-->

الفصل الثاني: ضَوْضَـٰاءُ اُلرّٰادِيو. — اَلْمُسْتَوَىٰ-2(نموذج_المنتج)

(إعدادات القراءة)

انتقال بين الأجزاء

  • الجزء 1

كان لديه دروس خصوصية في اليوم التالي أيضًا.

كان منظرًا موحشاً أن ترىٰ طالبًا يجلس في منتصف الفصل قُبَيل الغروب. في البداية، عَلّقَ كاميجو ساخرًا: "ما هذا، لا يكون أنني دخلتُ مدرسة ابتدائية في قرية مهجورة دون علمي؟!" وللأسف وكما توقع، فقد زالت حداثة الأمر بعد استمراره ثلاثة أو أربعة أيام. وبحلول اليوم الخامس والسادس، اختفى بريق روحه وما بقيت عنده من مشاعر إلّا الملل.

ولكن ما بقي إلا يومين من الدروس الخصوصية، بما فيها هذا اليوم. لربما يَيئس من فكرة "نعم، أخيرًا ستبدأ عطلتي الحقيقية في 22 من أغسطس!" ومع ذلك كان سعيدًا لأنه سيتحرر من هذا الجحيم الدراسي.

حدق في المكتب أمامه مباشرة.

كانت تقف مُعَلّمتُه، تسوكويومي كوموي. كان طولها 135 سنتيمترًا ومن أوّل نظرة ستراها فتاةً تبلغ الثاني عشر من عمرها. وكان وجهها وحدَهُ ظاهرًا خلف المكتب. كانت تقرأ من كتاب مدرسي فوقه. لكن، ألن يسهل عليها أن تقرأه وهي تحمله بيديها؟ تساءل.

«الآن لمتطلبات تجارب بطاقة ESP التي أُعيد تمثيلها في الولايات المتحدة في عام 1992. تغيرت مواد البطاقة من راتنج الفينيل إلى راتنج ABS. كان هذا استجابةً لخدعةٍ تمثلت في فرك شحم الأصابع وبصماتها على واجهة البطاقة حتى تُعرَف البطاقة بعد قَلبِها.... أتسمعني يا كاميجو-تشان؟»

«...بلى يا أستاذة كوموي، أسمع أسمع، لكن... ما لهذا علاقة بقدراتنا؟»

كان كاميجو صفري المُستوىٰ.

أجهزة دقيقة الصنع قاست قدراته وأعطت النتائج: هو عاجزٌ عن ثني ملعقة حتى لو بَذَلَ جهدًا تتفجر فيه أوعية رأسه الدموية. ومع ذلك اضطر أن يذهب إلى دروس خصوصية لأنه كان "ضعيفاً"؟ ما استوعب هذا.

ثم عبست شفاه المُعلمة كوموي، كما لو أنها لاحظت هذا التناقض أيضًا.

«لكن، لكن! إذا استسلمتَ لأنك لا تملك قوة، فلن تحقق التقدم أبدًا. عليك البدأ بالأساسيات أولاً وأن تتعلم مصدر هذه القدرات. ثم ربما تكتشف كيفية إظهار قوتك. هذا ما تعتقده المُعلمة كوموي شخصيًا.»

«أستاذة كوموي.»

«نعم؟»

«...تبدين مجتهدة في عملك، لكن الأشياء التي لا تُحَقّق، لا تُحَقّق.»

«كاميجو-تشان! لا أقول لك أن الجهود تُثمِر دائمًا، لكن من لا يبذل جهدًا لن يعرف طعم النجاح أبدًا! حتى الآنسة ميساكا من مدرسة توكيواداي الإعدادية، ذات المرتبة الثالثة من بين 2.3 مليون طالب هنا، بدأت من المستوى 1. لكنها بذلت جهدًا لا يستهان فوصلت إلىٰ المستوى الخامس! لذا يا كاميجو-تشان، عليك أن تبذل جهدك أيضًا!»

«...هي ذات المرتبة الثالثة؟ لكنها تركل ركلات قوية على آلات البيع!»

«؟ كاميجو–تشان، هل تعرف الآنسة ميساكا؟»

«ليس شخصيًا. لنعد إلىٰ موضوعنا يا أستاذة. مثلاً أن نرى في التلفاز فتقولين، "انظر يا كاميجو-تشان إلى لاعب البيسبول هذا: فهو من نفس عُمرك ولكن انظر إلى نشاطه وعزمِه! وانظر إليكَ كسولاً ونقيضه، ألا ترى في الأمر خزياً؟" أو مثل هذا! كاميجو-سان ليس شخصًا يتحمس من هكذا تشجيع! اررغغغ...»

«كفاكَ أصواتاً غريبة! هذا سيجعل من المعلمة كوموي مستاءة!»

«أوهذا صحيح؟ أستاذة، إن كنتِ مستاءة حقاً، فلماذا يبدو وجهك سعيدًا؟»

«آه، حسنًا، هذا لأن... ترى، هذا لأن مُعلمتك... تحب—»

«بففف!»

«—التدريس.»

«...آه، نعم. التدريس. خوفتيني... أوه، مهلاً! لقد فعلت كل هذا لأغير موضوع الحديث وأضيع الوقت، ولكنكِ أعدتي الموضوع كما كان في الأول!»

«أها ها ها. ما زال أمامك مئة سنة من التدريب حتى تحترف تقنيات الكَلم السريعة مع المعلمة كوموي. الآن كاميجو-تشان، من فضلك اقرأ من صفحة 182 من كتابك المدرسي عن جدران الفكر الدفاعية لذوو قدرة المقياس النفسي فيما يتعلق بالتحقيقات الجنائية، مفهوووم؟»

وهكذا مرت الدروس الخصوصية لليوم مرة أخرى.

  • الجزء 2

وهكذا انتهت دروس اليوم الخصوصية.

كانت 6:40 مساءً. مشى كاميجو مُتكاسلاً عبر منطقة التسوق تحت ضوء المساء. لقد فاته آخر قطار، الذي ترتّب وقته بشكلٍ مثالي ليتناسب مع نهاية الفترة المدرسية. كانت آخر القطارات والحافلات في مدينة الأكاديمية عمومًا في الساعة السادسة والنصف لتمنع الطلاب من البقاء خارج المنزل ليلاً. وكانت سياسة إيقاف جميع وسائل النقل في هذا الوقت تهدف على ما يبدو إلى منع الأطفال من الخروج ليلاً.

تبقى يوم واحد فقط. أم لا يزال يومًا آخر؟ على أي حال، قد طالت وشانت... تباً، عندما ينتهي هذا، سأذهب إلى الشاطئ! فكّر كاميجو وهو يسير عائدًا إلى بيته عند غروب الشمس. ما حَسّ بالرياح تهب، ولكن عنفات الرياح كانت تدور وتدور مُستمراً.

«مم؟»

ثم رصد ظهر أحدٍ يعرفه وسط حشد من الناس. فتاة ذات شعر بني ترتدي زي مدرسة توكيواداي الإعدادية الصيفي –– كانت ميساكا ميكوتو.

حسنًا، ما من سبب لأتجنبها. راحَ كاميجو يقترب منها مُسرِعًا.

«هلا. خلّصتِ من دروسك الخصوصية أيضًا؟»

«هنن؟» ردت ميكوتو بنبرةٍ غير أنثوية. «أوه، أنت. تعبتُ من اليوم، وكنت سأحافظ على ما بقيت لي من قوة، لذلك سأعفيك من البيري-بيري (صعق) لليوم. ماذا تريد؟»

«لا شيء حقاً... دربنا واحد، لذا فكرت أن ندردش قليلا ريثما نمشي.»

«أوه؟» ضيّقت عينيها قليلاً. «"فكّرتَ" أنكَ قد تمشي مع سيدة من توكيواداي في طريق العودة معها؟ ها، ألا تدري كم من فتيانٍ بذلوا جهدهم ليكونوا في مكانك الآن؟»

«...حقاً، لا تدرين كم هو قبيح أن أسمعك تقولين "سيدة من توكيواداي".»

«أمزح معك يا غبي»، ردت وهي تخرج لسانها. «المهم ليس في المدرسة التي ترتادها، بل فيما تتعلمه هناك. إني ناضجة كفاية لأعرف هذا على الأقل.»

«همم. لِـكُـلٍّ مجالٌ يتخصصه. على أي حال، لا أرىٰ أختك الصغيرة معك؟ أردتُ شكرها على حمل العصير البارحة.»

ارتعش حاجب ميكوتو قليلاً.

تحرك بضعة ملّيمترات فقط، ولكن تلك الملّيمترات القليلة أزعجت كاميجو بشكلٍ غريب.

«أختي الصغيرة... التقيتها بعد تلك المرة؟»

«إي...»

(ورطة،) فكر كاميجو. كانت قد أمسكت بيد ميساكا إيموتو وسحبتها بعيدًا عنه بالأمس. وبهذا في الاعتبار، أما كان أفضل أن يُبقي على لقائهما الثاني سراً؟

ضيّقت ميكوتو عينيها مرة أخرى قليلاً.

«ماذا؟ ألهذه الدرجة لا تستطيع إخراج أختي الصغيرة عن رأسك؟»

«كلا! قد ساعدتني في حمل تلك العلب، لذا أردت شكرهـ—»

«إذن، علىٰ أننا نشبه بعضنا بصريًا، ما زلت تُفضل أختي الصغيرة؟ أو ربما احترت الاختيار، فنويت أخذ الأختين التوأمين معًا؟»

«قلت لكِ لا! من أين تعلمتِ تلك الأشياء على أي حال؟!»

كان كاميجو وميكوتو يسيران في الطريق الرئيسي، يتجادلان طوال الوقت.

وفي طريقهما العديد من عنفات الرياح على هذا الطريق الرئيسي. رفع عينيه فوق شفراتها الدوارة ورأىٰ منطادًا يحلق في سماء الزوال. كانت شاشته العريضة المعلقة تعرض أخبار المدينة الأكاديمية لليوم، عن كيف حدثت ثلاثة حوادث متتالية في آخر أسبوعين حيث أعلنت الوكالات المتعلقة بالضمور العضلي عن انسحابها، وكان يُخشى من أن رياحًا باردة ستهب عبر المدينة بأكملها.

توقف الحديث ربما لأن تركيزه انتقل إلى المنطاد.

قد تبدو كلمة منطاد من العصور القديمة، لكنها كانت على ما يبدو طائرة صديقة للبيئة تعمل بالطاقة الشمسية، تُوَلّد الرفع عبر تسخين غاز الكربون داخل المنطاد بواسطة سخان، ويأتيها الدفع من خلال تشغيل محركات عملاقة.

ومن الجهود المبذولة في تطوير مثل هذا الشيء، فإني أتساءل بحق ما إذا اقترب العالم من نفاذ مواردهم الأحفورية، فكر في نفسه ولم يهتم حقاً.

«أكره ذاك المنطاد.» تمتمت ميكوتو.

«هاه؟ لماذا؟» سأل كاميجو ناظرًا إليه مرة أخرى. إن ما خانته الذاكرة، فقد وَضَعَ أعضاء مجلس إدارة المدينة الأكاديمية المناطيد في كل مكان ليجعلوا الطلاب أكثر اطّلاعًا على الأحداث الجارية.

«...لأن الآلات تَسُوسُ [1] الناس، وهذا أمرٌ مغيظ» أجابت ميكوتو بهدوء كأنها تبصق شيئًا مزعجًا.

نظر إليها مرة أخرى، محتارًا. ما رأى غرابةً في وجهها. ما رأىٰ شيئاً إطلاقاً. وكأن قناعها الطيني المدمر عاد يتجدد في وجهها.

«نعم؟ ما كان اسمها؟ أمم... مخطط الشجرة، صح؟ هَه، أأنتِ من أولئك الذين لا يتحملون رؤية البشر عاجزين أمام الآلات في الشطرنج؟»

ببساطة، [مخطط الشجرة] هو أذكى حاسوب عملاق في العالم. كان المحاكي التنبؤي الأقصى الذي اُنشِئ تحت ذريعة تقديم توقعات جوية أكثر دقة.

قد تبدو كلمتي "التنبؤ الجوي" مألوفة. ولكن في الواقع، المجال مجالٌ يفسح باباً للتنبؤ بالطقس، ولكنك لن تجده فيهِ تأكيدًا قطعي. نظراً لأن حركات كل جزيء في الهواء التي تشكل "الطقس" كانت معقدة بشكلٍ لا يُصدق ومتشابكة مع تأثير الفراشة ونظرية الفوضى، فيمكن للمرء أن يقول بنسبة 80% هطول أمطار اليوم التالي، ولكنه لن يجزم هطولها في الساعة 9:10:00 صباحًا. هذا المفهوم كان أشبه بميكانيكا الكم.

ومع ذلك، طَوّر المخطط الشجري من توقعات الطقس إلى نبوءات الطقس.

لم يفعل شيئًا معقدًا. كل ما يحتاجه هو التنبؤ بحركة كل جزيء في الهواء العائم في العالم؛ ليصل إلى إجابةٍ واحدة.

كانت له مواصفاتٌ خارقة، ولكن وفقاً لنظريات مؤامرة وأقاويل، قالوا إنّ استخدام المخطط الشجري بصفته متنبئاً بالطقس واجهةٌ وحسب، وأن الهدف الحقيقي هو استخدامه لأغراض أخرى.

على سبيل المثال، كان هناك جانبٌ واحد غير منتظم في توقعاته.

كان يتنبأ بالطقس شهرًا مقبلاً دفعة واحدة.

لم يُخطئ أبدًا، لذا لم تكن هناك مشكلة في ذلك. بصراحة، ظنّ الناس في هذا جهدًا مُهدرًا. يمكن للمرء أن يفهم إذا أخذ في الاعتبار مدى سهولة أن تخطئ توقعات الأسبوع المقبل مقارنة باليوم التالي. إذا أراد أحدٌ ما معرفة الطقس بدقة، فإن تكرار الحسابات كل يوم سيجعل الأمور تسير بسلاسة أكبر.

ولكن رغم ذلك، اختار مخطط الشجرة تحديدًا طريقة أصعب، معتمدًا على قوته الحاسوبية.

بالمناسبة، وفقًا للشائعات...

قيل أن الوقت الباقي من الشهر كان يُستَخدَمُ لمحاكاة أبحاثٍ مختلفة.

تفاعلات الأدوية، التفاعلات الفسيولوجية، التفاعلات الإلكترونية – جعلوا المخطط الشجري يحسب كل هذه، ثم بعد تأكيد الإجابة التي يخرج بها من خلال تجربتين أو ثلاث، يخلق العلماء دواءً جديدا. كان جنونًا وثورة حقيقية. وقد تداولت أقاويل أن هناك باحثين يكرهون لمس الجرذان المختبرية وأنهم لا يعرفون كيفية التعامل مع أنبوب اختبار.

كان للحاسوب العملاق الذي يمتلك هذه القوة الهائلة نصيبه من الأعداء أيضًا. لم يعرف أحد متى سيقوم كارهوا الآلات المتعصبين للبشرية بهجوم إرهابي. ويمكن أيضًا لمتعصبي الإلكترونيات الكارهين للبشر أن يحاولوا التسلل إلى مخزن المخطط الشجري لسرقة التكنولوجيا.

لهذه الأسباب جميعها، تم تثبيت المخطط الشجري في مكانٍ لا يوصل إليه من قبل الأيدي البشرية لحمايته من الأعداء الخارجيين.

ببساطة، كان القمر الصناعي الذي أطلقته المدينة الأكاديمية هو مخطط الشجرة نفسه.

ما كان مسموحًا بتطوير تكنولوجيا الصواريخ أصلاً من قبل أي أحدٍ عدى الوكالات الوطنية. ومع هذا، كان يُستَخدَمُ خاصّاً في مكانٍ كذاك –– هذا يظهر مدى عمق تأثير المدينة الأكاديمية على العالم.

حسناً، حقيقة أنهم سمحوا بذلك تظهر مدى قيمته، كما فكر الفتى ناظرًا بفراغ إلى المغيب. حتى الآن، لربما كان المخطط الشجري يحسب نهاية العالم من خارج الغلاف الجوي.

«دماغٌ فولاذي ينظر إلىٰ البشر من السماء، هَه؟ ولكنه لن ينقلب على البشر أو مثل ما تراه في قصص الخيال العلمي الرخيصة. في النهاية، هو نفسه كالصرافة الآلية –– يفعل ما يضغطه المرء من أزرار.»

صحيح. مهما كانت قدرة المخطط الشجري على الحساب، لا يمكنه العمل بدون تدخل بشري في المقام الأول. إذا دَمّرَت صرافة آلية أحدًا ما، فليس الأمر انتفاضة أو ثورة آلات، بل لأن البشر استخدموها بطرق ما صُنِعت لأجلها.

«...» لم ترد ميكوتو. نظرت إلى سماء المغيب مرة أخيرة. أكانت تراقب المنطاد؟ أم كانت عيناها تخترقان أبعد من هذا؟ لم يعرف كاميجو.

«مخطط الشجرة... أقوى حاسوب خارق في العالم أُطلِقَ على متن القمر الصناعي للمدينة الأكاديمية، أوريهيمي الأول، تحت ذريعة تحليل بيانات الطقس. قد قيل أنه لن يتمكن أحد من اللحاق به لمدة 25 سنة أخرى...،» قالت ميكوتو وكأنها تُتمتم الكلمات في جوفها، وكما لو كانت تقرأ من كتيب المدينة الأكاديمية. «...يقولون هذا، ولكني أتساءل. هل لمثل هذه السخافة الطفولية أن توجد حقّاً؟»

«ها؟» نظر كاميجو إلى وجه ميكوتو، ولكن...

«أمزح! آه، أظنني صرت شاعرية نوعًا ما، هههه!!»

صفعته بغتة وبدون سبب.

عندما نظر إليها، لم يرَ سوى ميساكا ميكوتو الحادة، المتعجرفة، والأنانية.

«آخ! لماذا فعلتِ هذا؟!»

«حقّاً ما عندك أحلام؟ في صداقة درامية بين إنسان وحاسوب خيال علمي ذو قلب بشري، ألا ترىٰ في هذه رومانسية؟!»

«اسمعي يا أنتِ...»

«كالخادمة الآلية المقاتلة أو مثل هذا.»

«قلت اسمعي! ولحظة، ما أرىٰ فيها رومانسية أو صداقة درامية! وهل أنتِ حقاً "آنسة" بأتم معنى الكلمة؟ أليس مفترض أن تقرئي رواياتٍ رومانسية مع كوب من الشاي في يدك؟!»

«هنن؟ كُفّ عن هذا. من أي عصر تحسبنا بهذه الصورة الأيدولية؟ تراني في كل أسبوع يوم الاثنين والأربعاء أذهب إلى المتجر أطالع المانغا! أنا كذلك إنسانة!»

«اشتريها يا بخيلة! لستِ إلا إزعاجًا لمن حولك!»

«حسناً، دربي من هنا، مع السلامة.» قالت ميكوتو متجاهلةً صراخ كاميجو.

فغادرت ووقف كاميجو محدقاً محتاراً.

اختلف مزاجها تمامًا عما كان عليه قبل لحظات. أمال رأسه وتساءل...

...لا أفهمها. هل هذا هو تأثير مرحلة المراهقة؟ أأقول هذا، أم ربما هي تكرهني وحسب؟

  • الجزء 3

ولكن مع كل ذلك، ما استطاع أن يفهم ما الذي كان ينظر إليه.

...هذه ميكوتو، هَه؟ للتو رأيتها، فماذا تفعل؟

وبعد أن سار قليلاً بعد افتراقه عن ميكوتو، ها هو يراها رابضة على الطريق. كانت عند عنفة الرياح تحتها مباشرة، حيث كان صندوق كرتوني موضوعًا عند قاعدة عموده. (هذا سيئ، رأيتُ هذا من قبل.) بدأ عقله يطلق إنذارات في نفس الوقت الذي رأى فيه هريرة سوداء مدفونة في الصندوق. أو هُرَيرة؟

هل تحاول إطعامه يا ترىٰ؟ كانت تتحرك ببطء بخبز حلوىٰ في يدها نحو الهريرة، ولكن الهريرة المرعوبة قد خفضت أذنيها وانكمشت تغطي رأسها بذراعيها كأن أحدًا يضربها.

(؟؟؟ أسلكت طريقاً آخر وتركتني لأنها لا تحبني؟ فلماذا رجعت إلى نفس الطريق؟ ما من سبب يجعلها تلتف الطريق لتسبقني إلى هنا.)

بمجرد أن توقف طوفان علامات الاستفهام في رأسه، أدرك أخيراً. عند قدمي ميكوتو المنحنية وَجَدَ زوجًا من النظارات الليلية.

ما كانت ميكوتو – بل ميساكا إيموتو، التي تشبهها تمامًا.

«...حقّاً بدون النظارات، لن أُميز فعلاً بينهما» تمتم كاميجو.

بينما كانت لا تزال تنظر إلى الهريرة السوداء بدون تعبير، توقفت ميساكا إيموتو عن الحركة. دون قول كلمة، دار عنقها كمنارة لتواجه كاميجو.

«هلا. أردت أن أشكرك على العصير وطرد البراغيث البارحة.»

«"...ما سعت ميساكا إلىٰ الثناء والشكر،" ترد ميساكا.»

مع لمحة من الانزعاج تتسلل إلى وجهها الخاوي، وضعت النظارات على الأرض فوق جبينها. كما سحبت اليد التي كانت تمسك بخبز الحلوى.

«"السبب الوحيد الذي جعل ميساكا تُزيل نظاراتها هو امتثالاً للمعلومات السابقة التي تفيد بأن القطط تكره الأشياء اللامعة مثل العدسات،" تشرح ميساكا. "هل علىٰ ميساكا الاعتذار لجعلك تخلط بين ميساكا وأونيه-ساما؟"»

وهي تتحدث، أخفت خبز الحلوى خلف يدها لسبب ما، ولا يزال وجهها بلا تعبير.

علىٰ أنها كانت خائفة حتى الآن، إلا أن الهريرة أصدرت أصواتاً تعبر عن استياء.

أمال كاميجو رأسه إلى جانب مع علامة "؟" خارجة.

«إذا جعلتكِ تعتذرين عن شيء غبي مثل هذا، فإن لي أن أطلب من كل الناس كافة إعتذاراً.» تنهد بنبرةٍ حزينة. «لكن إذا كانت القطط لا تحب العدسات، فلماذا لبستيها ثانية؟ ماذا، هل أردتِ أن تُعرَفي شخصيًا بهذا الشكل؟»

استصعب عليه القول حقيقةً؛ نظرًا لهدوء حركاتها وخلو تعبيرها. على الأقل، ظنّ كاميجو أنها وضعتها حالَ أن عَلِمت أن أحدًا يراها.

«"...ليس حقاً،" تُجيب ميساكا على سؤالك.» ردت فوراً، ولكن بتعبيرٍ مبهم.

أمال كاميجو رأسه مرة أخرى مع "؟". حقيقة أنها أزالت نظارتها لئلا تُخيف الهريرة وانحنائها لتطعمه خبزاً حلوى كان خارج شخصيتها الجامدة واللا تعبيرية، ولكن ما من سببٍ لأن تخفيها عنه.

«إذن، لِمَ لا تعطيه الخبز؟ القطط تحبها، صح؟»

«لا... ليس هذا...» توقفت حركاتها فجأة. «"مهما كان، من المرجح أن إطعام ميساكا لهذه الهريرة أمر مستحيل،" تقول ميساكا موجزة. "لأن ميساكا لديها عَيْبٌ قاتل،" أضافت.»

«لا تسمينها عَيْب، فتُبدينها سيئة.»

«"لا، كلمة عيب مناسبة. جسم ميساكا يولد مجالاً كهربائياً ضعيفاً،" تقول ميساكا وتشرح. "هو ضعيف للغاية بحيث لا يمكن للأجسام البشرية أن تستشعره، ولكن الحكاية تحتلف مع الكائنات الأخرى".»

«؟؟؟»

«"قيل أن حركة الحيوانات الغريبة تُنذر بزلزال آتٍ، وقد فسروها على أنها ردود أفعالها من التغييرات في المجال المغناطيسي الحاصل في القشرة الأرضية،" كما تشرح ميساكا بلغةٍ مبسطة.»

«...همم. أفهم من هذا أن الحيوانات لا تحب ذلك فتهرب، ها؟ بمعنى آخر، الحيوانات تنفر منكِ بسبب مجالك المغناطيسي؟»

لَمَحَ إنزعاجًا علىٰ محيا ميساكا إيموتو.

«"هُم لا ينفرون من ميساكا. كل ما في الأمر أنني لا أحسن صنعًا معهم،" تصحح ميساكا.»

«...»

أشفَقَ عليها نوعًا ما، فقرر كاميجو ألّا يضغط أكثر. حدقت ميساكا إيموتو في الهريرة السوداء بعيون خاوية، ولَعَلّ جميع الحيوانات تنفر منها ومن مجالها المغناطيسي المنبعث من جسدها. حسّ أنه أزعجها، فراحَ يتسلل بعيداً، حينها...

«"قف،" تقول ميساكا طالبةً إياك التوقف.»

«وي! وما حسبتك تلاحظين هروبي!»

«"اسمع. أمامك هريرة سوداء،" تقول ميساكا مشيرة إلى محتويات صندوق الكرتون. "فهل تنوي حقاً ترك هذه الهريرة السوداء الجائعة دون شيء؟" تسأل ميساكا مُصِرّة مُلِحّة.»

«...لماذا أنا؟ لِمَ عليّ أن أدفع ثمن وجباتها وأنتِ من أردتِ مصادقتها؟ زيادةً إلى أنكِ أنتِ من تحملين خبز الحلوى!»

«"ما أشارت ميساكا إلىٰ هذا. أمامك هريرة مهجورة – فلماذا لا تتبناها؟" تسأل ميساكا مجدداً. "أتدري كيف يتعامل موظفو الصحة مع الحيوانات؟" تسأل ميساكا وتطرح مثال. "أولاً، يضعون الحيوان في صندوق شفاف من [البولي كربونات]، ثم يحقنون في الصندوق عشرين مليلتراً من غاز ADS10 السام—»

«واه!» صرخ كاميجو عاليًا، مقاطعاً إياها.

كان حديثاً محرجًا للغاية، خاصةً وهو ينظر إلى هريرة خائفة.

«تبنيها أنتِ! أنتِ من وجدتيها، ومن كنتِ ستُطعمينها أيضًا!»

«"...من المستحيل أن تربي ميساكا هذه الهريرة،" تعترف ميساكا. "بيئة ميساكا المعيشية تختلف كثيراً عن بيئتك،" تشرح ميساكا.»

لربما سياسات مسكنها صارمة، فكر متسائلاً. لكن حتى مسكنه لم يسمح له أيضًا بتربية الحيوانات الأليفة.

كان كاميجو مرءًا لا يتبع قواعد يجهل أسبابها، ولذا بدا له غريبًا أن تستسلم ميساكا إيموتو من شيء كهذا، لكن...

كانت تربض وتحدق في عين الهريرة مُركزة.

خَلَت عيونها من التعبير وهي تتبع عيني الهريرة السوداء، رغم معرفتها بأنها لن تتعلق بها أبداً.

«...آاه.»

وقف كاميجو ثابتاً.

لقد كان قلقاً بشأن هذا منذ أن تبنى القطة الأولى – تبنيك واحدًا سيجذبك إلى ثاني، ويسحبك إلى ثالثٍ فرابعٍ فخامس. وبالطبع ما كانت محفظة كاميجو تسع ما يكفي لبناء مملكة حيوانية.

وَدّ لو يرفض لو يستطيع. للأسف، رأىٰ أن ميساكا إيموتو ستظل تحدق في الهريرة السوداء حتى الصباح إذا تركها وشأنها. وقد تتشاجر حتى مع موظفي الصحة المسؤولين عن الحيوانات.

«آخخ، تباً...! هو نفسه ما حصل مع قط الكاليكو!!»

«"ميساكا تستصعب ما تقوله، ولكن هل يعني هذا أنك لك نية في تبني هذه الهريرة السوداء؟" تسأل ميساكا. "إن لم تفعل، فإن موظفي الصحة سوف––»

«طيّب طيّب، فهمت، لذا كُفّي عن التحديق في وجهي بهذه العيون الفارغة وأنتِ تتكلمين عن موظفي الصحة!»

يبدو أن الحظ السيئ لا يُفارقنا، أنا وأنتِ.

خاطَبَ الهريرة السوداء في ذهنه، وراحَ يَحمِلُها من الكرتون بين يديه.

«صحيح، اسم! هذه قطتك، لذا تحملي مسؤولية تسميتها!»

«...هي لميساكا؟»

«نعم، هي لكِ.» نظر كاميجو إلى الهريرة السوداء في يديه، فنظرت إليه بقلق. ما وَلّت ميساكا إيموتو اهتمامًا لهما؛ عيناها الفارغتان جالت في سماء الليل لحظةً، ثم قالت...

«كلب.»

«ها؟»

«سأسمي هذه القطة "كلب"، اسمها كلب، على أنها قطة. هِه هِه هِه.»

بدت وكأنها تضحك على نكتةٍ تذكرتها. وبصراحة، أرعب منظرها كاميجو.

«...لا، امم... من فضلكِ فكري فيها بجدية. هذه مخلوقة حية، فامنحيها اسمًا يُحترم.»

«"طيّب، توكوغاوا إياسو". تُعيد ميساكا التفكير.»

«بالغتِ! ماذا، أأنتِ ممّن يتظاهرون بالتفكير وعقلهم فارغ؟!»

«حسناً، شرودِنڠر—»

«لا، وألف لا! حتى وإن كانت تجربة، لا يمكن لأستاذٍ أن يختلق قِصّةً حيث يُدخِلُ قِطة داخل صندوق ويبعث فيها الغاز السام أن يكون مُحِباً للقطط أبدًا أبدًا، ولو كانت تجربة فكرية!»

في النهاية، قررا تأجيل تسمية الهريرة لاحقاً. ومع ذلك، بدا لكاميجو أنه إذا استمرا هكذا دون اتخاذ قرار، فإنها ربما تختار اسم "لاحقا" أو مثل هذه الأسماء المباشرة.

  • الجزء 4

صُبِغ برتقالي السماء بالأرجواني.

مشى كاميجو على طول الطريق الرئيسي، وهو ينظر إلى الهريرة السوداء في ذراعيه.

وإن كانوا سيربون حيواناً، فعليهم أن يعرفوا دربها.

حسناً، عن نفسي أعرف بعضاً قليل، أما إندِكس...

تنهد وهو يرىٰ المناظر الطبيعية في المدينة تميل إلى الظلام. لو كان مجرد مقلبٍ بسيط وقاسي، لأمكنه التخلص من جزئها القاسي. لسوء حظه، ما فعلته إندِكس دُعِمَ بنوايا حسنة تمامًا؛ حقاً رأت ما تفعله صواباً. ولأنها فعلت ذلك بمنطلق طيبة قلبها، فلن تتردد في أي شيء. كان عليه أن يركض إلى أقرب مكتبة ويشتري كتابًا عن كيفية تربية القطط في أسرع وقت ممكن، وإلا فإن الأخت الباسمة بالثياب البيضاء ستُعرف باسمٍ آخر: قاتلة القطط.

«"أرانا نسير في دربٍ مختلف عن الأمس،" تشير ميساكا»، قالت ميساكا إيموتو وهي تمشي بجانبه. كلما نظرت خلسة إلى الهريرة في يديه، شعر بعدم الارتياح. القطط لم تُحبها بسبب مجالها المغناطيسي، لكنها في نظره بدت ترغب بشدة أن تُداعب الهريرة، ولكنها أخذت مشاعر الهريرة فوق مشاعرها فقمعت رغبتها.

«أخذتُ منعطفاً لا أكثر. هناك كتابٌ وددت لو أشتريه.»

«"هدفك المكتبة؟" تسأل مساكا. "جغرافيًا، أمكننا الإسراع لو أخذنا يمين ذاك المنعطف السابق،" تقول مساكا ناظرة خلفها.»

«لا لا. ليست المكتبة الجديدة، بل مكتبة الكتب المستعملة أبعد عنها بقليل. جديد أو مستعمل، ما من فرق. وسعر مئة ين للكتاب لهُوَ مثالي» أجاب.

...لن يعلم كاميجو بهذا، ولكن المعرفة والمنطق حول الكائنات الحية يتغيران باستمرار. خذ على سبيل المثال روتينات التدريب للاعبي البيسبول. قبل عشر سنوات، قد تجد كتابًا مكتوب فيه: "س: كيف أرمي الكرة أسرع؟ ج: كلما رميت أقوى، طارت أسرع. فخذ بالعزم وأرمي وأرمي مندفعًا بقوة الإرادة ومتجاهلاً آلامك!" أو مثل هذا الهراء الياباني. ولكن الواقع يضرب بحقيقته القاسية ويُريك أن عاقبة هذه الفعلة هي: تدمير مفاصل الكتف.

«"أتريد كُتَيّباً عن تربية القطط؟" تستفسر ميساكا.»

«ليس الكُتَيّب كله، فقط بعضٌ من معلوماته. وهل نسيتِ ما فعلته تلك الراهبة وعذراء الضريح معها من قبل؟»

«...» نظرت ميساكا إيموتو إلى كاميجو بلا تعبير. «"سأعيد قولي. عامل حياة الهريرة باستهتار وستُحاكم بتهمة إتلاف الممتلكات،" تُحذر ميساكا.»

«إيه؟ أنتِ غاضبة؟»

«"ميساكا لم تغضب. هذا ليس شيئًا تَفلُت منه بالقول أنك لم تتورط" تقول ميساكا مُحَذرة. "إذا تركت تلكما وحديهما مع القطة وأنت تعرفهما، فإن وزرهما يقع عليك أيضًا،" تقول ميساكا بموضوعية.»

«...آسف. ولكن بصدق يا ميساكا إيموتو، هل أنتِ غاضبة؟»

«"لستُ غاضبة. في المقام الأول، هذه ليست حالة تتساهل فيها فقط لغياب القانون،" تعِظُك ميساكا. "إني فقط أحثك على التفكير بعقلانية و—»

«آه...» بلع رغبته في التذمر من مدى تعبّه من هذا الأمر. «على أي حال، ما عليك كل شيء تمام، إن إندِكس وهيميغامي تفعلان فقط ما تعتقدانه طيّباً للقطة. لن يلحقا بها الأذى! أو يعذبانها! أو أي شيء تحسبينه سيئاً لها!»

«"بقدر ما رأته ميساكا من الوضع البارحة، مستوى الثقة التي سوف تُخصِّصُه لكلامك قريب جدًا من الصفر،" ترد ميساكا. "إضافة إلىٰ ذلك، كيف ستتعامل مع الأمر إذا اتضح بُطلان كل ما في الكتاب؟ ميساكا تعرف كيف تُعامل القطط، فيجدر بك الأخذ بمشورتها—»

«آااههه!» ما تركها كاميجو تكمل حتى النهاية. «أخبرتك، كله تمام! لن يضرانها أو يعذبانها! لن يفعلا شيئاً ترينه سيئاً بوضوح للقطة!»

«"...كأنك تكرر نفس كلامك حرفياً، ما اختلفت إلا حِدّة صوتك" تقول ميساكا معبرة عن رأيها. "هذا لم يكن طلبي - ما كنت أعنيه هو، ميساكا هي—»

«أبابابا!» ما عاد ينطق اللغة. «بخبرتك كله بمام! بندِكس وبيميغامي بتفعلان بس ما بتريانه بَـيّباً للبطة! ما بيضرانها أو بيعذباها أو بيفعلا بشيء بترينه سيئاً لها!»

«...(غضب).»

«-لهاث- -لهاث-...أوه، ها هي المكتبة! وصلنا!»

وقفا أمام متجر كبير للكتب المستعملة. نظر كاميجو إلى الهريرة السوداء في ذراعيه وتفكر للحظة.

«مم. الآن بعد أن وصلنا، أتساءل ما إذا كان مسموح إحضار القطط.»

«"كان هذا بياناً تفسيريًا للغاية واضح. تظن ميساكا أنها تعرف مبتغاك، لذا من فضلك امتنع عن فكرة ترك القطة مع ميساكا" تقول ميساكا مُبادرة.»

«...لماذا، ألئن القطط لا تحبك من مجالك المغاطيسي؟ حسنًا، يبدو لي أنه جدار عليك تسلقه حتى تزدهر بينكما صداقةٌ حقيقية، أليس كذلك؟ خذي – قنبلة القطة النهائية!»

استدار كاميجو ليُواجه ميساكا إيموتو، فرمى إليها الهريرة السوداء متوقعًا منها أن تمسكه. وكان واثقاً بالطبع أن الهريرة ستهبط ببراعة حتى لو لم تمسكها، بفضل ردود أفعالها الحيوانية ومرونتها... تمامًا كما توقع كاميجو، مدت ميساكا إيموتو ذراعيها غريزيًا إلى الهريرة. كان واقعًا حزيناً لمحبي الحيوانات.

وقبل أن تشكو ميساكا إيموتو حتى، دخل كاميجو المكتبة.

«"...يا للطيش. أيُّ قلبٍ هذا يتركه يرمي هُرَيْرةً مسكينة؟" تهمس ميساكا لنفسها» تذمرت ميساكا إيموتو، وهي تقف الآن وحدها في غروب مدينة الأكاديمية.

نظرت إليها الهريرة السوداء بعيون خائفة، وهي متأثرة بالأمواج الكهرومغناطيسية الصادرة من جسدها. فكرت في وضعها على الأرض، لكن الهريرة لم تُعَرّف ميساكا إيموتو وكاميجو على أنهما "مالكاها"، لذا ظنّت أنه إذا تركتها، فإنها ستهرب دون رجعة.

كانت هُرَيرة صغيرة، ولكنه مُحال لأحدٍ أن يطارد قطة أو حتى هريرة تهرب بجدية. أهم وأوّل شيء علىٰ المُلّاك فعله هو إطعامها، ثم أن يجهزوا سريرًا لها، وأن يمنحوها الأمان ليضمنوا لها أنه لا داعي للهرب.

«"...ومع ذلك، رماها" تقول ميساكا مُتنهدة» قالت ذلك بوجهٍ خلا من التعابير تمامًا. الحسنة كانت في أن الهريرة السوداء لم تكشف مخالبها أو تقاوم معاندة. لربما كان أقرب للخوف من الطاعة. وبالطبع أرادت لمس الهريرة، لكنها تنهدت علىٰ حقيقة أن رؤيتها تُقاوم كانت لتُرَيّح بالها أكثر من رؤيتها خائفة...

...حينها طرأ أمر.

كانت عطلة الصيف، كان الأولاد والبنات يرتدون ملابس عفوية ويكتظون في شوارع المدينة الأكاديمية الليلية. ربما برز زي مدرسة ميساكا أكثر من أي شخص آخر.

لكن علىٰ ذلك، كانت عادية مقارنة بالصبي الذي كانت تنظر إليه الآن.

كان شابًا، شعره وجلده كلاهما أبيض باهت مرعب. ليس الأبيض المراد به "صافي" أو "بريء"، بل العكس تمامًا: كان بياضاً ملوثاً نجسًا. وفوق شحوبه لَبَسَ ملابس سوداء بالكامل كأنها توكد روحه الملطخة.

وعيناه...

كانت حمراءَ كالدمِ، حارة كالوقدِ، قرمزية كلهيبِ جهنم تتحَيّنُ فريسةً آن قِطافها.

كان بعيدًا وفي وسط الحشد، ومع ذلك برز وجوده أوضح من غيره. ما فعل شيئاً مُعَيّناً. ما قام شيئاً استثنائيا، ومع ذلك...

إذا جاز لها القول، فإن هذا الشيطان الواقف كان شذوذاً وسط العاديين.

أكسِلَريتر.

أقوى أصحاب المستوى 5 في المدينة الأكاديمية – وربما الأقوى في العالم.

كان ببساطة يحدق في ميساكا إيموتو ويبتسم صامتاً.

«...»

نزّلت الهريرة السوداء بهدوء إلى الأرض.

ستُقتل. أي شيءٍ معي سيدخل المعركة ويُقتل بالتأكيد، ميساكا تفهم هذا.

لكن الهريرة لم تتركها. كانت ترتجف في ضيق لكنها لم تهرب؛ بل نظرت إلى وجهها وماءت.

نظر أكسِلَريتر إلى ميساكا إيموتو وابتسم ابتسامة بعيدة تمامًا عن مفهوم "البياض"—ابتسامةً مُشوّهة مُلتَوية مُنحَرِفة حانِقة فاسِدة مَسْعورة.

مرّت صورة واحدة في ذهنها.

مشهدٌ في منتصف الليل، انفجار آكلة المعادن ممزقةً ذراعَ فتاةٍ يُمنى.

انتهت حياة ميساكا إيموتو العادية في هذه اللحظة.

ومن هنا، بدأ جحيمها.

  • الجزء 5

اكتظ الفتيان والفتيات داخل المتجر المُكَيّف.

كان موقعًا لسلسلة كبيرة من المكتبات المستعملة. إلى جانب أسعاره الرخيصة، سمح لزواره بالقراءة واقفين في الممرات، كانوا أناس كُثر الذين تراهم يبحثون عن مانغاتٍ معينة، ولكن ليس بما يكفي لشرائها.

«...» وقف كاميجو بينهم، مذهولًا.

قد رأىٰ كتابًا بعنوان "كيف تربي القطط" على الرف أمامه. التعرض المستمر للضوء بَهّت من غلافه، لكن ذلك جعله أرخص، لذا لن يشكو.

لكن ما هذا الترتيب؟ تساءل.

بجانب "كيف تربي القطط" وَجَدَ كتاباً بعنوان "طرق لذيذة لطهي لحم البقر".

«...حسنًا، كلاهما عن الحيوانات، لكن...»

حرّك عينيه جانباً أكثر فرأىٰ كتابًا بعنوان "جديدنا! حكاية الأبقار العلمية في بيوت المزارع".

كانت هناك عدد قليل من المباني في المدينة الأكاديمية التي لم يكن بها أي نوافذ. تُدعى "المباني الزراعية"، وكانت تُستخدم لزراعة الخضروات المائية وتربية الحيوانات للاستهلاك.

داخل المباني ستجد الخضروات المعرضة للأشعة فوق البنفسجية والتي تستنشق ثاني أكسيد الكربون المار عبر منقيات الهواء وتغرس جذورها في الماء المخصب بأنواع مختلفة من المغذيات. عندما يسمع الناس خارج المدينة الأكاديمية عن هذا، لعَلّهم يقولون "مقرف" ظـنّـاً منهم أن الطعام المخلَّق علميًا سيئ لأجسادهم.

...هو العكس. كيف تأكل خضروات مزروعة من تربة لا تعرف حتى نوع المواد الصناعية والمخلفات السائلة التي نَمَت عليها؟

مثل هذه القِيَم هي التي تفصل داخل المدينة الأكاديمية عن خارجها. دون أن يفكر في الأمر أكثر، أخذ كتاب "كيف تربي القطط" من الرف.



ركضت فتاة عبر زقاقٍ يقع خلف متجر الكتب المستعملة.

انزلقت إحدى أحذيتها.

حَكمت أن الركض بحذاءٍ واحد سيضُرّها، فخلعت الآخر وتركته وراءها أيضًا، ثم استمرت.

من أول نظرة، قد يعطي شعرها البني الواصل إلى الكتف، وبلوزتها البيضاء ذات الأكمام القصيرة، وسترها الصيفية، وتنورتها المثنية انطباع أنها طالبة من مدرسة توكيواداي الإعدادية. إضافةً إلى ذلك، قد يتعرف الذين يعرفونها على اسم ميساكا ميكوتو.

ومع ذلك، كان فيها شيئان يجعلان من غير المعقول تسميتها بطالبة في المدرسة الإعدادية.

أحدهما كان زوج من النظارات الدقيقة العسكرية الموضوعة على جبهتها.

والأخرى كانت البندقية الهجومية التي كانت تمسكها بيدها اليمنى.

علىٰ أنها بندقية هجومية من الناحية التقنية، إلا أنها كانت مصنوعة من البلاستيك المغلف بدل الفولاذ. نظرًا لأن البندقية تَشَكّلت بطريقة جميلة وظيفية تُذكر ناظريها بالطائرات المقاتلة النفاثة، هذا ربما أبداها كبندقية تراها في عالم الخيال العلمي. هذا التشبيه ما كان بعيدًا عن الواقع.

البندقية، F2000R Toy Soldier، كانت تستهدف الهدف عبر الضوء تحت الأحمر، وكانت قادرة على تعديل مسار الرصاصات في الوقت الحقيقي باستخدام التحكم الإلكتروني لتعطيها أكبر فرصة لإصابة الهدف. لم يكن على الرامي التفكير في اتجاه الرياح أو أنماط تفادي الهدف المتوقعة. كل ما كان عليه هو توجيه الماسورة في الاتجاه التي تقوله "الآلة المُفكرة"، ويمكن لأي أحدٍ أن يصير خبيرًا. إضافة إلىٰ ذلك، بفضل المطاط الخاص الممتص للصدمات الذي يغلف جسم البندقية وغاز الكربون، كان الارتداد من إطلاق النار شبه معدوم. بندقية آكلة المعادن المضادة للدبابات كانت وحشًا لا يقدر عليها حتى الرجال العساكر، لكن F2000R، التي لها ارتدادٌ ضئيل للغاية بحيث لن تكسر بيضةً حتى، كانت وحشًا يمكن أن يحمله طلاب الصف الثاني بسهولة.

ومع حملها لمثل هذا الوحش بين يديها، إلا أنها لم تقدر لعب دور المطارد.

ضرب نبضها بعنف، وتذبذب تنفسها بشدة، ومضت أفكارها وانطفئت بفوضوية—كل هذا أشار بدقة أيٌّ منهما كان المُطارد وأيٌّ الفريسة.

اقترب ظل من الخلف.

اقترب الفتى الشاحب حتى مسافة عشرة أمتار فقط منها وقال: «ها-ها! لمَ الهرب وما الفائدة حتى؟ أتغرينني وأنتِ تهزّين مؤخرتك هكذا كأنك تطلبينها؟!»

ما كان من مَهربٍ أو مَخبئ في هذا الزقاق الضيق والمستقيم من رصاص البندقية—ومع ذلك، كان "الصياد" الأعزل يفيض بعاطفةٍ مخبولة.

دون أن توقف هروبها، لَوَت خصرها وهي تركض لترى خلفها.

ماسورة الـ F2000R التي كانت تحملها عند وركها أرسلت نظرتها الثاقبة نحو الفتى الشاحب، أكسِلَريتر، كأن مرادها أن تُجَمِّدَ ناره الموقدة في منتصف الصيف.

لم تتردد في سحب الزناد.

ابتلعت البندقية بهدوء كُلّاً من الارتداد والضجيج الناتج عن رمي النار. مع صوت انفجار حاد ومحدود يشبه صوت مفرقعة رخيصة، أرسلت رصاصات 5.56 ملم من طرفها وأوصلتها بدقة إلى مواقع حيوية في جسد الفتى.

أو كما ظنت.

«...؟!»

تجمد جسدها مذهولاً. رصاصات 5.56 ملم كانت تتمتع بقوة كافية لاختراق سيارة بأكملها من جانبٍ إلى آخر، ولكن ما إن اصطدمت بجسد الفتى، صُدَّت في كل اتجاه. كأنها رَمَت رصاص مسدسٍ رخيص على مدرعة.

بشش. وفي اللحظة التي سمعت فيها صوت اللحم يُسحق، وَجَدت ثقباً أحمر مفتوحًا واسعًا في كتفها الأيمن.

واحدة من الرصاصات المرتدة قد اخترقت كتفها.

«...آي...غ!»

ترنح جسدها. حاولت على الفور أن تتكأ على الحائط بيد، ولكن حينها التوى ساقاها وارتطم رأسها بالخرسانة القذرة، وانزلقت على الجدار فسقطت على الأرض.

«هيّا، لنضيّع الوقت، ما رأيك أن أعطيك لغزاً؟ خذي سؤال: ما الذي فعله أكسِلَريتر توّاً؟!»

ضحك بجنون وخبالة. عندما رفعت نظرها، رفع الفتى ساقًا في الهواء، وضع كل ثقله فيها، ورمى قدمه نحو جمجمتها محاولاً سحقها.

«!»

تدحرجت على الفور على الأرض القذرة لتتجنب الدوس القادم. عندما فرغت، جهّزت الـ F2000R، وجّهت للأعلى صوب رأسه، وضغطت الزناد.

أطلقت وابلًا من الرصاصات من مسافة قريبة—حرفيًا ما كان بينهما الكثير. توجهت الرصاصات بدقة نحو عيون الفتى الشاحب والباهت كثيراً، دوناً عن وجهه. لكن مرة أخرى، في اللحظة قُبيل أن تلامس الرصاصات عينيه الناعمتين، ارتدت بعيدًا.

الفتى الشاحب لم يغمض عينيه حتى.

ما ارتسم على محياه الضبابي كان ابتسامةً أبدته كحرقٍ بشع.

وبيده البيضاء مرفوعة في السماء، لَوّح بها.

ولقد جهلت الفتاة ما كانت تقتدر عليه هذه اليد.

«...!»

سرعان ما ألقت الـ F2000R الفارغة نحو وجهه. ما نَوَت بهذا ضربةً قاتلة. حاولت فقط أن تخلق فجوة للحظة كي تأتي بخطة.

لكن الفتى لم يحرك عضلة. في اللحظة التي اصطدم فيها جسم الـ F2000R بوجهه، تحطمت البندقية إلى قطع كما لو أنها هُمِّشت من أنياب عملاقة غير مرئية.

ذُهِلت الفتاة لكن لم يكن لديها وقت لتتوقف. لَوَت نفسها وتدحرجت وأخيرًا وضعت خطوة من المسافة بينهما. حركت يدها اليسرى—اليد الوحيدة التي لا تزال تتحرك—جمعت القوة فيها، و...

...أطلقت رمحًا من البرق.

اندفع الرمح الأرجواني بسرعة الضوء. كان فيها قوة تدميرية تكفي لقتل مرءٍ.

ما ظنت أنها توجه ضربة قاتلة.

إذا استطاعت تشتيته بهذا وأن تجد وسيلة للهرب، فإن ذلك يكفيها.

لكن مع ذلك. ورغم ذلك.

ارتد الرمح الرعدي الذي اصطدم بالفتى نحو صدرها.

«غاه...؟!»

سقطت على الأرض بصدمة شعرت كأن مطرقة خشبية قد ضربت صدرها. توقف نَفَسُها، وبدأت عضلاتها تتشنج في كل مكان.

أمكنت نَفْسها وأجبرتها علىٰ نطق كلمة واحدة من شفتيها المرتعشتين.

«ار...تداد...؟!»

«لا لا، خطأ! اقتربتِ، لكن هذا ليس جوهر قدرتي!»

حاولت أن تبتعد عنه بأي طريقة. لكن بسبب الكهرباء التي أطلقتها بنفسها، جسدها لم يستجب لأي شيء تأمره.

«الإجابة هي أنني غيرت المُتّجه! الحركة، الحرارة، الكهرباء... إذا لامس أيُّ نوع من المتجهات بشرتي، فإني سأقدر تغييرها. ولكني أضبط الارتداد ليشتغل تلقائياً!»

لم تصدق ما سمعته، وهي تنظر إلى ما فعل.

كان كل إسبر في المدينة الأكاديمية ذات الـ 2.3 مليون نفرٍ بالفعل مميزين. ومع ذلك، فإن أولئك الذين يمكنهم استخدام قدراتهم ليغلبوا مسدسًا كانوا أقلية. إذا استطعت الفوز ضد مسدس، فماذا عن رشاش؟ وإن فزت على رشاش، فماذا عن دبابة؟ ماذا عن مقاتلة حربية؟ سفينة حربية؟ غواصة؟ وآخرها، ماذا عن صاروخ نووي؟

لم يكن هناك إسبر يستطيع هزيمة شيءٍ كهذا. أصلاً، لمَ تتعب نفسك بالعبث بعقول الناس وحقن المخدرات وتغيير تكوينتهم الجينية لتخلق إسبرًا "قد" يساوي البندقية؛ بينما تستطيع اختصار الطريق وتشتري البندقية نفسها؟ هو ليس إلا سلاحًا رخيص يمكن لأيٍّ كان شراؤه في بقالات الولايات المتحدة بثلاثين ألف ين. أن تتعب نفسك عبر التهرب من كل تلك الثغرات القانونية لتنشأ منظمةً تطور فيها القدرات الخارقة على نطاق واسع فقط لهذا؟ هذا سخيفٌ وعبطي.

لذلك، لم يكن هدف المدينة الأكاديمية صنع الأسابر. هُم ليسوا أكثر من ورقة اختبار في تجارب علمية. الكنز الحقيقي يكمن في سبب ولادة هؤلاء الأسابر وما هي الآليات الكامنة وراء قدراتهم.

ومع ذلك، كان هذا الفتى مختلفًا بشكلٍ يلفت النظر.

الحركة، الحرارة، الكهرباء—يمكنه تغيير مُتّجه أي شيء. حتى لو ألقيت على رأسه سلاحًا نهائيًا –مثل صاروخ نووي– فإنه سيخرج سالمًا. الانفجارات الماحية لكل شيء، الحرارة الحارقة لكل شيء، النيوترونات والإشعاعات المدمرة لكل شيء—يمكنه عكس كل ذلك.

أقوى مستوى 5 في المدينة الأكاديمية: أكسِلَريتر –– ذو الدرب الواحد.

مصطلح "الوحش" خطر على بال الفتاة. هذا المخلوق الذي يتظاهر بالآدمية لديه القوة ليصنع من العالم عَدُوّاً ويعيش من بعدهم.

انحنى بجانبها.

«قدرتي ذات المستوى 5 تمكنني من التحكم في كل المُتّجهات.» بدا الفتى بعيدًا عن الواقع خارقاً، لكنه تحدث وكأنها لا شيء. «ومن إحدى استخداماتها، هذي...»

أثناء قوله، غرز إصبعه النحيف في الفتحة الحمراء الداكنة في كتف الفتاة الأيمن، كطفلٍ يسحق حشرة تمشي على الطريق.

«...!!»

صدر صوت انشقاق كصوت تفاحة تُقسم. تشنج جسدها من شدة الألم.

«والآن، إلىٰ المهزومة سُؤالٌ أُعطيها.» قال أكسِلَريتر ساخِراً. «إني الآن ألمس دمك الآن. أي تدفقك ودورتك الدموية. الآن، إذا أخذت هذا المتجه وعكست اتجاه التدفق، فماذا تعتقدينه حاصِلاً للجسم البشري؟ جاوبي صح، ولكِ أن تنامي هانئة!»

لم تكد عيناها تتسع صدمة حتى أقدم عليها شيء لم تعرفه...

...وبلحظةٍ ضربها ألمٌ ما للجسد تصوّره.



«ها؟»

خرج كاميجو من مكتبة الكتب المستعملة وفي يده كيس تسوق.

يفترض أن يجد ميساكا إيموتو تنتظره هنا، لكنها ما كانت.

ربما غضبت مني لأني أجبرتها على الاعتناء بالهرة، فرحلت. تساءل.

لم تبقَ إلا الهريرة السوداء، جالسة بمفردها على الأرض.

حَمَلَ كاميجو الهريرة، المنكمشة أذنيها والمرتعشة قليلاً، ثم راحَ ينظر حوله. ما وَجَدَ شذوذاً على هذا الطريق الذي لمع في غروب الشمس. وَجَدَ فتياناً وفتيات بملابس غير رسمية يتجولون، وكُلّهم عائدون إلى مساكنهم بعد يوم مليء بالمرح.

(......؟)

بينما كان ينظر حوله، شعر فجأة بشيء من المشهد العادي. استدار لينظر ثانية على المنطقة. هناك وَجَدَ زقاقاً في الفجوة بين مكتبة الكتب المستعملة والمبنى المجاور لها. شيء ما فيه أزعجه. (ما هو؟ ما الذي يزعجني بالضبط؟) فكر وهو ينظر عن كثب. كان مدخل الزقاق الخلفي يحده الطريق المبلط، وبالقرب منه رأى عنفات الرياح تدور وتدور وتصدر صوتاً مزعجاً طوال الوقت. وَجَدَ كذلك الكثير من الأوراق المتجمعة من الأشجار على جانب الطريق عند المدخل، كأنها لم تُنَظف أبداً، ووجد هناك حذاء فتاة على الأرض. انقطع تبليط المسار عند مدخل الزقاق، وعلى أرضية الممر الضيق رأىٰ إسفلتاً بدا مؤقتاً حَديث—

—حذاء فتاة؟

«...؟»

وهو يحمل الهريرة السوداء، اقترب من مدخل الزقاق. زحف شعور مُنذِرٌ شرير عبر جسده كأنه حريش. حذاء فتاة، واحد فقط، على الأرض. كان حذاء لوفر بني اللون، بدا حذاءً مدرسيًا عادي. لم يكن متسخاً بشكل خاص—في الواقع، كان نظيفاً سليم—مما يعني أنه ما مضى زمن منذ تركه.

حدق كاميجو في المسار.

كانت الشمس تغرب، فلم يكن ضوءها يخترق الفجوات بين المباني. لم يستطع أن يرى أي شيء أبعد بمجرد أن ألقى نظرة صغيرة إلى الداخل. كان ظلامًا كمدخل كهف.

«...»

خطا خطوة إلى الزقاق.

مع حركة بسيطة، شعر أن الحرارة حوله انخفضت درجتين أو ثلاث. ارتفع إحساس بأنه وطأ المجهول من قدميه ببطء إلى باقي جسده.

استمر متقدمًا. هناك على الأرض القذرة وجد الحذاء الآخر. تقدم أكثر. تزايد حدسه المشؤوم. ببطءٍ ببطءٍ كان ينوي، لكن قدماه عجّلت به تُسرعان. ما الذي أقلقه؟ تساءل، لكن تنفسه ونبضه تسارعا كأنه يتدحرج من تل.

ثم لاحظ علامات على الجدار، كأن شيئاً نُحِت فيها. علامات كأن أحدهم كان يحفر في الخرسانة بمسمار حديدي. ولم تكن علامة أو اثنتين — وَجَدَ الجدران مخدوشة أينما حل بصره كأن أحدًا يضرب بقضيبٍ معدني كل مكان.

داس بقدمه على شيء.

معدنٌ ذهبي...لا، بل أقرب إلى النحاس. كان أنبوبًا معدنيًا بحجم بطارية. رأى كاميجو أنه مخزون الرصاص، ذاك الذي لم يره من قبل إلا في الأفلام. وكانت رائحة كرائحة الدخان بعد الألعاب النارية تلوح [2] بوهنٍ في الهواء.

(ما هذا...؟) كبح كاميجو صوت أفكاره اللاواعية. استمر في التقدم على أي حال، ماشياً بهدوء قدر الإمكان لسبب ما. وفي كل خطوة يخطوها، شعر بالإحساس الغريب بأن الهواء يزداد تلوثاً.

عندما غاص قليلاً أعمق، رأى شيئاً منسدحًا على الأرض في الجانب الآخر من هذا المكان المظلم. لا، لكي نكون دقيقين، رأى أحدًا ممدداً على الأرض. من موقفه هذا رأىٰ قدمين. رأىٰ قدمين وحسب، وباقي الجسد التهمه الظلام مخفيًا إياه. كان هناك شيء مبعثر حول القدمين. كانت فوضى من الشظايا، تشبه البلاستيك، ونابضٌ  ما—كحطام لعبة.

«ميساكا...؟»

لماذا نطق اسمها أوّل ما رأى المشهد؟ لم يعرف كاميجو. تقدم خطوة أخرى حافراً طريقه في المجهول.

هناك رآها.

رقدت ميساكا إيموتو على الأرض، جُثةً.

  • الجزء 6

كانت راقدة على ظهرها، وعيونها صوب السماء البنفسجية المستطيلة شكلاً من المباني.

كانت في بحرٍ من الدم. كان مشهدًا يُشكك المرء في كمية الدماء التي يحتويها جسم الإنسان. ما كان على الأرض فقط، بل كان على الجدران أيضًا، مغطى بصبغةٍ حمراء على ارتفاع مستوى عين كاميجو. بدا الأمر وكأن أحدهم عُصِرَ كإسفنجة، وكأن كل قطرة دم خرجت.

رأىٰ فتاةً في مركز هذه الأرضية القرمزية.

ذراعيها وساقيها، اللتين امتدتا من أكمامها القصيرة وتنورتها، كانت ممزقة. وغالبًا حدث نفس الشيء تحت ملابسها. تلوث زيها باللون القرمزي الساطع حتى ما عاد بالإمكان معرفة اللون الأصلي. ورغم أن جسدها كان ممزقًا بالكامل، إلا أنك لن تجد ضررًا يُذكر على ملابسها.

تمزق جسدها من الداخل إلى الخارج على طول تدفق الدم وكأن أحدًا قد أدخل سلكًا رفيعًا في جميع أوعيتها الدموية ثم سحبها. شكل ذراعيها المقطوعة ذكّرته بتشريح الضفادع في حصة العلوم. لن تتعرف على وجه إنسانٍ في محياها، بل مثل زهرةٍ متفتحة، أو كبيضةٍ مسلوقة نُزِعت قشرتها سترىٰ فيها تجويفاً أحمر داكن يكشف عن حزمٍ من العضلات الوردية ودهونٍ صفراء هلامية.

«أ...آه...»

تراجع كاميجو تلقائيًا خطوة من المشهد الأحمر والبنفسجي. بدأت الهريرة السوداء تموء بألمٍ نحوه، حيث أنه كاد يسحقها بين ذراعيه.

«أ...غ...»

لقد شهد جحيمًا من قبل، كان جحيم مدرسة ميساوا التحضيرية. لكن الجثث التي رآها آنذاك كانت إما مغطاة بالدروع أو مذابة إلى ذهبٍ خالص. ما تجلت له حقيقة أنه كان ينظر إلى "لحمٍ" و"دمٍ" حقيقيّين.

لكن هذا كان مختلفًا.

زادت رغبة في القيء كأنه أدخل إصبعًا في حلقه. (لا تفعل!) صرخ عقل كاميجو. (كيف لك أن تنظر إليها وتتقيأ؟ هذه ميساكا إيموتو!) جزءٌ ما في عقله صَرَخ عليه بمنطق وردي...وعندها فجأة لاحظ تنورة ميساكا إيموتو على حافة بصره.

رأى شيئاً يبرز من تنورتها، من بين ساقيها.

طبقة رقيقة من الأرجواني بسطحٍ وردي، ناعمة كانت وإسفنجية—

«أغغه!»

ساعتها، ما استطاع كاميجو التحمل أكثر، فانحنى. انتشرت الحموضة في فمه، وعلى الفور، خرجت محتويات معدته.

استفرغ.

كانت هذه فتاةً تحدث معها بابتسامة منذ عشر دقائق فقط. وهذا الواقع الغريب قِبَلَه كاد أن يحرق تروس تفكيره.

سقط قيئه على الأرض بصوتٍ مقزز وهو يختلط بحافة بركة الدم مكونًا نمطًا رخاميًا غريبًا.

دم.

بهذا، أدرك أخيرًا. الدم لم يجف بعد. الدماء تتجلط في خمسة عشر دقيقة—لذلك، ينبغي أن يكون الفاعل قريب.

الذي فعل هذا قريب.

شَحُبَ كاميجو عند سماع أفكاره. حقّاً مهما نظر إليها، لم يبدو الأمر حادثاً أو انتحار. داخ رأسه. الاحتمال الوحيد الباقي كان شيئاً ما أراده يتجلىٰ في كلمات.

وحينها...

سَمع ضوضاءً ما قادمة من أعماق الزقاق.

«؟!»

عادةً، سيفترض أنها قطة ضالة أو مثل هذا. لكن هذا البحر من الدماء قد جاوَزه حدود المعقول والعادة. تراجعت خطواته بمفردها. كان الظلام مخيفًا بنفسه، ولكن أهم من ذلك أنه ما أراد التفكير حتى في السير فوق ميساكا إيموتو.

خطوة بخطوة تراجع، ثم أخرى... وهو يفعل، تذكر الإحساس الصلب في جيبه. كان هاتفه المحمول. (عليّ طلب النجدة،) فكّر، (لكن هل ينتظرني الخطر حتى وصولهم؟ حتى لو اتصلت، عليّ الخروج من هنا أولاً)، قرر فوَلّىٰ ظهره إلى ميساكا إيموتو وراحَ يركض من حيث جاء.

كان يحسب الزقاق مستقيمًا تمامًا، لكنه اصطدم بالجدار عدة مرات حيث حَسّ بالأرض تهتز تحت قدميه. ضغط أزراراً في هاتفه المحمول أثناء ركضه، لكن أصابعه كانت ترتجف، لذا لم يعرف حقاً ما كان يضغط. ربما كان 110، ربما 119، أو 117، أو 177. على أي حال اتصل على رقم. رنت نغمة بضع مرات، ثم سمع صوت "بززت".

(أخيراً، ردّوا!) لكن كل ما سمعه من الطرف الآخر كان صوتًا إلكترونيًا باردًا يقول "بيب، بيب".

بَعَّد كاميجو الهاتف عن أذنه ونظر إلى الشاشة.

لم يكن لديه استقبال. أراد حقّاً أن يرميه.

كم هو غريب أن تكون الهواتف الخلوية مُزعجة عديمة الفائدة، كما فكر الفتى.

استخدم هاتفه محاولاً الاتصال بالنجدة، ولكن يبدو أنه لا إشارة له في زقاقٍ ضيق. بدون خيارات أخرى، خرج من الطريق وطلب النجدة مجددًا، هذه المرة أمام متجر الكتب المستعملة.

إذا سأله أحد ماذا قال عبر الهاتف، فلن يتمكن من الإجابة.

قد صرخ بشيء ما فسر الوضع كاملاً، ورأىٰ الرقم النادر 119 في سجل اتصالاته.

على الطريق الرئيسي كان صخب وضجيج الحياة العادية الطبيعية. لم يعتقد أن أي أحدٍ سيصدقه إذا قال أن هناك جثة فتاة ملقاة على الأرض بضع خطوات فقط داخل هذا الزقاق.

«...»

نظرته سقطت على الهاتف الخلوي في يده.

في الغالب كان عليه أن يُخبر ميكوتو ما حدث. ولكنه لم يعرف رقم هاتفها. عدم قدرته على فعل هذا الأمر الهيّن أشعرته بالعجز والوهن.



تثاءبت الهريرة السوداء في ذراعي كاميجو.

قد اتصل بالرقم 119، لكن الشرطة هي من حضرت. [3]

ما كانت ساعته الداخلية جيّدة، لذا لم يعرف كم من الوقت قد مرّ منذ البلاغ. شعر بانتظاره أكثر من ساعة، وفي الوقت نفسه كأنه لم يمضِ على الأمر سوى عشر ثوانٍ.

وفقًا للشاشة على هاتفه الخلوي، مرت ثلاثون دقيقة.

في البداية اعتقد أن هاتفه خربان، لكن عندما نظر إلى السماء وجدها تحولت من اللون الأرجواني إلى الأزرق الداكن الليلي. نظر بفراغ إلى ضوء النجوم المتلألئة.

«...»

راقب بصمت الشرطة وهم يأتون.

ما كانوا شرطةً تحديدًا، كانوا الأنتي-سكيل. ما كانوا أسابر، بل أقرب إلى جنودٍ مسلحين بأسلحة الجيل القادم. بدا أنهم يعتقدون حاليًا أن هناك جريمة قتل من قبل إسبر متهور. نزل منهم حوالي عشرة من المربكة عديمة النوافذ، كلٌّ منهم محمي بخوذة سوداء كاملة وبدلة مصنوعة من ألياف خاصة – بدلات تبدو آلية للغاية. حملوا في أيديهم بنادق ورشاشات غريبة. عبّرت هذه المعدات عن أولوياتهم: القبض علىٰ الجاني فوق حماية المدنيين.

«...أنت! يا فتى!»

خاطبه فرد الأنتي-سكيل فجأة بينما كان جالسًا مذهولا. لفّ رأسه وتسائل. (قد سمعوا صوتي فقط، فلا يفترض أن يعرفوا وجهي، صح...؟) لكن عندما نظر حوله، رأىٰ أن الأنتي-سكيل قد انتشروا وصاتوا [4] بالناس القريبين، واحدًا واحدًا.

«أنا الذي بلّغكم. لكنني اتصلت طلبًا للإسعاف، لا للشرطة...»

«هل حدثت جريمة؟ أُعِدّ النظام لإبلاغ الشرطة تلقائيًا في حالات الجريمة. أظننا وصلنا قبلهم...» نظر فرد الأنتي-سكيل إلى عيني كاميجو. «...أهو هذا الزقاق؟ وهلّا تُخبرنا قليلاً عن الوضع هناك وما رأيت؟ ستكون عَوناً كبيراً.»

أغلق كاميجو عينيه. كان ما رآه في الزقاق الخلفي ملتصقاً خلف جفنه كالغراء.

ثم قال، «...أحدٌ مات.»

كان صوته هادئًا بشكل مدهش، مما أزعجه.

«كانت الجثة كلها ممزقة... لا أعرف ما السلاح المستخدم أو أي شيء. ربما كانت قدرةً خارقة.»

مع كل كلمة خرجت منه، انغثّت نَفْسُه أكثر فأكثر.

كان شعورًا غير سار. أشبه بإحساس عودة الحياة إلى جسمه المشلول.

«كانت فتاةً عرفتها. التقيت بها قبل يومين فقط، لكن إذا أريتني صورتها، سأعرفها فورًا. أه، لا... كيف لي أن أهدئ هكذا؟ يفترض أن أحزن أكثر، أليس كذلك؟ إذن، لماذا، لماذا أنا...!»

«يكفي.» قال فرد الأنتي-سكيل بإيماءة. «لقد اتخذت أفضل الخيار بمناداتنا. ليس عليك شيء.»

«...لكنني هربت.»

«ومع ذلك، فعلت الصواب» أجاب رجل الأنتي-سكيل.

يُدرك كاميجو أن هذه الكلمات كلمات عزاء مؤقت، لكنها كَفَت أن توقف انهياره. بالكاد أمسك نَفْسَه.

«عادةً ما نود أن يأتي الشاهد معنا، فهل تقدر؟ لن نجبرك على ما لا تطيق...»

شعر برعشة تسري في عموده الفقري عندما سمع هذا. أشعرته أطراف أصابعه بطعنات الإبر والدبابيس، كأن المشهد المروع قد حرق عينيه.

«...سأذهب» قال كاميجو، والهريرة السوداء في يديه.

لم يعرف لماذا. فقط ما عاد يريد الهروب بعد الآن.



هل سيتعين عليه أن ينظر إليها مرة ثانية؟

عندما تأمل كاميجو في هذا الاحتمال، ارتعب. لكنه وَجَبَ على نفسه أن يدخل ذلك الزقاق. ماذا حدث في تلك الظلمة؟ لن يرجع عن البحث في ذلك.

أحاطه أفراد الأنتي-سكيل المحصنين لحمايته، وقادوه إلى الزقاق الخلفي.

...ها؟

بمجرد أن دخل خطوة، شعر بشيءٍ ليس في محله.

ما وَجَدَ الحذاء.

نعم، في بداية الأمر رأىٰ كاميجو أحد زوجي حذاء الفتاة واقعًا عند مدخل الزقاق. وكما تقدم أعمق، رأىٰ الآخر ملقى على الأرض. هكذا كانت، صح...؟

عندما التف ليرىٰ خلفه، وَجَدَ هناك فعلاً حذاء ملقى على الأرض في المدخل.

لكن الحذاء الثاني، الذي سقط بعيدًا عن الأول، ما كان موجودًا.

...؟

شعر كاميجو بثُقلٍ يسقط في معدته، لكن الأنتي-سكيل تقدموا سريعًا. تالي الأمر، ينبغي لهم أن يروا خربشات وشخبطات على الجدران حولهم. نعم – كان ينبغي أن يروا. ولكن ما كانت موجودة. وكأن أحدًا جاء ونظف الزقاق. وما كان هناك شخصٌ واحد على الأرض القذرة. كُشِّطَت الجدران عن الخدوش. [5] لم تُمسح العلامات تمامًا، لكنها أُخفيت كأن أحد حاول يائساً إخفائها.

...لحظة لحظة.

اعترى كاميجو نذير تجاه هذا. الثقل في بطنه انخفض. أراد أن يتمهل لحظةً ويفكر، لكن الأنتي-سكيل استمروا بالتقدم سريعًا. شعر بإحساس غريب، كأن حشرات تزحف تحت جلده. الحذاء المفقود والخدوش المزالة بوضوح عن الجدار. شعر بأن تلك النقاط المتفرقة تتجمع لتُكَوّن تفاعلاً كيميائياً غريبًا في رأسه، وراحَ يدمجها في معنى واحد.

أراد أن يتوقف للحظة، لكنه ما استطاع. سُحبت قدماه للأمام كأن حبلاً خفيًا تربطهما برجال الأنتي-سكيل.

ثم وصلوا أخيرًا.

توقف نَفَسُ كاميجو.

وصلوا إلى موقع جريمة القتل –– حيث كانت الأرض بأكملها مغطاة بالدم، وميساكا إيموتو تغرق فيها، جُثةً.

هذه الجثة، لم تكن ظاهرة.

  • الجزء 7

ليس الجثة وحسب.

في الأرض والجدران ما وَجَدَ الدماء الحمراء، كأنها كانت بقعًا على الزجاج مُسِحت. ما رأىٰ شَعْراً ولا لحمًا متناثراً بعد الآن. ما اشتم الدماء في الهواء أيضًا. حتى رائحة اللحم ما عادت موجودة. كأن لم تكن هناك جثة في المقام الأول... كأن حادثاً لم يحدث في الأصل.

«ها؟»

أول ما خرج من شفاه كاميجو كان استغراباً مدهشاً.

وقف ثابتاً، وأمامه رجال الأنتي-سكيل ينظرون إليه سائلين.

«ما بك؟ لاحظت شيء؟»

«لا، ليس هذا...» أشار أولاً إلى الأرض. «هناك. كانت... هناك رأيت... جثة، لكن...»

«ماذا؟»

نظروا إلى الأرض، وبالطبع ما وجدوا قطرة دمٍ واحدة، دوناً عن الجثة. كما لم يجدوا علامات خاصة تدل على أن المكان تَنَظّف. ولا آثار لأي بقع.

تبادلوا النظرات بينهم من خلال خوذاتهم. جَوٌّ حاد (ومُحرِج) سيطر عليهم. بعضهم أرخى الكتف، وبعضهم حدق في الفتى.

«لحظة! أقسم أنني رأيت أحدًا مات هنا!»

«تمام.» نظر أحد الأنتي-سكيل إليه. «إن كان ما رأيته حقيقيًا، فهل كان في هذا المكان؟ ألا تظن أنك ارتبكت وأخطأت التمييز؟ لَعَلّ الذاكرة خانتك ربما؟»

كانت كلماته لطيفة، لكنها خَلَت من الجدية كمشروب صودا فرغت غازاته. اعتقد كاميجو أن طريقة تحدثه بدت كمن يحاول تهدئة مخمورٍ عنيد.

ما الذي حدث...؟ كان محتاراً خانه الكلام.

أهذا وهم؟ إن كان، فأين ذهبت ميساكا إيموتو؟ يفترض أنها تنتظر أمام محل الكتب. سحب هاتفه المحمول. أسرع طريقة للتحقق مما إذا كانت هذه هلوسة أم حقيقة هي ببساطة الاتصال بميساكا إيموتو والتأكد. إذا ردت، فإن ميساكا إيموتو حيّة.

لكنه لم يعرف رقمها.

الاتصال. لم يكن قادرًا حتى على أداء هذه المهمة البسيطة... آخر خيار تبقى لكاميجو كان التخمين بنفسه.

«...»

وقف متجمدًا في مكانه.

كان المشهد أمام عينيه عاديًا مهما نظر – لدرجة أنه شك في ذكرياته. وفي الواقع، أسعده شكّه في ذكرياته أكثر من ما "رأىٰ". إن كان الأمر هكذا، فإن كل ما حدث كان وهمًا لا أكثر، وأنه قدم إشعارًا سخيفًا للشرطة بذلك. ربما سارت ميساكا إيموتو تهورًا وعشوائياً إلى مكانٍ مختلف تمامًا، وحينما تتذكر الهريرة السوداء، ستظهر أمامه مرة أخرى بشكل غير متوقع. بالطبع، مثل هذا المستقبل فضّله أكثر مما "رأىٰ".

...تبا. ما الذي حدث؟

كان أسعد بعلم أن ميساكا إيموتو لم تكن ميتة. لكنه ما زال يتردد في رفض الواقع الذي رآه على أنه وهم. بدأ هذا التناقض الغريب يعض قلبه.

«تبا، ما الذي حدث؟!»

ما عاد يتحملها أكثر، فدفع رجل الأنتي-سكيل وركض إلى الزقاق أعمق. سمعهم يصرخون خلفه طالبين منه التوقف، لكن ربما سئموا منه ولن يلحقوه. بدا عليهم أنهم سيتجاهلون الأمر برمته على أنه "مقلب".

ماءت الهريرة في يديه.

ركض عبر الممرات المظلمة بدون أي فكرة عمّا كان يحاول إيجاده. بحث عن شيء؛ لكنه ما عرف ما كان. بدا أن السبب الجزئي لاستمراره هو ليتخلص من كل الغرائب المكبوتة في صدره.

مع استمراره مُهَروِلاً عبر الزقاق المظلم والمتعفن، وصل إلى تقاطع بشكل T. كان المسار مقسماً يميناً ويسار. في يمينه رأىٰ نفس الممر الضيق العفن مستمرًا في الظلام، وفي يساره أضواء الأعمدة المضيئة. ربما كان المخرج إلى الشارع الرئيسي. بدا وكأنه نور في نهاية النفق.

نفْسُه مالت إلى اتخاذ الطريق الأيسر.

لكنه فكّر أن ترك هذا الزقاق الخلفي كان بمثابة الاستسلام. لذا اختار الظلام على يمينه.

هنا كان الدرب أوسع بقليل عن ما سبقه، كاد أن يُسميه طريقاً بدل ممر. من ناحية أخرى، وَجَدَ دلاءً ودراجات هوائية مهجورة وأشياء متنوعة أخرى متناثرة، ربما لأنها مَسَاحةٌ زائدة. رأىٰ كل أنواع السوائل تتدفق من صناديق البيرة المسكوبة والصناديق الورقية التي بدت وكأنها امتصت الماء. مُزجت ودُمجت جميعها لتشكل سائلاً لزجًا.

وفي ذلك السائل رأى ما يبدو كأثر أقدام يقود إلى أسفل المسار.

تتبع كاميجو هذه الآثار بعينيه، وعندما التفت إلى الظلام أمامه، رأى شيئًا يتحرك.

كان هناك أحد.

تجمد. كاد قلبه أن ينفجر دهشةً.

بدأت الهريرة السوداء تضطرب في يديه متوترة. ربما لأنه شدّها في قبضته.

«مَن هناك؟!» صرخ سائلاً.

لاحظ الذي في الظلام الصوت فنظر.

كان ذاك أقصر منه بشكلٍ غير متوقع. بدا أنها فتاة. ومعها، كانت تحمل شيئاً كأنه كيس جثمان معلقاً فوق كتفها، وكان ذلك مخيفًا بحق. نعم، كيس جثمان. تلك المخصصة لإدخال المغمى عليهم. نام الكيس فوق كتفي الفتاة مُشكّلاً الرقم ۸ وظن كاميجو أنه رأى طرف إنسان فيها.

ما هذا...؟

هذا الظل أخلى كاميجو من الكلمات. بدا أن هناك إنسان في ذلك الكيس... في الواقع، كان الأمر أقرب أن مجموعة من أجزاء المفككة جُمِعت وحُشرت معًا. علىٰ أن الشكل الكُلّي بدا مدمرًا، إلا أن قطعًا مختلفة –كالمعصمين والكاحلين– برزت من النسيج.

ثم رأى كاميجو...

...ذلك الشخص، الذي كان ظِلاً حتى الآن لأنهم كانوا في الظلام. ذلك الشخص، الذي حَمَلَ بوضوح كيس جثمان.

رآها كاميجو...

...هذه التي على الجانب الآخر من الظلام بعد أن طُمِس...

ميساكا إيموتو.

«ما...؟»

تصلبت حركة كاميجو تمامًا بهذا المشهد. الهريرة السوداء في ذراعيه أطلقت مواءً ودياً، وهو أمر غريب نوعًا ما نظرًا للوضع.

لا شك في أنها كانت ميساكا إيموتو.

شَعْرٌ بني قصير إلى الكتفين، مع نظارات عسكرية على الجبين... بلوزة بأكمام قصيرة بيضاء مع كنزة صيفية وتنورة مطوية... ها هي تقف هناك، كما لو أعيد تجديدها من بعد الخراب.

لم يعرف ماذا يقول، ما كان في باله شيء، حينها...

«"ميساكا تعتذر. قد خَطّطت للعودة بمجرد أن تُكمل عملها" تقول ميساكا مقدمةً اعتذار.»

نظرتها، مظهرها، والهواء الذي تنفثه، ونبرة صوتها –– كلها ترجع إليها بدون شك.

«مهلا، مهلا لحظة. أنتِ ميساكا إيموتو، صح؟»

إن كانت، فهل كان كل شيء رآه قبل ذلك وهم؟ وعلىٰ أنه كان غير راض عن هذا التفسير، فإن صورة ميساكا إيموتو كانت تقف أمامه بالتأكيد، كما كانت دائمًا.

خارت قدميه فسقط.

«تباً، فماذا كان كل ذلك؟» تلفظ كاميجو. «آه، آسف. لعلها تكون قصةً مقززة بحق لأحكيها لكِ خاصة. ولكن حتى الآن، اعتقدت أنكِ قد تعرضت لشيء خطير. ولكني أراكِ بخير. أنا مسرور.»

«"...ميساكا تستصعب بعض ما تقول..."»

حسنًا، لا أظنها ستفهم. لا أعرف حقاً لمَ أتتني هذه الهلاوس، لكن كل شيء تمام إذا كانت ميساكا إيموتو بخير...

«"...ميساكا ماتت فعلياً،" تقول ميساكا.»

ابتلع كاميجو الهواء بصعوبة.

ميساكا إيموتو كانت أمامه. لكن الآن ما إن استوعب الموقف، ما الذي كان في ذلك الكيس الذي تحمله على كتفها؟ أدرك هذا متأخراً. وكأن دمية عارضة أزياء رُميت في الداخل، حيث بدا شكل المفاصل عشوائيةً وفي غير محلها.

ماذا في ذلك الكيس؟ تساءل، محولًا نظره إليه. ثم قفز شيء إلى رؤيته. كان هناك شيء قد برز من سَحّاب الكيس الجثماني. ككتلة من العشب، برزت من الفتحات بين السَحّاب، وكان لونها بُنّي––

—شَعْرٌ بُنّي.

زفر مُهدِّئاً نفسه، وقد سارت قشعريرةٌ بارده في جسده.

هل هي تحمل دمية بحجم إنسان؟ فكر متفائلاً. ولكنه لَمَحَ في الشعر البني أُلفة كبيرة. نعم – لونه، لمعانه، وكل ما به مطابق تمامًا للفتاة التي تحمل الكيس الجثماني.

«مهلا... مهلا. ما... ماذا... تحملين بالضبط؟ ما في ذلك الكيس؟»

«"...؟ ألا تدري؟" ترد ميساكا بسؤال. "ظنّت ميساكا أنك مرتبط بهذه التجربة لأنكِ حضرت منطقة الاختبار، لكن... فهمت. بالطبع لن تكون مرتبطاً بهذه التجربة" تجيب ميساكا من حدس.»

تجربة...؟

كان كاميجو هادئًا للحظة. لم يفهمها أبدًا.

«"للتأكيد، ستتأكد ميساكا منك بكلمة السر،" تقول ميساكا وتعطي. "ZXC741ASD852QWE963"، تقول ميساكا وتختبرك.»

«ما...؟ ما هذا، بماذا تهذين؟»

«"نظرًا لعدم قدرتك على فك تشفير كلمة السر، تستنتج ميساكا أنك لستَ مشاركاً في هذه التجربة،" تقول ميساكا وتدعم حدسها بأدلة مبنية على المنطق.»

بدت كلغةٍ فضائية تخرج من فمها.

نظر إليها بشك مرتاب، لكنها استمرت.

«"في هذا الكيس الجثماني أخت،" تُجيب ميساكا.»

أتى جواب شكوكه من صوت ميساكا إيموتو...

لكنه كذلك سمع الصوت مع خطى أقدام قادمًا من خلف ميساكا إيموتو.

بدا الصوت قادمًا من أعمق نقطة في الزقاق.

وفعلاً أصاب إحساس كاميجو. مع صوت خطى الأقدام، رأىٰ أحدًا ما يقترب من خلف ميساكا إيموتو.

«"ميساكا تعتذر على ترك الهريرة السوداء وراءها،" تؤكد ميساكا.»

الذي ظهر من الظلام –– كانت فتاةً كأنها مرآة ميساكا إيموتو.

ماذا؟ لها نفس وجه ميساكا إيموتو... فهل هذه ميكوتو؟

«"ولكن ميساكا ما كانت على استعداد لإدخال حيوان في صراع غير ضروري،" تقول ميساكا مدافعة عن نفسها.»

لكن كان مخطئًا. ما كانت أقدام واحدة.

«"تود ميساكا أن تعتذر منك أيضًا عن كل هذا" تقول ميساكا وهي تميل رأسها.»

اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة –– ازداد عدد أصحاب الأقدام بلا توقف.

«"يبدو أن الميساكات جلبت إليك قلقًا غير ضروري من التجربة،" تقول–» «"ومع ذلك، تخبرك ميساكا ألا تخاف–"» «"فإن حقيقة أنك اتصلت بالشرطة–» «"كان صواب" تقول ميسـ–» «"هل الهُرَيرة آمنة؟" تسأل–» «"كل الميساكات هنا هن ميساكا، لذلك–"» «"ولكن إذا كانت ميساكا هي القاتلة، فماذا كنت لتفعل؟" تسأل ميـ–» «"التفاصيل سرية، لذا لا يمكن لميساكا أن تشرحها، ولكن على أي حال، تؤكد لك ميساكا أن ما من جريمة ارتُكِبت هنا،" تجيب ميساكا.»

«...ما؟»

أخذ كاميجو خطوة للخلف تلقائيًا من مشهد ظهور الميساكات. اصطدم ظهرهُ بشيء. التفت ليرى ميساكات أكثر، ذات نفس الوجه، تنظرن إليه بتعبير فارغ.

أمامًا ووراء، وحتى أعلى الشرفة فوق، أينما نظر وجد ميساكا وميساكا وميساكا.

«ما...هذا...؟»

وهو يواجه هذا الموقف مُرتبكاً، حاول جمع كل قطع اللغز معًا في عقله.

هل ما رآه لم تكن هلوسة؟ هل قُتلت إحدى الميساكات المتطابقة؟ رأىٰ ميساكا إيموتو تحمل ذلك الجثمان على كتفها، كأنها تحاول إخفاءه...

كان ممكناً أن يُجَف الدم بمادة تخثر ومجفف الشعر بسهولة. كانت مثل تصليد زيت التمبورا بواسطة المواد الكيميائية للتخلص منها. كذلك، يمكنك استخدام المحاليل والكيماويات لمحو البصمات وتفاعل اللومينول بسهولة يسيرة.

لكن كاميجو وَجَدَ العجب أمامه.

من البداية، كان غريبًا أن ترىٰ حشدًا لهم نفس الوجه.

توأم أحادي المشيمة – بمعنى آخر التوأم المتطابق – لهم نفس الهيكل العظمي، حيث أنهم متماثلون على المستوى الجيني. ولكن التي تراها في الدراما والروايات، حيث يكون لدى التوأم نفس الوجه تمامًا، كانت تختلف كثيرًا عن الواقع.

على سبيل المثال، لنفترض أن هناك أحدًا يدعى تاناكا. وبناءً على ما إذا كان تاناكا قرر أن يتدرب كل يوم ليصبح لاعب بيسبول، بالمقارنة ما إذا تخلى عن حلمه وأكل الحلوى طوال العمر، ستكون تركيبة عضلاته ودهونه بالطبع مختلفة.

النوم، وممارسة الرياضة، وعادات الأكل، والإجهاد – حتى لو وُلدوا في نفس الوقت، إذا تغير "إيقاع" نمط حياة المرء، فإن جسمه بالطبع سيتغير معه. وإلى جانب ذلك، الناس لا يسعون عادةً لضمان أن نومهم وممارستهم للرياضة وعاداتهم في الأكل تتناسب مع غيرهم من الناس في الجدول الزمني.

وفي وجهه، رأىٰ الفتيات يتشاركن الوجه والبنية كثيراً.

تشابهن بالضبط مع فتاةٍ تُدعىٰ ميساكا ميكوتو.

أوقات نومهن بالساعة، وكمية تمارينهن بالمسطرة، وطعامهن بالميزان...

نعم، بدا الأمر وكأن كل شيء عن ميساكا ميكوتو يُحسب بواسطة معدات دقيقة، وكُن جميعًا داخل خطة زمنية تتناسب مع أفعال أختهم الكبيرة.

كأن أحدًا صنعهن.

«..........................................................................................»

ألقى كاميجو نظرة حوله ثم ألقى أخرى على الكيس الجثماني.

بدا وكأنهن يعرفنه. بدا وكأنهن يعرفن الهريرة أيضًا. لكن من غير المنطقي أن يكونوا كذلك. من هي ميساكا إيموتو التي كان يعرفها حتى الآن؟ هل هي في هذا الحشد، أم كانت مع ميساكاتٍ أخريات؟ هل يمكن أن تكون الفتاة المحشوة في ذلك الكيس حقاً ميساكا إيموتو التي صاحبها—

«"لا تقلق" تُجيب ميساكا.»

وأثناء وقوفه مصدومًا، خاطبته ميساكا التي تحمل الكيس الجثماني.

«"الميساكا التي تفاعَلْتَ معها من قبل هي ذات الرقم التسلسلي 10032 – بمعنى آخر، هذه الميساكا،" تجيب ميساكا.» أشارت إلى نفسها بيدها الخاوية وأكملت. «"موجات دماغنا متصلة ببعضها البعض عن طريق قدرة ميساكا على التحكم في الكهرباء. كل الميساكات الأخريات يتقاسمن نفس ذاكرة #10032،" تُضيف ميساكا إلى شرحها.»

موجات دماغية متصلة –– تحولت هذه القصة فجأة إلى خرافة لا تُصدق، لكن إذا كانوا توائم، فذلك ممكن. كما تختلف بصمات الأصابع ونبرات الصوت، تختلف الموجات الدماغية من امرءٍ لآخر. لو حاول أحدٌ ربط موجات دماغ امرءٍ آخر في دماغه، فإن النتيجة الوحيدة ستكون تدمير خلايا الأول. ولكن إن كان اثنان متطابقان جينيًا...

ما يهم، ما يهمني أي من ذلك، كما فكر كاميجو.

«من أنتن؟»

«نحن الأخوات –– النسخ الخلوية الجسدية من أختنا الكبرى، التي تُعتبر أحد السبعة من المستوى 5 في المدينة الأكاديمية –– اُنشِئنا جُملةً ونموذجًا للأغراض العسكرية، تجيب ميساكا.»

«ما غايتكن؟»

«"مجرد تجربة" تُجيب ميساكا. "اسمح لميساكا بالاعتذار مرة أخرى لإشراكك في آخر تجربة،" قالت ميساكا وحَنَت رأسها معتذرة.»

وسأل... أو بالأحرى، كاد أن يقول شيئًا، فخرس.

الفتاة أمامه كانت مختلفة للغاية وبعيدة للغاية.



استند كاميجو إلى جدار الزقاق، وحده، والهريرة السوداء في ذراعيه.

اختفى حشد الميساكات في الظلام. على الأرجح أتوا لإخراج الجثة ومسح كل الأدلة. إضافة إلىٰ ذلك، ستستمر هذه "التجارب". لم يعرف ما هي بالضبط، لكن من المحتمل أنها تتضمن مزيدًا من قتل الميساكات وسحب جثثهن، كل ذلك دون علم أحد.

فجأة، شعر برغبة في القيء عندما تذكر كلمتي "النسخ الخلوية". وظَهَر في ذهنه الكتاب الذي وجده بالصدفة في مكتبة الكتب المستعملة. "جديدنا! حكاية الأبقار العلمية في بيوت المزارع". تذكر أولئك الحيوانات الذين يعيشون حياتهم كاملاً يتنفسون هواءً مُكيفًا ويشربون مغذيات في مبنى ما به نوافذ، وتربوا لغرض الأكل فقط. فتُفتح أحشائهم؛ وتُسحب أعضائهم؛ وتُقطع إلى شرائح رقيقة، يوضعون في صواني ويُوَزعون في محلات الجزارة والسوبرماركت في المدينة.  آعع... شعر كاميجو بمحوضةٍ في حلقه. وفي هذه اللحظة، فكّر بجدية في أن يصير نباتيًا.

ومع ذلك، كان هناك العديد من الذرائعيون (براغماتيون) في العالم الذين لم يهتموا بأمورٍ كهذه. أولئك ناسٌ يفعلون كل ذلك بالبشر –– يفتحون أحشائهم، يسحبون أعضاءهم، يقطعونهم شرائح رقيقة، ويضعونهم في صواني ويوزعونهم في محلات الجزارة والسوبرماركت –– ومن المحتمل أن يستمروا في هذه "التجارب" دون جفنٍ. لم يعرف ما هي هذه التجارب بالضبط. لم يعلم ما إذا كان سيفهم لو شُرح له شيء بهذه الفظاعة. ولكن كان هناك شيء واحد أكّده في نفسه: استمرار هذه التجربة ستودي بموت المزيد.

...تجربة؟

لفت المصطلح انتباهه.

نعم، تجربة. ميساكا إيموتو قد وصفتها بالتجربة، أليس كذلك؟ هل هذا يعني أن منظمةً بحثية تقف وراء كل هذا؟ عندما فكر في الأمر هكذا، بات المصطلح المتخصص "النسخ الخلوية" يبدو منطقيًا له أيضًا. النسخ الخلوية لم تولد كما البشر العادي. بل صُنِعوا باستخراج بياناتٍ جينية من شعرة أحدٍ ما أو قطرة دم... وعندما وصل به التحليل إلى هنا، توقف.

شعرة.

نعم. لصنع نسخة خلوية، الجينات مطلوبة. شعرةً كانت أو قطرة دم –– أي مادة خام كانت ضرورية للعملية.

ميساكا إيموتو قد أخبرته بأنهن نماذج عسكرية صُنعن بالجُملة من أختهم الكبيرة، ميساكا ميكوتو.

هل يمكن أن تكون...؟

اختنق كاميجو. وغصبًا عن نفسه، نظر إلى السماء مستطيلة الشكل من المباني، وفكرةٌ مُضنِكةٌ دخلت عقله.

أتدري ميساكا ميكوتو بهذا؟

  • الجزء 8

عشاء تلك الليلة كان ياكينيكو. [6]

نظرت المُعَلِّمة كوموي –التي تبدو في الثانية عشرة من عمرها– إلى مجموعة الياكينيكو الرائعة التي اشترتها بسعر اثني عشر ألف ين، مع حسم في السوبرماركت. قد ازداد عدد الذين يعيشون في شقتها. ولذا، كانت في سُفرتها مجموعة راقية وغالية من الياكينيكو الجميلة التي ما اعتادت تناولها، والتي بلغ ثمنها ثمانية آلاف ين.

ومن الجدير بالذكر، أن وجود عدد أكبر يقيمون هنا معها في الوقت الحالي لم يكن حدثاً نادرًا إطلاقاً بالنسبة للمعلمة كوموي. فقد كانت في جوهرها مُعلمة، فكان لها "هواية" في اصطياد الفتيات الهاربات وأن تُقدم لهن مكاناً مؤقتاً يَسكُنّه حتى يعرفن ما يُردن فعله.

...آخرهن كانت إيزانامي-تشان، وقد غادرت لتتدرب ولتصير خبّازة قبل شهر. الآن ما إن فكّرت، لقد عشت وحيدة لزمنٍ حتى الآن...

أخرجت المعلمة كوموي بضعة أنواع مختلفة من البيرة من ثلاجتها كي تُقارن الطَعم.

لم تدري أيَّ موسمٍ اشتهر فيه الياكينيكو، لأنه في هذا العصر، يمكنك الحصول على أي نوع من الطعام طوال العام.

ولكن علىٰ أن هذه المعلمة تبدو في الثانية عشرة من عمرها، إلا أنها كانت مُعَلِّمةً ذواقة في البيرة والخمر. بالنسبة لها، كان الياكينيكو طبقاً صيفياً بالتأكيد. وقد قررت اليوم أن طهي اللحم سيكون على عاتق رفيقة مسكنها العالة التي لا تدفع الإيجار. بصراحة، كان عملها الوحيد هو شرب البيرة وأكل اللحم بعيدانٍ الليلة. بعبارة أخرى، شعرت بنفسها من النبلاء.

في الوقت نفسه، كانت زميلة مسكنها هذه –هيميغامي آيسا– قد انتهت من تحضير الصاج الساخن على طاولة الشاي في وسط الغرفة، حيث جلست جلوس اليوغا لتقتل الرغبة الدنيوية المسماة الشهية. ربما كان وصفها بجلوس باليوغا مبالغًا فيه. كل ما كانت تفعله حقًا هو التربُّع بمعدةٍ خاوية وتكبح رغبتها في استعجال العشاء.

كانت المعلمة كوموي واحدة من الذين يُتبِّلون اللحم قبل طهيه.

لِكُلٍّ تفضيلاته، لكنها تعشق وضع الصلصة على اللحم قبل طهيه وبعده.

بالطبع، كان طهي اللحم مع الصلصة كارثياً – حيث سيمتلئ الإناء والغرفة بالرائحة والدخان، لكنها لم تمانع. فقد كانت الأرضية والجدران في غرفتها منحوتة برموز غريبة؛ وكان حصير التاتامي مقطعاً بما يبدو أنه سيف؛ وكانت هناك بقع دمٍ متركة في كل مكان؛ وعلامات حروق على الجدران؛ وفوقهم جميعًا، تدمر السقف بشيءٍ افترضت أنه سلاحٌ شعاعي ما. لقد أُصلِحَت بقطعٍ خشبية مؤقتة، ولكنها تكاد تُوَدّع وديعتها للتأمين من شدة سوءها.

...آغغ، غدًا بالتأكيد، سأوبخ كاميجو-تشان وأسأله عمّا حدث.

تنهدت عميقاً، لكنها أخذت طبق لحم كبيرًا من الطاولة لتُدلّع نفسها. هيميغامي كانت تحمل طبّاخة الأرز في يديها، مما يعني أنها كانت واحدة من الذين يغمسون اللحم في الصلصة ويأكلونه مع الأرز.

«تمام، شغّلي الصاج يا هيمي. لقد خسرتِ حجر ورقة مقص، لذا عليكِ مسؤولة الخدمة اليوم. هيّا جهّزي عيدان السايباشي! والآن، من فضلك اطهي اللحم بسرعة للمعلمة~.»

«طيّب. ولكن أولًا أحكي لكِ حكاية مخيفة من المدينة الأكاديمية.»

«...تحتاجين إلى أكثر من العجائب السبع لتجعلي المعلمة كوموي تبكي. أصلاً، هناك حتى آراء –ولو كانت مخزية– تشير إلى أن المعلمة كوموي نفسها قد تكون إحدى تلك العجائب السبع!»

العجائب السبع هي شائعات تداولها سكان المدينة الأكاديمية. ومع ذلك، لم تكن قصص الأشباح المرعبة والخارقة للطبيعة المعتادة؛ بل كانت تميل إلى أن تكون نظريات مؤامرة حول حكومة تخفي وجود الفضائيين أو مثل هذا.

ارتبطت الأساطير الحضرية هنا في المدينة الأكاديمية "بالمعرفة الأولية" – [منطقة الأرقام الخيالية] المعروفة أيضاً [بمؤسسة العناصر الخمسة].

يُقال إن كل ما حدث في المدينة الأكاديمية بدأ من عمل معهدٍ بحثي واحد. ويُزعم أن منازل الموظفين، ومراكزهم الترفيه، والمؤسسات ذات الصلة الأخرى استمرت في التكاثر، وفي نقطة ما تضخمت إلى مدينةٍ عملاقة واحدة.

ولكن في الوقت الحالي، لا أحد يعرف أين كان "المعهد الذي بدأ منه كل شيء" في المدينة.

كانت هناك الكثير من الشائعات. قال بعضٌ، أن المعهد أفلس قبل عشر سنوات، بعيدًا عن أعين الناس. قال غيرٌ، أنه كان مخفيًا تحت الأرض. قال نفرٌ، أنك قد تراه كل يوم، متنكراً بهيئة مدرسة عادية. وقال آخرون، أنه أُخفي في فضاءٍ ملتوي مصنوع من قدرة إسبرية خاصة أو تكنولوجيا خيالية.

العجائب السبع كانت شائعات وحملت مئات الروايات اعتمادًا على الراوي، ولكن لكلِّ واحدة منها تشابهًا في أنها لم تحمل مَتْناً. [7]

كان شيئاً وَجَبَ وجوده، ولكن ما لاحظه أحد.

كان للمدينة الأكاديمية ثلاث وعشرون منطقة مدرسية (أو حي مدرسي)، والتي لم تتناسب مع أي من تلك المناطق كانت...

[منطقة الأرقام التخيلية – مؤسسة العناصر الخمسة].

وأخبرت قصص وشائعات أنه داخل هذه المنطقة الخيالية –– هذه المؤسسة البحثية غير المرئية –– ستجد فيها جميع أنواع التكنولوجيا الفائقة.

قال بعضٌ، أن فيها ذكاءً اصطناعياً يتحكم في جميع الأخلاقيات العالمية والشؤون العسكرية والاقتصادية.

وقال غيرٌ، أن فيها ورشة عمل [النسخة دولي] التي احتفظت بجينات الرجال العظماء والقديسين حول العالم، وبتحليل هذه الجينات، اقتدروا إنشاء عباقرة لا ينتهون بضغطة زر.

وقال نفرٌ، إن المركبات السيليكونية المستخدمة في صنع الحاسوب الخارق [المخطط الشجري] لا يمكن إنتاجها إلا بالتكنولوجيا الخيالية العلمية الموجودة في [منطقة الأرقام التخيلية]، ولا يُمكن استبدالها.

وقال آخرون، إنّ وِحْدَة [كلاب الصيد] الخبراء كانوا يُحققون في [منطقة الأرقام التخيلية] من الظلال، ولكن عندما اقتربوا من أسرارها، اُختُطِفوا وعُذّبوا أشد العذاب من طمعهم في المعلومات.

وقال من قال، إن الحياة الأبدية قد تحققت في [منطقة الأرقام التخيلية] وأن موضوعها التجريبي كان أنا، المعلمة كوموي. هذا انتهاكٌ صارخ لحقوقي الشخصية مهما نظرنا للأمر...!

تنهدت المعلمة كوموي بصمت، وفي يدها علبة بيرة.

جلست هيميغامي تواجهها قِبَلَ الطاولة. هزت يديها معًا، وأعلنت:

«حسنًا، الآن دور حكاياتي المخيفة.»

«أوه أكفيني منها، أو خلصي منها بسرعة!»

«حسنًا. إليك واحدة. التسرب الكربوني الناتج عن طهي اللحم في الياكينيكو، هو مسرطن.»

«تمهلي، القصص المخيفة الواقعية ما تصلح لموسم الصيف أبدًا!»

«فات آوان القلق يا معلمة. فقد أكلتِ منه الكثير وأنتِ لا تعرفين.»

«بالغتِ! أهذه خطة حتى تدمرين شهيتي وتحتكري كل اللحم لنفسك، أهذا ما تنوينه يا هيمي-تشان!»

وحينما سقطت المعلمة كوموي في شرك نوبة الحرب النفسية، سمعا صوت الجرس يرن. دينغ دونغ.

«مه، أرىٰ زائرًا أتانا. ربما يكون الصحفي أو غيره. يا هيمي-تشان، من فضلك اجيبي الباب بشكلٍ لائق ريثما تنهي المعلمة كوموي طهي اللحم وتأكله بمفردها.»

نظرت هيميغامي إلى المعلمة كوموي، التي كانت في مزاج غاضب بالتأكيد، ثم قامت من مكانها بلا صوت. كادت أن تذهب نحو الباب إذْ بها تقف وتقول:

«علبة البيرة تلك. ترَ حتى العلب الألومنيوم تحتوي على سموم معدنية. إذا شربتِ كثيراً منه، فستتراكم السموم داخل جسمك تدريجيًا. أحدُ أسباب اندثار الإمبراطورية الرومانية، كما زعم البعض أنهم استخدموا أدوات معدنية في كل أمورهم. هِهِهِه.»

تقلصت شهيتها الآن إلى الصفر تمامًا، وكان وجه المعلمة كوموي بأكمله يظهر تعبيرًا على وشك الانفجار بكاءً.

«وكذلك...»

«...ما خلصتِ؟»

«أنا المسؤولة عن الطهو اليوم. فما عليكِ إلا الجلوس وانتظار الأكل.»

اقتربت هيميغامي من الباب، ثم انحنت لتطل من خلال ثقب لترىٰ الخارج. يبدو أن الجواسيس الصحفيين في هذا الحي كانوا متطرفين في نهجهم، لذا في حالة الضرورة القصوى، ستضطر إلىٰ ربط الباب، ثم تفتحه قليلاً، ومعها عصاها السحرية (مسدس الغاز) عند المدخل. ستدفعها من خلال الفجوة في الباب وتطردهم بضربة هجومية تلقائية. (تحذير: بالمناسبة، تم حظر بيعها من قبل البرلمان بسبب قوتها الزائدة منذ عام 1993. كان لقبها "كسّارة الرأس".)

لكنها ما وجدت أحدًا من خلال الثقب.

«؟»

أكان مقلبًا؟ رغم ذلك، أعدّت نفسها بمسدس الغاز وفتحت الباب ببطء. وهي تفتح ببطء، اصطدم الباب بشيء فتوقف.

أهناك شيء أعاق الباب؟ نظرت أسفل لترىٰ ما كان.

وجدتَ أختاً راهبة باللون الأبيض، منسدحة. كان رأسها على الباب ضاربًا. وبيدها قطة ممددة تهز ذيلها بسعادة جوارها.

«جو...جوعانة...»

الفتاة المنهارة البلا مأوى، ولا عمل، تلفظت بشيء كأنها على شرف الموت. أغلقت هيميغامي الباب في وجهها.

«ها؟ من كان؟» سألت المعلمة كوموي.

«لا أحد» أجابت هيميغامي بلا اهتمام هادئة. ولكن، بعد أن جَمّعت آخر قوتها، ضربت الفتاة المسكينة الباب ضربتين. والآن ما عاد لهيميغامي إلا أن تفتح الباب ثانية. وجدت الراهبة البيضاء تمد يدها نحوها وهي تعرض قِطتها "سفينكس"، فقالت: «من فضلك، خذي القطة على الأقل.» حقّاً كان كله مثيرًا للشفقة للغاية، لذا في النهاية، سمحت لإندِكس بدخول الشقة.

«انتظرتُ وانتظرت وما رجع توما للبيت، فحسبتُ نفسي أموت جوعًا!» قالت الراهبة البيضاء مُرهقةً. جلست معهم على الطاولة، ومعها عيدان السايباشي مُحْكَمَة في كفها. وَجهُها مغسول بمرقة، [8] فهي لا تستحي دخول بيوت الناس والتعشي معهم. لعلّها كانت موهبةً بحد ذاتها، ظنّت هيميغامي. وجلست القطة على فخذي إندِكس، تنظر إلى السقف، وتتثاوب قليلاً. بدا تكتيكاً للسطو على الطعام الذي يقع من إندِكس.

على الرغم من وصول ضيف مفاجئ، إلا أن الطعام الفاخر ذي الاثني عشر ين وفيرٌ يُطعِم. وقد أحبت المعلمة كوموي رعاية الغير، فأخذت المعلمة البادرة وطبخت الأكل.

«"ما هي القدرات الخارقة،" تسألين؟» ردت المعلمة كوموي على إندكس وهي تقلب اللحم على الصاج. وَمَأت إندِكس موافقة وهي تنظر إلى اللحم النصف المطهي.

«ببساطة، إنها نظرية شرودِنڠر، لكن... لا أحسبك تعرفين قصة شرودِنڠر من الأساس، أليس كذلك؟»

أشارت المعلمة كوموي بعيدان السايباشي كأنها تقول: "كلوا الجزر أيضًا، ليس فقط اللحم،" لكن كلتيهما تجاهلاها.

«شرو-دِن-ڠر؟»

«صحيح. السيد شرودنڠر هو اسم أستاذ في الفيزياء الكمية. أعطانا قصة تدعى "قطة شرودنڠر". إنها قاسية وتخلى من الرحمة لمحبي الحيوانات الأليفة منا، لذا... حسناً، ربما أُبهِّرها قليلاً حتى يسهل عليكما.»

نضج اللحم، فوضعت المعلمة فوقه خضروات وقدمته لإندِكس في صحن. دون تردد، فصلتهما الفتاة الراهبة ورمت الخضروات للقطة. لكن القطة رفضتها بضربة قططية.

«معي صندوقٌ هنا» قالت المعلمة كوموي، وهي تحمل علبة الشوكولاتة التي كانت موضوعةً على حصير التاتامي بيدها الحرة. «الآن، ماذا تعتقدينه في هذه العلبة يا راهبة-تشان؟»

«ممم. أكيد شوكولاتة! رأيت مثل هذه في بيت توما.»

«بوو بوو، بل هي حلوى صلبة في الصندوق.»

«لمَ تضعين الحلوى في علبة الشوكولاتة...؟»

«الآن، سؤالٌ ثاني للراهبة الصغيرة. ماذا في العلبة؟»

«قلتِ توّاً أن فيها حلوى صلبة!»

«نعم، بالفعل قلت. ولكن لن نعرف حتى نفتحها. دائمًا هناك احتمال أن المعلمة كوموي تكذب عليك.»

«...»

«بمعنى آخر، بات هناك احتمالين لهذه العلبة: احتمال وجود الشوكولاتة، واحتمال وجود الحلوى الصلبة. بالطبع، هناك إجابةٌ واحدة فقط داخل العلبة، تمام؟ ولكن كِلا الاحتمالين موجودَين في الداخل، مختلطَين معًا.»

خضّت المعلمة كوموي العلبة قليلاً.

«عندما نفتحها ونتحقق من محتوياتها، يظهر هذين الاحتمالين على أنهما واحد. في الأصل، تحتوي العلبة على 50% أن تكون شوكولاتة و50% أن تكون حلوى صلبة. ولكن ما إن ننظر، ستتحول هذه إلى 100% شوكولاتة.

«فهيّا نتحقق مما بداخلها» قالت المعلمة وفتحت العلبة. بداخلها وجدوا قطعًا صغيرة من الشوكولاتة.

«والآن، ماذا لو...» أغلقت العلبة مرة أخرى. «في هذه العلبة، هناك احتمال 50% أن تكون شوكولاتة و50% أن تكون حلوى صلبة. الآن يا راهبة-تشان مجددًا، ماذا في العلبة؟»

«؟؟؟ ما فهمت عليكِ، لتوّكِ أريتينا شوكولاتة!»

«صحيح. في هذه المرحلة، سيختار الشخص العادي أخذ احتمال 50% الشوكولاتة. ولكن...» خضّت العلبة قليلاً. «ماذا لو كان هناك أحدٌ اتخذ احتمال الحلوى الصلبة 50%؟ ماذا سيحدث؟»

«مم؟ إن كان الحال كذلك، فإن داخل العلبة سيتغير إلى حلوى صلبة—»

بدت إندكس وكأنها فهمت شيئاً.

نعم، شيئاً غير عادي، شيئاً خارقاً سيحدث.

«هذه هي هوية قوى الإسبر. توجد العديد من الاحتمالات في واقعنا. بعض هذه الاحتمالات هي النيران المنبثقة من يديك أو قراءة أفكار أحدٍ ما. فإن الاحتمالية البالغة 1% "الخارقة" تختلف عن تلك الـ 99% "الطبيعية"، وهي بالضبط ما نسميها قدرات خارقة» دَوّرت المعلمة كوموي عيدان السايباشي. «من ناحية، هذا سببٌ في القدرات الخارقة ليست قادرة مُطلقة. على سبيل المثال، هناك احتمالان فقط في هذه العلبة –– 50% شوكولاتة و50% حلوى صلبة –– وفرص ظهور العلكة مثلاً 0%. هذه القوى لا يمكن استخدامها في أماكن أو ظروف حيث لا تكون هناك احتمالية في المقام الأول.»

«؟؟؟»

«ما نسميهم "أسابر" هم أولئك الذين جعلوا "قوتهم" ترى الواقع في نِسَبٍ مثل 50% شوكولاتة و50% حلوى صلبة، ولكن غير ما يراه العاديون. متلازمة RPSK (التحريك الذهني العفوي المتكرر) –– تُعرف أيضًا بالروح الشريرة، تحدث ما إن يعجز الأطفال على رؤية الواقع بشكلٍ صحيح بسبب الصدمة أو الإجهاد المفرط. كذلك، تجربة غانزفيلد المستخدمة في تطوير الإسبر توقف بشكلٍ متعمد حواسك الخمسة وتفصلك عن الواقع الطبيعي بشكلٍ أساسي.» دوّرت المعلمة كوموي عيدانها مجددًا. «الشخص الذي فقد اتصاله بالواقع المعتاد قد يكتسب واقعًا شخصيًا يختلف عنا نحن بقية الناس. نتيجةً لذلك، يُغيرون العالم الدقيق باستخدام قوانين مختلفة عن تلك التي يستخدمها الأشخاص العاديون... يمكنهم اكتساب "قوى" مثل تحطيم الأشياء بدون لمسها أو رؤية المستقبل بعامٍ من الآن فقط بإغلاق أعينيهم.»

كلام المعلمة كوموي بدا وكأنه قادم من كوكب غريب، وما كان لإندكس أدنى فكرة عما قصدته.

«التطور الذي نقوم به هو لخلق [وقائع شخصية] مصطنعة. بصورة أبسط، نستخدم مثل المخدرات والإيحائات لنعبث ونسبب ضرراً في أدمغتهم.»

ومع ذلك، كلمة "ضرر" طعنت صدر إندِكس.

عرفت صبيًا مُعَيّناً لطالما قال انه لا يملك قدرة. كان يدعي ذلك بعفوية، كأنها مُسَلّمة. ولكن وراء كلامته تلك عملٌ شاق كبير.

هو أبعد عن الخلاص، كما فكرت إندكس.

لم تعني الصبي الذي لم يستطع الحصول على أي شيء مهما حاول. قصدت الصبي الذي ابتسم وقَبِلَ بعدم حصوله على أي شيء على أنها نتيجة طبيعية. كان أبعد عن الخلاص.

«في الواقع، أمثال كاميجو-تشان هم النوع الذي يهمنا.»

«...؟ تعرفين قوّة توما؟»

«حسناً، قد كان كاميجو مشاغبًا منذ أول أيامه. حدث الكثير. نعم، الكثير الكثير. هِهِه هِهه، هِهِه هِهِهه.»

وضغطت المعلمة كوموي كلتا يديها على خديها وتمايلت. رأت إندِكس وهيميغامي ذلك وتوقفا عن الحركة بتزامن. وفي عقولهما، تشاركا الكلمات،
فعلها ثانية! الوغد!

«لكني أعتقد شخصيًا أن كاميجو-تشان وغيره ذوو المستوى 0 ليسوا الوحيدين الذين يُمكن أن يقدموا فرصة للبحث.» كانت المعلمة كوموي الوحيدة التي لم تدرك التغيّر في جو الغرفة. «لابد أن يوقظ الجميع قوّة ما من خلال المنهج الثابت لتطوير القدرات. على الرغم من ذلك، هناك من لا يوقظون شيئاً. هذا يعني أن في الأمر قانوناً لم نكتشفه بعد. ولعله يكون مفتاحًا لفهم [النظام].»

«النظام؟»

«هذا مصطلح أطلقناه يشير إلى ذلك الذي يصل إرادة السماء في جسدٍ غير إلهي. هدفنا هو رؤية ما وراء المستوى 5. نحن البشر لا نفهم حقيقة الكون، ولكن هذا يُبسط الأمر. إن كان هناك امرؤٌ بمكانة تفوق البشر، فمن المفترض بوضوح أن يكون قادرًا على فهم إجابات الإله.»

«...»

توقفت إندكس عن الحركة.

تعرفت على هذه الكلمات. في القبالة (كابالا)، هناك مفهوم يُسمى الشجرة السِفروثية. هو رسمٌ بياني يتألف من عشرة طبقات تصف مراتب البشر والملائكة والإله. وفي تلك الشجرة السفروثية، لن تجد موضع الإله موجودًا.

إِين سُف أور، إِين سُف، إِين.

000، 00، 0.

هذه، أقاليم الآلهة، ولن تُفهم من إنسان. مفاهيمها لا يُمكن التعبير عنها بألسنة البشر، لهذا لم تُعرض في الشجرة السفروثية.

ومع ذلك، ظهر نظامٌ ديني وقلب هذا الوضع رأسًا على عقب.

كانت هناك عقيدة، تقول إذا عجز البشر عن فهم شيء ما، فعليهم الحصول على أجساد تفوق أجسادهم.

ادّعوا أن البشر آلهة في طريقها لأن يصيروا مُطَهَّرين، ومن خلال تدريب النفس، يمكن للمرء أن يصل إلى جسد الإله ويتحكم بحرية في أعماله — هذا ما قاله أول الزنادقة المرتدين عن الكنيسة المسيحية، ولقد اِعتَبرهُم [يوحنا] -أحد الحواري الاثني عشر- زنادقة خطرين.

الغنوصية، عُرِفوا بهذا.

«أرس... ماڠنا» تمتمت هيميغامي وهي تلمس الصليب العملاق على صدرها.

نعم. الرجل الذي استخدم مرةً الخيمياء للوصول إلى أرس ماڠنا قد توافق مع تلك الأيدلوجية. لأن تقنية أرس ماڠنا الخيميائية لم تكن طريقةً لتحويل الرصاص إلى ذهب، بل فنًّا لتحويل الروح البشرية المملة كالرصاص إلىٰ روح ذهبية لملاك.

كان أولئك الذين مارسوا الغرائب، وانحرفوا عن طريق الحق، أكثر عرضةً للدخول في الغنوصية. ولكن كيف انتشرت هذه في المدينة الأكاديمية؟ إن هذا المكان كان عكس العالم الذي عاشت فيه إندكس. أيعني هذا أنه مهما اختلفت أفكار الناس، فإنهم في نهاية المطاف يلتقون في وجهةٍ نهائية...؟

أو ربما...



قد أظلمت السماء ومالت زُرقةً داكنة.

...أتساءل عن حال إندِكس، آمل أنها على خير.

تذكر كاميجو الراهبة البيضاء التي كانت (أو يفترض أن تكون) تنتظره في مسكنه.

لا أحسبها تطبخ أكيد، لذا ربما هي تمشي في الغرفة حائرة وجائعة.

فكّر أن يتصل بها بهاتفه، لكنه رجع عن ذلك.

عندما اتصل عليها الأسبوع الماضي في مدرسة ميساوا التحضيرية، آل أمرها في معركة ما كان عليها دخولها.

«...»

قطع أفكاره حول إندِكس وعاد إلى شغله.

أولاً، مقصده كان مساكن مدرسة توكيواداي الإعدادية بحثًا عن ميساكا ميكوتو.

يَغلُب على حافلات المدينة الأكاديمية أن تأخذ اسمًا يشير إلى مؤسسة تعليمية اشتهرت بها المنطقة، فمثلا تجد: [حي المدارس 12 – جامعة تاكاساكي] أو [حي المدارس 22 – ثانوية شيزونا البحرية]. ليس غريبًا هذا حيث أن جميع الحافلات في المدينة الأكاديمية هي حافلات مدرسية.

من حظه، اتضح أن هناك محطة حافلات تُسَمّىٰ [حي المدارس 7: سكن مدرسة توكيواداي الإعدادية]. عادةً ما تُنهي الحافلات العامة رحلاتها في نهاية يوم الدراسي. ولكن يبدو أن على هذا الخط حافلاتٌ تعمل حتى آخر الليل لأولئك الذين يدخلون المدارس التحضيرية.

«ها نحن ذا.»

ترجل كاميجو من الحافلة والهريرة السوداء في يده، ونظر إلى المبنى. رأىٰ أبنية خرسانية معتادة، لكن لسبب ما، كان هذا المبنى ذو ثلاث طوابق هو الوحيد المبني من الحجر. غلُبَ عليه الطابع الغربي، وبدا أنه يحمل تاريخًا غريبًا في طياته. كاد يبدو كبيتٍ سكني من بلد أجنبي نُقِل إلى هنا. ما امتلك فناءً أو مثل هذا. كأي مبنىً آخر، كان بابه مباشرة على الشارع.

بمثل هذا الهيكل المهيب للغاية، كاد كاميجو يفطس ضحكًا من مشهد تعلق الملابس على النوافذ لتجف كأي مبنى آخر. تمايل رأس الهريرة يميناً ويساراً تماشيًا مع حركة الملابس في الهواء.

مشى إلى الباب الأمامي، لكنه وَجَد القفل أشد مما توقع. من أول نظرة، كان بابًا مزدوجًا خشبي، لكن من المحتمل أنه صُنِع من مادة خاصة ––كربون نانوي، ربما. على أي حال، يبدو أن الباب لن ينبعج ولو ضربته شاحنة.

في فتحة القفل القديمة (أو على الأقل المصممة لتبدو قديمة) رأىٰ مصباحًا أحمر لامع، ففكر الفتى، ربما في مقبض الباب مستشعر ليأخذ البصمات وربما ليأخذ الكهرباء البيولوجية من جلد المرء أو نمط نبضه ويفحصها، أو ربما يأخذ شفرة الحمض النووي من دهون الأصابع أو ما شابهها. حقّاً كل شيء ممكن في هذه المدينة.

وَجَدَ صناديق البريد بالعشرات مُصطفّة بجوار الباب. ما كانت أبعد كثيرًا عن صناديق الجرائد في مباني الشقق. بقرائته الأسماء المكتوبة عليها، وجد اسم ميساكا ميكوتو وبجانبها رقم الغرفة 208.

ما بقي عليه الآن هو رن الجرس الداخلي، كان هذا أيضاً مثل أجراس الشقق العادية – وكان مجهزاً بحيث يمكن للمرء إدخال رقم الغرفة باستخدام لوحة مفاتيح تشبه الآلة الحاسبة ليتصل مباشرة.

الاتصال بغرفة ميكوتو أمرٌ يسير، فعليه فقط أن يضغط الأزرار 208.

كان بديهيًا نعم، إلا أن أصابع كاميجو تجمدت في الهواء.

فَكّر بالأمر منطقيًا، ليس بمعقول أن تجهل ميكوتو أمر تلك "التجربة". لابد من تورطها إذْ أن خلاياها كانت ضرورية لإنشاء تلك النسخ، الأخوات.

ماذا سيقول إذا رآها؟

كانت هذه "التجربة" مرعبة بحق، فيها تُقتل الأنفس بساطةً، ولهذا خاف كاميجو من سماع تفاصيلها من فمها. ارتعد من رؤية وجهها وهي تخبره بالحقيقة.

ماءت الهريرة قلقة.

تذكر كاميجو وجه ميكوتو، الفتاة العفوية التي التقاها عند آلة البيع والتي ما استحت أمام الغرباء.

أكان ذلك تمثيلاً لإخفاء الحقيقة؟

أم أنها فَسُدَت وجُنَّت حتى تعاونت في تلك التجربة وهي تعلم مآلها، ومع ذلك ما تزال تبتسم؟

ولا واحدة من تلك كانت الصورة التي تخيلها كاميجو عن ميساكا ميكوتو.

ستنهار الصورة الزائفة إلى قطع إذا رَنّ الجرس الداخلي.

ثم أدرك أنه في نقطة ما، صار خائفاً من انهيار تلك الصورة الزائفة.

ما حمل سببًا.

ربما كان لأن المشي مع ميكوتو بعد المدرسة سَرّته.

«...»

هل سيضغط على الزر مهما كان؟ ارتجفت أصابعه. إذا فعل، فلا رجعة فيها. لن يلغي ما فعل. وبعد هذا، ستتدفق الحقائق التي كان يجهلها بلا شك عليه كما ينزل قطار الموت في مدينة الملاهي.

لم يعرف كاميجو ما يفعل.

لم يعرف ما كانت أفضل خياراته صراحةً، فاختار أن يضغط الزر وليكن ما يكون.

سمع صوت نقرة من الزر البلاستيكي.

-بيب-، وبهذا الصوت، فُتِحت بوابة إلى عالم غريب.

«آه، أ-أمم...»

حقاً حارت عليه الكلمات.

ومع ذلك عليه الكلام.

«...أنا كاميجو. هل معي ميساكا؟»

خرجت كلمات مبذلة من شفتيه وبلغة غير تقليدية.

تلك اللحظات القليلة الصامتة، في انتظار صوت الرد من الطرف الآخر، خَوّفت كاميجو بشكل ملحوظ. سمع ضجيجًا من الطرف الآخر. كان صوت أحدٍ يستنشق. ربما كانت ميكوتو. وربما ارتاحَ بالُها حيث ظنّت أن كاميجو يجهل أمر التجارب.

استمر الصمت لحظةً قصيرة فقط.

‹‹أمعي كاميجو-سان؟››

سمع صوتاً ليس لميكوتو بطريقة بطيئة.

«آه، آسف...ربما أخطأت الغرفة؟»

‹‹لا لا، بل أصبت. أتريد من أونيه-ساما شيء؟ إني زميلة مسكنها.››

سمعتُ هذا الصوت في مكان ما...؟ فكر كاميجو للحظة، ثم تذكر. كانت الفتاة المتنقلة الآنية ذات تسريحة شعر التوأمتين التي نادت ميكوتو "بأونيه-ساما" البارحة – اسمها شيراي كوروكو.

«حـ-حسنًا. إذن أفهم منكِ أن ميساكا لم تعد بعد؟»

‹‹هذا هو الحال. لكنني أظن أونيه-ساما سترجع قريبًا جدًا، حيث أن حظر التجوال قد بدأ.» واستمر صوتها البطيء. «إن كان عندك شغل مع أونيه-ساما، فأنصحك بالدخول والانتظار، وإلا قد تُفوّت لقائها.»

انقطع الإتصال بنقرة، وسمع صوت فتح الباب الرئيسي. من صوت التكتكات المعدنية، استنتج أن الباب يستخدم عدة أقفال في آن واحد. بدت الهريرة مندهشة من الضوضاء القوية بعض الشيء.

...أمقبول هذا حقاً...؟

...أن أدخل هكذا؟ فكر ورأسه يميل. لكنه في الوقت الحالي، أراد سماع ما لدى ميكوتو، لذا قرر أن يقبل عرض زميلتها في السكن.

عندما دخل، رأىٰ قاعة كبيرة. وقد بدت وكأن النبلاء يعيشون هنا؛ لون الجدران والسقف كان أبيضَ، والسجادة الحمراء بسطت الأرض ممدودة. في البداية ظنه ذوق أغنياء، لكنه فكّر بأن هذا النظام اللوني الصاخب سيُبرز وجود المتسللين سريعًا.

سواء كان العزل الصوتي موجودًا أو أن الجميع هنا كانوا مهذبين بزيادة، كان داخل المبنى ملفوفاً بهدوءٍ كالذي عند المزار أو المعبد. تجاهَلَ الممرات التي تؤدي إلى اليمين واليسار من القاعة الرئيسية، وراحَ نحو الدرج في الوسط الذي يؤدي إلى ممرات الطابق الثاني والثالث. من الصندوق البريدي، كانت غرفة ميكوتو رقم 208، والذي تعني على الأرجح أنها في الطابق الثاني، كما استنتج منطقياً.

صعد السلالم وخرج إلى المسار الأيسر على الطابق الثاني.

وجد غرفة 208 تقريبًا على الفور. تطرز رقم الغرفة بأحرف ذهبية على الباب الخشبي، وفي الوقت نفسه، كانت الهريرة السوداء ترىٰ وجهها المنعكس في إطار الباب المصقول مُحَدّقة. كأننا في غرفة فندق، فكر كاميجو. ولم يجد نظام الاتصال الداخلي هنا كما في الفنادق.

طرق الباب بحذر، وردّ صوتٌ من الداخل.

‹‹تفضل. ما هو بمقفل فتفضل.››

فتح الباب ليرىٰ غرفةً كالفندق تمامًا. وعندما دخل، رأىٰ كاميجو بابًا يمينه كأنه لحمام، والأثاث الوحيد داخل الغرفة كان سريرين، وطاولة جانبية، وثلاجة صغيرة. ما وجد خزانة أينما نظر. فبدا أنهم يحتفظون بكل ممتلكاتهم الشخصية في حقيبة ضخمة جوار السرير.

كانت شيراي كوروكو لا تزال تحافظ على تسريحة شعرها ذات التوأمتين، لم تفكها حتى داخل الغرفة. انسدحت على أحد الأسرة ولا تزال ترتدي زيّها الصيفي.

لم تولي شيراي اهتمامًا بالحيوانات حيث انها لم تنظر للهريرة بين يديه ولو مرة.

لكن، حسنًا...

نظر كاميجو مرة أخرى إلى المكان. علىٰ أنه قد حصل على إذن من زميلتها في السكن، إلا أنه لم يرتاح من دخول غرفتها وهي غائبة. لاحظت شيراي كوروكو نظرته وأعطته ابتسامة صغيرة.

«آسفة. هذه الغرفة أصلاً مخصصة للنوم، لذا ليست مجهزة لاستقبال الضيوف كما يليق بهم. إذا كنت تنتظر أونيه-ساما، فمن فضلك تعال واجلس على السرير الآخر.»

«...أه-لا حق لي. هي لَمْ تأذن لي بهذا، و—»

«ما عليك. ذلك سريري.»

«إذن ما الذي تفعلينه في سريرٍ ليس لك؟! ماذا، أأنتِ نوع جديد من المنحرفين؟!»

«مَه، لن أسكت عن هذا. لكلِّ أحدٍ شيءٌ لا يبوح به للآخر، ومع ذلك يتعايش معها على أنه طبيعي. مثل أن تضع مسجلاً في فمك عليه صوت فتاةٍ تحبها أو أن تسرق مقعد دراجتها. تعرف، كذا وكذا.»

«لا، ليس طبيعيًا! كيف عساكِ تشوهين مشاعر طاهرة مثل هذه؟! أنتِ وميكوتو... ولكما وجه في أن تُسَمّيا نفسيكما "آنسة مخملية"؟!»

على الرغم من صراخه، انتفخ خدي كوروكو بأنها لم تقتنع.

وَل، يبدو أن أيام ميكوتو المدرسية تشبه ساحة المعركة. فكّر وهو يستند إلى الجدار.

«لكني افترضت أنك أصغر منها سِنّاً، حيث أنك تُسَمّينها أونيه-ساما. اتضح أنكما زملاء في الأخير.»

بدأت الهريرة السوداء تتحرك وتُحدق تحت السرير، مما يعني أنها أُعجِبت بالأماكن الضيقة والمغلقة. لكن كاميجو لم يفلتها من ذراعيه.

«لا، فهمتَ غلطًا. إني حقاً زميلتها الكوهاي (أصغر سناً). ولكني أخرجت زميلتها السابقة... بطرقٍ قانونية تمامًا، بالطبع.»

إنها مخيفة! فكّر كاميجو بتعجب قليل، وأشارت كوروكو، «...لأن لأونيه-ساما أعداءٌ كُثر. علىٰ أن هذا هو حال من يمتلك قوّة مثلها، لكن لن يسعد أحدٌ ولو كان خارقاً على أن يشارك غرفةً مع عدو.»

«...» صمت كاميجو. وتوقفت الهريرة عن الحركة ونظرت إليه.

«على أي حال.» نظرت كوروكو إليه مرة أخرى. «أيعقل أنك ذاك الشاب المحترم الذي لطالما تشاجر مع أونيه-ساما؟»

«؟»

لم يعرف حقاً ما إذا كان كلامها صحيحًا؛ فهو فاقدٌ للذكريات. يبدو أنه وميكوتو كانا يعرفان بعض حتى قبل البارحة، لكنه لم يستطع تحديد طبيعة علاقتهما بالضبط.

نظرت كوروكو إلى وجهه المرتبك وتنهدت. «...إن أخطأتُ، فلا بأس. كل ما في الأمر أنني أردت أن أرىٰ وجه الذي كان يدعمها طوال الوقت.»

«يدعم؟»

«نعم. علىٰ أن أونيه-ساما لم تدرك ذلك بعد. ‹تباً! إذا تَحَدّثَتِ عن شخص طوال الوقت بتلك النظرة المسرورة، سواء أثناء الوجبات أو الاستحمام أو حتى وقت النوم؛ فإن الكل سيلاحظ بالتأكيد›.» قالتها شيراي بنبرةٍ لا تُسمَع، ثم تنهدت وأكملت. «...بصراحة، إذا كانت أونيه-ساما تريد من تستند إليه، فما غناها عني؟ عندما تُبدي ذلك الوجه، وكأنها وجدت مكانها الوحيد في العالم... حتى أنا سأتأثر من ذلك بالتأكيد.»

أبدا كاميجو حيرةً في وجهه، وقد بدا العكس لكوروكو.

«...؟ أهذه طينَتُها من الناس؟ أراها تبدو دائمًا الألمعية، ودائمًا تتولى القيادة في أي وقت وأينما كانت.»

«لهذا السبب بالضبط. اعتادت أونيه-ساما أن تكون القائدة طوال الوقت، فحتى وهي تقف في وسط الحلقة، فإنها لا تستطيع الاندماج مع أولئك خارجها. هي فوق الآخرين، وعلىٰ أنها تقتدر هزيمة الأعداء، إلا أنها تصنع مزيدًا منهم دون أن تدري... ما تحتاجه فتاة مثلها هو غريمٌ تنظر إليه مُساويًا. حسنًا، كل هذا كان رأيي في المسألة.»

«...» تفكر كاميجو في ميكوتو عندما كانا معًا البارحة ومغرب هذا اليوم.

كانت أنانية، سريعة الرد، لا تستمع إليه، وإذا أزعجها شيءٌ ستُفجره بصعقات البيري-بيري. لكنها في نظره بدت مرتاحة جدًا. كأنها تفضفض عنده من ضغوطٍ تكبتها خلال النهار.

لعلّ المشي معه بعد المدرسة كانت منطقة راحتها.

كانت ابتساماتها كافية لجعله يصدق هذا.

ومع ذلك...

أكان هذا صدقاً؟ أكانت اللحظة الوحيدة التي تبتسم فيها عندما تكون معه؟ أما كان هناك إمكانية أن تكون مجنونة مخبولة لتبتسم بلا قلق مع كاميجو، حتى وهي تشاهد أخواتها يقتلن؟

جعلته أفكاره راغباً في الاستفراغ.

لماذا لا أستطيع الثقة بها؟

«ربما تشعر أونيه-ساما بالخجل من ذلك دون أن تدرك—» قالت شيراي، وكأنها تنظر إلى حلمٍ لن تصل إليه أبدًا. «وبسبب خجلها، تتبنى موقفًا أكثر عدوانية مما هو ضروري.»

غص كاميجو من سماع هذا.

ظنّ ميكوتو مخيفة. وكان يخجل من نفسه لتفكيره هذا. ولكنه لم يتمكن من إيقاف نفسه عن الشعور هكذا. إذا صابَ تخمين كاميجو، فإن ميكوتو كانت تعرف عن التجربة، وكانت تعي أن الأخوات يُقتلن بوحشية، ومع ذلك تعاونت معهم.

وعلىٰ أنها تدري بكل هذا، إلا أنها كانت تمشي مع كاميجو بابتسامة.

كأنها جلست في طاولة مليئة بالأحشاء المتلفة وتَعَشّت وقضَمَت وبلَعَت متجاهلةً كل ما حولها، مُستمتعة –– مثل هذا الخيال طرأ عليه.

كاميجو لم يرغب في التفكير في ميكوتو هكذا.

تردد في طرح "التجربة" على مسمعها وانتظار الرد من شفتيها.

ولكنه لم يقدر ترك ميساكا إيموتو في ذلك الوضع أيضاً.

من كل هذا، ما عاد كاميجو يعرف ما عليه.

ثم...

بعد التفكير في كل ذلك، سمعت أذناه صوت خطوات تقترب من الردهة خارج الباب. وارتفعت أذنا الهريرة السوداء.

اندلع عرقٌ لزج في كفيه.

ميكوتو... عادت؟!

هذا ما كان ينتظره، لكن لسبب ما، أصابه توتر وقلق شديدين. صارت نبضه غير منتظمٍ ويضرب بقوةٍ غريبة.

في هذه الأثناء، استمعت كوروكو للحظة، ثم قفزت من السرير.

«ورطة. هذا وقت تفتيش مشرفة السكن!»

«...ها؟»

لَوّحت يديها صوب كاميجو المحتار.

«م-ماذا نفعل؟ كلنا في ورطة إذا رأتك المشرفة في مسكن الفتيات.»

«تبدين واثقة من أنها مشرفة السكن. كيف عرفتي هذا من الخطوات وحدها؟»

«هي بذاك الخطر حتى نُمَيّز خطواتها. هي كيانٌ شرٌّ خبيث تقوم بجولاتٍ تفتيشية مفاجئة على الغرف. بأي حال، اذهب واختبئ تحت السرير حالاً.»

ما مضت ثانية من قولها حتى أمسكت رأس كاميجو وأجبرته على النزول تحت سرير ميكوتو. وماءت الهريرة حزينة.

«أخ! لحظة، هذا جنون، المساحة لا تكفي هنا!»

«أقول لك، هل سمعت يومًا دخول شاب أراضي توكيواداي؟! ما هو بالطبيعي أبدًا! تباً، أتعبتني، سأنقلك آنياً و... ها؟ كيف، لماذا لا تعمل قوتي عليك؟!»

«حسنًا، هذا من الإماجين بريكر... أخ! يا غبية اسمعيني...!!»

بعد مشقة وجهد، دخل كاميجو والهريرة بالكامل تحت السرير كأمتعةٍ في صندوق السيارة. اندهش بصراحة من نظافة المكان هنا. وما وَجَدَ لمعة من الغبار.

...مهلاً، هم يرتدون الأحذية في هذه الغرفة! فأساسًا لا فرق بين هذه الأرض والطرقات!

علىٰ أن أسفل السرير كان ضيقًا، إلا أنه رأىٰ شيئاً آخر قِبَلَهُ مباشرة: دمية دبدوبة كبيرة محشوة تحت السرير. كانت بنفس طوله تقريبًا.

كان المكان ضيقاً كثيراً ففكر أن يدفع الدبدوبة بعيدًا إذْ سمع صوت الباب يُفتَح دون طرق. وسمع صوتاً أنثويًا منخفضاً.

‹‹شيراي. وقت العشاء، فهيّا تعالي إلى صالة الطعام... أين ميساكا؟ ما تلقيت إشعاراً بخروجها، لذا لن تمانعي إذا شملتك معها في خصم الدرجات حيث أنكِ زميلتها في السكن، صحيح؟››

يبدو أنها كانت حقاً المشرفة السكنية.

كان في وضع مستعصٍ نسبيًا، لكنه لسبب ما ارتياح – ربما لأنها لم تكن ميساكا ميكوتو.

هذه المرة سمع صوت كوروكو.

‹‹لا، لا. أعتقد أنه كان أمرًا طارئاً فما وجدت الوقت لتقدم إشعاراً. أؤمن بأونيه-ساما، ولذلك لن أقبل خصم الدرجة.»

يبدو أن مشرفة السكن سحبت كوروكو خارج الغرفة. انتظر كاميجو بتوترٍ وهو محشور. لم يعرف ما كان يحدث وهو تحت السرير، وخاف أن تعود المشرفة إذا زحف خارجًا.

أوفف... ربما يصعب عليّ الخروج والأوضاع هكذا... لا أدري متى يعودون.

نظر مرة ثانية إلى الدبدوبة المحشوة المحشورة تحت السرير معه.

بدا فاخرًا بزيادة عن ما توقعه من ذوق ميكوتو... لكن عندما نظر بعناية، رأى ضمادة تخفي عينًا، وكان جسمه كله مغطى بالمزيد من الضمادات أيضًا. والغرز التي تزينت بها أبدتها أكثر غرابة. نظرت الهريرة بثبات إلى الحيوان المحشو.

ثم فجأة ركلت وجه الدبدوبة بقدميها الأمامية.

رغم الوضع الحرج الذي كان فيه –مختبئًا تحت السرير في سكن البنات– ما عسى كاميجو إلا أن يجد أن ضربة الهريرة كانت ظريفةً جدًا. فجأة سمع صوت تخميشة.

«ها! لـ-لا تخمشينها يا حمقاء!»

«فغياا!» صرخت عليه الهريرة عندما سحبها عن الدمية المحشوة. في تلك اللحظة، لمست يده القماش الممزق، شعر بشيءٍ صلب من داخل الدبوبة.

عندما تمعن في الدمية، وَجَدَ سَحّاباً حول العنق مخبأ بطوق. كان فيها الكثير من الجيوب الصغيرة. وبينما كان يُمرر يديه فوق الدمية المحشوة ليرىٰ ما كانت، شعر بما يبدو أنه جرة صغيرة أو زجاجة. ربما كانت تخفي عطرًا. هل انزعجت الهريرة من الرائحة؟ بدا له أن ميكوتو كانت تخفي فيها شيئًا يخالف قواعد المدرسة. كأنها تتاجر بمخدرات.

وأخذ حجم هذه الدبدوبة المحشوة الكبيرة في الاعتبار، ربما خبّأت فيها الكثير مما لا تريد من الآخرين رؤيته. تنهد كاميجو وأبعد يديه من الدبدوبة...

«ها؟» حينها لاحظ كاميجو شيئًا. وجد كلامًا في الطوق السميك الملفوف حول عنق الدبدوبة كحزام للبنطلون. كُتِبَ عليه "Killbear". ربما كان اسمها، لكن هذا لم يكن مهمًا.

حاول النظر من فوق فرأىٰ سَحّابة مرفقة بخط مستقيم عبر عنقه، مخفية بالطوق. وُضِعَت بحيث يصعب على المرء فتحه إذْ أن الطوق الضيق سيعيق. غير أن الطوق كان زينةً، أُرفِقَ به قفلٌ قاسي. كانت هذه السَحّابة تعمل مختلفة عن غيرها بشكلٍ واضح.

ما خُفي في الداخل ربما كان أكثر شيء أرادت ميكوتو إبعاده عن أعين الآخرين. ما أراد كاميجو أن ينبش (يفتش). ومع ذلك، كانت السَحّابة مفتوحة جزئيًا، وقد رأىٰ زاوية ورقة تبرز من الداخل، فظنّ أنها تخبئ تقارير أو ما شابه. (يكفي هذا. علي أن أقف عند هذا،) فكر. البحث في أسرار الآخرين أمرٌ سيئ. سيئٌ حقاً. ولكنه لمح من الورقة كلامًا كُتِب بخط الطباعة:

رقم الاختبار 07-15-2005071112-A

بمشروع ضوضاء الراديو، أي الأخوات، سينتقل صاحب المستوى الخامس "أكسِلَريتر" (ذو الدرب الواحد) إلىٰ–

ارتعش كاميجو. برز من الورقة القليل، لذا لم يتمكن من قراءة المزيد. غمض عينيه. ربما كان هذا شيئًا لا رجعة فيه ما إن يراه. لذا إذا لم يُلقِ نظرة عليه، فإنه لا يزال يستطيع التراجع. هذا كان تحذيره النهائي.

هسهست الهريرة هسهسة تحذيرية من كرهها للعطور.

«...»

تأمل كاميجو هذا للحظة، ثم فتح عينيه.

أيتظاهر بأنه لم يرَ؟ لو كان بهذا الذكاء ليفعل، لما علق في هذا الموقف في المقام الأول.

لكي يستخرج الورقة، عليه أن يفتح السَحّاب كاملاً. لسوء حظه، كان الطوق ذو القفل يغطي السحّاب ويعوق أي محاولة لفتحه... عادةً، ستكون مشكلةً كبيرة. ولكن هذه كانت دمية محشوة. ضغط كاميجو على رأس الدبدوبة قدرما استطاع. تشوه شكل الحشو الحريري الناعم بسهولة، وازدادت الفجوة بين عنق الدبدوبة والطوق. ثم دفع أصابعه للداخل وسحب السحّاب.

خرج ما يقرب من عشرين ورقة تقرير. بدا وكأن جميع البيانات طُبِعت، لكنه فحص التاريخ والاسم المكتوب في زاوية كل صفحة.

«بمشروع ضوضاء الراديو، أي الأخوات، سينتقل صاحب المستوى الخامس "أكسِلَريتر" (ذو الدرب الواحد) إلىٰ المستوى السادس.»

كان هذا عنوان التقرير.

المستوى...السادس؟

أمال كاميجو رأسه جانبًا، مرتبكًا. حَسِبَ أنّ أعلى مستوىٰ في المدينة هو 5.

خرج من تحت السرير وتصفح الحروف على التقرير حرفا حرفا.

لم يُكتب اسم أي معهدٍ بحثي أو عالِمٍ مسؤول علىٰ الورقة. كأنها تقول أنه حتى لو تسربت هذه البيانات، فلن تكون هناك طريقة لإثبات أي شيء.

كانت محتويات التقرير تقنية، وفيها كلماتٌ كثيرة ما كانت يابانية. نشّط كاميجو معرفته بالكامل وحاول تحويل الكلمات الأجنبية إلى كلمات يفهمها.


«هناك سبعة أشخاص على المستوى 5 في المدينة الأكاديمية.

ولكن، أثبتت الحسابات التنبؤية للمخطط الشجري أنه هناك واحدٌ منهم فقط يقتدر الوصول إلى المستوى 6 الذي لم يُرَ قط. أما بقية المستوى 5 الآخرين إما أن ينموا في صَوْبٍ مختلف أو يفقدوا توازنهم الجسدي من زيادة الجرعة.»

 

وَجَدَ رسومًا بيانية مختلفة بجانب أسماء السبعة ذوو المستوى الخامس، لكنه تجاهلها وأكمل القراءة.


«الوحيد القادر على الوصول إلىٰ المستوى 6 يُسَمّىٰ
أكسِلَريتر – ذو الدرب الواحد.»


أكسِلَريتر.

عبس وجهه عند هذا المصطلح غير المألوف.

وَجَدَ ما يشبه تفسيرًا إضافي بلغةٍ أجنبية، لكنه لم يستطع قراءتها، فاستمر.


«أكسلريتر هو في الواقع أقوىٰ المستوى 5 في المدينة الأكاديمية. وفقًا لحسابات المخطط الشجري، سيصل إلى المستوى 6 من بعد 250 سنةٍ في المناهج الأكاديمية العادية.»


انصدم كاميجو عندما قرأ ما كُتِبَ.

كُتِب في هامش الصفحة مرجعٌ، وفيها ذكر أن طرق تنشيط الجسم البشري لمدة 250 عامًا وَرَدَت في تقريرٍ مُختلف.


«بحثنا عن طريقةٍ أخرى لا تتطلب 250 سنة من العمل.

نتيجة لذلك، اقترح المخطط الشجري طريقةً مختلفة عن المناهج العادية. أساسها يعتمد على أن استخدام قدرة الإسبر في المعارك الحقيقية ستُسرع من نموه. كانت هناك تقارير أن أصحاب [التحريك الذهني] و[مبعثي النار] يكتسبون دقةً متزايدة في الحالات المصيرية، فاستخدمنا هذا أساسًا للتجربة.

بتجهيز ساحات معركة مميزة وتسييرها وفقاً لسيناريوهات محددة مسبقاً، ستمكننا من التحكم في اتجاه النمو المكتسبة في المعارك.»


توقفت يدي كاميجو فجأة.

معارك. شعر بأن هذه الكلمة وجثة الأخت الملقاة على الأرض كانتا متصلتين بشكلٍ ما.


«نتيجة الحسابات التي أجراها محاكي المخطط الشجري،
قد حدّد أنه بتجهيز 128 ساحة معركة وبقتل الريلڠن 128 مرةً،
فإن أكسلريتر سينتقل من المستوى 5 إلىٰ 6.»


تعرّف كاميجو على كلمة ريلڠن.

––‹‹أتدري، عليك التفاخر أكثر بأنك هزمت ميساكا ميكوتو، الريلڠن.››

أيعني هذا أن الأشياء المكتوبة هنا تشير إليها؟ فكر. لكنه شعر بأن وَصفَهُم لها بهذا لم يُبديها "متواطئة" أو "شريكة" في التجربة.

قتل.

ارتجفت يدا كاميجو. تنفسه خرج عن نطاقه وشعر بالأرض تدور. ودون إرادة منه، استند ظهره إلى الجدار.


«ولكننا لا نستطيع تجهيز 128 ريلڠن من نفس المستوى الخامس.
لذلك، ولّينا انتباهنا إلى مشروعٍ كنا نعمل عليه في نفس الوقت،
مشروع إنتاج الريلڠن: الأخوات.»


كان قلبه ينبض بغرابة. حَسّ بالدفء ينصرف من أطراف أصابعه. وكان مواء الهريرة يطحن مخه كأجراس الكنيسة.


«بالطبع، هناك فرق في مواصفات الريلڠن الأصلية والأخوات النسخ المنتجة جُملةً، حيث أننا قدّرنا مستوى الأخوات قرابة المستوى 3 فأدنى.»


في هذا خطب، لا بُد.


«وفقاً للحسابات المعادة من المخطط الشجري بناءً على تلك المعايير، أُعِدّت عشرون ألف ساحة معركة، واكتُشِف أنه من خلال استخدام عشرين ألف أُختٍ، يمكننا تحقيق نفس النتيجة كما هو موضح أعلاه.»


لكن مهما كان الخطب، كان يُتّبع، ويُنَفّذ.


«يوجد تقريرٌ منفصل يَصِفُ الساحات العشرين ألف والسيناريوهات.»


ماذا كُتِب في التقرير الآخر؟

عشرون ألف طريقة للموت. متى وأين وكيف وبأي طريقة ستموت كل واحدة من تلك الأخوات المُوَسّمة بأرقام؟ كان ذلك مرعبًا للغاية. أكثر ما أثار الغثيان لم يكن القتل، بل حقيقة أن حتى الذين سيُقتَلون كانوا يؤدون أدوارهم وفقاً لنصٍ مكتوبٍ مُسبق.

––‹‹"...من المستحيل أن تربي ميساكا هذه الهريرة،" تعترف ميساكا. "بيئة ميساكا المعيشية تختلف كثيراً عن بيئتك،" تشرح ميساكا.››

ما شعرت به بقولها هذا؟

عندما نظرت إلى الهريرة، ماذا كانت تفكر فيه؟ وعندما عهدتها لكاميجو، ما الذي شعرت به؟


«نفّذنا طريقة إنشاء الأخوات بنفس الطريقة الموجودة في المشروع الأصلي.

حضّرنا بويضةً مُخصبة من الخلايا الجسدية المستخرجة من شعر الريلڠن.
وبجرعاتٍ مثل [Zid-02] – [Riz-13] – [Hel-03] إلخ، سرّعنا معدل النمو.»


وهي تقف في وجه هذا القنط وحيدة...

ومع ذلك لم تطلب العَوْن مرةً؟ ما الذي جالَ في بالها؟

 

«نتيجة لذلك، اقتدرنا الحصول على جسمٍ يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا، نفس عمر الريلڠن، في حوالي أربعة عشر يومًا تقريبًا. نظرًا لأنهن أجسام متكررة اُنتُجِت من خلايا جسدية كانت في الأصل متحللة –بسبب تسريع سرعة نموها بالعقاقير– هناك احتمالية كبيرة أن تكون لهن فترة حياة أقصر من الريلڠن الأصل، لكننا نفترض أن هذا لن يتسبب في تغيير مواصفاتها كثيراً خلال مدة التجربة.»


أكانت في يأسٍ؟

أكانت في يأسٍ تخلت عن نجاتها أبدا مهما اختارت وتقدمت؟


«مشكلتنا ليست في العتاد، بل في البرمجيات، أي العقل.

نشاط معلومات الدماغ الأساسية مثل اللغة والحركة والمنطق تُبنى خلال الست سنوات الأولى من الحياة. ولكن بسبب نموهن غير الطبيعي من العقاقير، ستعيش الأخوات فقط مدة 144 ساعة أو أقل. سيكون صعبًا تعليمهن من خلال الأساليب التعليمية العادية.

لذا، قررنا تثبيت كل هذه المعلومات الأساسية باستخدام نظام "العهد".»


أَمْ...

هل كانت تعتقد أن قتلها على يد أحدٍ ما كان حدثًا طبيعيًا، يوميًا؟

ألم تكن في يأس، ولم تستسلم، وكانت تحت انطباع أن مثل هذا الجحيم كان...

...عادي؟


«ستُجرىٰ أول 9،802 تجربة في الداخل. ولكن، بسبب متطلبات المعركة للتجارب 10،198 الباقية، يجب أن تُجرىٰ باقي المعارك خارج المعمل. بالنسبة لتجهيز المكان وترتيب مواعيد القتال والتخلص من الجثث، إلخ، سنحُدّ من المعارك ونحصرها في حي مدارسٍ واحد من المدينة الأكاديمية، و—»


تباً لهم.

سحق كاميجو التقرير بأصابعه.


«هذا جنون...»

هذا أخبل شيء سمعته في عمري. لا يرون مانعًا في قتل عشرين ألف شخص فقط ليرفعوا إسبرًا واحد... لن تجد في العالم كله منطق أو مبرر لهذا. فكّر وهو يرص أسنانه.

وما يزال التقرير المجنون بين بيديه.

كان الواقع الذي شهده شديد القسوة كثير حتى لم يكن ليتحمله ولو كانت حكاية خيالية.

«...تباً لهم!»

خلقت فتاةٌ مُعَيّنة بغرض القتل وحده.

كتلةٍ من اللحم أنشئوها، ومن نواةِ خليةِ فتاةٍ أخذوها، وغرسوها في بويضةٍ اصطناعية فخلطوها ومزجوا فيها العقاقير يختبرون.

عاشت فتاةٌ تبدو في الرابعة عشرة من عمرها حبيسة مختبرٍ بارد جُلّ حياتها، ولم تُعطَ اسمًا أبدًا، بل كانت تُدعىٰ برقمها.

فماذا؟

حتى لو كانت ميساكا إيموتو شيئًا خُلِق ليُقتل، وحتى لو كانت مجرد نواة خلية فتاةٍ ما وغُرست في بويضة اصطناعية... حتى لو أنها عاشت في مختبرٍ بارد طوال عمرها، ولم تُعطَ اسمًا أبدًا، بل كانت تُدعىٰ برقمها...

علىٰ كل ذلك، فقد مدّت يدها بإرادتها عندما أسقط كاميجو كل تلك علب العصير.

وأنها خلّصت قط الكاليكو من البراغيث دون انتظار الشكر.

لم تظهر ذلك على وجهها، لكن بطريقة ما، بدت ميساكا إيموتو سعيدة عندما كانت مع الهريرة السوداء.

تلك أمورٌ لا تُلاحظ. بالنسبة لشخص عادي، قد تبدو أشياءً تُنسى، أشياءً لا تستحق التفكير فيها خاصّة، أشياءً عفوية وطبيعية.

لكن من ناحية أخرى...

هذا يعني أن ميساكا إيموتو كانت شخصًا قادرًا على فعل أشياء يراها الناس طبيعية – إنها إنسانة.

فأر مختبري... لا يمكن أبدًا أن يكون صواباً تسميتها هذا الاسم.

«...لماذا... لم تدرك ذلك حتى؟»

صرّ كاميجو أسنانه.

تردد مواء القط في الغرفة الصامتة كالمقبرة.

من حقيقة أن هذا التقرير كان مخبأً هنا وأن ميساكا إيموتو كانت نسخة متطابقة من خلايا ميكوتو، لم يتبق شك في أن ميكوتو كانت متورطة في هذه التجربة. تجربة دموية، تجربة حيث سيُقتل عشرون ألف نَفْسٍ. لم يفهم ما كان شعور الذي يتعاون مع هذه التجربة. قبض يده بقوة و—

«ها؟»

ثم أدرك شيئاً.

كان هذا التقرير بيانات مطبوعة. في الزاوية العلوية اليسرى للورقة النسخة كُتِبَ اسم البيانات والتاريخ.

ذلك بحد ذاته لم يكن مشكلة.

المشكلة كانت في زوج من الرموز الشريطية (باركود) المحفورة بجوارهما. كانت كرموز ظهر الكتب، وكانت هناك واحدة فوق أخرى.

«...»

كان للمدينة الأكاديمية أنواعٌ مختلفة من محطات الشبكات، ولكل واحدة منها "رتبة" أمنية محددة مختلفة. على سبيل المثال، صُنّفت الهواتف الخلوية في الرتبة D، وحواسيب المكتبات والحواسيب الشخصية في الرتبة C، ومحطات المعلومات (Information Terminals) المستخدمة من قبل المعلمين في الرتبة B، ومحطات المعهد الخاصّة في الرتبة A، ومحطات المجلس السرية في الرتبة S.

حتى لو كانوا جميعًا متصلين بنفس الشبكة، لن يمكن لمحطة الرتبة D أن تصل إلىٰ معلومات محطة الرتبة C.

ما كان موضوع طبقيةً أو مكانة؛ كان ببساطة لئلا يتركوا للطلاب حَقّ الوصول إلى إجابات الامتحانات النهائية أو بيانات الفحص الطبي وعرضها – وغير ذلك.

مهلا لحظة، هذا الباركود...

نظر كاميجو إلى الرمز الشريطي في زاوية التقرير. نعم، بقدر ما كان يعرف، الرمز العلوي كان مُعَرّف المحطة، والأسفل كان مُعَرّف البيانات. بدا له هذا الرمز الشريطي وكأنه ذاك الذي تجدها على علبة حلوى، كانت خطوطًا سوداء وبيضاء وفيها أرقام مرتبة أسفلها.

العلوي – مُعَرّف المحطة: 415872-C.

السفلي – مُعَرّف البيانات: 385671-A.

غريب، فكر. رتبة المحطة كانت C، لكن رتبة البيانات كانت A. يفترض أن يكون مستحيلا. علاوة على ذلك، إذا حصلت ميكوتو على هذا التقرير عبر طرقٍ سليمة، لأمكنها ببساطة استخدام محطة الرتبة A في مرفق البحث.

وهذا يعني أنها لم تحصل عليها عبر الطرق السليمة.

هاكر... أو بدقة أكبر، كراكر؟ أولئك الذين يلقون نظرة على البيانات فقط دون تدميرها؟ لم يعرف كاميجو، ولم يَهُمَّ صراحةً. المهم كان أن ميكوتو لم تحصل على هذه الوثائق بوسائلٍ شرعية.

بمعنى آخر، ربما لم تكن ميكوتو شريكةً في هذه "التجربة".

«...»

نظر للتقرير نظرة أخرى.

بعد أن قلب عدة صفحات، شعر فجأة بورقةٍ أثخن من غيرها، كانت مختلفة عن الأخريات. أخذ تلك الورقة من الحزمة ليرىٰ.

كانت خريطة.

كانت خريطةً تُظهر كامل المدينة الأكاديمية. كانت مطوية. عندما فردها، وجدها تقريبًا بحجم خزانة الكتب. لم يلاحظها حتى الآن – ربما لكونها في منتصف التقرير ولأن مادتها كانت رقيقة جدًا في الأصل.

كانت خريطةً مُفصّلةً حيث أظهرت حتى مواقع الأزقة والمباني. ووجد فيها علامة X مرسومة في بضعة أماكن بقلمٍ الأحمر.

«...؟»

بدت تلك العلامات مخيفة بشكل، لكن الخريطة لم تحتوي على أسماء المباني عليها.

أخرج كاميجو هاتفه الخلوي. كان به ملاح سيارة ونظام GPS. أدخل الإحداثيات لعلامات X على الخريطة في هاتفه وعرض صورة مُكبّرة للخريطة الفعلية والتي احتوت على اسم.

[مركز بحوث ضمور العضلات بجامعة كاناساكي]

احتار كاميجو. باختصار، كان مرض ضمور العضلات مرضاً حيث يعجز دماغ المُبتلي إرسال إشارات الدماغ إلى العضلات. وهكذا بتفاقمه؛ تتدهور حالتهم تدريجيا حتى يعجزوا عن الحركة تمامًا.

لكن ما علاقة المعهد الذي يبحث في مرض ضمور العضلات بهذا التقرير؟ راحَ يميل رأسه جانبًا، وقرأ أسماء المباني الأخرى التي كانت عليها علامات "X".

[مختبر علم الأمراض لوكالة ميزوهو]
[مركز البحوث الصيدلانية السابع في شركة هيغوتشي الدوائية]

لم يألف كاميجو بأسماء هذه المؤسسات، لكنه تذكر شيئًا: "الأخبار التي خرجت من شاشة المنطاد الكبيرة. أعلنت ثلاث مؤسسات بحثية المتعلقة بمرض ضمور العضلات انسحابها عن العمل، الواحدة تلو الأخرى، وأثارت قلق السوق بأكمله." ماءت الهريرة السوداء بقلقٍ. ماذا قالت ميكوتو عن تلك الأخبار؟

––‹‹أكره ذاك المنطاد››

استنشق الهواء. الخريطة المدفونة في هذا التقرير. علامات "X" المُوَسّمة بقلمٍ أحمر. المؤسسات البحثية التي تشاركت جميعًا في أنها كانت تدرس نفس المرض. إذا جمعت التقرير والتجربة والخريطة معًا؛ فسترىٰ أن تلك "المعاهد البحثية" كانت تقوم بهذه "التجربة". ولكن ماذا يعني انسحاب تلك الشركات؟ وما تعنيه تلك العلامات الحمراء المرسومة على الخريطة؟

داخ كاميجو. لم يحمل فكرة عن السبب... لكنه فجأة وصل إلى سؤالٍ واحد.

لقد حل الليل، فلماذا لم ترجع ميساكا ميكوتو بعد؟

ما الذي تفعله الآن؟

ربما لا شيء. ربما كانت تلعب لعبة قتال في صالة الأركيد والبخار يخرج من رأسها. لكن شيئًا ما بدا مشؤومًا. انخفاض المعامل البحثية الواحدة تلو الأخرى... العلامات الحمراء على شكل "X" المرسومة على الخريطة وكأنها دليل سحقها، ليس بالأسود أو الأزرق، وليس بدائرة أو مربع – بل رُسِمت بعلامة "X" وباللون الأحمر. ماذا يعني كل ذلك؟

قد وصل كاميجو إلى استنتاج أن هذا التقرير لم يأتي قانونيًا.

ثم تكهن أن ميكوتو قد لا تكون شريكة في التجربة أصلاً.

ماذا لو رفضت ميكوتو التعاون مع الباحثين...

...لكنها بعد ذلك اكتشفت أنهم أنشئوا "التجربة" بانتهاك صارخٍ مباشر لإرادتها؟

في هذه الحالة، أيُّ فعلٍ سوف تتخذه؟

وإذا فعلت، ونَوَت إيقاف التجربة...

«فهمت...»

إذا كانت تتخذ أفعالها لأجل ميساكا إيموتو – لا، لأجل جميع أخواتها...

«هكذا... أنت...»

لم يعرف ما كانت تريده ميكوتو. لكن على الأقل عنده شيءٌ يقوله أكيد.

ميساكا ميكوتو لم تفكر في التجربة على أنها هيّنة.

لم يعلم ما كان سبب ابتسامتها أمام كاميجو وهي تخفي الحقيقة، لكن...

إذا لم ترىٰ ميساكا ميكوتو في التجربة هَوْناً...

فإن كاميجو توما بالتأكيد حليفٌ لميساكا ميكوتو.

بات يرىٰ الآن أنه لا فائدة من البقاء هنا أكثر. لا، حتى لو كانت أفضل خياراته، لن يتحمل المكوث هنا لحظةً أخرى.

أمسك كاميجو عنق الهريرة السوداء واندفع خارج الغرفة. ما ولّى اهتمامًا بأنه قد يراه أحد. بغض النظر عن وجود الناظرين أو المراقبين، ركض في الممر، وعبر الدرج، وفتح باب المدخل بقوة، ثم خرج من المبنى.

  • الجزء 9

قراءة التقرير أخذت منه وقتاً كبير حيث صارت الليلة دُجى. [9]

ركض كاميجو عبر حي التسوق.

كانت الهريرة السوداء في ذراعيه تتأرجح، وتموء مُحتجةً من كثرة الهز.

لم يكن لديه أساس لأفعاله الحالية. ما درى ما كانت تفعله ميكوتو، لم يعلم مكانها، ولم يعرف ما إذا كان ينبغي عليه القلق بشأن ذلك أم لا. ولكن غموض الموقف وجهله تجذبانه أعمق إلى حفرة الخرع. ركض مواصلاً دون أن يفهم أي شيء، كأنه يرمي القلق والخوف بالعمل.

ركض بدون هدفٍ مُعَيّن، ولكن كان عليه أن يبحث عنها. هذا التناقض عجّل من كاميجو وأضنكه وأهرعه في نفس الوقت. ما مَلَك إلا أن يقطع السحب بحثاً عن ميكوتو.

ومع ذلك، كان منه جزء مُعَيّن مرتاح.

مرتاح لأنه بات قادرًا على القلق بشأنها مرة أخرى.

قطع عبر حشود الناس وواصل ركضه. كانت شفرات العنفات تدور وتدور.

لا أشعر بالرياح، كيف...؟ فكّر كاميجو، وفجأة أدرك.

كانت شفراتها تدور حتى بغياب الرياح.

كانت تلك الشفرة الواحدة على بُعد حوالي مئة متر تدور ببطء. غريبٌ هذا... فطرأ على باله تفسير.

كلمة "عنفة" أو "مولد كهربائي" تشير في الواقع إلى محرك، والمحركات لديها سمة: النابض المركزي الذي يدور عند توفير الكهرباء؛ سيُوَلّد كهرباءً عند لَفّه يدويًا. وسيدور المحرك عندما يُزَوّد بموجات كهرومغناطيسية مُحددة. هكذا كانت تعمل أحدث تقنيات مولدات المَيكرويف في المدينة الأكاديمية.

كانت الشفرة – أي المحرك – تدور دون رياح. بعبارة أخرى، كانت تستجيب للأمواج الكهرومغناطيسية غير المرئية.

...إذا اتبعت هذا...

عدّل كاميجو موضع الهريرة في ذراعيه، ثم انطلق بركضه قاطعًا بين الحشود. كان الشبان والشابات يراقبونه وهو يقطع بين الناس، مزعجًا إياهم، لكنه لم يهتم بهم. ما كان الوقت لصالحه الآن.

لم يعرف حتى ما إذا كانت العنفة تدور في المقام الأول حيث كان دورانها طفيفاً لا يُلاحظ. ومع ذلك تقدم راكضًا، مطاردًا كل عنفةٍ تُظهر علامة الغرابة الخفيفة تلك. تدريجيًا، باتت الحركة أكثر ملاحظة. خلف هذه العنفة وَجَد عنفة أخرى تتحرك بسرعة بسيطة أكبر من الأولى، وخلفها أخرى تدور أسرع منهم جميعًا.

حَسّ أنه يقترب تدريجيًا من مركز انفجار خفي.

استمر في الركض...

...إلى ضاحية المدينة حيث ما بقيت أضواء، كأن طاحونةً تدعوه في هذا الليل الساكن.

(صفحة المجلد)

<<الفصل السابق                        الفصل التالي>>

تعليقات (1)

  1. رائع

اختر اسم وأكتب شيء جميل :)