يجب هزيمته. الوضع لم يكن تافهًا، وكل ما كان يلزم لمعرفة ذلك هو الفارس الساقط في القاعة وحقيقة أن هِميڠامي آيسا كانت مسجونة.
ومع ذلك، جزءًا من كاميجو لم يستطع بشكل صريح أن يؤكد أنه "سيقتل" أَوْريولُس، لأنه محتملٌ أيضًا أن يكون أَوْريولُس قد أسقط ذلك الفارس دفاعًا عن النفس ولم ينوي القتل.
ومع ذلك، كان موضوع هذا السّٰاحِر مختلفاً.
قال "قتل". ما استخدم كلمة مبهمة "كهزيمته" أو "ضربه" ؛ أعلن أنه سيقتله.
بحثوا عن أقرب غرفة للمكان الذي يبدو أنه الغرفة السرية. اتضح أنها كافتيريا. كان ذلك على الأرجح وهمًا؛ خُدعةٌ نفسية— حيث تلعب بتصور الناس من خلال إعداد غرفة كبيرة. وهكذا، تخفي وجود مساحة صغيرة مخفية جوارها.
لم يكن لمدخل الكافتيريا أبواب.
دخل كاميجو وستيل وهما حذران حتى لا تبتلعهما أمواج الناس.
تبيّن أن الأماكن التي بها كثيرٌ من الناس كانت مشكلة نسبيًا.
بالطبع، أولئك الذين على ظهر العملة لم يكن بإمكانهم التدخل في شؤون أولئك على وجه العملة. كان الأولاد يلعبون لعبة الكراسي بالمقاعد القليلة المتاحة. وكانت شلة الفتيات يمشين ومعهن الصحون ويدردشن مع بعض. كانوا جميعًا في نظر ستيل وكاميجو يشبهون ثيراناً هائجة تهاجم. إضافة لذلك، جعل حجم المقصف الكبير من الصعب التنبؤ بحركات الناس مقارنةً بالممرات. وقد أتعبوا أعصابهم إلى أقصى حدها ليتجنبوا تدفق الناس.
كان الوقت مساءً، وكان المقصف مليئاً بالطلاب.
ما استطاع أحدٌ النظر إليه— هذا الشعور كان جديدًا بشكلٍ ما. كان مختلفًا تمامًا عن المشي عبر محطة قطار مزدحمة كالمعتاد. عندما أبصر هذا المشهد، فَهِمَ أن الناس يتجنبون الآخرين بشكلٍ غير واعي حتى لا يصطدموا ببعض.
كانت هناك منضدة على الحائط خلف الغرفة المخفية، وفوق المنضدة كان هناك مطبخ ضيق. وزادت الثلاجات ذات الحجم الصناعي وأدوات الطهي من الأمور سوءًا، مما جعل المطبخ الضيق أضْيَق أكثر. فهمت. طالما أنك لا تعرف الحجم الأصلي للغرفة، سيكون من الصعب معرفة مقدار المساحة المفتوحة على الجانب الآخر من الحائط،. فكر كاميجو متعجبًا.
«...مم. هذه أول مرة أزور فيها مدرسة دينية علمية، ولكن من مظهرها، لا تبدو بالمختلفة. حسبتُ أنني سأرىٰ صورًا مُؤطرة لوجه المؤسس تُزين المكان أو شيء من هذا القبيل.»
تفحص ستيل محيطه بملل.
«... لا شيء يبدو خطيرًا أكيد، ولكن...»
نظر كاميجو حوله أيضًا.
في العالم العلمي، كان هناك شيء يُسمىٰ "قائمة مستوىٰ الخطر الطائفي". تضمنت، من بين أمور أخرى، مستوىٰ "الدخل" للطائفة، أو إلىٰ أي مدىٰ يمكنها جمع الممتلكات من أتباعها؛ مستوىٰ "التوسع"، أو إلى أي مدى يمكنها جذب أتباع جدد بالقوة؛ مستوىٰ "الطاعة المطلقة"، حتى إلى حد إمكانية أن يهجم أتباعها هجومًا انتحاريًا؛ ومستوىٰ "تكرير المواد الخطرة"، مثل الغاز السام والمتفجرات، وهكذا. ستُخصَّص نقاطٌ لكل من هذه العناصر، والذين يحصلون على الكثير من النقاط سيُصنفون دِيناً يُشكل تهديدًا للعلم.
من منظور علمي بحت، لم يكن يعتقد أن مدرسة ميساوا التحضيرية كانت تشكل تهديدًا كبيرًا. نظرًا لأن معظمها طلاب، لم يكن بإمكان المدرسة جمع مالٍ كثير منهم بسهولة، ولم تكن المدارس التحضيرية أفضل مكان لتصنيع الغاز السام أو الأسلحة البكتريولوجية.
لكن...
«...لا. هذا المكان بالتأكيد دينٌ عِلمي»، قال ذلك بصوت خفيض وبنبرة غاضبة.
بغرابة، علىٰ أن المقصف كان يعج بالطلاب، إلا أنه استشعر جوّاً خانقاً في الغرفة كذلك الذي في المصعد. هذا معقول،. كما فكّر كاميجو. الجميع هنا كانوا يصدرون ضجيجًا—ما كانوا يدردشون فيما بينهم بما يُسَلّي. على سبيل المثال، كانوا يناقشون كيف تحسنت درجاتهم بعد الاختبار التحصيلي، وكيف تفوقوا على زملائهم في المدرسة، أو كيف أنهم لم يتمكنوا من فهم الأشخاص الذين لم يدرسوا بعد في هذا الوقت من السنة. كانوا يضحكون مع بعضٍ فقط بقول أشياء مهينة ومُزدرية عن الآخرين.
نظر كاميجو إلى الملصقات المعلقة على جدران المقصف.
كانت تقليدية جدًا لمدرسة تحضيرية وتمهيدية للجامعة. كانت مصفوفة على الجدران عبارات ثنائية مثل "ادرس، تنجح، تسعد. / سَوِّف، تسقط، تحزن".
كأنها نسخة أكثر إيجابية من الرسالة المتسلسلة،. كما فكر. كما تلك الرسائل التي تقول: "أرسل هذه إلى سبعة أشخاص في غضون سبعة أيام، وستجد السعادة". ومن ناحية أخرى هو تهديد يقول بأنه إذا لم تفعل ستصبح تعيسًا. هذا كان الجزء الذي أشْعَرَ حقّاً بوجود الطائفية.
«...همف. فكرة "نحن الأذكياء لأننا ندرس هنا الآن" هي نفسها اعتقادٌ ديني، أليس كذلك؟ فبعد كل شيء، حتى خلال المحاضرات، دائمًا ما يقول الأساتذة أشياءً مثل "هذه أهم النقاط لهذا الامتحان ولن تجدها عند غيري هنا. الأشخاص الوحيدون الذين لا يدرسون هنا هذا الصيف هم كائنات غبية، دونية."»
يقززني هذا الأمر.
يقززني حقًا.
ذاته نفسها هي ما قززته لأنه تَفَهَّم هذا، ولو قليلاً.
وفي مجمل الأمر، تنطوي الامتحانات في النهاية على الخرافات. يُجَرّب الناس أطعمة غريبة تزعم أنها تُحَسّن تركيزك رغم غياب دليلٍ تجريبي، والناس يجلبون تمائم الحظ لاجتياز الاختبارات طوال الوقت.
هذا كان خَلَلاً صغيرًا يسمونه "قلق"...
كانت مدرسة ميساوا التحضيرية دينًا عِلميًا أدخل طرف السكين في ذلك الخلل.
«مم. يبدو أنك تأثرت بسُمِّ الطائفة، لكنني واثقٌ أنك لم تنسَ هدفنا الأصلي، أليس كذلك؟ حاليًا، أريد أن أرىٰ إذا كان بإمكاننا العثور علىٰ مدخل الغرفة المخفية.»
«آه، نعم. فهمت!» أخذ كاميجو نفسًا عميقًا، محاولاً تهدئة أعصابه بأي شكل.
بعد ذلك، ألقىٰ نظرة أخيرة حول المقصف.
فجأة، جميع الطلاب الثمانين في الغرفة اِلتفّوا ينظرون إلىٰ كاميجو.
في البداية، ظنّ كاميجو أن هذا بسبب رفعه لصوته.
«هذا... قد يكون سيئًا... هل تجاوزنا المرحلة الأولىٰ أم ماذا؟»
لذا، حتى بعد سماع صوت ستيل الجاد، لم يتمكن كاميجو من التفاعل.
«ها، إيه؟»
«لا تسْرَح. لا يمكن للأشخاص الموجودين في "وجه العملة" أن يرونا نحن علىٰ الجانب الآخر. فهمت. هذا يعني أن هناك أنظمة تحذير تلقائية بالقرب من الغرف المخفية مثل هذه.»
«...»
نظر كاميجو حوله.
الطلاب، الذي بلغ عددهم الثمانين، كانوا يحدقون بهما بالتأكيد. ما عادوا يتفاعلون كالبشر؛ وقفوا ببساطة كالأعمدة، وعيونهم كالعدسات—غير عضوية.
«أ-أيعقل أنهم—»
نظر حوله... إلى عشرات الطلاب الذين كانوا يقفون بلا شك علىٰ "ظهر العملة". فإذا رأوهم، فهذا يعني أنهم....
«—سحرة!»
كان ستيل قد تراجع خطوة واحدة قبل أن يصرخ كاميجو منكرًا.
ومع ذلك...
‹‹أجنحة السيراف هي نورٌ ساطِع، والنور الساطع هو البياض النقي، والذي يكشف الإثم—››
بدأ طالبٌ واقفًا كالعمود في ترديدٍ شيء لم يفهمه.
‹‹البياض النقي هو "دليل التطهير، ذلك الدليل هو نتيجة" الحركة››
غطى صوتٌ ثانٍ الصوت الأول.
‹‹النتيجة "هي المستقبل، المستقبل" هو "الوقت، الوقت" مُوَحَّد››
ومع الثاني، انضم ثالث، ورابع، وخامس، وسادس، وسابع، وثامن، وتاسع، وعاشر، وأحد عشر، واثنا عشر، وثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، وستة عشر، وسبعة عشر، وثمانية عشر، وتسعة عشر—!!
‹‹التوحيد هو كل "الأشياء، كل الأشياء تُخلق من الماضي، الماضي هو" الأصل، الأصل هو "تفرُّدٌ،" التفرد "خطيئة، الخطيئة هي الإنسان، الإنسان" يخاف العقاب، الخوف" هو "الجريمة، الجريمة" تنبع من النفس، إذا "كان منبع النفس شيئاً وَجَبَ تجنبه، إذن بأجنحة السيراف" "تُكشف جرائم النفس وعليها أن تنفجر من المنبع—!"››
نشأت جوقةٌ [2] ضخمة تكونت من أصوات ثمانين فردًا، لا بل كانت دوامة من الكلمات المنبثقة من كل إنسانٍ في المبنى، أكثر من ألفِ شخص، أمكنها أن تهز ساحة المعركة بأكملها.
انبثق ضوءٌ أزرَقُ-مُبْيَض بحجم كرة البِنغ بونغ على جبين أحد الطلاب. ربما كانت حقًا كرة — طارت في الهواء، وترنحنت غير ثابتة، وسقطت على الأرض جانب كاميجو.
فششش. أصدرت ما يشبه صوتاً قد ينتجه حمض قوي وارتفع منها دخان كيميائي.
ربما تنجو بحرقٍ صغير إذا ضربتك فقط واحدة من تلك...
«هيّا يا إماجين بريكر، دورك!»
«ماذا؟ ... مهلاً؟!»
استدار ثانية، ليرىٰ فجأة مئات الكرات الزرقاء-المبيضة تأتي نحوه حتى حجبت رؤيته.
«آه، ما أقدر عليهم!»
هرع كاميجو نحو المخرج محاولاً الوصول إليه قبل ستيل. تبعه السّٰاحِر مرتبكًا، وانطلقا خارجين من المقصف. كان يعتقد أن كاميجو سيكون درعه.
«ماذا... مهلاً، لا تنحاش! ما فائدتك يا درعك؟! يمناك هذه قَدِرت أن تَصُدَّ نَفَس التنين، لكنك لا تستخدمها حتى! أدرت ظهرك عاريًا لهم! هل جُننت؟!»
«كل تبن! ولكَ وجه لقول ذلك وقد حاولتَ استخدامي درعًا يا ملعون! ليست قضية قوّة، ولكن هناك الكثير منها! لا أستطيع التعامل معها جميعًا بيدٍ واحدة!»
كانت كأنك دخلت مباراة ملاكمة ضد خصمٍ ذو أربعة أذرع. حتى لو جهّزت دفاعًا حول وجهك منتظرًا ذراعين، فإن الأخرتين ستخترقان معدتك المكشوفة. كانت هذه عصابةً كثيرة على وحيدٍ ليواجهها.
وهووو! اندفعت كراتٌ كثيرة من المقصف نحوهم. بدا وكأن المقصف كان مملوءًا بالمياه وثد انفتح بابُها.
ما كان أمامُهما خيار في تلك اللحظة إلا الفرار عبر الممر.
«اللعنة. قد أعدَّ العُدة، ونجح في إنشاء جوقة غُرَيغورية، وإن كانت مزيفة... ربما أكون أنا من قللت من شأن هذا الأوْريولُس إزارد.»
«ما هو الغريغور هذا أو أياً كان؟!»
«كان في الأصل السلاح النهائي للكنيسة الرومانية الكاثوليكيّة. بها يَجمَعون ثلاثة آلاف وثلاثمئة وثلاثة وثلاثون راهبًا في معبدٍ ما ويُوَحِّدون صلواتهم لتعويذةٍ ضخمة. كل ذلك يُفجر القوة السحرية لتتضخم هائلاً، كمثل تركيز ضوء الشمس بعدسةٍ مكبرة.» صرّ ستيل أسنانه. «أما هُنا فَهُم حوالي... ألفي طالب ربما؟ سأقترض مثالاً يستخدمه ناس هذا البلد، قد يُمسي الغبار المتراكم جبلاً.»
تفاجأ كاميجو.
كان مدركًا أنه لا يفهم نصف ما قاله ستيل، لكن في النهاية... ألا يعني هذا أنهم مُحاطون ويقاتلون حوالي ألفي شخص؟
كان عقله يعرف أن هذا المبنى كان ساحة معركة وأنهم هاجموا معسكر العدو. ولكن بمجرد أن فكر في ألفي شخص يهجمون عليه دفعة واحدة، تضخم يأسُه وكاد يغلبه.
«لا يمكنني هزيمتهم جميعًا في نفس الوقت!! ربما المبنى كبير، لكننا لا نزال داخله أم نسيت؟! سيُقبض علينا في النهاية إذا لعبنا الغميضة مع ألفي شخص!»
لكن ستيل أجاب ولا يزال ينظر إلىٰ الأمام، «هذا ليس مؤكدًا بعد. النواة... عليه السيطرة على جميع الألفي شخص في نفس الوقت، وإلا لفشلت التعويذة. إذا استطعنا تدمير مفتاح هذا التزامن، سنتمكن من إنهاء الجوقة الغريغورية.»
واصلوا الجري في الممر الطويل والمستقيم. عندما اقتربوا أخيرًا من الدرج، رأوا فيضانًا آخر من الكرات الزرقاء-المبيضة قادمًا لمهاجمتهم من الأمام.
لقد وقعوا في هجوم كماشة.
«الدرج... هيّا!»
غاص كاميجو وستيل على الفور في الدرج جانبهم. حاول كاميجو أن يسأل عن رأي ستيل حول ما إذا كان عليهم الصعود أو النزول، ولكن فجأة لاحظ شيئًا غير عادي.
«أنت...! بدوت مرتاحًا بشكلٍ مريب طوال الوقت...! أعندك خطة؟!»
نعم، على أنهم كانوا يسيرون على خط الحياة والموت في هذه اللحظة، كان ستيل هادئًا للغاية.
«همم. عندي خطة بلىٰ، لكني متردد في ما إذا كان عليّ أن أحرِقها [3] في مثل هذا الوقت.»
«ماذا—؟ إذا كانت لديك، فعجل واستخدمها!»
«حقّاً لا تمانع؟» قال ستيل، وابتسامة ماكرة للغاية تعلو وجهه نحو كاميجو.
كانت الابتسامة غير ملائمة تمامًا للموقف؛ أخذ كاميجو الحذر وابتلع لا إراديًا، ولكن في تلك اللحظة...
ركل ستيل كاميجو نحو أسفل الدرج حيث الطابق السابق.
«ما—»
قبل أن يتمكن كاميجو حتى من التفكير، تزعزع توازنه وسقط علىٰ الدرج. اِعترىٰ جسده ألمًا حارًا كما لو تَجَمَّع عليه أربعة أو خمسة يضربونه. ما استطاع حتى الصراخ. لو فعل، لعضّ لسانه.
«يا لحظّك يا فزّاعة♪»
هكذا جاء صوت ستيل المرح من فوقه. وهو مذهول، نظر إلى الأعلى ورأى ستيل يصعد الدرج—في اتجاهٍ معاكس تمامًا.
حالاً بعد ذلك، اندفعت الكرات بسَيلٍ كما لو كانت تفصل الطوابق العليا عن السفلى. كنهر جاري، كما لو كان طبيعيًا مُعَدّاً، ضبطوا بصرهم علىٰ كاميجو واندفعوا نحوه!
«اللعين...!»
أجبر كاميجو جسده المتألم للحركة وركض أكثر في الدرج لأسفل.
كلمات ستيل ظهرت في خلفية عقله.
كان هذا معقل أَوْريولُس، لذا يبدو أنه مليء بطاقته السحرية. كأنها لوحة مرسومة فقط بالأحمر؛ إذا كان ستيل سيستخدم سحره الأزرق، فسيلاحظ ذلك الأَوْريولُس.
ولكن، لن يلاحظ شيئًا طالما لم يفعل ستيل أي شيء.
من ناحية أخرى، كان إماجين بريكر كاميجو يمحو تدريجيًا الطلاء الأحمر. على عكس ستيل، الذي يمتلك مفتاح تشغيل/إيقاف، كان لدى الفتى أساسًا جهاز إرسال معلق يرسل الإشارات طوال الوقت.
المقصد أن ستيل قد رافقه حتى الآن فقط ليستخدمه وسيلة تشويش قابلة للصرف.
كان يعلم أن لستيل القليل -إن لم يكن معدومًا- من الخطط لمهاجمة معقل العدو، لكنه في الواقع كان يحتفظ بهذا في كُمّه طوال الوقت.
...اللعنة! ولكن مهلا. أليس ذلك غريبًا؟
كان إنذارٌ يدوي داخل كاميجو، لكنه لم يتمكن من معرفة ما كان يشير إليه. ما أتته أفكار. إذا كان هناك شيءٌ لم يملك أدنى فكرة عنه بصفته شخصًا يعاني من فقدان الذاكرة، فهذا يعني أنها...
من كاميجو قبل فقدان الذاكرة...
"معرفته" كانت تحذره من شيء.
كما لو أنها قطعت أفكاره فجأة، ظهرت مجموعة جديدة من الخطى في مدى سماعه.
وكانوا من الطابق السفلي، كما لو كانوا يصدون دربه.
«...!»
كان السيل من الكرات يقترب منه من أعلى. ما عساهُ يتوقف عن الجري الآن بعد أن وصل. فحص ما كان هناك وهو يركض بأسرع ما لديه على الدرج لأسفل.
رأىٰ فتاةً وحيدة، واقفة هناك كما لو كانت تنتظره. ما قد رأىٰها من قبل. كما لم يتعرف على زيها أو من أين كان، لكنها على الأرجح كانت طالبة تستعد للامتحانات وكانت تكبُرُه بسنة أو سنتين. بنظارات دائرية وشعر أسود مربوط بضفيرتين، بدت الفتاة بعيدة عن غرائب السِّحر، دونّاً عن القتال.
‹‹عقابُ الجُرمِ لَهَب. اللَّهَبُ والي المَطْهَر. المَطْهَرُ خُلِق لحَرقِ الخُطاة. إنه العُنف الوحيد الذي اعترف به الرّب—››
ومع ذلك، ما خرج من تلك الشفاه الحلوة كان صوتًا مزعجًا بدا يرجع لتروسٍ صدئة.
في كل مرة تُكوّن فيها كلمة، كانت الكرة الزرقاء الشاحبة على جبهتها تكبر. وانتظرت الكرة، بلهفة وقلق، اللحظة التي تتضخم فيها إلىٰ كتلة كافية لتنطلق كبالونٍ انفتح فمه.
لابد أن يكون وجه وظهر العملة معكوسَيْن. كان ينبغي لهذه الفتاة أن تكون في الوجه، لكنها الآن تقف في الظهر بصفتها ساحرة. ربما ينطبق هذا على كل طالب حاليًا داخل مدرسة ميساوا التحضيرية. من ناحية أخرى، عنى ذلك أنه إذا تحرك فورًا، فسيقدر كاميجو على القضاء عليها بسهولة.
يمكنني الفوز...!
قَبَضَ كاميجو يمناه. لن يقدر مواكبة العشرات أو المئات منهم، لكن كرة أو اثنتين لن تشكل تهديدًا. لقد قَبَضَ قبضته بقوة قدر استطاعته وكأنه يؤكد من جديد ميزته، الإماجين بريكر.
ثم بصوت متصدع...
انفجر خدُّ الفتاةِ كما لو وُضِعت مفرقعات نارية تحت جلدها.
«ماذا–؟!»
عندما وقفَ كاميجو هناك مذهولاً، انفجرت أصابع الفتاة وأنفها وداخل ملابسها، واحدة تلو الأخرى. كان كُلّ تمزقٍ صغير، وقد تمزقت بضعة سنتيمترات من جلدها على الأكثر. لكن...
«العنف... هو تأكيد الموت. التأكيد، هو... الاعتراف. اعـ... ـتر...ا–»
تمزق جسد الفتاة مع كل مقطع لفظته. تمزقت الشفتان اللتان شكّلتا تلك الكلمات، وتقطّر الدم من فمها حيث بدا أنه حتى أحشاءها الداخلية قد انفجرت. ورغم ذلك لم تتوقف الفتاة عن قول الكلمات. لا، لم تستطع التوقف. كان الأمر كما لو أنها ضفدع يُصعق بالأقطاب الكهربائية، وكانت عضلات ساقيها تتحرك بشكل مستقل عن إرادتها.
«أيعقل أنه...»
كاد الرعب داخل كاميجو أن يصل إلى معدته. كانت معرفته تتحدث إليه. لم يكن يعرف من أين تعلمها، لكن هذه "المعرفة" الغريبة كانت تقول شيئًا.
الأسابر لا يستطيعون استخدام السِحر.
قالت له أن الخوارق والسحر كلتاهما قدرات غير طبيعية، لكن مفاهيمهما مختلفة كليًا. الأسابر لديهم دوائر دماغية مختلفة عن الأشخاص العاديين، لذا حتى لو قاموا بنفس بنفس ما قام به السَحرة، إلا أنهم لا يستطيعون أداء السحر.
ولكن، هذه كانت مدينة الأكاديمية.
كل طالب يعيش في هذه المدينة، بغض النظر عن هويته، سيخضع لمنهج تطوير القدرات.
إذن، ماذا لو...
ماذا سيحدث إذا أُجبِرَ الإسبر، العاجز عن استخدام السحر، على استخدامه إجباراً؟
«توقفي...»
تمتم كاميجو دون علم، ناسيًا مصيبته.
كانت دوائرهم مختلفة. هذا ما أخبرته معرفته. لم يكن يعرف شيئًا عن العمليات الداخلية للغرائب، ولكن ربما كان أشبه بمحاولة إجبار مُشغل الووكمان المدعوم بالبطارية على الشحن بمقبس الحائط؟
بما أن الكهرباء تمر عبره، فسوف تتنشط الدوائر، ولكن...
أليس هذا إجباراً غير معقول للدوائر على العمل وإن احترقت؟
«—توقفي! مهلاً، عليكِ أن تعرفي أن جسمكِ معرض للخراب!»
في هذه المرحلة، نسي تقريبًا أن يعصر قبضته. نسي كل شيء، على الرغم من أنه بدا وكأنه ينظر إلى نهاية بندقية، وهو يندفع بأقصى ما يمكنه في الدرج لأسفل.
«...ـراف، اعـ–اف. دا–خل، هو-العالم. اربط، نفسك الداخلية مع، العالم الخارجي.»
واصلت الفتاة تُتمتِمُ شيئًا ثم أوقِفت فجأة بصوت قطْعٍ حاد.
انفتح جبينها، واختفت الكرة الزرقاء المبيضة التي استحضرتها. ما تبقى في أعقابها كان مجرد جرحٍ مفتوح، ومنه انسكب دمٌ أحمر.
ربما ذلك قد فعلها. ارتخى جسدها مُتوجهًا نحو الدرج وبدا على وشك السقوط.
شيءٌ داخله هَمَس.
جسم الإنسان ثقيل، وإن كان ينتمي لفتاةٍ ضئيلة. لو كانت حقيبة، لاختلفت الأمور. قال له إنه لن يقدر الهرب من سيول الكرات أثناء حمله عشرات الكيلوغرامات.
شيءٌ داخله هَمَس.
علاوة على ذلك، كانت هذه الفتاة عدو. لن يحصل على أي شيء مقابل إنقاذها، وسيضع نفسه في خطر التعرض للرصاص في ظهره. أصرّ على أنه إذا أراد إنقاذ نفسه، فيجب عليه ترك العدو هنا.
شيءٌ داخله هَمَس.
وقال فوق كل ذلك، ما عاد هناك أملٌ في إنقاذها وقد تلقت كل تلك الإصابات. جروحها قاتلة بحسب أي مقياس، وقد دنّس هذا الدِّين العِلمي روحها.
...
كشر كاميجو صامتًا أسنانه علىٰ صدى أصوات عقله.
«اخرس...!»
على الرغم من كل ذلك، استخدم كل قوته ليمد يده نحو الفتاة التي كادت أن تتعثر على الدرج.
كانت الفتاة بالتأكيد ثقيلة. لم يكن هناك سبب ليتمكن من الهرب من سيل الكرات وهو يحمل شخصًا على كتفيه وهو لم يستطع الفرار لوحده أصلاً. كان يعلم أنها العدو. كان يعلم أن جروح جسدها كانت عميقة وجروح قلبها أعمق بكثير. كل هذا لا يحتاج إلى بيان.
ومع ذلك...
ما كان هناك من سبب مطلق يسمح لهذه الفتاة بالغرق في فيضان الكرات الآتي. ما كان هناك سببٌ أبدًا لذلك بأيِّ عالمٍ بحثت فيه.
من الواضح أنها لم تفعل كل ذلك لأنها تستمتع به.
لقد التحقت في هذه المدرسة ظانةً أنها مدرسةٌ تحضيرية وحسب، وقبل أن تدرك، أفسدها الدِين العِلمي. وفي النهاية، عوملت كأداة قابلة للصرف قبل أن تعي ما يحدث.
تذكر كاميجو الفارس المنهار عند المصاعد.
إذا كان هناك شيء تعلمه من ذاك الموقف، فإنه لا يمكنه أبدًا التخلي عن أحدٍ ما على وشك الموت، كانوا عدوًا أم لا!
«اللعنة...!»
الفتاة التي سقطت في صدره كانت أخف مما توقع. ومع ذلك، كان يقصد بذلك من الناحية الإنسانية. بالنسبة لعائق، كانت ثقيلة جدًا. إضافة لذلك، كانوا في منتصف الدرج، لذا كان الوضع سيئًا. كان على وشك أن يُغرق من تلك الكمية.
وأثناء محاولته الركض أسفل الدرج وهو يحمل الفتاة الملطخة بالدم، ألقىٰ نظرة سريعة خلفه.
ووجد هناك...
..........!
فهوششش. كفيضان سريع يثور، أمطرت عليهم الكرات.
حاول كاميجو على الفور صدهم بيده اليمنى، واستخدم يسراه ليُمسك خصر الفتاة، وهرول أسفل الدرج الباقية دفعة واحدة. حسنًا، حاول أن يجري. لسوء الحظ، كان الجسم البشري ثقيلًا بشكلٍ مدهش. كأنه يسبح بِكُرة ٍحديدية معلقة في قدميه.
فكر في القفز، لكن الجاذبية أثقلت جسده.
تسبب ذلك التأخير الطفيف بمجيء مئات، بل آلاف الكرات لتدور حوله...
.........................................................!!
أغلق كاميجو عينيه محكمًا بدافع ردة الفعل.
على الأقل سأكون درعًا لها. لكن بينما يمكنه الدفاع ضد كرة أو اثنتين، ستكون المئات قصة مختلفة. سيُأكل جسده تدريجيًا بالكرات التي لا حصر لها، كما لو كانت حشرات لا تُحصىٰ، وسيذوب كما لو كانوا حمضًا قويًّا—
«...؟»
—لم يُذَوَّب. مهما انتظر، لم يحدث شيء. كان يشعر بأن الزمن توقف. لم يعد يستطيع فتح عينيه بلا حذر. الوهم الغريب الذي يحجزه يقول إنّ الزمن سيستأنف حين يفتح عينيه.
ولكن إذا لم يفتح عينيه، فلن يحدث شيء.
فتحهما، بكل رعب وحذر كما لو كان يقطع سلك قنبلة موقوتة.
«...ها؟»
عيناه مفتوحتان الآن، لكنه لم يستطع فهم ما رأىٰ.
كان تحت وهمٍ غريب بأن الزمن قد توقف. لأن هذا كان التفسير الوحيد. كانت الكرات قد وصلت قُبيل أنفه. كان على وشك أن تبتلعه مِئاتُها. فلماذا بالضبط توقفت الكرات في الهواء كما لو توقف فيديو؟
وأخيرًا، استأنفت الكرات حركتها، كما لو انقطعت خيوطٌ مربوطة بها.
ومع ذلك، لم تتحرك لتبتلع كاميجو في تيارها العنيف. بدلاً من ذلك، سقطت كل واحدة من الكرات اللاحصر لها عموديًا كأنها تفاحاتٌ سقطت ببطء من يد. وعندما ضربت الأرض، ذابت واختفت تمامًا.
وجاءت خطوات، طك طك.
لم يعرف كاميجو ما الذي يحدث... لكن الأصوات أتت من الطابق السُفلي. على أي حال، نظر إلى الأسفل من مهبط الدرج حيث سمعها، كما لو كان يبحث عن إجابة.
في الطابق السفلي، كان هناك مخرج إلى ممر، وكان ضوء الشمس المسائي يتسلل إلى درج الطوارئ شحيح الإضاءة.
وهناك...
... وقفت ديب بلود، هيميڠامي آيسا، كما لو كانت تنظر إليه من قاع بئر.
الجزء 6
في تلك اللحظة، راقب ستيل ماغنوس سيفه اللهب المستعمل يتبدد.
طافت بطاقةٌ رونية في الهواء كبتلة زهرة الساكورا (كرز).
وَقَفَ في ممرِّ الطابقِ الذي يعلو كاميجو. كان ممرًا مستقيمًا طويلًا، ولن ترىٰ فيه أي شيء غير عادي، لكن ستيل اكتشف أن نواة النسخة الغريغورية مخفيةٌ هنا.
كان ساحرًا، وبما أن هذا كان مجاله وتخصصه، أمكنه بسهولة رؤية تدفق الطاقة. علىٰ أن الطلاب هنا لديهم كمية ضئيلة من القوة السحرية (مانا)، إلا أن النواة كانت تجمع وتتحكم في طاقة ألفي فرد. كان صعبًا عليه ألا يرصد موقعها.
«...فهمت، إذن هكذا "يُخفيها".»
تحدث ستيل بهدوء، متلاعبًا بسيجارته مستريحًا.
إخفاء شيء على "وجه العملة" يعادل الدفاع المطلق ضد "ظهر العملة"، لأن أولئك الذين علىٰ "ظهر العملة" لا يمكنهم حتى تمزيق شريط هدية عيد الميلاد إذا كانت موجود على "وجه العملة".
فمثلٌ مثال، إخفاء النواة وراء جدرانٍ عادية سيعادل حصنًا لا يخترق.
حتى لو وجد السّٰاحِر العدو المكان، طالما لم يمس النواة، فلا خوف عليها.
«ومع ذلك، هذا فقط إذا استطاع تغطيتها تمامًا.»
زَفَرَ ستيل الدخان بلا اهتمام. كانت نيرانه عديمة الشكل. فلو كان هناك مثلاً ثقبٌ أصغر من ملليمتر واحد ناتج عن تشوه طفيف في الجدار أو النافذة، فإن أدخال النار ذي الحرارة 3000 درجة مئوية من خلالها سيكون سهلاً.
المنطق المعتاد على "وجه العملة" لن يعمل على "ظهر العملة". إذا أراد أن يحمي شيئاً بالكامل، فعليه وضعه داخل كيس فينيل أو شيء مثله ويربطه ربطةٌ معقدة.
وبالتالي، قرر ستيل أنه سيُدمر النواة وإن لم يراها.
نتيجةً لذلك، يبدو أنه تمكن من إيقاف النسخة الغريغورية.
«...ولكن،» قال لنفسه محركًا السيجارة في زاوية فمه. «أهذا مَخرجُه؟ لقد فَسَدْتَ حقًا أيها الخيميائي منذ آخر مرةٍ لقَيتُك. يجب أن تخلق مخرجك بسفك دمك، لا بدمٍ الآخرين.»
اختلفت دوائر الأسابر والسحرة. إذا أجبرت إسبرًا على استخدام السِحر، فإن الطاقة ستندلع، ممزقةً أوعية دَمِهم وأعصابهم إلىٰ قطع.
وفي الواقع حتى في هذا الممر، حتى عند قدميه، رأىٰ العديد من الطلاب المنهارين على الأرض. بعضهم ما زال يتحرك، وبعضهم ما عاد يقدر. وكذلك اِشتمّ رائحة كثيفة ومعدنية تتطاير نحوه من مكانٍ ما. إذا لَمَحَ أحد الغرف حوله، فمن المؤكد أنه سيجد جحيمًا عشر مراتٍ أسوأ.
فوجئ ستيل بأن كلماته أشارت إلى الشباب.
كأن فيه أجزاء إنسانية ظلت وتبقّت.
...هل أعداني؟
تذكر ستيل وجه إسبرٍ مُعَيّن وعَبَس.
ثم التقطت أُذُنَيهِ أصوت خطىً واضحة من قِبال الممر.
ما كانوا في عجلة، وما حاولوا أن يتخفوا. ولم يُخفوا شرّهُم، ومع ذلك ما بدا عليهم نيّة اغتيال بضربةٍ واحدة مؤكدة من الظلال.
إذا كان عليه أن يصفها، فكان كغريـمٍ يطرق باب بيته قبل الهجوم. تجسدت رائحة الجرأة والثقة المطلقة في انتصارٍ مؤكدٍ كامل، كان إعلان حرب وبيان انتصار.
صاحب الخُطىٰ تحدّث.
«كان حتميًا. مهما اختبأت وأين، آمنتُ أنني جاذبك للخروج إلىٰ النواة باستخدام النسخة الغريغورية.» وأكمل صاحب الخطى. «واضحٌ نعم. كنتما اثنين... أين صاحبك؟ جَليٌّ نعم. ألربما ابتلعته النسخة الغريغورية؟»
«لو اُبتُلِعَ، فهذا عبءٌ زاحَ عن كتفي،» غنّى ستيل ردّه. «لكن للأسف، فهو عزيمٌ على البقاء أكثر مما تتخيل. وليس لطيفًا كفاية حتى يُطلق عليه اسم صاحب.»
توقف صاحب الخطى على بعد حوالي عشرة أمتار في الممر منه.
ابتسم ستيل مرة. ثم تركز مباشرة أمامه.
تلك العيون لم تكن تبتسم أبدًا.
هوية الخُطىٰ كانت زوج نعلين من الأحذية الجلدية إيطاليةُ المصنع. وكانت الأرجل الطويلة الممتدة منها والبدن النحيف الذي بلغ المترين كُلٌّ منهما مُزَيّنٌ ببدلة بيضاء نقية باهظة الثمن.
جنسه كان ذكرًا، وعمره بلغ ثمانية عشر، واسمه كان أَوْريولُس.
لون شعره كان أخضر. اللون المصبوغ كان رمزيًا يُمَثل الأرض، واحدة من العناصر الخمسة التي يُسيطر عليها. شعره المصفف إلى الوراء كان الشيء الوحيد الذي أبرز الرجل، وكذلك كانت بشرته وملابسه بيضاء.
كان لباسه مبهرجًا بما يكفي ليكون هدفاً للسخرية. ومع ذلك، تحوّل إلىٰ شيءٍ طبيعيٍّ ومتُقبّل بفضل الجمال ثنائي الجنس الذي امتلكه الرجل.
«على أي حال، ما الذي يُحاول الرجل الذي لا يُتخصص في القتال أن يستدرجني إلى هنا؟ ألا تعلم أنك لن تستطيع حتى إبطائي؟ أم هل تخفي عشرات العناصر السحرية هنا اليوم يا تاجر الغرائب؟»
«...»
بدا أن تلك الكلمات محرمةٌ لأَوْريولُس.
لم يتخصص الخيميائيون في القتالات في المقام الأول. لكي يقف أحدهم على الخطوط الأمامية، يجب أن يُقوي نفسه بالأسلحة أو الأغراض الروحانية. كان على أَوْريولُس استخدام العشرات، إن لم يكن المئات من العناصر السحرية ليتمكن في النهاية من الوقوف وجهًا لوجه ضد ستيل.
«هذا غير صحيح. ألم تُميّز حتى الآن يا مهاجم أنني لا أحمل أيّ عنصرٍ سحري؟»
«سأراهن. ففي آخر الأمر، هذا المبنى ملاذٌ بحدِّ ذاته. إنها أداةٌ سحريةٌ عملاقة. البيئة تُعززك من نفسها، لذا لا داعي لك حتى أن تتعب نفسك وتُقوّي وتُعزّز. همف. فماذا؟ ما الذي تريد فعله؟ حتى لو بقيتَ صامِتًا، سيُقاتل الملاذ من نفسه لأجلك. فقط استعر قوته وتخلص من الأطراف المزعجة. فما الذي جئت له هنا؟ أو أقول، ماذا تستطيع بمجيئك؟»
«أيا كلب!»
«وجهك يفضح وأخبر أن كلامي غزّك [4] غَلَطاً، لكن للأسف، ما لي حاجةٌ فيك، فابتعد. أسلوبك الأبَويّ يُزعجني إلى حدٍّ ما، لكن لا هدف من اللوم عليك، أليس كذلك؟ فقد كان الملاذ هو الذي ارتكب تلك الخطيئة. لذا سيكون قاسيًا أن نُلزمك القصاص، أليس كذلك؟»
«أيها البغيض الحقير—!!»
بحركة تشبه حيّةً تتلوى من حفرة، قفز سيفٌ ذهبي من كُمِّ بدلة أَوْريولُس.
رأسٌ سَهَم...؟
ضيّق ستيل حاجبيه. رأىٰها تتشكل بالتأكيد كرأس سهم، لكنها كانت بحجم سكينٍ صغير. وما إن استنتج أنه سلاحٌ مخفي مُصمَّمٌ للرمي...
«لِمِن—»
ارتفعت يد أَوْريولُس اليُمنى. لَمَحَ حافة السيف وجه ستيل كثعبان يرفع رأسه.
«—ماڠنا!!»
في لحظة، طار الشيء مهاجمًا ستيل، طار مستقيمًا كالرصاص، مستهدفاً مباشرة عينيه.
«...؟!»
السبب الوحيد الذي جعله قادرًا على لفِّ جسده فوراً وتجنبه كان لأنه افترض أنه سلاح يُرمىٰ بلمحةٍ سابقة. لو حسبها مجرد سكين، لاخترقت جمجمته.
بالمثل، رأىٰ سلسلةً ذهبية مُتّصلة بذيل رأس السهم العملاق.
وبينما اِلتف، نظر إلى حيث اتجه السكين. الآن أشبه بثعبانٍ ذهبي عملاق. كانت السلسلة تخرج من كُمّ بدلة أَوْريولُس، قاطعةً الهواء، ومارة قِبَلَ وجهِ ستيل مباشرة.
بصوت تقطيع فاكهة، انغمس طرف رأس السهم في ظهر طالبٍ واقع.
...
قبل أن يتمكن ستيل من التفكير في شيء ما...
«....؟!»
تفرقع، كأنه أدخل السكين في بالون ماء، تحوّل جسد الطالب إلى سائلٍ وتفرقع.
بدا وكأن الجسم قد ذاب بمحلولٍ حمضي قوي، لكن لا، هذا لم يكن سائلاً عاديًا وحسب. لَمَعَ بلَوْنٍ ذهبي — ما كان إلا ذَهبًا نقيًا مصهور.
لُفّت السلسلة نفسها سريعًا، ورقص رأس السهم مرة ثانية داخِلاً كُمّ أَوْريولُس.
«كان طبيعيًا. أخبرني بما فاجئك.» رفع أَوْريولُس يمناهُ مرة أخرى. «موقفي هو موقف أستاذ الخيمياء. إياكَ وادّعاء الجهل بأصل اسمي.»
لم يستطع ستيل الرد.
التقنية التي ترمز إلىٰ الخيمياء، تحويل الرصاص إلىٰ ذَهَب، كانت تحدث أمامه. لكن حتى لو استعنت بموادٍ حديثة لمثل هذه التقنية الضخمة، ستكلفك قرابة السبعة مليارات ين ياباني ولاحْتجتَ إلىٰ أكثر من ثلاث سنوات لتنفيذها. كانت حقًا هرطقةً سحرية.
ولكن أمام عينيه، أنجحها أَوْريولُس في لمح البصر.
كانت أسرع من ما رأىٰ – لا، كانت سُرعةً إلهية، كسجلٍ لا يُمكن لأحد كسره أبدا.
«خيميائيتي الفورية، تقنيتي اللِمِن ماڠنا، تُحَوّل تلقائيًا أيّاً من يَلمِسُها ولو بشكلٍ طفيف إلىٰ ذهبٍ نقيٍّ في لمح البصر. كل الدفاعات سقيمة، وأيُّ هروبٍ مُستحيل. فهيّا أخرج سلاحك إنوكينتوس، يا حقير. فنفسي طمّاعة وتريد أن تعرف ما إذا أمكنني تحويل ذاك التجسيد الناري اللاشكلي.»
ظهر الشفرة الذهبية من كُمّ بدلة الخيميائي كثعبان.
«...»
ومع ذلك، لم يَرُد ستيل.
وقف هناك متجمدًا في مكانه، كما لو كان قد صمت من قبل ما حدث للتو.
«همم. حتميٌّ قلتُ؛ أراك مندهشٌ من سلاحي لِمِن ماڠنا، لكن لا تُنهِها هنا. لم أشبع من بعد. عشرة آلاف قتلة لن تُشترىٰ جزاء موقفك قبل 5 ثوانٍ، أيا كلب.»
«...ألا أكون مندهشاً؟ حسنا، هذا مستحيل»، تمتم ستيل ماغنوس مذهولًا، كطفلٍ رأى شبحًا للتو. «لما بحق السماء تدخل أمرًا لا يُغنيك؟»
«ما...؟» توقف الخيميائي عن الحركة.
«من ماذا تتفاجئ؟ أليس السحر عمليةً تستغرق في التجربة، وليس في النتائج؟ همم. فمثلاً، لنقل أن هناك حِرفيًا يخلُقُ دواءً في خمس ثوانٍ، ولكن تأثيرات ذلك الدواء معدومة.» أنهىٰ ستيل ساخراً. «هذا ما تفعله. لِمِن ماڠنا؟ مثل هذا الشيء يُثير في النفس شفقة. إن ما أقصده هو، ما الفرق بين تأثير هذا وعن حمضٍ قوي يُذَوب الإنسان؟»
«...إنها حتمية.»
«أُدرك أنك بذلت جهدًا لا يُستهان، لكن استدعاء إنوكينتوس في مثل هذا الموقف لكان على الأغلب تنمراً للضعفاء. علاوة على ذلك، فهو في البيت. ما من داعي أن أزعجه في أمرٍ كهذا.»
«...إنها حتمية. لا تُضحكني!»
كأنه يمسح صوت ستيل المُزْدَري، أطلق أَوْريولُس [لِمِن ماڠنا] من كُمّه الأيمن. كان صراخه في حد ذاته مصدر القوة التي أطلقها. تحولت إلى شعاعٍ ليزري ذهبي وتركت صورة لاحقة وراءها حيث كان انفجارها سريعًا للغاية. قد يكون ساحرًا، ولكن ستيل لا يزال بشراً. لن يقدر متابعة عاصفةٍ من الرصاص أبدًا. وصلت إلى عشر رصاصات في الثانية. نتيجةً لذلك، اخترقته ست من كل عشر رصاصات في كل جهة، من وجهه إلى كاحليه، كإبرة آلة خياطة.
تطايرت بطاقاته الرونية وانثنت في الهواء.
لكن...
«وما هذا؟ ألا تدرك أنك لست إلا أحد الأدوات السحرية بنفسك؟»
علىٰ أن أعلىٰ جسده امتلئ بالثقوب، وعلىٰ أن ثقباً بحجم ذراع اخترق وجهه، إلّا أنّ ساحر الرونات واللهب استمر في الحديث كأنه مَلول.
«ما...هذا؟»
وهو مصدوم، أطلق أَوْريولُس لِمن ماڠنا آخر. طلقاته القاطعة، بمعدل عشر طلقات في الثانية، نحتت بعدوانية ليس فقط أعلىٰ جسد ستيل الممزق بالفعل ولكن أيضًا أسفل جسده الذي حَمَله.
لكن...
«نعم، استخدام كُتلةٍ طلسمانية (تيليزما) لخلق صليبٍ سِلتي للتركيز هي بحقٍ نموذج غامض. هي مناسبة بالتأكيد لأسقفٍ كاثوليكي روماني سابق. لكن الذي أبحثُ عنه هو أَوْريولُس إزارد. لذا آسف، لكن هل لكِ أيتها الدمية أَوْريولُس الابتعاد؟»
ترَدّد شكل ستيل. صار جسده الآن شفافًا كفايةً ليبدو وكأنه سيختفي في أي لحظة، ولكن رغم ذلك، لا يزال واقفًا.
«ماذا تعني؟ إنه طبيعي. سأدحض حُجَّتك، بداية من فرضيتها. وهو جَليٌّ؛ تقنية اللِمِن ماڠنا هي خيميائيتي، وهي واحدة طَوَّرتُها. وهو بَيِّنٌ؛ إن لم تكن كذلك، فماذا تقول عن مصدر قوتي؟»
«أَوْريولُس إزارد الحقيقي، بالطبع. وأحسبُ أنه وقت أن تعي بنفسك أن في الأمر خطبًا. حسنًا، لا للأمر أهمية. إذن أوجه لك سؤالًا، أيتها الدمية أَوْريولُس. ما دافعك تحديدًا لدراسة الخيمياء؟»
«...هذا بسيط.» أعَدَّ أَوْريولُس لِمِن ماڠنا. «غاية الخيمياء ليست سوى التحقيق في الحقيقة. تخصصي في البشر، فأسأل: ما الدرجة التي يمكن للإنسان صعودها بحفاظه على شكله الآدمي؟ هذا البحث هو قادني لطَرقِ أبواب هذه المدرسة.»
لو قرر أحدٌ أن يدهن جسده بنبات البلادونا، فسيتمكن من رفع قدراته في بناء التعزيم وسرعته في التعويذ [5] بعدة درجات مقابل التدمير. لأمكنه حتى العيش لآلاف السنين ولو دَفَنَ نفسه في الثلج الدائم في القارة القطبية الجنوبية.
لكن، سَعي أَوْريولُس للخيمياء ليس وسيلةً لتجاوز الحدود بالتخلي عن إنسانيته، بل للبحث عن مدىٰ صعود الإنسان مع الحفاظ على شكله وكرامته الآدمية.
أَوْريولُس كان من ذرية باراسِلسُس، الطبيبُ السِّحري. جعل ذلك هدفه الرئيسي وارتداه مُفتخِراً.
ولكن السّٰاحِر قد دَمَّر كل ذلك إلى شتات بكلماته التالية:
«إذن لماذا تحاول التواصل مع شيءٍ غير إنساني كمصاصي الدماء؟»
«...»
«همف. اترىٰ، أنتَ لا تعرف. لا تعرف شيئًا. حقّاً لا تعرف شيئًا—ما يفعله أَوْريولُس إزارد أو ما يحاوله أَوْريولُس إزارد. لستَ إلا دُميةً زُوِّدَت بالبيانات مسبقاً. فمستحيلٌ عليك أن تدرك الخطب الذي جعل الحقيقي ينحرف عن معتقداته.»
إن لم يعرف أيّ شيء، فكيف عساه يقول عن نفسه أنه أَوْريولُس إزارد؟
يَجب أن يكون مُتدمِّراً تمامًا ومليئاً بالثقوب، ولكن لسبب ما، أكّد السّٰاحِر كلامه كما لو أنه قد هزم الخيميائي.
«وتلك اللِمن ماڠنا. على الرغم من أنها تجربة سحرية لأدائك البحثي، فإن أَوْريولُس إزارد لن يتفاخر بالتجربة نفسها بدل النتائج. تناول الدواء يُزيل البرد، ولكن وحدهم للأطفال من يفرحوا بذلك، أليس كذلك؟ أليس من واجب الخيميائي أن يبحث في أي المكونات داخل الدواء الذؤ شفى من البرد؟»
«أغ، أه...»
إذا أراد الإنكار، لأمكنه ذلك في أي وقت.
لكن أوريولوس، في هذه اللحظة، ارتكب الخطأ بالاستماع إليه. تراكبت كلمات السّٰاحِر تمامًا في عقله كقطع أُحجية، فوَجَد نفسه غير قادر على تجاهلها.
«لذا سأقولها قدرما أحتاج، أيتها الدمية. الذي أريد محاسبته هو أَوْريولُس إزارد، ليس أنتِ. سيكون سهلاً تحطيم جهازٍ أو اثنين من أجهزته الدفاعية، ولكن أن أفعلها لشيءٍ يحمل نفس وجه أحدٍ أعرفه قد يُزعجني. فهيّا أسمح لك بالمغادرة، فعجِّل واذهب.»
لم تعد الدمية أَوْريولُس قادرةً على تحمل هذا.
في هذه النقطة، لم تعد تهتم حتى ما إذا كانت مزيفة. لقد اكتسبت أخيرًا هذه الورقة الرابحة الوحيدة بهذه الطريقة، وحتى هذه مستعارة؟ هذا ما لم يقدر تحمله.
أعَدَّ شفرة اللِمِن ماڠنا ليمحو العدو قِبَلَه عن وجه الأرض...
«وبجانب ذلك، أنت تفهم فعلاً، أليس كذلك؟ تعلم أن الخيميائي أَوْريولُس إزارد ليس ضعيفاً يخسر بهذه السهولة.»
سمع صوتاً خلفه.
في تلك اللحظة، شعر أَوْريولُس المزيف بهواءٍ دافئ كهواء المدفأة يلامس خده. فجأة، ظهر ستيل ماغنوس من لا مكان.
سراب...؟!
حاوَلَ أَوْريولُس على الفور التراجع.
السراب هي ظاهرة تُسَخّن فيها الهواء وتُوَسِّعُه، مما تُغير معامل انكساره. من الممكن أن تُخبّئ نفسك كأنك تذوب في الهواء، والعكس صحيح، حتى تظهر في مكانٍ لا يوجد به شيء، كصورةٍ تظهر على الشاشة.
الذي كان تحت رحمة لِمِن ماڠنا طوال الوقت كان سرابًا. الحقيقي كان قد ذاب في الهواء مختبئاً وقد راحَ خلف أَوْريولُس الدمية.
في ذلك الوقت، رأىٰ تمامًا تكتيك ستيل.
لو حافظ على مسافة مناسبة، لكان قادرًا على تجنب الهجوم.
ومع ذلك...
هذا الوهم الكاذب الذي حاز علىٰ لِمِن ماڠنا. كان خطأه أن يشعر بالعطف تجاه هذا الكائن، وإن كانت لحظة، كان خطأً.
الفجوات الفارغة في عمليات تفكير الإنسان تترك ثغراتٍ قاتلة.
عندما استعاد أَوْريولُس وَعْيهُ أخيرًا، كان ستيل قد أنشأ سيفاً من اللهب في يُمناه. ليس ذلك فقط، بل قد ضربه فيه مباشرةً قاطعًا ذراعه وساقه اليسرى معًا.
حركته السلسلة قطعت لحمه كما يقطع السيف الزَبَد.
بلهبٍ تبلغ حرارته ثلاثة آلاف درجة مئوية، تكربنت سطح بشرته. لم يمكنه حتى النزيف.
«آه، غغ...»
لكن شيئًا آخر غير الألم الجسدي كان يُهَيْمِنُ على عقل أَوْريولُس.
«وبجانب ذلك، أنت تفهم فعلاً، أليس كذلك؟ تعلم أن الخيميائي أَوْريولُس إزارد ليس ضعيفاً يخسر بهذه السهولة.»
أرجفت كلمات السّٰاحِر عقله كصدىٰ جرسٍ عملاق ضرب رأسه. نعم. هكذا كان يجب. كان أن يكون أَوْريولُس إزارد مطلقًا، كان أن يكون حصيناً، كان أن يفوز دائمًا، كان أن يهزم أعداءه تمامًا، كان ألا يعرف شيئًا عن الفرار، كان أن يكون خاليًا من مفهوم الهرب—كان أن يكون قديسًا مثاليًا غالِبًا.
فما كان هذا المشهد القبيح؟
كان هذا جُبنًا. يختبئ وراء عدد لا يحصى من الأدوات، مُرتعدًا كل مرة يوخز فيها.
«أ-هاآآآآآآآآآآآآآآآآهههه!»
فقدت الدمية أوريولس كل عقلانيتها.
بينما كان فاقدًا لذراعٍ وساق، أطلق أَوْريولُس الدمية لِمِن ماڠنا.
«؟!»
أعَدّ ستيل سيفه اللهب للدفاع ضد السهم الذهبي. ومع ذلك، انطلقت لِمِن ماڠنا في اتجاهٍ غير متوقع واخترقت الطلاب المنهارين حولهم واحدًا تلو الآخر.
انغمر الممر كله بحِمَمٍ ذهبية.
أخذ أَوْريولُس لِمِن ماڠنا وطعن الذهب النقي المذاب مرة ثانية، ثم أسرف يُلَوِّح به من هناك. كما لو أنه استطاع أيضًا التحكم بالذهب، فإن السائل انتقل من بِركتِهِ الفردية بالقوة المركزية وتطاير في جميع الاتجاهات لاحِقاً السهم، تمامًا كما يجذب المغناطيس الحبيبات الحديدية.
بالطبع، شَمَلَ ذلك المكان الذي وَقَفَ فيه ستَيْل ماغنوس.
«تشه!!»
أزاح السائل الذهبي المتطاير نحو وجهه عفويًا. في نفس الوقت، جعل سيفه اللهب ينفجر. كانت مئات قطرات الذهب النقية كثيرة جدًا ليتخلص منها واحدًا واحدًا، ولكن قوة الانفجار طردتها جميعًا.
قطع خلال الدخان الذي حجب محيطه بسيف لهبٍ جديد أنشأه.
لكن أَوْريولُس الدمية ما كان موجودًا في مرمىٰ البصر—قد هرب، على الأرجح، مستفيدًا من الانفجار. فكر ستيل في مطاردته لكنه تخلى عن ذلك لحظةً لاحقة.
ذلك لأن حِمَمَ الذهب التي قد أزاحها بسهولة كانت ممتدّة عبر الممر أمامه مثل بركةٍ من الحمم. ما كان إلا حوالي خمسة أمتار، لكنه سيُحرق إذا أخطأ القفز.
بدا أن خياره الوحيد هو العثور على دربٍ آخر. من حظّهِ، كانت مدرسة ميساوا مكونة من أربع مبانٍ، كُلٌّ منها متصل بممرات علوية. ما من مكانٍ لا يصل إليه ولو سَلَكَ طريقاً طويل، فكّر ستيل لنفسه بهدوء.
الجزء 7
«منظرها سيئ لا أكثر. جروحها ليست عميقة. هي بخير طالما عالجناها،» كما قالت ديب بلود –هيميغامي آيسا– بهدوء لكاميجو بعدما سحب طالبة مدرسة ميساوا –فتاة النظارات والضفائر– عبر الممر معه.
«لـ-لكنها مغطاة بالدماء بالكامل!»
صرخ قبل أن يفكر، مُحدقاً في الفتاة المستلقية على أرض الممر. لم يعرف من أي مدرسة كان لباسها الصيفي يرجع، حيث غطته دماء قرمزية. على وجهها وذراعيها وأجزاء أخرى، كان الجلد مرئيًا؛ حتى أن هناك أماكن تمزق فيها الجلد وتعلق بها مثل كيسٍ بلاستيكي.
«تَمَزُّقُ جِلدها ألحق الضرر بشعيراتها الدموية وحسب. لو تمزق شريان، لكان الوضع أسوأ بكثير. لخرج الدم كالنافورة حينها.»
«ما...كيف لكِ أن—»
ليست بطبيبة حتى — لا، حتى الأطباء لن يعرفوا هذا بدون فحصٍ دقيق. فكيف يمكنها أن تُعلن كل هذا بسهولة؟
«لي عِلمٌ بتدفق الدم أكثر من غيري.»
كان كاميجو مذهولًا. وتذكر فجأة اسم قدرة هيميغامي آيسا.
«عاونّي.»
لكن هيميغامي آيسا لم تلاحظ حتى. لأجل العناية بجروحها، بدأت هيميغامي فجأة تزيل ملابس الفتاة، أمام كاميجو، الذكر.
«وواه، تمهلي—»
«اهدئ. هذا مُهين للمصاب.»
لم يقصدها هكذا، ولكن عندما فكر بهدوء، استنتج أن التطلع في جسد الفتاة العاري كان عيبًا وقلة حياء في هذا الوضع. لطُرِد الطبيب فورًا إذا تحَمّس في غرفة العمليات.
كانت أفعالها التالية حقّاً من عَمَلِ طبيب، أو مستجيب طارئ. أوقفت هيميغامي النزيف بدقة بمنديل. بالنسبة للنزيف في معصم الفتاة الذي لم يبدو أنه سيتوقف بضغط قطعة قماش عليه، استخدمت حزام بنطال كاميجو لتقييد ذراعها بالكامل وقطع تدفق الدم من شريانها تمامًا. وبشكلٍ لا يصدق، استخدمت شعر الفتاة المصابة وإبرة من مجموعة خياطة لتُخيّط جرح بطنها الممزق.
لم يستطع كاميجو فعل الكثير. كل ما فعله كان رفع ذراعي الفتاة المصابة لأعلىٰ قلبها أو الضغط بالمنديل على جرحها، طبعًا بتعليماتٍ من هيميغامي. كانت يداه مغطتان بالدماء فقط من ذلك. أعطاه شعورًا غريبًا عندما فكر في أن هذا الدم من أحدٍ يحاول إنقاذه، وليس من أحدٍ يؤذيه.
«انتهينا الآن.» أعلنت هيميغامي، دون أن تولي اهتمامًا لحقيقة أن ملابسها عذراء الضريح تغطت بالدماء. «أوقفنا النزيف. سيتخثر دمها في غضون خمسة عشر دقيقة. ستُغلق جروحها. ولكن التعقيم لم يكتمل. ستكون بخير لحوالي ساعتين. وأنصح بجلبها إلى المستشفى لمزيد من العلاج.»
«...»
مرة أخرى، نظر كاميجو إلى الفتاة المصابة المستلقية على جانبها. كانت تقريبًا في نفس عمر كاميجو، لكن جسدها، وربما قلبها أيضًا، قد تمزق إلى هذا الحد غير المتصور.
الفرح بحقيقة أنهم أنقذوا حياتها لم يكن خطأ، ولكن...
لم يتمكنوا من تجنب حقيقة أنها فقدت كل شيء آخر.
«قد فعلنا ما نستطيع، لذا الآن...علينا أن نترك الأمر لتقنيات مدينة الأكاديمية»
أدلىٰ كاميجو بهذا التصريح، ناظرًا إلىٰ وجه الفتاة. كان الجلد الممزق يتدلى منه مثل الفينيل الممزق داخليًا.
«الجراحة التجميلية ستفي. ستشفىٰ إذا استخدموا الجلد من أردافها.» [6]
«...»
حسنًا، لقد أعطت هيميغامي آيسا إجابة بناءً على الطب الحديث وحده، لكن كاميجو لم يكن موافقًا تمامًا علىٰ أن يكون جلد أردافها وجهها.
«على أي حال، كانت تلك مهارةً حقًا منكِ. أأنتِ طبيبة مشهورة دون رخصة أو شيء كهذا؟»
«لست بطبيبة.»
قبل أن يتمكن كاميجو من السؤال، "إذن ما أنتِ؟" قالت:
«أنا فتاةٌ سحرية.»
«...» كأنني سمعت هذا من قبل؟ فكر كاميجو. ولكن كان صحيحًا أنها أنقذت الفتاة المصابة، لذا كبح نفسه وحاول أن يتماشى معها. «أي جزءٍ منكِ فتاة سحرية؟»
«معي عصا سحرية.»
«هَه...هااا! أليست هذه عصا ليلية بها مسدس صعق مدفون داخلها؟!»
«صُنِعت من مادة جديدة.»
«لا، لا، لا! لا تستهبلي علي!!»
صرخ كاميجو بغباء قبل أن يدرك أخيرًا شيئًا بعد لحظة.
الفتاة المصابة أمامهم شُفيت إلى حدّ يمكنهم من أن يرفعوا عنها نظرهم.
تراخى.
كان أمرًا بسيطًا جدًا، لكنه أشعر كاميجو بأن القوة قد انسحبت من جسده كاملاً. كان شعورًا جيّدًا. جيّدًا لدرجة أنه تساءل لماذا لم يبكي.
لقد مات الناس. وربما مات الكثير في أماكن لم يَرَها. من بين كل واحد أو اثنين أنقذوهم، كانت فكوك الجحيم مفتوحة بلا شك منتظرةً أضعاف هذا العدد.
ومع ذلك... ينبغي أن يكون من المقبول الشعور بالفخر لإنقاذ نفسٍ واحدة فقط.
«حسنًا، إذن...»
بغض النظر عن الوضع، لا يمكنه ترك هذه الفتاة تموت. قبل أن يفعل شيئًا بشأن مدرسة ميساوا وأَوْريولُس إزارد، يجب عليه أن يغادر للحظة ويستدعي سيارة إسعاف.
«أنا ذاهب. لا يمكنني ترك مُصابٍ في مكان كهذا. ومن المحتمل أن يكون من الأسهل انتظار سيارة الإسعاف في الخارج.»
«أوه. فكرة حسنة. هناك أكثر من مصاب. إذا أعددت سيارة إسعاف مسبقًا، فسوف نُقصر رحلتهم إلى المستشفى.»
«...لا تتحدثي وكأنها مشكلة أحدٍ آخر. ستغادرين معي!»
«مم؟» نظرت هيميغامي إلىٰ كاميجو، وقد ارتسم على محياها دهشة خالصة. أكان ذلك لأنها سُجِنت لفترة طويلة، حتى ربما ما عادت تُفكر في الهرب بعد الآن؟
«إيه. أقصد هو أنكِ لن تبقين محتجزة في مكانٍ كهذا بعد الآن. في الواقع، هذا هو سبب قدومي إلىٰ هنا في المقام الأول!»
لم تقل هيميغامي شيئًا.
وقفت فقط مدهوشة، وكأنها متفاجئة.
«ماذا؟ أقلت شيئًا غريب؟»
«مم...» قالت هيميغامي بهدوء، «...لماذا؟»
«لماذا؟ هل أحتاج سببًا لأنقذ أحدًا؟»
«...» مرة أخرى، تجمدت هيميغامي محتارة.
لكن هذه المرة، أمال وجهها للحُمرة—أم كان يرىٰ وهمًا غريبًا؟
«لكنني...»
حاولت هيميغامي آيسا قول شيء.
ولكن بعد ذلك قاطعها صوتُ شيءٍ زلق يُجَرّ عبر الأرض قادم من اتجاه الدرج. أنفاسٌ مُتقطِّعة أيضًا. لم يستطع سماع صوت، لكنه شعر بمشاعر سلبية كالكراهية والغضب من خلال أنفاسه، كأنها مسامير تُدق في أذنه إلى دماغه.
«تبّاً، تبّاً! ما هذا الحِمل؟ غير مقبول. لأن أحسب هذه المادة الخام تسحب قدمي... كِه-هِه، قدمي؟ هل أتيت لتسحبني من قدمي يا أَوْريولُس إزارد؟ ما عادت لي قدمٌ تسحبها! أه-هَه-هَه... إذا كان كُلٌّ منهم يسخر مني، فذلك حتميٌّ جَلي. سأذيبهم جميعًا...!!»
كان صوت رجلٍ فقد عقله. كان مزعجًا، كضوضاء راجعة ناتجة عن ارتفاعٍ شديدٍ في الصوت.
ثم فجأة. طع. بصوت ارتطامٍ يليه صوتٌ ساحب، خرج الرجل من مدخل الدرج إلى الممر.
«أُعع...»
ما كان لكاميجو شيء وهو عاجزٌ عن الكلام. كان رجلاً أجنبيًا ذو شعرٍ أخضر يرتدي بدلة بيضاء. ومع ذلك، كانت ذراعه وساقه اليسرى مفقودتين من المفصل، وقد أُدخِلَت أعمدةٌ ذهبية ملتوية في الجروح المفتوحة لتعمل أطرافاً اصطناعية. لابد أنه كان يعاني من ألمٍ شديد، ولكن لم يكن هناك أي علامة على المعاناة على وجه الرجل. كان الأمر كما لو أن بوابات الإندورفين والدوبامين قد فتحت في دماغه. كان يرتدي تعبيرًا رائعًا ودهنيًا، يمزج بين الغضب والنشوة والجنون، وكل ذلك يغلب به الألم.
يُمنى الرجل ويُسراه الاصطناعية المشوهة.
كانتا تمسكان برقاب ستة أولاد وبنات مُدْمين، [7] كما لو كان يحمل أكياس قمامة، ثلاثة في كل يد.
«ها، ما هذا؟» نظر الرجل إلىٰ كاميجو بعيون محتقنة بالدماء. «لما أنتَ هنا يا فتى؟ ينبغي أن يكون السحرة وحدهم هنا. أأنت دخيلٌ أيضًا؟ أأنت صاحب ساحر اللهب؟»
صرخ الرجل من على بعد ثلاثة أمتار، كما لو كان يبصق. ومع ذلك، لم يتحرك كاميجو.
«أنت...هؤلاء...»
«هو جَليٌّ. ليسوا إلا مواد. والخيمياء تتطلب مواد. فلماذا تنظر إلىٰ هذه المواد؟ هو غريبٌ نعم. أنت في مرمىٰ نظر الخيميائي أَوْريولُس إزارد ومعه لِمِن ماڠنا. إني مِثاليٌّ. فكيف لكَ الهدوء؟ هل أخطأتُ في شيء؟»
تراجع كاميجو عند سماع كلمة "أَوْريولُس إزارد".
لكن بجانبه، لم يتغير تعبير هيميغامي آيسا.
مع الذي كان يحتجزها—الخيميائي الذي كان يجب أن يكون رمزًا للرعب المرهب.
«محزِنٌ وَضعُه.» تحدثت، ووجهها لا يزال جامدًا تمامًا. «لو لم يدرك ذلك. لبقى على حاله أَوْريولُس إزارد.»
«غغ...؟! أ-أيا خسيسة!!» صرخت الدمية أَوْريولُس وخرج رأس سهمٍ ذهبي عملاق من كُمّ ذراعه اليُمنى. دار رأس السهم سريعًا حول الخيميائي، وامتدت السلسلة الذهبية المربوطة لتُشكل شيئًا يشبه الدرع—
—بينما تخترق الطلاب الملطخين بالدماء الذين كان أَوْريولُس يَحمِلُهُم.
رأس السهم الذهبي أذاب الطلاب الستة المخترقين في لحظة، وحَوّل أجسادهم إلى سائلٍ أصفر. لم يكن أيّ سائلٍ عادي. فقد كان يتميز ببريق معدني يُذكر بالزئبق ويطلق بخارًا حارقًا في الهواء بصوت هسهسة وحشية، مما يثبت أنه معدن مذاب بدرجات حرارة عالية.
«م...ما فعلته بحق؟! أتعي ما فعلته توّاً؟!»
ولكن. حتى أمام هذا المشهد، كان كاميجو توما ينظر فقط إلى الطلاب المُذابين.
ارتعش أَوْريولُس من حقيقة أن الفتى لم يلحظ حتى حركته القاتلة.
«هو جَليٌّ—الموت!»
بصرخةٍ دار رأس السهم والسلسلة بسرعة حول الخيميائي مرة ثانية. الوحل الذهبي المحيط به ارتفع في الهواء كما بفعل الرياح العاتية للإعصار.
كان جدارًا وتسومانيًا في آنٍ واحد. خلق موجة مَدّية تتفتح في جميع الاتجاهات وتصل إلى السقف، مع أَوْريولُس في المركز، كأنها نيزك سقط في البحر.
فجأة، في رؤيته الجانبية، رأى هيميغامي تتحرك.
انحنت على الأرض بدون صوت، ثم بدأت في التراجع وهي تحمل الفتاة المنهارة. كانت تتمايل بشكل غير مستقر، لكنها لم تكن في حالة ذعر. كان الأمر وكأنها تعرف أن التراجع لبضعة أمتار فقط سيجعلها خارج نطاق هجومه.
لحسن الحظ، كان المعدن المذاب أكثر لزوجة من السائل؛ كان أشبه بالشوكولاتة المذابة. أتاهُ انطباع بأنه لن ينتشر على الأرض كثيرًا إذا تحطمت الموجة.
تابع كاميجو هيميغامي التي كانت تحمل الفتاة، واتخذ خطوة للخلف.
لكن عندها، اخترق رأس السهم قلب التسونامي الذهبي، تاركًا وراءه حفرة دائرية تمامًا. اندفعت نحوه بقوةٍ مذهلة.
«...؟!»
أراد تجنبها، لكن جسده كان بالفعل في عملية تراجع. في هذه النقطة، لم يستطع استعادة موضِعِه. دربه الوحيد في التعامل مع الهجوم المُتجه مباشرة إلىٰ وسط وجهه كان باستخدام يده اليمنى للإمساك بها فورًا.
صدر صوت تمزق اللحم من داخل يده.
ما كان سهلاً القبض عليه حيث انسحب رأس السهم الذهبي مرة ثانية إلىٰ تسونامي الذهب. كانت يده اليمنى، المقطوعة إلى طبقتين، تُشعِرُ بالسخونة وكأن قطعة معدنية مطبوخة وُضعت عليها.
بعد لحظة، تفككت الموجة المَدّية واندفعت نحوه بشكل مفاجئ.
قفز للخلف وتدحرج عبر الأرض، وبطريقة ما تمكن من الهرب من بحر المعدن المحترق.
كان كاميجو وأَوْريولُس يفصلهما بحيرة ذهبية يبلغ طولها قرابة ثلاثة أمتار.
...تبّاً...لا أشعر بيدي—!
صرّ أسنانه الخلفية من الألم؛ قد كان صعبًا عليه أن يقبض أصابعه في قبضة. يمكنها إبطال معجزات الإله، لكنها لم تستطع حتى التنافس مع شفرة صغيرة.
«هذا...محبط. ما...هذا؟» واقفًا خلف ستارة التسونامي الذهبية، كان أَوْريولُس في الواقع أكثر ارتباكًا من كاميجو. لقد تجاوزت الحيرة إلى درجة الذهول.
تحطّم رأس السهم الذهبي في يد الرجل إلىٰ قطعٍ كقلعةٍ رملية تنهار.
لقد تفاعل مع الإماجين بريكر في يد كاميجو اليُمنى.
احتوىٰ رأس السهم الذهبي علىٰ نوعٍ من الخوارق، ولذلك تدمر من يُمنى كاميجو. الجرح الذي أصابه كان علىٰ الأرجح من لمس الشفرة قُبَيل دمارها.
«هذا مستحيل. ما تلك اليد اليمنى؟ يجب أن تكون حتمية. فلماذا لم تتحول؟ هو بَيِّنٌ. إنّ سلاحي لِمِن ماڠنا هو الشكل المثالي للعديد من أشكال الخيمياء. حتى مدارس بُوهِميّا وفِيينا تخلت عنه بصفته شيئاً ميؤوس، هو مُستحيل استيعابه. إذن فهذا غريب بالمرة. فأي محظورٍ هذا يرفض نظرياتي؟»
لِمِن...ماغنا...؟ فكّر كاميجو بغموض، متجهمًا من جرحه المفتوح الذي ينبض مع نبض. قال الخيميائي "تحوّل". هل كان يتحدث عن الحمم المعدنية الذهبية؟
«ها، يا للبهجة. هَه-هَه، يا للسرور! أثرت فيني الاهتمام أيها الفتى! ما الأسرار التي تخفيها داخل ذلك الجسد؟ دع هذا الطبيب السحري يفتح جسدك ويكشف ما فيك!»
لَوّح أَوْريولُس الدمية بيده اليمنى أفقيًا وأنتج رأس سهمٍ ذهبي جديد.
بعيون تتلألأ بالعداء، صَوَّب الخيميائي طَرَف الأداة بَين عيني كاميجو مباشرة.
ها هو آتي...؟! أعَدّ كاميجو فورًا يده اليمنى على وجهه؛ رأس السهم كان قد اقترب بالفعل من جبهته. اِستعد لضرب رأس السهم السميك على الفور، لكن ألمًا حادًا اخترق قبضته.
«تشه!»
في محاولة لتوجيه ضربة مضادة على الأقل، حاول إمساك السلسلة الذهبية، لكن قبل ذلك، تفاعلت مع يده اليمنى وتحطمت مثل زخرفة زجاجية.
ظهر قمة رأس سهم ذهبي آخر من كُم بدلة أَوْريولُس اليمنى.
قبل أن يتمكن كاميجو من التفكير في الهروب فورًا...
بدأ أَوْريولُس الدمية في إطلاق تيار مستمر من السيوف، كأن كُمّه رشاشٌ آلي.
كانت سريعة. الوقت الذي استغرقه أَوْريولُس في الإطلاق، وكسر رأس السهم، وتجهيز الطلقة التالية كان أقل من خُمس ثانية؛ كان من المستحيل على الإنسان مواكبتها. لكن كاميجو لم يستطع الفرار بلا مبالاة أيضًا. كان يعلم أن تحويل انتباهه لثانية مقسَّمة، ناهيك عن إعطاءه ظهره، سيعطي السهام الفرصة لخرق النقاط الحيوية في صدره ووجهه.
لحسن الحظ، كانت سرعتها جنونية ولكن مساراتها بسيطة. ما رأىٰ مسار الرماية السريعة إلا في خطٍّ مستقيم. كانت أسهل للقراءة مقارنة بملاكم يخلط لكماته الخطافية مع مستقيماته.
«غغ-غغآهاههه!!»
لذلك، ما كان لكاميجو بديل سوىٰ أن يستخدم يده اليمنى ليتخلص من رؤوس السهام، ولو عنى ذلك أنه سيُقطع. حَسْبَ ما رأىٰ من "التحويلات" السابقة، فإنه سيتحول إلى ذهب مذاب إذا استخدم أي شيء آخر غير يده اليمنى.
نتيجةً لذلك، لم يَلبث كاميجو حتى وَجَدَ نفسه محاطًا بأنقاض رؤوس السهام المكسورة والسلاسل. [8]
«هَهَهَه! يا للعينة الممتازة أنت. لستَ بلعنةٍ تبتلع السحر ولا مُجهَّزٌ برُمحِ لونجِنُس. أنتَ حقّاً تستخدم يديك العاريتين لسحق سلاحي اللِمِن ماڠنا!»
من ناحيةٍ أخرىٰ، كان أَوْريولُس يضحك من قاع روحه، دون أن يهتم بأنه لا يستطيع أن يمحو عدوه رغم محاولته ضربه بأفضل ضرباته عشر أو عشرين مرة. شعر بنفسه مُكتشِفاً قد وصل إلى أرضٍ لم تطئها قدم.
«ليس كافيًا. هَهَهَه! يا فتى، ما عندي هجماتٌ كافية لأقيس بها حدودك!»
بسحق واحد، تشكل آخر جديدا وسار صوب كاميجو سريعا. قطع الهواء، محاولًا اختراق جسده.
كانت يُمنى كاميجو مغطاة بالدم؛ لم يستطع حتى إغلاقها صحيحًا.
هذه...كارثة—!
لربما قطعت إصبعًا. سرت رعشة من الخوف ظهره، لكن السهم الذهبي تجاوز كاميجو بشكلٍ غير مُتوقع، وقد كان متأخرًا في التفاعل.
هل أخطأ أَوْريولُس؟ لا، لم يكن لديه تفاؤل من هذا القبيل.
كانت هيميڠامي آيسا تقف خلف كاميجو، وهي تحمل الفتاة المصابة.
«هيمي—»
اِلتفّ حولها فورًا وبدأ يصرخ لها، لكنه كان بطيئًا جدًا ليصد الرصاص المار. كان الرأس الذهبي بالفعل في مسار تصادم دقيق مع مركز جبين هيميڠامي. ينبغي أن تكون ديب بلود وجهة طموحات أَوْريولُس، لكن لابد أنه فقد قدرته على التفريق بين مَن ومَن في حالته الهلوسية.
رأىٰ وجه هيميڠامي آيسا أمامه، مستغربًا من شيء ما.
حاول كاميجو أن يُنادي...
رنّ في الآذان صوت رأس السهم الذهبي وهو يمزق اللحم.
«آىه—» جاء صوت أنينٍ ما. أكان من كاميجو نفسه؟ أم من أحدٍ آخر؟
حتى ذلك كان خارج نطاق فهمه –– هذا كان مدىٰ بشاعة وصدمة المشهد قِبَلَه.
لم يُصب رأس السهم الذهبي هيميڠامي آيسا.
الفتاة الممزقة التي كانت هيميڠامي تدعمها... بدا الأمر صعبًا لتلك الفتاة المصابة أن ترفع حتى إصبعًا، لكنها بادرت على الفور بمد يدها دفاعًا عن وجه هيميڠامي.
اخترق رأس السهم الذهبي عميقًا كف يدها الناعمة.
ومع ذلك، دقت الفتاة خفيفًا صدر هيميڠامي بيدها الأخرى دون أن تظهر أي علامة على الألم. ترددت عذراء الضريح قليلاً، ثم خَطَت بعيدًا عن الفتاة.
همست الفتاة شيئًا بصوت خفيض. كان ضعيفًا جدًا، ولم يستطع أن يعرف ما كانت تقول.
لكنها كانت تبتسم.
لم تكن ابتسامة لنفسها – كانت ابتسامة ضعيفة مصممة لتطمئن أحدًا آخر.
وهكذا، تحوَّلت الفتاة، التي لم يعرف اسمها حتى، إلىٰ ذهبٍ مُذاب.
في تلك اللحظة، صاح كاميجو.
لم يعرف حتى بماذا يصيح. صراخه كان كافيًا لتمزيق الفتحة في حَلقِه. سواء كان ذلك جيدًا أو سيئًا، توقف الخيميائي عما كان يفعله بدهشة واستغرق لحظةً إضافية ليُعيد لَفّ سلسلته الذهبية.
أمسكها كاميجو بيده.
نعم – ليس بيُمناه، بل بيُسراه.
أخبره حدسه بأن رأس السهم كان الجزء الوحيد الذي يُنفذ لِمِن ماغنا. لن تحمل السلسلة أيَّ قوّةٍ لتحويل الشيء ذهبًا. ولو كان، فلم يكن ليُطلق السهام مباشرة عليه—كان ليُلَوِّح بالسلسلة وحسب. ليُغطي هكذا مساحةً أكبر.
«اغغ...؟!»
بطبيعة الحال، حاول أَوْريولُس سحب السلسلة إلى يديه مرة أخرى. سحبها بشدة كلعبة جذب. بفعلٍ مجنون، دعس كاميجو علىٰ السلسلة المتوترة. [9]
وقد انجذب أَوْريولُس الدمية نحوه قليلاً.
وأمامه وَجَدَ ما صنعه—بحيرة الذهب المذابة!
«غراااههه!!»
أَوْريولُس كان قد خطى غصبًا في البركة الذهبية، وحاول على الفور الخروج. لكنه لم يستطع. صارت السلسلة قيّدًا يربطه، ولم تدعه يصعد.
صارخًا، مد السلسلة الطويلة المخبأة في بدلته أبعد أكثر. وفي ذلك الوقت، نجح أخيرًا في سحب قدمه من الحمم الذهبية. قد دفنت قدمه لثانيتين فقط. ومع ذلك، صارت قدمه اليمنى—الوحيدة السليمة—مُحترقة إلى حدٍّ كبير بحيث صار كل ما فوق الكاحل ينبعث منه دخان مُهسهس.
فك كاميجو السلسلة الذهبية من يده الملطخة بالدم. ربما أدرك أنها لم تعد تربطه.
أمِنَ الحكمة الفرار أم الهجوم؟
لقد كانت لحظة واحدة فقط، ولكن أَوْريولُس تردد—وفي تلك اللحظة، شاهد شيئًا لا يصدق.
خفض كاميجو جسمه قليلاً. كأنه يحاول القفز بأقصى ما تقدر ساقيه... ليعبر فوق البركة الذهبية، إلىٰ حيث الخيميائي.
لقد تخلىٰ عن السلسلة، لكن ذلك الفعل لم يكن له علاقة بكبحه من عدمه.
إنما تركها ليقبض قبضته ويلكم عدوه بأقسى ما يملك. لقد تخلىٰ عنها فقط لأنها ستعيق تلك الحركة.
ولكن مهما نظرت إليها، فإن ذلك سيكون مستحيلاً. خط مستقيم مرسوم عبر البركة سيكون بطول ثلاثة أمتار. لكان الأمر مختلفًا لو قد بدأ بالركض وقفز فوقها، لكنه لن يستطيع أبدًا تجاوزها بدون ذلك.
على الرغم من ذلك، لم تتردد عينا كاميجو.
كان كأنه يؤكد أنه حتى في حالة الفشل، حتى لو كان جسده على وشك أن يغرق في الحمم الذهبية ويحترق، فإنه سيقضي ما تبقى من وقته في تمزيق عدوه.
تنبه أَوْريولُس بأقصى درجات الذعر إلىٰ تلك المشاعر المكشوفة، المدفوعة لذروتها...
بلحظةٍ لاحقة، ودون تردد، قفز كاميجو في الهواء.
بينما بدا قفزه دماراً ذاتياً، لم يكن موجهًا نحو أَوْريولُس.
بل إلىٰ إطار نافذة في الممر، يدخل فيها ضوء مغيب الشمس...
وضع قدميه على ذلك الإطار الصغير وانطلق مباشرة نحوه!
«...!»
حاول أَوْريولُس الرد على الفور، لكن كاميجو قد قفز بالفعل من إطار النافذة، من أعلىٰ مكان، كأنه يسقط عليه.
أخبرته صرخات نجاته، صُدّه! فتوسلت إليه أكثر، أرمِهِ برأس سهمٍ ذهبي وذَوِّبه! فحاول الخيميائي فوريًا استهدافه بـ لِمِن ماغنا—ثم أدرك.
كاميجو توما قد قفز فوقه وكان على وشك السقوط عليه.
إذا رمىٰ عليه لِمِن ماغنا... ستمطر عليه حمم ذهبية مغليّة!
«ما أحبطك! أخطأت في فعلك...!!»
ما كان عنده وقت للمظاهر، أو بالكرامة، أو حتى بالحرق على قدمه.
تدحرج أَوْريولُس علىٰ الفور للوراء، مُتجنبًا هجوم كاميجو، فهرب.
شعر بالعار في إعطاء ظهره لشخصٍ عادي، ليس حتى بساحر. ومع ذلك، قد طغى ذلك شعور أكبر بالخوف.
هرب للآن، مُتعثراً على قدميه المشوهتين إلىٰ الظلام.
الجزء 8
تحرك أَوْريولُس الدمية ببطء عبر الممر الطويل والمديد الذي بدا لا ينتهي.
كان ما فعله الفتى الذي أمسك بـ لِمِن ماڠنا كافيًا لجعلها تفقد قوتها وتتحطم إلىٰ قطع. ولكن، ما كانت هذه بمشكلة. فرأس السهم الذهبي لم يكن سوى واجهة، جسم من الأثير المتصلب؛ فاللِمِن ماڠنا الفعلية كانت في حصن مدرسة ميساوا التحضيرية نفسها. حتى لو نفد مخزون الطاقة السحرية للواجهة، فإن القلعة ببساطة ستُزَوِّدها مرة ثانية وتُعِدُّ شكل الأثير من جديد.
وبالتالي، ما كان هذا السبب في هروب الدمية أَوْريولُس.
بل يد الفتى اليمنى. لم يستطع رؤية قاع قوتها. شعر وكأنه مهما صب الجسم الرئيسي الأثير إلىٰ الواجهة، فإنه سيأكلها كلها. إذا استمرت رؤوس السهام في التحطم تواليًا، أفلن تُستنزف القلعة من كل أثيرها في نقطةٍ ما؟ هكذا أصابه شعور الخطر القوي ظهره.
«اللعـ...ـنة...»
ومع ذلك، ما زالت الدمية أَوْريولُس تقتدِرُ التفكير. كلٌّ من ستيل وذلك الفتى، على الرغم من عدم فاعلية لِمِن ماڠنا ضدهما، كانا يتجنبان الحمم الذهبية نفسها.
«...مما يعني أن علي تحضير ما يكفي من الذهب حتى لا يقدروا تجنبه، وحتى لو علموا مقصدها. هاه، معي 1,982 مادةً للاستخدام. فهو جَليٌّ. ما من سببٍ لئلا يخسروا.»
مهما كانت فسيحة، كانوا لا يزالون داخل مبنى. لن يكون صعبًا غسل كمية كبيرة من الذهب من الطابق العلوي، مما يتسبب في ابتلاع الطوابق السفلية جميعًا بالتيار الطيني، تمامًا كأنه سَدٌّ ينكسر.
استمتع بتلك الصورة بتخيُّلها، يبدو أنه قادر على دفع مزاجه السيئ بعيدًا.
«هَهَه. تدميرٌ، تدمير! تدميرُ الدمار بالتدمير! نعم، لن أموت بعد. ديب بلود—نعم، مع وجود مثل هذه العينة البحثية الرائعة بين يدي، لا يمكنني أن أموت بالطبع! هَهَه، لا! ليس فقط ذلك—لا يزال هناك آلاف الأشخاص الذين يستحقون البحث، مختبئين في هذا العالم!! هَهَهَه، خسارة مؤلمة أن يموت ذلك الفتى قبل أن أكشف الحقيقة وراء أسرار جسده!»
لحسن الحظ، كان قد استدعى جميع الطلاب إلى "ظهر العملة". كل ما عليه القيام به الآن هو تجميع كل هذه المواد في مكانٍ واحد. سأثقبهم جميعًا مرة واحدة بعد ذلك، كما فكر قبل أن يدرك فجأة شيئًا ما. تدمرت نواة النسخة الغريغورية، التي كانت تُدير الطلاب، بنيران ستيل.
«يا ربي. أينما ذهبت، أرىٰ عقبة في الطريق...!»
صراخه اخترق الهواء كسيف مشتعل.
ولكن بعد ذلك، سمع خطى من خلفه، وكانت أصوات أقدام أكثر حدة حتى من صراخه.
«....!؟»
لو كان هناك من يراقب، لشاهد شكل ظهر أَوْريولُس الدمية يتقلص بوضوح في لمح البصر.
في الحالات العادية، يقول علم النفس البشري أن المرء سيزيح نظره عن شيء يخافه. بالطبع. لا أحد يريد أن يكون قريبًا من شيء غير مريح أو مؤلم، ولا يرغبون في قبوله. لذلك يحاولون تجاوزه، حتى يتجنبوا إدراجه في مجال رؤيتهم.
ومع ذلك، لن تسمح لهذه الخطوات حتى بأكثر الردود الفعل الفسيولوجية الطبيعية. قتلٌ عميق بالكاد سَكَنت فيها. إذا أعرض عينيه وأظهر الضعف لحظةً، فسينتهي مطافه مفككًا مِئة قطعة.
لذلك، كانت خيارات أَوْريولُس الوحيدة هي الالتفاف. أراد الهرب لحياته. لم يتحمل المزيد من الألم—ومع ذلك، كان مضطرًا للالتفاف كما لو أن أحدًا يتلاعب به كدمية.
هناك...هناك...
على بعد عشرة أمتار وَقَف كاميجو توما، كوحشٍ بريٍّ خرج من قفصه التجريبي.
«ما...هذا—؟»
لم يستطع أَوْريولُس فهمها. كان يعتقد أنه كان مثاليًا. لم يستطع أبدًا فهم إنسان بقوة كافية لصيده ودفعه إلى الزاوية هكذا.
ومع ذلك، كان كاميجو توما حقًا هناك.
«...كُفّى عن الهرب أيها اللعين.»
عبس أَوْريولُس الدمية على الكلمات التي خرجت من فم كاميجو —بدا صوته وكأنه ضُرِبَ بالمطر البارد، لن تعرف حتى أيهما كان المحاصر.
كان قد رأىٰ جحيمًا. كان قد رأىٰ أحدًا يموت أمامه، وكان يعلم أن الكثير من الناس في أماكن أخرىٰ قد ماتوا أيضًا. وعلى الرغم من ذلك، كان قادرًا على إنقاذ فتاةٍ واحدة مصابة وحسب. ومع ذلك، ذَوَّب هذا الخيميائي خلاصه الوحيد سريعًا، سرقه منه.
لكن كاميجو لم يتحدث عن أي من ذلك. نظر إلى العدو —إذا كان لديه الوقت ليقول شيئًا أكثر، فلديه الوقت ليفعل شيئاً أهم أولاً.
كان حقده فولاذ مشتعل.
«أاه.»
فوراً، أعَدّ لِمِن ماڠنا. ليس من رغبة في القتال ولكن خوفاً. للأسف، ردة فعله أعطت كاميجو الدفعة الأخيرة التي كان يحتاجها.
بصمتٍ، تفجّرت قدما كاميجو عن الأرض نحوه.
بوجهٍ يسوده الرعب والذعر، رمىٰ أَوْريولُس السهم الذهبي على الأقل لمنعه من التقدم. صَوّب الهجوم وجه الفتى، ولكن كاميجو جلب جسده إلى أسفل كالعنكبوت متجنباً إياه بسهولة. لم يتباطأ حتى في هذه العملية.
«؟!»
انتفخ ذعر أَوْريولُس أكبر فأكبر. ولكن حتى وأثناء تأثير الذعر على قدراته، كان لا يزال قادرًا على مواكبة وتشغيل ستة لِمِن ماڠنا في الثانية الواحدة. سحب بسهولة رأس السهم إلىٰ يديه ورمىٰ النيران بالثانية نحو وجه كاميجو المنحني.
كان قد نزل توّاً. ما من سبيلٍ له.
ولكن هذه المرة، ضرب بظهر يده اليمنى ليدفع جسم رأس السهم. تحطم كل منهما والسلسلة إلى قطع كما لو كانوا منحوتات جليد. كان هذا التدخل دقيقاً للغاية حتى بانَ وكأنه عَلِمَ من البداية قدوم رأس السهم.
قد خفض من جسمه غطاءً لجذب نار خصمه. بإظهار ثغرةٍ قاتلة كهذه، سيُضطر أَوْريولُس الدمية إلى الهجوم هنا. كان من الأسهل التعامل مع هجوم مباشر يعرف مساره بدل معارك الأزقة الخلفية المحظورة حيث لا يعرف كم من القبضات ستطير نحوه.
كانت بينهما عشرة أمتار. استند كاميجو في حركته البارعة على افتراض أنه لن يكون قادرًا على تقليص تلك المسافة عن طريق تجنب ضربة واحدة فقط. ولكن من ناحية أخرى، لم تكن المسافة بعيدة كفاية لئلا يقدر على الاقتراب بعد ضربتين!
«اغغ—»
وهو يتلوي بفُجائية، صرخ أَوْريولُس وحاول رمي النار مرة ثالثة. لكن قبل ذلك، هَبَطت يد كاميجو اليمنى بضربةٍ مباشرة على وجه الخيميائي. لم يكتفي كاميجو بعد. استمر، دافعًا جبهته بقوة إلى فك العدو الذي كان أطول منه برأس.
تعرض دماغ أَوْريولُس لضربة وانهار بلا حيلة على الأرض. حاول التدحرج ليتجنب ولو قليل، لكن كاميجو ما سمح بذلك. أسقط قدمه على رجل أَوْريولُس الذهبية المزيفة، ثم لَواها وفصلها.
بصوتٍ مثل سحق الفاكهة يتردد من الجرح المفتوح الذي تدخل فيه الذهب.
«غاااااااه!!»
صرخ أَوْريولُس الدمية متألمًا، ورمىٰ لِمِن ماڠنا على وجه كاميجو بينما حاول الفتى التسلق فوقه. لكن بشكل صادم، التقط السلسلة بيده اليسرى. لا ليكسرها—بل ليُمسِكها، دون أن يفكر حتى في إمكانية أن يتحول بنفسه إلىٰ ذهب مُذاب إذا أخطأ.
أرجح كاميجو يده اليسرى بها أكثر ولف السلسلة الذهبية حول ذراعه. بعدما منع تحرك لِمِن ماڠنا بالكامل، نظر إلى أَوْريولُس من فوق.
يا للدهشة... بهذه الوتيرة، سأُقتَل—
سرعان ما اتخذ أَوْريولُس قرارًا سريعًا. ترك السلسلة الذهبية المخبأة في كُمّه. كان كاميجو قد أوزن نفسه بتلك القوة المضادة، لذا ترنح قليلاً. استخدم أَوْريولُس هذه الثغرة ليتدحرج على الأرض ويهرب من تحته. كان عقله يصرخ. لم تتدمر اللِمن ماڠنا. كان قد تخلىٰ بإرادته عن دليل وجوده. تكاد هذه الحقيقة تسحق قلبه إلى قطع.
كان ينبغي أن يكون قادرًا على الحفاظ على حياته مقابل كل ما هو. لا—لن يكون عادلاً إذا لم يكن كذلك. لكنه لم يعد قادرًا على الحركة. الآن بعد أن انسحبت ساقه الذهبية المزيفة، أمكنه بالكاد المشي حتى.
«...»
وأثناء زحفه بعيدًا، جَلَدَهُ [10] كاميجو بسلسلة الذهب بكل عزمه كأنه سَوْط. أخرجت الضربة الثقيلة كل الهواء من رئتيه، وناح ونوى متألمًا على الأرض.
ظل كاميجو صامتًا.
دون كلمة، اقترب ووضع قدمه على ظهر أَوْريولُس. أخذ السلسلة الذهبية ولفها حول عنق صاحبها. كل ما كان عليه القيام به الآن هو سحب السلسلة، وسيخنق الخيميائي. سيكون من المستحيل كسر العظم بيده غير المُهيمنة.
لم يشعر كاميجو بأي شيء تجاه أفعاله. بل، لم يكن قادرًا على ذلك. كان عقله ساخنًا وفارغًا، وكأن الواقع نفسه يفقد ألوانه. ومع ذلك...
«سا...أغغ...أنـ...ـقذ...»
بهذه الكلمات، سُلب دماغ الفتى من كل حرارته كما لو تعرض لتيار ماء بارد.
عَرَف أنها رغبةٌ أنانية. كم من الناس قتلهم هذا؟ هذا السؤال أوداه إلىٰ خيارٍ واحدٍ فقط. حتى البطل الخيالي في أفلام الأطفال لن يشعر بأي نوع من التردد.
لكن أَوْريولُس كان يبكي، ووجهه تلطخ بالدموع.
عرف أنه لن يستطيع أبدًا الهروب، لكنه ما زال يبذل جهده ليمد يده ويحاول الزحف.
في ذلك الوقت، تذكر كاميجو – الفارس الذي تركوه في القاعة؛ الطلاب الذين انفجرت أجسادهم وهم يُرددون تعويذة ليصيروا جزءًا من جوقة غريغورية؛ الفتاة التي لم يعلم حتى بماضيها والتي افدت نفسها لهيميڠامي وتحولت لذهبٍ مُذَوّب.
كان ينبغي أن يعرف المسار الذي يجب أن يسلكه.
بصمت، قوّى يده التي كانت تمسك بالسلسلة الذهبية...
لكن كل ما استطاع هو تركها.
زحف أَوْريولُس بعيدًا على الأرض – كمن يهرب من كارثة طبيعية بشرية الشكل؛ كمن يندب المصائب التي أصابته، بينما يشكر حظه الذي سمح له بالبقاء حتى هذا اليوم.
كان الفتى إنسانًا. القتل كان شيئًا لا يستطيع فعله.
أَوْريولُس الدمية لم يعد يدري على أي طابق من المبنى يقف. كان قد تدحرج عدة طوابق إلى الأسفل، ولكنه لم يعد قادرًا حتى على ذلك الآن. ما بقيت فيه قوة. اتكأ ظهره على جدار الدرج الطارئ المظلم ونظر بغباء إلى يده الوحيدة الباقية.
منذ تلك اللحظة التي لكمه فيها الفتى. بدا وكأن كل قوةٍ دعمته حتى الآن كانت تُسرق منه. الإرهاق كان أشبه بأن يقطع سلك الطاقة الذي كان يزوّده من موقع مختلف تمامًا.
في تلك اللحظة، فهم أَوْريولُس حقيقة الموضوع.
أنه ليس إنسانًا. بدون الحاجز الخارجي الذي كان يزوده، لا يمكنه حتى الوقوف.
أنه مثل اللِمِن ماڠنا: شيءٌ يُنتج بالجملة ويُمكن التخلص منه بسهولة.
«آه...»
كان يئن من شعور الخدر في أطراف أصابعه، وكان في الوقت نفسه راضيًا.
لماذا؟ بجانب لِمِن ماڠنا، وبجانب جسدي، ما بحق الرب تلك اليد اليمنى التي تمسح السحر بلمسة؟، فكّر، عينيه تتلألأ بفضول طفلٍ ينظر من خلال تلسكوب لأول مرة.
سؤاله. إلى أي مدىٰ يمكن للبشر الارتقاء بينما يحافظون على جسمهم الآدمي وكرامتهم؟
واتته فكرة أنه قد رأىٰ تلك الحدود. ليس فقط في تلك القدرة الاستثنائية، ولكن في الفتى نفسه، الذي لا يزال يشعر بالغضب والحزن البشري، رغم حيازتهِ تلك القوّة.
التفكير بها في هذا الشكل جعلته قادرًا على قبول هذه النهاية المُذلة.
فما عاد للعالِم من سببٍ للبقاء بعد أن عرف الإجابات.
طك طك طك، سَمِعَ خطى.
نظر أَوْريولُس ببطء إلى الدرج ورأىٰ ستيل يقف هناك.
«محبطٌ بحق...ألستَ مُنفراً عن قتلي؟» ضحك الخيميائي علىٰ نفسه. «اتركني، فموتي آتٍ بنفسه. ما لك سببٌ في قتلي أول مرة، أليس كذلك؟»
«بلىٰ. ببساطة، ما لي اهتمام لواحدٍ مثلك، حيث أنك لست متورطًا بشكلٍ خاص معها،» أخبره ستيل بلهجةٍ غير مهتمة. «أه، صحيح. كان أحد الفرسان الثلاثة عشر قريبًا من المصاعد من قبل. لكن هذا لم يكن شيئًا فعلته أنت، أليس كذلك؟»
نظر أَوْريولُس الدمية إلى ستيل الواقف على أعلى الدرج من مكان اتكائه على الجدار.
حَمَل لِمِن ماڠنا. حتى لو أمكنه تذويب أي مادة فيزيائية إلى ذهب، فإنه لا يقدر أن يأمل في سحق الدروع الجَرّاحية لأحد الفرسان الثلاثة عشر جسديًا.
«ها... إذا وصفتها هكذا، فهو بَيِّنٌ. تعلم أنني لم أقتل أيَّ نفس».
«ماذا؟»
«هو جَليٌّ. ليس إلا تفاخر خاسر. اجتهد في فهم ما قُلتُه.» ارتفعت زوايا فم أَوْريولُس. «إذن؟ لماذا ظهرت هنا، بجانبي، ولا حاجة لكَ لي؟ ألا تتركني أموت طبيعيًا؟»
«بل عكس ذلك يا أحمق. جِئتُ أُسَهِّلُ دربك. أستموت سريعًا هكذا؟»
«...»
نظر أَوْريولُس الدمية إلى ستيل بلا تعبير لبضع لحظات.
ثم ضحك.
كان ذلك غير عادي بالنسبة لهذا الرجل، لكنه بلا رَيْبٍ ضحك.
بالرغم من أن أَوْريولُس كان دميةً، إلا أنه كان عالِمًا. والآن، بعد أن وجد الإجابة على أعظم سؤال – بعد أن بحث تمامًا في حدود الجسم البشري – كان مليئًا بالرضا الفائق.
ولكن لا يزال لديه قليلٌ من الوقت.
ستنتهي حياته في أكثر من عشر دقائق.
ومع ذلك، كان أَوْريولُس عالِمًا. خلال تلك الفترة الفارغة، سيلاحظ شيئًا ما. لغز جديد. السؤال التالي. المادة البحثية الرائعة والجميلة التي تنتظر وراء الحدود.
لم يكن لديه وقت للانغماس في البحث، لكن...
كعالِم، إذا لاحظ لغزًا ثم مات دون أن يكون قادرًا على بذل جهد للبحث فيه، فإن ذلك ما يعادل الجحيم. سيظل. سيكون ندمًا لا مهرب منه.
لهذا قال ستيل ما قاله:
ألا أُرسلك قبل أن تكتشف ذلك الغموض الحلو وتتعذب؟
ألا أُرسلك إلىٰ النعيم بينما لا تزال راضيًا بتحقيق هدفك؟
«هاه.» فضحك أَوْريولُس. «أيا وغد. لا أقدر أن أحدد ما إذا كنت ملاكًا أم شيطان.»
«جَوْهرهُم ذاته علىٰ أي حال. فارقهم الوحيد هو من يتبعون.»
نزل ستيل ببطء من الدرج.
«فورتيس931 — أثبت هنا السبب في أن اسمي هو الأقوىٰ.»
فتح ثوبه الأسود الداكن. وتطايرت بطاقات رونية منها كأوراق الساكورا.
«هو كذلك مُسمّاك السِّحري،» أشار أَوْريولُس بكسل وهو يراقب ستيل ينزل الدرج. الآن على طاريه، ماذا كان مُسمّاي السِّحري؟
«آه، نعم.» تذكر أَوْريولُس.
هونوس628 — شرفي لأجل العالَم.
الاسم الذي لحقه بنفسه. الاسم الذي بناه لنفسه. أخيرًا تذكره وحدق قليلاً.
«أأقول صلاةً أخيرة بصفتي كاهناً، أيها الخيميائي؟» سأل ستيل ماغنوس. لقد نزل الدرج وتقدم نحو الخيميائي.
«لا تنشد، أيها الملعون السّٰاحِر.»
بلحظةٍ بعد أن أجاب أَوْريولُس الدمية، انطلقت نيران ستيل إلىٰ داخل فم الخيميائي.
دخلت جسم الخيميائي سريعًا وأحرقت أحشائه تمامًا. لو كانت هناك فجوة في جسده، لانبثقت منها النيران. لكنها لم تتوقف هناك —انفصل إلى فصلين عُلويٍّ وسُفلي، والنيران التي خرجت بينهما فجّرت جزئه العلوي لأعلىٰ كالصاروخ، فَفتّتهُ.
الجزء 9
في الوقت نفسه، في إحدىٰ غرف المساكن الطلابية —أو بدقة أكبر، في حمّامِها— كانت الفتاة الهاربة (أو بالأحرىٰ، إندِكس) تحدق بالقط الضال (أو بالأحرى، سفِنكس). بدا أن هذا القط الكاليكو قد تربى على يد أحدٍ ما من قبل. بمعنى آخر، ما كان ظريفاً. إذا رميت كرة من الصوف، فلن يطاردها. إذا قلت اسمه، فسيظل منسدحًا تحت الطاولة. إذا حاولت أن تأكل، فسيسرق بعض طعامك. حسنًا، هذه الأخيرة كانت مسألة مصيرية. الطعام الذي أعدَّه كاميجو توما عنى الكثير لإندِكس— أو بالأحرى، للفتاة ذات المعدة اللامتناهية.
مع هذا وذاك، قررت إندِكس أنه ينبغي عليها أن تعيد تدريبه تمامًا. تخلت عن مزاجها التآمري وكانت في عملية تغطية القط بالفقاعات. بالمناسبة، قد جربت بشكلٍ فظيع وظيفة تسخين المياه التلقائية في حوض الاستحمام، اتبعت التعليمات الودودة التي تركها لها كاميجو.
...لكن أتساءل أين يذهب توما؟
دارت أسئلة في عقلها. الأولىٰ كانت حول المكالمة الهاتفية. لم يكن الأمر أنه فقط أراد معرفة ما إذا كان الهاتف متصلاً، كان تصرفه — فهي قد أكلت بكل أنانية حلواه البودينغ، وتركها بقول "ما يهم".
وعلىٰ طاري تصرفه، كانت الحكاية نفسها مع هذا القط غير الظريف الذي يرمي بشعره عليها.
بشكلٍ أساسي، لن يفعل كاميجو شيئًا لا يرغب فيه. كان واحدًا يحاول دائمًا إيجاد حلٍّ لمشاكله، وإن عَسُرت به الطرق.
ومع ذلك، ترك أمرين وجدهما بغيضين يمران بلا مبالاة. سيكون غريبًا إذا لم تعتقد أن شيئًا ما كان يحدث.
«حسنًا!»، عزمت إندِكس. وخرجت من الحمام ولفَّت نفسها بعباءتها، الكنيسة السائرة، ثم توجهت نحو الباب الأمامي. بدون تفكير، فتحته — ثم أمعنت. حتى لو سألت كاميجو، لن تتمكن من معرفة مكانه. لم تفكر حتى في الاتصال به. وستعترف: استخدام الهاتف كان مفهومًا يتخطىٰ فِهمها. خاصة الهاتف في مسكن كاميجو — كان من النوع الذي يحتوي على جهاز الفاكس المدمج. كان به العديد من الأزرار حتى لا تعرف من أين تبدأ.
ربما عليَّ الاستسلام..، فكرت. لكن عندما التفت لتعودة إلى المسكن، لاحظت فجأة شيئًا من ركن عينها.
رأيت ما يشبه بطاقة التاروت معلقة على الحائط.
كانت هذه البطاقات الرونية التي استخدمها السّٰاحِر ستَيْل ماغنوس.
«...»
نظرت إندِكس إليها بصمت.
حسَّت بشيءٍ يحدث. بالتأكيد كان هناك شيءٌ يجري في مكانٍ لم تعلم عنه، وتُركت وحدها مرة أخرى.
فكّرت في الفتى الشفاف الذي التقته مؤخرًا في غرفة العناية المركزة قبل بضعة أيام فقط. بدأ نفس اليأس والذعر الذي شعرت به في تلك اللحظة يتسلل إلى قلبها.
ركضت. الشيء الوحيد الذي يمكنها فعله هو مطاردته.
لحسن الحظ، كانت إندِكس تحوز على مِئة وثلاثة آلاف جريموار في رأسها، لذا كانت تعرف أي نوع من السِّحر كان يستخدمه ستيل. بطاقات الرون كانت نوعًا من السِّحر حيث يحتاج السّٰاحِرُ إلىٰ إرسال طاقةٍ سحرية إليها باستمرار وإلا لن تعمل.
ببساطة، كان هناك خط. خطٌّ نحيف، كالخط الذي يربط الجسم والروح أثناء تجربة الخروج من الجسم. لم تستطع استخدام السِّحر، لكنها اِقتدرت كشفه. ما كان هناك من سبب يجعلها ترجع عن مطاردته.
بذلك، انطلقت إندِكس نحو ساحة المعركة، ونسيت أن تغلق الباب حتى...
...دون أن تدرك أنها في الواقع ستكون السبب في إثارة المزيد من المشاكل.
اختر اسم وأكتب شيء جميل :)