-->

الفصل الثالث: رَيلڠن — اَلْمُسْتَوَىٰ-5.

(إعدادات القراءة)

انتقال بين الأجزاء

  • الجزء 1

تلونت السماء سوادًا كسواد بحيرة لا بدْرَ فيها.

واكتفت بعكس ضوء الهلال في السماء. كان ضوءًا واهناً ضعيف. وبعيداً عن مركز المدينة وأضواء شوارعها، قامَ الجسر الحديدي فوق البحيرة. وعندما انعكس سواد الماء في عينيها، بدت وكأنها غرقت مع ظلام هذا المكان نفسه.

ميساكا ميكوتو، وقفت وحيدة، واضعةً كلتا يديها على الدرابزين (سور حديدي)، وحدقت في أضواء المدينة البعيدة.

ومضت شرارات زرقاء باهتة وتفرقعت من حولها.

قد يستحضر مصطلح "ضربة البرق" صورًا مخيفة ومؤلمة، لكنها هذه كانت أضواءً لطيفة بالنسبة لها. ما تزال تتذكر مساء تلك الليلة التي استطاعت فيه استخدام قوتها أول مرة. كانت آنذاك تحت بطانيتها وتطلق شرارات صغيرة متفرقعة طوال الليل. ذكّرتها بالنجوم المتلألئة. في ذلك الوقت، كانت تؤمن بصدق أنه مع تقدم عمرها وقوتها، قد تتمكن حتى من خلق سماء مليئة بالنجوم.

نعم، قبل أن تكبر.

الآن، رأت نفسها ما تستحق حتى أن تحلم.

«...»

قبضت الدرابزين بقوة، ثم خففت مرة أخرى.

من هذه الحركة البسيطة، ضيّقت عينيها قليلاً وابتسمت.

كانت حركة طبيعية يمكن لأي أحدٍ إنجازها.

ومع ذلك، هناك أناس في العالم لا يقدرون على ذلك.

«...ضمور العضلات، هه...» جاءت الكلمات من شفتيها النحيلتين.

ضمور العضلات هو مرض لا يُشفى ولا يُعرف سببه، حيث تبدأ عضلات الجسم بالفشل تدريجيًا. وبما أن عدم تحريك الجسم يتسبب في ضعف قوة العضلات، فإن المرض يسرق ببطء كل قوة في العضلات، حتى يفقد المرء أخيراً حرية قلبه ورئتيه.

بالطبع، لم تكن ميكوتو تعاني من ضمور العضلات.

كما لم تعرف قريبًا ولا عزيز يعاني منه.

ومع ذلك استطاعت تخيل مدى صعوبة العيش هكذا.

ليس وكأن المرء قد فعل خطيئة ليستحق هذا، ومع ذلك منذ لحظة تكوينهم، لم تعمل أجسادهم كما أرادوها. ما عساهم إلا أن ينظروا إلى أجسادهم المريضة، ويعلموا عجزهم عن فعل أي شيء، وآخِراً، يفقدون القدرة على النهوض من السرير. مهما مدوا أيديهم من مسافة أملاً في الخلاص، لن يمسك بهم أحد. لم تكن ميكوتو تعتقد أن حياةً كهذه عادلة أبدًا.

وفي يومٍ كان، سألها باحث عما إذا كانت تريد إنقاذ هؤلاء.

«بقوتك الفريدة، قد نتمكن من إنقاذ ضحايا ضمور العضلات» قال الرجل بالمعطف الأبيض، وهو يمد ذراعه ليُصافحها.

ضمور العضلات هو مرض لا تتحرك فيه العضلات بالطريقة التي يريدها المرء.

تنتقل الإشارات من الدماغ إلى العضلات عبر إشارات كهربائية.

إذا أمكنهم التحكم في الحقول الحيوية الكهربائية، فقد يكون من الممكن إرسال الإشارات إلى العضلات بوسائل أخرى غير المسارات العصبية الطبيعية.

ولعلها تمد نور الخلاص لأولئك الذين ينهارون شيئاً فشيئا من القلق والخوف وهم يرون أجسادهم تضعف فتضعف بلا حَوْل، وفي دَرْكهم يسقطون. [1]

«...»

في يومٍ، آمنت طفلةٌ صغيرة مُعَيّنة بتلك الكلمات لا ريب.

ظنّت أنهم لو بحثوا في قدرتها على استخدام البرق وتمكنوا من "زرعها" بنجاح للمرضى، فإنها ستُنقِذ الكثير من ضحايا ضمور العضلات.

هكذا تَسَجّلت جينات ميساكا ميكوتو رسميًا في قاعدة بيانات مدينة الأكاديمية.

ولكن في الآونة الأخيرة، انتشرت شائعاتٍ حول إنشاء أخواتٍ عسكريات من جيناتها في أنحاء المدينة الأكاديمية. ما كان أمراً غريبًا خاصّة. كانت طالبة متفوقة في مدرسة تطوير القدرات المرموقة، مدرسة توكيواداي الإعدادية، وكانت أحد السبعة من المستوى 5 الوحيدين في المدينة الأكاديمية. ما استغربت أقاويل باطلة كهذه، لذلك لم تصدق أياً منها.

أو ربما ما أرادت ذلك.

لكن الواقع تسلل إليها وحطم منيّتها بوحشية.

«...»

النُسخ الأضعف منها، التي أُطِلق على مشروعها اسم "ضوضاء الراديو"، والتي طُوِّرت لأغراض الجيش – الأخوات – قد دخلت مرحلة الإنتاج، وبات ممكناً حالياً إنشاء كميات لا حصر لها من النسخ بضغطة زر.

وفوق ذلك، لم يُسمح للأخوات حتى بعيش عيشة الجنود – بل صار مغزى حياتهم أن يُقتلن وهن فئران تجارب... تمامًا كضفادع التشريح.

«كيف...

...كيف انقضى الأمر هكذا؟» همست ميكوتو، وشفتيها ترتعشان.

كانت تعرف السبب، بالطبع. كان ذلك لأن ميكوتو الصغيرة أعطتهم خريطة حمضها النووي بتهور. أكان ذلك الرجل بالمعطف الأبيض كاذباً منذ البداية؟ أم أن أبحاثهم كانت صالحة في البداية لكنها فَسُدت لاحقاً؟ ما عادت تعرف بعد الآن.

في يومٍ كان، تمنت فتاةٌ مُعينة أن تساعد المحتاجين...

...فجلبت تلك الرغبة نفسها مذابح طالت العشرين ألف.

«...»

لهذا السبب أرادت إيقافها.

كانت تعلم أنها يجب أن تضع حداً لهذه التجربة المجنونة، ولو اشترت بها حياتها.

ما قالت أن التضحية إفتداءً كان رائعاً. لم تتمنى الموت أيضًا. وفي الواقع، كان جسدها يرتجف، والقوة في أطراف أصابعها الباردة تهجر، وما كان بالُها مستقيمًا كأن ضجيجاً ضوضائياً أحاطها.

بَغَت لو تصرخ "ساعدني" لو تستطيع.

لكن مثل هذا حَرّمتُه على نفسها.

وفي ذهنها طفا وجه فتى معين. الشاب الذي كان أكبر منها بقليل، كان يمتلك قوة غير معروفة تمكنه من التعامل بسهولة مع أحد السبعة من المستوى 5 في المدينة الأكاديمية، ومع ذلك كان يحمل وصمة العجز، مستوى صفر. كان ذلك الصبي قوياً بما يكفي –صدقاً كان– ليتمكن من شطب تلك تصرفاتها الجورة على أنها "غير مهمة". كان لذلك الصبي قوة هائلة، يُساوي فيها بين الضعيف والقوي، ومع ذلك لم يتغطرس أو يتفاخر بها.

الآن وقد فكرت في الأمر، هي وذاك الفتى قد تقاتلا على هذا الجسر قبل بضعة أسابيع.

لقد لعب دور المهرج وعمداً ترك أولئك الجانحين التافهين يطاردونه حتى يُنقذهم ويُبعدهم عن غضب ميكوتو.

لو...

في ذلك الوقت، لو أنها أدركت تماماً مدىٰ هذه "التجربة" المخفية في الجانب المظلم من المدينة، لو أنها صرخت له طلباً للمساعدة، أكان ليقف بجانبها؟

تعلم أنه سيفعل.

شعرت أنه قادرٌ على فعل ما عجزت هي عن فعله.

ولكنها كذلك شعرت أن طلب نجدته سيكون جبناً.

لقد قُتِل ما يقرب من عشرة آلاف أخت بسببها. ولا ريب في أن العشرة آلاف الباقين كانوا يقفون على حافة الموت. رأت أنه من غير المقبول أن تتوسل له لأجل خاطِرها، وهي أصلاً الوحش التي تلطخت يداها بالدماء واللحم والعظام والدهن والأعضاء –– مثل هذه المجرمة، وبذنبٍ عظيم كهذا، ما استحقت الخلاص.

«...ساعدني،»

لهذا بالضبط لم تستطع أن تدع تلك الكلمة تخرج في أي مكانٍ فيه ناس.

همستها الخائفة، المجروحة، والممزقة تلاشت في الليل.

«ساعدني...»

وصرخة، –لن تصل أبدًا إلى أحدٍ– خرجت من فمها، عِندَ ما عادت تستحملها.

ثم، سمعت مواء قطة.

نظرت ميكوتو لأسفل، فرأت فراء هريرة سوداء، على عكس الظلام، أشع بدفء لطيف، وكانت عند قدميها. نظرت إليها الهريرة وأطلقت مواءً آخر كطفل بريء.

من أين جاءت؟ فكرت وتسائلت، حينما...

...سمعت صوت خطوة.

«...»

رفعت رأسها.

بوجود ضوء الهلال الرفيع وحده لينير من حولها، على هذا الجسر الحديدي بدون أضواء الشوارع، في هذه الليلة الدجى...

«...ما الذي تفعلينه؟»

ظهر الفتى أمامها، كمن يقطع طريقه عبر الظلام.

ظَهَرَ بطلاً، هرع بعد سماع صرخاتها المبتلعة من الظلام.

  • الجزء 2

وقفت ميكوتو مكانها شاردة الذهن وحيدة على الجسر الحديدي في الليل.

كان كاميجو صادقاً في شعوره بأن قلبه كاد ينكسر عندما رآها في البعيد. أبدا محياها الجانبي واهناً وهشاً ومنهكاً، يكاد ينطفئ في لحظة. عادةً ما تكون مليئة بالحماس، فرؤيتها هكذا وبهذا الحال آلمت بحق.

لهذا السبب تردد كاميجو في مناداتها.

لكن عدم الفعل ما كان خيار.

«...ما الذي تفعلينه؟»

عند سماع صوته، نظرت ميكوتو إليه.

ميكوتو التي أمامه كانت ميساكا ميكوتو الحيوية، المتكبرة، والأنانية، كما اعتادها.

«هفف. أفعل ما أريد، وأينما أريد. أنا الريلڠن ذات المستوى 5، أم أنك نسيت؟ لو اقترب مني جانحون فقط لخروجي بالليل، فليكن. لا هُم بخطرٍ علي ولا أهتم. وأيضًا، لا حق لك في التأمر علي.»

ومع ذلك، شعر كاميجو بأنه رأى ما تحت قناعها، تحديدًا لأنها أظهرت له وجهًا عاديًا.

لم يستطع تحمل رؤيتها تتصنع أكثر.

لذلك قال...

«...كُفّي عن هذا.»

للحظة، اختفى تعبيرها، لكن في اللحظة التالية عاد إلى طبيعته.

«أكف عن ماذا؟ غبي. هذه هي ميكوتو-تشان التي تتحدث إليها. تعرف، التي تركل آلات البيع للمشروبات. جولة مسائية بسيطة ليست—»

ردت ميساكا ميكوتو بوجهٍ عادي –وإن كان لا يُقنِع– حينما قطع الفتى كلامها.

«قلت كفي عن هذا. أعرف كل شيء عن ميساكا إيموتو، والأخوات، وهذه "التجربة"، وأكسِلَريتر، لذا اختصري علينا هذا الهراء.»

أخرج كاميجو رزمة من الأوراق.

كان التقرير المجنون المطبوع على عشرين ورقة أو نحو ذلك.

«.................................................................................»

في تلك اللحظة، تفتّت تصرفات ميساكا ميكوتو المصطنعة إلى ملايين القطع.

ربما لم تدرك كيف تحركت عضلات وجهها؛ ارتعشت وجنتاها وكأنها تحطمت.

انقبض قلبه متألمًا.

ربما دمّر كاميجو شيئًا حاوَلَت حمايته بأي ثمن، حتى إلى حدّ كتمانها لنفسها.

ورغم ذلك خطى للأمام، لكن...

«آآهٍ، لِمَ فعلت هذا؟» ردت كأنها تقاطعه. «إذا امتلكت هذا التقرير، فهذا يعني أنك دخلت غرفتي بدون إذن، ثم بحثت داخل دميتي... حقاً أنتَ أكثر إصرارًا من أختِ أحدٍ غير شقيقة، أتدري؟ حقاً، ربما تظنني أشكرك لمبالغتك هذا الحد، ولكن عادةً كنت لأعدمك من فعلةٍ كهذه. إعدام!»

قالت ميكوتو كل هذا بلا مبالاة، مبتسمة كعادتها.

تلك الابتسامة بدت ابتسامة من تخلت عن شيء، كأنها تطعن صدره.

«هل لي أن أطلب منك شيئاً؟»

بدا صوت ميكوتو مشرقاً وقوي إلى حدٍّ ما.

«ماذا؟» ردّ كاميجو عفويًا.

«بعد رؤيتك لذاك، أجئت تقلق علي؟ أم أنك ترىٰ فعلي لا يغتفر؟»

بدا صوتها منيراً غريب.

وكأنها تعلم أنه جاء ليُوَبّخها. وكأنها تعتقد أنه لا أحد في العالم كله سيهتم بها فعلاً. صوتها أصاب وَتراً فيه.

«...قلِقٌ أكيد.»

صوته المنخفض والساحق حَوّل من تعبير ميكوتو إلى دهشة طفيفة.

«حسناً، سماعي لهذا الكلام من أحدٍ، ولو كان يكذب، أفضل من لا شيء.»

ابتسمت.

وضحكت بعيون تخلت عن شيءٍ ما، وبعيون تشهد حلمًا بعيد.

«...ليست كذبة.»

خرجت الكلمات من فم كاميجو تلقائيًا.

«ماذا...؟» عبست ميكوتو.

«قلتُ، ليست كذبة!» صرخ عائدًا. ارتعشت أكتاف ميكوتو أكثر من الهريرة السوداء.

لسبب ما، لم يستطع أن يسامحها على هذا الوجه المصطنع.

لذلك هذه المرة، تَقدّم فعلاً.

«أعتذر لدخولي غرفتك دون إذن. استأذنت زميلتك في الغرفة، لكن هذا ليس عذرًا. اصعقيني لاحقا كما تريدين. ولكن ماذا تفعلين؟ لا أرىٰ أنك حصلتِ على هذا التقرير بطرق رسمية، أليس كذلك؟ وجدتُ في الدمية كذلك خريطة مدفونة. ويبدو أن جميعها معاهد تبحث في الأمراض، لكن ما هذه العلامات الحمراء المرسومة عليها؟ تبدو وكأنها...»

توقف عند هذا.

نظرت إليه ميكوتو وأكملت عنه بهدوء.

«...وكأنها علامات القتل، صح؟»

كان صوتها خاليًا من العواطف بما يكفي ليملأه بالرعب.

كان صوتاً شفافاً، وقد يصيب كل من عَرِفها بالقشعريرة.

الهريرة السوداء عند قدميها نظرت إليها بقلق.

«حسنًا، هذا ما هي عليه. ولكن ليس وكأنني فجّرتهم بالريلڠن أو مثل هذا» بدت ميكوتو وكأنها تدندن. «جهازٌ واحدٌ من أجهزتهم المعملية تكلف الملايين. ولذا اخترقتهم عبر الإنترنت واستخدمتُ قوتي لأفجرها. ولذا كانت المعاهد تنهار لوحدها، ومعها مشاريعها إلى الأبد...»

قالت ميكوتو كل هذا وكأنها تغني وتستمتع، لكنها توقفت فجأة.

«...حسنًا، على الأقل، يُفترض أن يكون كذلك.»

«يُفترض...؟»

«نعم. من السهل إغلاق مؤسسة أو اثنتين. لكن ثالثةً ورابعة تنشئ وتستلِمُ وتكمل التجربة حيث توقفت. مهما سحقت من مؤسسات، ومهما حاولت إيقافهم، تستمر التجربة في الانتقال والانتقال والانتقال. أظن أن هؤلاء العلماء يرون أن خلق أوّلِ مُستوى 6 مغري كثيراً بحيث لا يستطيعون غض الطرف.»

بدا صوتها حقاً مستنزفًا تعِبًا.

وكأنها يئست يأس من عاش ألف سنة فرأىٰ ظلام الناس أجمع.

«...تلك الفتيات، لا يرون خطبًا في أن يُسموا أنفسهن "حيوانات تجارب" بوجه جاد» قالت ميكوتو وأكملت. «حيوانات تجارب. تعرف كيف يُعاملون الفئران والكابياء وغيرها؟» بدا الغيظ في محياها «بحثتُ في الأمر من فضول، ويا لها من قسوةٍ رأيت. يقطعون فتحاتٍ في جماجمهم وهم أحياء بمنشار دون مخدر، ثم يلقون بالأدوية مباشرة في أدمغتهم، كل ذلك طمعًا في البيانات. يرون كم ملليمتر يستغرق الدواء قبل أن يبدأوا في السعال دمًا ويموتوا من العذاب. يفعلونها كل يوم ويسجلون النتائج في مذكرات. وعندما ينفذ مخزونهم، يضعون ذكرًا وأنثى في قفص ليتكاثروا، ثم إن انتهت التجربة وكان عندهم فائض، يرمون البقية في النار.»

صرّت أسنانها وبدت كأنها تكتم القيء. «تلك الفتيات جميعهن يعرفن تمامًا ما هي حيوانات التجارب. ومع ذلك يطلقون على أنفسهم ذلك المسمى بكل هدوء.»

غير قادرة على تحمله، عضت على شفتها.

غير قادرة على إيقافه، تدفقت دماء حمراء من شفتِها.

«لكن كان معكِ التقرير، أليس كذلك؟ لو سلّمتيه للأنتي-سكيل، ألن يفعل مجلس الإدارة شيئاً حيال ذلك؟ أليس الاستنساخ مخالفاً للقانون الدولي؟»

كانت مدينة الأكاديمية تقوم بالتأكيد بأمور مجنونة – من منهاجها الدراسية التي تتضمن الأدوية وتطويرها المستقل لتكنولوجيا الصواريخ – ولكن على الرغم من التفافها واستغلالها الثغرات، إلا أنها لا تزال تُدرك القانون.

إن إنشاء المدينة لعشرين ألف نسخة بشرية من لحمٍ ودم من أجل تشريحها كان واضحًا تعارضه مع القوانين الدولية، ولا يجب أن يكون ممكناً عادةً. إذا تسربت أخبار هذه للخارج، فإن القوى المعارضة للمدينة الأكاديمية ستستخدم هذه ذريعةً لتتدخل عسكريًا ولعلّ حرباً تنشأ.

ومع ذلك، كان وجه ميكوتو مستغربًا من كلامه.

«من نظرة إنسانية، التجربة رذيلة، ولكن من نظرةٍ عِلمية، هي صحيحة. حتى لو كسرت القانون، حتى لو كانوا يلعبون بمخاطر هائلة، وحتى لو انحرفت أساليبهم إلى اللا إنسانية؛ فهي عِلمٌ يجب أن يُتَم.»

«هذا جنون! كيف لكِ أن تقولي شيئاً بهذه الخبالة؟»

«نعم، إنه جنون. لكن ألا ترىٰ في الأمر غرابة؟ هذه المدينة تحت المراقبة المستمرة من الأقمار الصناعية. مهما تسللت وبقيت متخفيًا، لا يمكنك خداع الأعين في السماء.»

حيّر هذا كاميجو وأعجزه عن الكلام.

هذا يعني أن مجلس الإدارة الذي يشرف على المدينة الأكاديمية كان...

«إنهم يلتزمون الصمت، ومعهم شرطة المدينة، الأنتي-سكيل والجدجمنت. يتحكمون في قوانين المدينة ولذلك إذا ذهبنا بالتقرير وحده، ربما يعتقلونا أو يلقون بالتهمة علينا» أوضحت ميكوتو، خافضةً نظرها إلى الهريرة السوداء عند قدميها... وكأنها تقاوم غضبها.

«...هذا خطأ» قال كاميجو كمن يسعل دمًا.

القوانين توضع لحماية الناس. ليس أنهم فقط صمتوا عن قتل الناس، بل حتى وصلوا إلى حد اعتقال أي شخص يحاول إنقاذهم... وكأن القوانين انقلبت.

ابتسمت ميكوتو قليلاً له.

كانت ابتسامة كبير متعبة موجهة إلى طفلٍ لا يفهم.

«نعم، إنه خطأ. هو خطأٌ أن نعتمد على شخص آخر. هذه مشكلة أنا خلقتها، لذا يرجع الأمر لي أن أتحمل المسؤولية وأنقذ أولئك الفتيات.»

«...»

سكت الفتى.

ثم لوت الفتاة شفتيها الصغيرة قليلاً وتابعت.

«فكر فيها وستجدها بسيطة. هذه التجربة تهدف إلى جعل أكسِلَريتر أقوىٰ . لذا الأمور بسيطة. إذا اختفى أكسِلَريتر، ستنهار التجربة لوحدها.»

بمعنى آخر، هذا ما أرادت ميكوتو فعله:

محو وجود أكسِلَريتر بقوتها.

كانت ستحاول إنقاذ العشرة آلاف أخت المتبقية، حتى لو تلطخت يداها بالقتل.

لكن كاميجو قال مباشرة وقاطعًا: «أنتِ تكذبين.»

اندهشت ميكوتو من قوله، وضغط كاميجو أكثر مُكمِلاً.

«قلتُ لكِ. نعم، قلتُ لكِ كفي عن هذا. لا تقدرين على أكسِلَريتر. هيّا، لو أمكنك، لذهبتِ إليه مباشرة. أعرفكِ مندفعة ترمين بصواعق البيري-بيري على الكل فقط ما إن تغضبي. لكنكِ بقيت صامتة لفترة.»

«...»

«تدمير معاهد الأبحاث، الإبلاغ إلى المجلس... أرىٰ هذا لفاً ودوران بالنسبة لشخص مثلك. أنتِ تتشاجرين على كل صغيرة لا تعجبك. لستِ من الفتيات الطيبات اللواتي يبحثن عن الأدلة ويشتكين للمعلم.» توقف كاميجو ليأخذ نفساً. «...بما أنكِ لم تفعلي هذا، فهذا يعني أنكِ لم تستطيعي، ولو أردتِ. كأن بينك وبين أكسلريتر فجوة هائلة في القوة حتى ما عاد ممكناً أن يكون قتالاً أصلاً.»

وحتى بدون هذا المنطق، كان يعلم أن ميكوتو لن تستطيع قتل أكسِلَريتر.

وقفت ميساكا ميكوتو لأنها لم تستطع السماح بموت المزيد من الأخوات.

لا يمكن لشخص مثلها تبرير قتل إنسان لإيقاف آخر من الموت.

«هذا ما أقوله. إذا لم تَحُليها في مواجهة مباشرة، فهذا يعني أن ذاك الأكسلريتر أفضل منك. فلماذا لم تطلبي المساعدة؟ إن كنتِ تعلمين أنكِ لا تستطيعين شيئاً بنفسك، فما كان عليكِ فعله هو طلب المساعدة من أحدٍ آخر، أليس كذلك؟»

سكتت قليلاً عند كلامه.

لم يكن هناك حتى صوت الرياح على هذا الجسر الحديدي الليلي.

في الصمت، كانت الهريرة السوداء الوحيدة تموء بشوق.

«...بقتل الريلڠن 128 مرة، يمكن لأكسلريتر الانتقال إلى المستوى 6»، قالت فجأة في الظلام.

«ما؟» عبس كاميجو.

«لكنهم لا يستطيعون إعداد 128 ريلڠن» كأن ميكوتو تتلو تلك الكلمات بمعزلٍ وحيدة. «فبدلاً من هذا سوف يُعِدّون عشرين ألف أخت نسخ أضعف من الريلڠن.»

«إذن...» الكلمات انزلقت من لسانها كما لو كانت تتحدث عن حلم ممتع.


«ماذا لو لم أكن بتلك القيمة؟»


اختنق كاميجو بالهواء في حلقه.

«حتى لو قتلني 128 مرة، لن يصل أكسلريتر إلى المستوى 6... ماذا لو أقنعت العلماء بهذه الفكرة؟» قالت وهي تبتسم. «أظهرت نتائج المخطط الشجري أنه إذا تلاقى الأكسِلَريتر والريلڠن في معركة، حتى إذا بذلتُ ما في وسعي للهروب، سأموت بعد 185 خطوة... لكن ماذا لو عجّلت الخطى؟ ماذا لو خسرتُ في أول خطوة، حيث أسقط على الأرض عاجزةً وأزحف مثيرةً للشفقة محاولة الهرب؟»

ابتسمت وهي تقول هذا كله، كأن الفكرة أراقتها حقاً.

«العلماء الذين سيشهدون ذلك ربما يقولون: حسابات المخطط الشجري رائعة، ولكن حتى الآلات قد تخطئ أحيانًا.»

ابتسمت ابتسامة مرهقة وهي تقول ذلك كله.

«...» صرّ كاميجو أسنانه.

إسقاط المعهد البحثي الذي يجري هذا التجربة لن يفيدها بشيء، لأنها ستُعاد فقط عند مختبرٍ آخر. لو أرادت إيقافهم، كان عليها أن تجعلهم يعتقدون أنه ليس في التجربة قيمة أو معنى.

لهذا السبب نَوَت ميكوتو الخسارة أمام أكسلريتر.

سواء بالكذب أو التمثيل، أرادت دفع العلماء إلى أن يعتقدوا أن المحاكاة التي تعتمد عليها التجربة غير دقيقة.

ولو عنى ذلك التضحية بحياتها.

لكن هذا...

«أيُّ معنىً في هذا؟ حتى لو خدعتِ العلماء مرةً، فإنهم سيجعلون المخطط الشجري يعيد الحسابات ثانية، وإذا أتتهم نفس النتيجة، فسيبدأون التجربة من جديد!»

صرخة كاميجو أرعبت الهريرة وبعّدتها.

لكن رد ميكوتو كان هادئًا بما يكفي لتهدئ الهريرة.

«لن يفعلوا. ولن يقدروا حتى. إن المخطط الشجري قد أُسقِطَ ودُمِّر قبل حوالي أسبوعين بهجومٍ مجهول المصدر من الأرض. على الرغم من أن الكبار يحتفظون بذلك سرّاً للحفاظ على ماء وجههم. لذا لا يمكنهم إعادة الحسابات مرة أخرى.»

ليس لديه ذكريات، وهي لا تعرف التفاصيل، لذا لن يفهم كلاهما... الحقيقة هي أن راهبة ترتدي البياض أطلقت شعاع [نَفَسِ التنين] مخترقاً الغلاف الجوي وقاسمًا القمر الصناعي إلى قسمين فتفجر وتفتت قبل أسبوعين.

«هَه. لكنه سخيف بحق. كل هراءهم ذاك عن "وفقاً للحسابات التنبؤية~" ما هو إلا بيانات أطلقها المخطط الشجري منذ أشهر، ولا يزال الناس يتبعون كلامه.»

تذكر كاميجو ما قالته ميكوتو مغرب هذا اليوم.

––‹‹أكره ذلك المنطاد حقًا.››

––‹‹...لأن الآلات تسوس الناس وتقودهم، وهذا أمرٌ مغيظ.››

«لكن هذه فرصتي. الآن لا يستطيعون استخدام المخطط الشجري لإعادة حساب أي شيء، لن يتمكن هؤلاء التافهون الذين يرضون سريعًا أي إجابةٍ تُعطى لهم إذ أنهم لا يقدرون تحليل أي من الأجزاء كانت صحيحة وأيّ كانت خطأ. لذا إذا أظهرت لهم خطأً واحد فقط في بياناتهم، سيضطرون لوقف التجربة بأكملها. هو تمامًا مثل برنامج الحاسوب الذي يتعطل من خلل واحدٍ غريب.»

هذا كان كل ما يمكن لهذه الفتاة فعله.

كانت ترمي حياتها لتحمي حياة آخر، ما عساها تكون بطلةً تهزم الشرير وتقف أمام الضحية حامية.

كل ما اقتدرت عليه هو أمرٌ واحد.

أن تُثبت لهم، بحياتها ثمناً، أن الإجابة التي حسبوها صحيحة كانت في الواقع خاطئة.

«...»

صرّ كاميجو أسنانه أقوى.

لا ضمان في هذا وإن سعت وبالغت في كذبتها. إذا اكتشف العلماء خدعة ميكوتو، سينتهي الأمر. وفيها فرصةٌ واردة أنه حتى لو ثبتت أن الحسابات التنبؤية كانت خاطئة، فإن العلماء سوف يستأنفون التجربة مهمًا يكن.

ومع ذلك، هذا كل ما استطاعت إليه.

وما بقي لها بعدها إلا أن تدعو الرب لأن تتوقف التجربة.

«فهمت...» قال كاميجو متنهدًا.

لم يعلم أي مشاعر ظهرت على وجهه.

«تخططين للموت.»

«نعم.» أومأت.

«تظنين حقاً أنه بالموت تنقذين آخر عشرة آلاف أخت؟»

«نعم.» أومأت.

ثم خطت ميكوتو خطوة واحدة إلى للأمام وواجهت كاميجو مرة أخرى.

«الآن بعد أن فهمت، ابتعد. سألتقي بأكسلريتر. قد سرقتُ البيانات وعرفتُ مواقع العشرين ألف ساحة معركة. قبل أن تبدأ إحدى الأخوات بالقتال، سأتدخل وأنهي النزال بهذه السرعة.

«لذا ابتعد من طريقي»، قالت ميكوتو.

«...» صرّ كاميجو أسنانه أقوى من قبلها.

كان صحيحًا أنه قد لا تكون هناك طريقة أخرى لإيقاف التجربة وإنقاذ الأخوات. هناك مشاكل في العالم لا يمكن حلها باللكمات. سواء كان الإماجين بريكر أو الريلڠن، كان كل ذلك مجرد شجار أطفال خيالي خارق في المقام الأول. كانوا جميعًا عاجزين جدًا أمام "المنظمات" التي أنشأها مجتمع البالغين.

لإيقاف هذه التجربة...

للوقوف ضد مجتمع الكبار هذا، ربما كانت الطريقة الوحيدة الباقية هي أن تموت ميكوتو.

لذا، صرّ أسنانه أكثر فأكثر.

تذكر ميساكا إيموتو. لقد ساعدت في جمع علب العصير المتناثرة دون إنتظار الشكر، وأزالت البراغيث من القط الكاليكو، ولكنها بدت بطريقة ما شاردة مكشوفة ومنزعجة من جسدها الذي تنفر منه القطط. ما فعلت شيئاً سيئاً وكانت ستقتل بالتأكيد، وهذا تركه يرص أسنانه أقوى.

«لن أتحرك.»

نظرت إليه ميكوتو مصدومة

«لن... تتحرك...؟»

«نعم» أكد، واقفًا في طريقها.

بعد أن رأى حالتها وسمع كل ذلك، بالطبع لن يتحرك.

لكن ميكوتو لم تقتنع.

بشفتيها ترتعشان غضبًا، وبتعبيرٍ من لم يقتنع، وضعت كلماتها التالية.

«ماذا... تقول؟ أتدرك ما تقوله؟ إذا لم أمت، ستُقتل عشرة آلاف أخت. أم عندك خطة أخرى؟ أم أنك لا ترىٰ في موتهن ضير لأنهن نسخ أقل من الإنسان...؟»

الهريرة السوداء لم تفهم كلمات البشر. ولكنها ارتعشت عند سماع هذا.

بالطبع، كان كاميجو مدركًا.

لم يعتبر موت عشرة آلاف أخت مقبولاً. ولم تكن لديه أي خطط أخرى. فهم حقيقة أنه إذا لم تمت ميكوتو، ستُقتل عشرة آلاف أخت كأنهن فئران مختبر.

وكانت ميكوتو على حق. لم يكن لديه فكرة عما كان يقوله.

«...ومع ذلك، لن أسمح لكِ.»

لم يكن لديه أدنى فكرة عن ظروفها. لكنها كانت تحاول التخلص من حياتها لإنقاذ الأخوات. هذه الفتاة المجروحة، التي فكرت في الآخرين أكثر من نفسها، كانت تسعىٰ في هلاكها متألمة، ولن يعرف أحدٌ آخر عن هذا – كاميجو لم يرغب في رؤية "سلام" خُلِق من هذا الفعل.

«—»

للحظة، وفقط لحظة، ظهرت نظرة مفاجأة على وجهها، لكن...

...اختفى هذا التعبير بالغضب سريعًا.

«فهمت. تنوي إيقافي. لا ترىٰ في حياة عشرة آلاف أخت قيمة، ها؟»

طاف الضغط في الهواء.

الهريرة عند قدمي ميكوتو أخذ تكمش أذنيها خوفًا.

«لا أتحمل رؤية أولئك الفتيات يتأذّين أكثر. رأيتُ أن أدافع عنهم بيدي... وإذا قلت أنك ستوقفني، فسأُرديك هنا والآن. هذا تحذيري الأخير، أفهمت؟ ابتعد عن الطريق.»

هز كاميجو رأسه بصمت.

عبست شفتي ميكوتو.

«هَه! أضحكتني. ماذا، ستوقفني بالقوة إذن؟ لا بأس! لن أتردد أيضًا. ما زلت أجهل أي قوةٍ تمتلكها، لكن هذه المرة، لن أنوي الخسارة. فاقبض قبضتك كأن حياتك على المحك.»

شرر أزرق شاحب طار من حول كتفي ميكوتو بصوت زرزرة.

«فإن لم تفعل، الموت مصيرك.»

شرارة خرجت منها فأضاءت الجسر، وضربت الدرابزين، ثم تبددت. ابتعدت الهريرة عن جانب ميكوتو من ضوضاء الشرر.

فصلت بينهما سبعة أمتار.

ما كانت كافية ليعبرها كاميجو بخطوة، ولكنها كانت بالتأكيد ضمن مدى ميكوتو لشن هجوم بالبرق بسرعة الضوء.

كان من الواضح بلمح البصر أيهما في موضعٍ متقدم وأيهما في موقفٍ ضعيف.

ربما ما عادت الكلمات تصل هذه الفتاة.

وبما أنها لن تصل، لم يتبقَ سوى طريقة واحدة لإيقافها.

«...»

حرك كاميجو يده اليمنى جانبًا.

فتح قبضته المشدودة مرة، كمن يفتح ختمًا على يده. ضيقت ميكوتو عينيها قليلاً. عضّ كاميجو أسنانه بشدة، أخذ يده المفتوحة، و...

...لم يقبضها مرة أخرى.

«مهلا، ما الذي تفعله...،» تلعثمت ميكوتو من كاميجو الذي لم يتحرك مهما انتظرته.

لم يرد.

غضبت، كأنها ترفض تصرفه.

«قلت لك أن تقاتل. إذا أردت إيقافي، فافعلها بالقوة! أأنت غبي؟ حتى لو بقيت ثابتاً في مكانك، فسأرميك بالصواعق!»

كلمات مليئة بالازدراء خرجت من فمها كقذائف مدفعية.

ورَدُّه كان بكلمتين.

«....ـاتل.»

«...؟ ما الذي...؟»

ضيّقت ميكوتو عينيها.

«لن أُقاتل.»

كلماته أحجمتها.

نظرت إليه كأنها رأت العجب فيه.

«أأحمق أنت!؟ ها، حقاً إنك أحمق! ما لي حلٌّ غير هذا، وسوف أرميك بالصواعق بيُسرٍ ولو أنني أثق بك! في أي عالمٍ فاتر تعيش فيه يا هذا؟ هذه ليست الحياة اليومية، افهم! أكثر من عشرة آلاف شخص قد قتلوا بسهولة. هذه ليس الحياة اليومية؛ إنه جحيمٌ تلوّن بالدماء واللحم والدهون والأعضاء، وموقفك في الانتظار والمشاهدة لن...»

«—حتى ولو، لن أقاتل...!»

سبّتهُ ميكوتو كأنها تريه جحيمًا سفتح فمه، لكن صرخة كاميجو أسكتتها.

رفع يده اليسرى المتبقية جانبًا عكس يده اليمنى في الطرف الآخر. شكلا معًا صليبًا يحجب طريقها وليعلن عدم نيته في القتال.

«تباً... قلت لك، قاتلني...»

ارتعشت كتفي ميكوتو.

لم يعد بإمكان الشرر الكهربائي الذي يشحن جسدها أن يظل داخلها، فانفجرت كل الثعابين الكهربائية البيضاء المزرقة الفائضة على الدرابزين والأرض بجوارها، واحدة تلو الأخرى.

لكن كاميجو لم يقبض بعد قبضته.

ما رغب في هذا.

سبب وقوفه أمامها الآن هو لأنه كان قلقاً عليها. أراد أن يمنعها عن الخوض في مكانٍ خطير للغاية وحدها. هذه الفتاة التعبة لم تطلب أبدًا الإنقاذ، حتى في آخر النهاية. لم يرد أن يراها تتمنى الموت وحيدة، ولم يرد أن تتحمل جرحًا واحدًا آخر؛ لهذا السبب أراد أن يقف هنا.

ولكنه لم يستطع أن يُوَجّه يديه نحوها.

كاميجو لم يستطع أن يضرب ميكوتو.

نظرت إليه، وانتشرت البرق الأبيض المزرق من جسدها بأكمله.

«..قلت لك قاتلني!!»

بعد لحظة، قذفت أخيرًا رمحًا من البرق من غرتها.

أعلىٰ فولت من البرق تجده في الطبيعة بلغ المليار فولت.

وبرقُها يُنافِس هذا.

هذا الرمح السامي من الكهرباء الأرجوانية التي احتوت على مليار فولت توهجت باللون الأبيض المزرق. حَلّل الرمح الكهربائي [الأكسجين] وحَوّله إلى [أوزون] أثناء طيرانه لسبعة أمتار إلى كاميجو في رمشة.

جاء صوت صراخ.

بضجيجٍ مهيب، حَلّق الرمح الكهربائي بجانب وجه كاميجو.

«لن اتراجع في الثانية، سأصيبك!» قالت ميكوتو وهي ترص أسنانها. «إذا نويت القتال، فاقبض قبضتك وقاتل! إذا لم تنوي، فتنحى عن طريقي! ولا تدس على آمال الغير بمشاعرك السطحية!»

صدحت صرخة شديدة مع انفجار الشرر من غرتها مرة أخرى.

هذه المرة، الضربة اتجهت مباشرة نحو قلب كاميجو توما.

كانت هجومها مرافقاً لمطلبها: أن يقبض قبضته الآن.

لكن كاميجو على الرغم من ذلك، لم يفعل.

لم يرغب في رفع إصبع ضد هذه الفتاة.

ثم ضرب رمح البرق الصاخب مباشرة قلبه.

  • الجزء 3

شعر كاميجو وكأن كرة مدفعية ضربته فأسقطته فارتطم جسده بالأرض. أبقاه زخمه متدحرجًا عدة أمتار. انهار على بطنه وأطرافه ممتدة، كأن أشبه بدمية مكسورة.

«ها؟»

أكثر من اندهش من المشهد كانت ميكوتو، وليس كاميجو.

لم تفهم ميكوتو طبيعة قوته، لكنه لم يسمح أبدًا بهجومٍ واحد أن يصيبه في جميع المعارك التي خاضوها حتى الآن. في كل مرة استخدم فيها تلك القدرة الغريبة لإلغاء ضرباتها، كان غضبها يتصاعد سريعًا. وفي وقتٍ ما، بدأت تراه وجودًا لا يقهر؛ قادرًا على التعامل بسهولة مع أي هجوم تشنه ضده.

لهذا السبب أطلقت رمح البرق.

نوعًا ما وبطريقة ملتوية، كانت تثق به...

...ليبطل مثل هذا الهجوم بسهولة.

«لكن...»

...هذا خطأ، لا يمكن...

نظرت إلى الصبي الملقى على الجسر. كانت ميكوتو على علم جيد بما يحدث لجسم إنسان إذا صببت فيه مليار فولت من الكهرباء عالية التوتر دفعة واحدة. هذا الصبي لن يستطيع النهوض مرة أخرى. كانت تعلم ذلك، وهي من فعلت هذا. وَعَتهُ، وفَهِمتُه، ولكن...

في تلك اللحظة، بدأ الصبي الذي لم يكن ينبغي له أن يستيقظ مجدداً في التحرك.

صرّ أسنانه، جمع كل قوته، واستقام.

«لماذا...» همست ميكوتو.

قدرة كاميجو لم تلغي كهرباءها. لقد ضربت جسده بالتأكيد. وعلى الرغم من كل ذلك، استطاع النهوض بقوته، دون الاعتماد على أي قدرةٍ خاصة.

و...

حتى بعد أن تعرض لصدمة مليار فولت في صدره، لم يقبض الصبي قبضته.

لهذا السبب همست ميكوتو بدهشة، «لماذا؟»

«...أنا... لا أعلم» قال بأسنان مضغوطة. «لا أدري لمَ لا أريد قتالك. لا أعرف حتى ما إذا كانت معي خطة جيدة بديلة! لكنني لا أتحمل! لا أتحمل رؤيتك تؤذين نفسك! لا أعرف حتى ما الذي أهذي به الآن! لكن لا تلومني فما لي حيلة! بالطبع لا أريد أن أوجه قبضتي نحوك!»

ما...؟ كانت ميكوتو في حالة من الضياع التام.

كان الصبي يصرخ وكأنه على وشك أن يسعل دمًا. يكاد ينهار في أي لحظة، بمنظره هذا حيث غرس قدميه بيأس على الأرض.

«وحتى لو لم أمتلك طريقة أخرى!! وحتى لو لم أعلم ماذا أفعل! ولكني ما زلت أرفض هذا! لِمَ عليكِ الموت؟! لِمَ يجب أن يُقتل أيُّ أحد؟! بالطبع لن أقبل هذا أبدًا!»

ربما أدرك الصبي أن كلماته لم تعد تصل إليها.

ولكنه لا يزال يصرخ.

ربما لم يحمل سببًا محددًا.

لقد فهم أسبابها، لكنه حَمَلَ شيئاً رفض التخلي عنه.

«...»

للحظة، فقط لحظة، عضّت ميكوتو شفتها.

قد تمتمت فتاةٌ ما "ساعدني" بصوتٍ لن يسمعه أحد.

ولكن في تلك المرة، ظهر الصبي كأنه يجيب ندائها.

لو قالت له "ساعدني"، فسوف يحقق لها الصبي بالتأكيد أي معجزة تتطلبها.

ولكن ميساكا ميكوتو حرّمت على نفسها هذه الكلمة.

كان خطأها مقتل أكثر من عشرة آلاف أخت.

هي لن تسمح لنفسها بالتأكيد بالاعتماد على الآخرين لإنقاذهن.

«اخرس...» قالت بشفتين ترتجفان. «ما لي حق في قول تلك الكلمة. حتى لو وُجِد عالمٌ مثالي فيهِ كل الناس يبتسمون... فلا مكان لي فيه! فابتعد ولا توقف أمنيّتي!» زأرت ختامًا.

فتطاير شررٌ من خصلات غرتها مع صوت صرير.

هذه المرة كانت متيقنة إما أن يستسلم الفتى أو يرفع يده للقتال.

ولكنه لن يقبض قبضته مهما حدث.

في تلك المرحلة، ما عادت تُسَيطر على رمح البرق، حيث أنه اخترق صدر الصبي دوناً عن أمرها.

صدى هديرٌ هائلٌ المكان.

كان على الصبي الموت، ولكنه لم يسقط. وضع بأسه كله في ساقيه، الذان كانا على وشك الانهيار، ووقف مكانه أمامها سادّاً دربها.

«...أدري... أنك تدركين هذا أيضًا... لا أحد... سيُنقذ هكذا. حتى لو متِّ وأنقذتِ حياة عشرة آلاف أخت... أترينهن يشكرونك على نجاتهن بفعلك هذا؟ الأخوات اللاتي أردت إنقاذهن ليسوا بتلك التفاهة!»

«اخرس! اخرس وقاتلني! لستُ بالطيّبة التي تحسبها! لقد رميتك بمليار فولت من البرق، فلماذا لم تفهم ذلك بعد؟!»

أطلقت ميكوتو رمحًا آخر مُهَدّدة.

لكنه لم يرفع يده اليمنى. ضرب رمح البرق مباشرة في صدره.

ولكن كاميجو توما لم يسقط.

حتى بتلقيه هجومًا كذاك، لم يسقط.

«لقد قتلت أكثر من عشرة آلاف شخص! ما من سبب لشريرة مثلي أن تعيش في هذا العالم! فلماذا تقف وتدفاع عن مجرمةٍ أنا؟!»

«لستِ بالشريرة» قال كاميجو حازمًا.

عبست ميكوتو متشككة، ولكن...

«لو كنتِ، فلماذا لا أزال حيّاً؟»

«هه؟» تلعثمت ميكوتو.

«قلتِ مليار فولت. مستحيل أن يعيش منها إنسانٌ عادي. ألم تجدي غرابةً في تصرفك؟ أوكنتِ تكبحين نفسك ربما وأنتِ لا تدركين؟»

«أكبح... نفسي؟» قالت، وجهها محتار. «أبدًا. بل نويت قتلك. وحتى بعلمي أنك كنت... عاجزًا... ومع علمي أنك لن تقاوم... ومع ذلك...!»

«لكنك لم تستطيعي قتلي.»

«...»

سكتت ميكوتو فجأة.

كان على حق. عادةً، لا يفترض أن يعيش الإنسان العادي بعد أن يتعرض لصدمة مليار فولت.

ولكن كانت هناك استثناءات.

على سبيل المثال، كانت مسدّسات الصعق التجارية ذات فولت كهربائي تصل إلى مئتين أو ثلاثمئة ألف فولت، لكن الناس لا يموتون من هذا. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يُصاب الناس بالصعق من مقابس الحائط ذات المئة فولت فقط ويموتون منها.

سبب ذلك ليس الفولتية أو التوتر –– بل من مستوى التيار الكهربائي، أي الأمبير. القوة (واط) تساوي الفولتية (جهد) مضروبة في الأمبيرات (تيار)، لذا لا يهم كم عَلَت الفولتية، إذا كان الأمبير منخفضًا بما فيه الكفاية، فلن تُصعق.

بمعنى آخر، على الرغم من أن فولتية رمح البرق التي أطلقتها ميكوتو كانت مرعبةً مُفزعة، إلا أن تيارها (أمبير) كانت منخفضةً كثيراً.

كانت تمامًا كمثل السيوف الزائفة التي تراها في الدراما التاريخية؛ هجماتٌ استعراضية وحسب، دون أيِّ ضرر.

ولكن ميكوتو ما نَوَت التساهل. لقد رمت عليه كل ما تملك بالتأكيد. ولهذا مكانها ساكنة، تنظر إلى كاميجو، ودون أن تفهم سبب هذه الظاهرة.

نظر كاميجو إلى عينيها وهي ترتجف كقطة خائفة.

«ربما التضحية بحياتك لإنقاذ الأخوات هو أقصى أحلامك في نظرك—» قال، متعبًا. «لكن في النهاية... ما زلتِ فتاةً طيّبة لا تقدر حتى على قتل الفتى الذي يحاول إيقاف هذه الأمنية.» قال مبتسمًا ومرهقاً تمامًا.

«أه... هه...» تمتمت ميكوتو وترددت وهي تنظر إلى كاميجو.

ارتعشت عيناها كطفلة صغيرة ضيّعت طريقها.

ما أرادات ميساكا ميكوتو في أن يتورط كاميجو توما في هذه التجربة أكثر.

لهذا السبب بالضبط تحدثت بسهولة عن جميع التفاصيل القاسية عندما سألَ عنها. أرادت منه أن يَيئس بعد سماع ذلك. وعندما هاجمته بالبرق حتى وإن لم يتفاعل، كان ذلك أيضًا لأنها أرادت منه أن يدرك أنه لن يصل إليها بكلامه وأن عليه الاستسلام.

لو أن كاميجو فَقَدَ ثقته بميكوتو...

...فلن يتبعها ويتورط في هذه التجربة المَلْئَ بالموت.

«كُفّ... أرجوك.»

أمسكت ميكوتو رأسها.

ورغم ذلك، سيواصل كاميجو الوقوف أمامها. مهما سبّتهُ وأهانته، مهما هاجمته وضربته وهو معزول، لم يهتم.

بهذا المعدل، سيتورط الصبي.

سيغوص بعمق في عالم غير طبيعي بعيدًا عن حياته اليومية – في دوامةٍ من الدماء والأوساخ لا رجعة منها.

«لا درب غير موتي لأنقِذ أولئك الفتيات! ولا حلّ آخر! أليس هذا كافيًا؟! إن كان بموتي تُنقذ حيوات الجميع، أليس هذا رائعًا؟! إن فهمت هذا، فابتعد عن طريقي!»

غطّت ميكوتو أذنيها بيديها وأغلقت عينيها بإحكام.

—لكنها ظنّت وسط الضجيج أنها سمعت عبارة لن أتحرك تتسلل إلى أذنها.

«...ستموت» همست ميكوتو وعيناها مغلقة. «من هنا فصاعدًا، لا رجعة! إذا ضربك هجومي التالي بكامل قوته، فبالتأكيد لن تبقى حَيّاً! لذا إذا لم ترد الموت، فابتعد عن طريقي!»

صار صوت الشرر الأرجواني المتدفق من جسد ميكوتو أثقلَ فأكثر فأحَدْ.

ارتفع مستوى الصوت سريعًا، كأنها فَعّلَت سلاحًا غريبًا.

«...»

ومع ذلك، لم يرجع الصبي خطوةً...

...كأنه يؤكد أن هجومًا كهذا لن يعطيه سببًا للتراجع حتى.

عضّت ميكوتو شفتِها.

لن تنجح الخدع ضده.

طالما لم ترمي عليه ضربات تهدد حياته، لن تستطيع أبدًا إرغامه على الاستسلام.

وإذا علم أن هذه ليست خدعةً، حتى هو سيقاتل.

—لكنها متيقنة من أنها سمعت صرخته تقول لن أتحرك.

أخيرًا، وقد بلغ السيل الزبى، صرخت.

فوميضٌ، كأنه يخترق جفونها الموصدة. وزئيرٌ، قَطَعَ باب يديها وإلىٰ أذنيها تغلغلت. ما كان تياراً ضعيفًا وجهدًا عالي، وما كانت كهرباءً زِينة. ما أطلقته كان رمحًا حقيقياً من البرق يخترق حتى السماء.

في لمحة، بدون ضوء أو صوت...

-دوش!!- ضربت مباشرة، فانفجرت كأنها ألعاب نارية.

ومع هذا، لم يقبض الصبي قبضته اليمنى.

في النهاية، كانت الحكاية بهذه البساطة.

  • الجزء 4

فتحت ميكوتو عينيها بخوف، ورأته مستلقيًا على بُعَيد أمتار منها.

كان ممددًا على وجهه، ثابتًا. ودخان خفيف كالذي ينتجه العود تصاعد ببطء من بعض نقاط ملابسه. مثلما تسخن أجهزة ألعاب الفيديو عندما تلعب بها طويلاً، اكتسبت الأجسام حرارةً يُشار إليها باسم حرارة جول عندما تُمَرّر الكهرباء فيها.

بدا أن الحرارة الجولية الضخمة التي أنشأها التيار الكهربائي ذو الجهد العالي قد حرقت جسده ببعض الحروق الخفيفة هنا وهناك.

ومع ذلك، لم يتلوى الصبي ألمًا بسبب الحرق.

«آه...»

هناك، أدركت ميكوتو فجأة أن الأمر انتهى.

هذه المرة بالتأكيد. هذه المرة، بلا شك، لن يستطيع ذلك الصبي النهوض مجددًا. من المحتمل أن الصدمة أوقفت قلبه، حيث أنه انغمر بفولتٍ وأمبير عاليين حقيقيين.

سمعت الهريرة السوداء تموء.

كان جسدها وأفكارها متزعزعة على حد سواء، ونظرت إلى الخلف. هناك، على بعد أمتار قليلة منها، كانت الهريرة السوداء تجلس خائفة حدّ الموت.

لم ينتفض شعرها، ولم تكشف أسنانها أو مخالبها.

بدت تلك العيون البريئة تسألها: لماذا فعلتِ هذا؟

«آآه...»

عندما نظرت إلى الهريرة، استوعبت ميكوتو أمراً.

في النهاية، قد فعلت ميكوتو... ذلك... له، وما كان هذا مختلفاً عن مهاجمة هذه الهريرة الظريفة التي تثق في الناس فورًا وتداعب أنفها فيهم.

بالفعل، كان للصبي العديد من الخيارات.

فمثلاً، بعد قراءة التقرير، أمكنه أن يدعي أنه لم يقرأه ويرجع إلى حياته العادية.

حتى لو أراد أن يوقفها، لأمكنه أن يخفي حقيقة أنه قرأه حتى يُبعد عن نفسه الشبهة، فينتظر وصول الفتاة فيُباغتها ويضرب رأسها ويُغميها.

لكنه لم يفعل تلك الأشياء.

دخل غرفتها بنفسه، وكشف أمامها مباشرة أنه قرأ التقرير، كشف عن مشاعره الحقيقية التي لم يرغب في قتالها، أظهر جميع نواياه، وحاول إيقافها وجهًا لوجه.

كان كأنه يلعب البوكر وأوراقه مكشوفة.

كان كأنه يُعلن أنه سيلعب المقص في لعبة حجر-ورق-مقص.

لِمَ يفعل شيئاً بهذه الخطورة؟

لو أنه خان ثقتها وضربها بغتة، لأمكنه إنهاء الأمور أكثر أماناً بكثير.

«...»

السبب كان واضحًا.

ميكوتو كانت تثق في ذلك الصبي. على الأقل، كونه بجانبها كان يمثل نوعًا ما منطقة آمنة بالنسبة لها، حيث أنه كان جاهلاً بالتجربة.

كقطةٍ اندست عند ظلٍّ من الشمس، تستريح من مشاق اليوم.

لن يحتمل أن يطعنها في الظهر. واضحٌ أنه ما أراد أبدًا أن يفعل هذا، وإن كان الخيار الأكثر أماناً ويقيناً.

فكانت بغيّتُه – ألا يُصيبها الضرر، ولو أنها وجّهت بماسورة البندقية عليه.

وكان رجاؤه – أن تُحَل هذه المشكلة بالحديث بدل العنف.

لكن في النهاية، لم تصلها كلماته، فسحبت الزناد.

«...»

صرت ميكوتو أسنانها.

ما بقي شيءٌ يوقفها. انقطع خيطٌ رفيع داخل ميكوتو كان بمثابة الاستسلام، وشعرت كأنها تحررت من شيء. كان إحساسَ بالونٍ انقطع خيطه، فطَلُقَت حُرة تطير أينما شاءت – حسّت بحريةٍ يليها هلاك كبالون طاف في السماء لا رجعة فيه.

تحركت أصابع كاميجو.

«؟!»

تصلبت ميكوتو لهذا المشهد اللامعقول.

تحركت يد الصبي الساقطة إلى جانبه، فلمست الأرض برفق. تحركت تلك الأصابع ببطء عبر الأرض، تتحسسها.

لم تكن حركة من سعى للانتقام مِن مَن فعل هذا به.

ولم تكن أيضًا حركة من ارتعب راغباً في الهرب مِن مَن فعل هذا به.

قالها منذ البداية.

لن أقاتل. لا أريد قتالك.

ما كان إصراره هذا سوى رغبة في مد يد المساعدة لفتاةٍ صرخت طلباً للمساعدة.

«...لماذا؟» همست ميكوتو.

لم يعرف كل شيء عن وضعها فقط بقراءة التقرير. الحقيقة أنها قدمت خريطتها الجينية لغرض علاج ضمور العضلات، الحقيقة أن خريطتها هذه تَحَوّلت لأغراض عسكرية قبل أن تعلم، الحقيقة أن طموحها في إنقاذ الناس تحولت إلى موت عشرين ألف شخص...

ما كان يجب أن يعرف أيَّ من هذا.

ومع ذلك لا يزال واقفاً في وجهها.

وقف...من أجلها.

لكن...

«ت...و...قف» قالت، كطفلة على حافة البُكى، هزت رأسها من جهة إلى أخرى.

إذا استطاع أن ينهض ثانية، كان عليها أن تقضي عليه لتنقذ أخواتها – فهو عائق. يمكنها أن تتساهل معه، بالطبع. ولكنه من الغريب أنه ما زال يتحرك. حتى أبسط أوهن أضعف الهجمات الكهربائية قد توقف قلبه.

لذا قالت ببساطة...

«توقف...»

لم ترغب في أن ينهض مرة أخرى. لو أنه ما يزال حيّاً، أرادت منه أن يفقد الوعي فقط. هكذا، ستذهب إلى حيث كان أكسلريتر دون أن تضطر إلى قتله.

لو أن الصبي استسلم عنها الآن، فلن تضطر الفتاة إلى إيذاء الناس مرة ثانية.

لو أن الصبي فقد الأمل عنها الآن، فسوف يتحرر من معاناته هذه.

ومع ذلك حرك أصابعه.

حتى وإن لم يقدر تحريك جسده، إلا أنه بذل كل قوة أخيرة، وجمعها في يَـدٍ، وفي النهاية نجح في حركةٍ بسيطة بإصبع واحد.

«آه...»

رفعت ميكوتو ببطء يدها نحوه.

ربما لن يتوقف هذا الصبي أبدًا. ولو قُطِعت أطرافه. ولو دُمِّرت عينيه وأذنيه. لن يستسلم أبدًا طالما كان قلبه ينبض. لذا لم يكن هناك خيار آخر. إذا كان سيعيقها عن إنقاذ الأخوات، فعليها أن تتخلص منه لتمضي.

وضعت يدها بحذر نحوه...

...لكنها لم تستطع أن ترمي رمحها البرق.

تجمد جسدها، لكن الحرارة انفجرت من غددها الدمعية.

لن تقدر. لن تستطيع قتله. لا تعرف لماذا. لا تعرف الإجابة الصحيحة. فقط أنها لم ترغب في هذا. لم تستطع أن تتحمل رؤيته يموت. فكرة موته فقط أشعرتها برغبةٍ في الانفجار.

ساعدني.

هذه الكلمة التي لا يجب أن يسمعها أحدٌ خرجت من فمها...

...كما لو كانت تصلي لإله لا تدري بوجوده.

ظنّت أن غددها الدمعية قد صدأت منذ زمن، فها هي تراه يفيض.

  • الجزء 5

ومضت رؤية كاميجو وأظلمت.

وقد رأىٰ ميكوتو واقفة شاردة، وهو مُمَدّدٌ على الجسر.

توقفت هجمات البرق.

غمرها دمعٌ غزير وهي ثابتة مكانها كطفلة تائهة.

فكِّر...

كمن يحاول يائسًا أن يُمسك قلبها عن أن ينكسر.

وقد قالت الفتاة أمامه هذا: لا خيار إلا موتي. لم تقل إنها تريد الموت أو أنها ترضى بالموت. قالت أنه لا خيار إلا بالموت.

هذا كان الجزء المهم.

ما تمنّت الموت. بل وكأنها حوصرت بلا خيارٍ آخر في يديها.

على سبيل المثال، إذا أعطي الشخص ثلاثة خيارات، ثم قيل له أن عليه أن يختار أحدها لازمًا، ولكن جميعها كانت تؤدي "للانتحار"، فما بيده أن يختار إلا "الانتحار". كان خطأً أن تُفرض مثل هذه المسؤولية عليها وأن تُلام لاتخاذ القرار.

هيّا فكّر...

إذا خُيّر لها ثلاثة خيارات "انتحار"، فإن عليه أن يُعِدّ لها خياراً رابعًا. إن كان هناك خيار يقول "سأعيش مهما كان"، فإن الفتاة التي حوصرت بالموت وحده ستختار بالتأكيد هذا الخيار الجديد.

هيّا فكّر، ما هو الخيار الرابع...

خيارٌ يُنهي التجربة من دون أن تضطر ميساكا ميكوتو إلى الموت. خيار لا يفقد أحدٌ شيئًا. خيار يُمَكّنهم من إنقاذ الأخوات. خيارٌ أشبه بالحلم. قالت ذلك بنفسها. لم تُعبر عنها بالكلمات، ولكنها بالتأكيد قالت هذا:

أريد أن أعيش، لكن لا مسار آخر لي للموت.

إذا لم أجد خياراً رابعًا، فعلي أن أصنع واحدًا بنفسي...

سيتطور أكسلريتر إلى المستوى 6 عن طريق قتل الريلڠن 128 مرة.

ما استطاعوا إنشاء 128 ريلڠن.

لذلك، أعدوا نسخًا أقل درجة من الريلڠن؛ الأخوات.

يمكن تحقيق نفس النتيجة بقتل عشرين ألف أخت.

اعتمدت التجربة على الحسابات التنبؤية للمخطط الشجري.

أدى تدمير المختبرات إلى قيام مؤسسات بحثية أخرى بإكمال التجربة.

لإيقاف التجربة، كان عليهم إقناع الباحثين على التفكير في أن التجربة لن تكون ذات قيمة ولن تَسْوَىٰ.

ها...؟

حينها، لاحظ كاميجو شيئًا بدا في غير محله قليلا.

لكن في اللحظة التالية، بفعل التعرض المتكرر لصدمات الكهرباء ذات الجهد العالي، غاص وعيه الخافت على عجل في الظلام.

(صفحة المجلد)

<<الفصل السابق                        الفصل التالي>>

تعليقات (0)