-->

الفصل الثالث: إِشارَةٌ نِهائِيّة ميساكية مُعَيّنَة. — طَريٌّ_أوْ_سُكَّري.

(إعدادات القراءة)

انتقال بين الأجزاء

  • الجزء الأول (31 أغسطس__5:20 ساعة المغرب.)

المختبر الذي وصل إليه أكسلريتر كان ضخمًا للغاية.

يتألف من صفٍّ من ثلاثة مبانٍ عملاقة تشبه المستودعات الميدانية — كانت هذه مرافق مخصصة لتوفير عشرين ألف أختٍ من أجل التجربة. وداخلها، وصلت الرفوف المعدنية إلى السقف، وكل رف اكتظ بالكبسولات الأسطوانية مثل الكتب في مكتبة.

المبنى الذي به المختبر الفعلي كان بجوار هذه المباني الثلاثة.

المبنى المستطيل ذو الطابقين –والمصنوع من الخرسانة المسلحة– بدا صغيرًا بجانب المرافق الثلاثة الأخرى. وبالتأكيد ما ظهر بمظهر المبنى الرئيسي بينهم كلهم.

وقف أكسلريتر أمام باب المختبر.

على الباب ماسحٌ شبكي، لكنه تجاهله. شكّ في أن بطاقة هويته ستعمل على أي حال. بدلاً من ذلك، طرق الباب بخفة. ركز تأثير طرقته على القفل، فدمر بدقة الجزء المعدني.

وانفتح الباب العتيق الذي يشبه باب القصر بصوت صرير.

كان الداخل أشبه بغرفة تكنولوجيا المعلومات أكثر من مختبر. وما بدت كأنها ثلاجات صناعية تصطف على طول الجدران كانت في الواقع أحدث تقنيات الحواسيب الكمية، ولكنها في نظره بدت نماذج قديمة — كل هذا حتى يتمكنوا من إكمال التجربة، بشكل أساسي. على الأقل، لم يعتبرها الفتى بدائل مناسبة لنظام ‹المخطط الشجري›. هذه الغرفة الخالية من النوافذ أُضيئت بضوءٍ شاحب جاء من عشرات الشاشات. استصعب رؤية الأرضية تحت أكوام الورق هذه التي أخرجتها الآلات. والصوت الوحيد الذي أمكنه سماعه هو الهمهمة المنخفضة والثقيلة لمراوح التبريد.

قد لا تبدو الغرفة مختبرًا في البداية، لكن التفاصيل أظهرت عكس ذلك. كانت هذه الفوضوية شائعةً في المختبرات التي تُركز رئيسيًا على المحاكاة، مثل تجارب التطور المستندة إلى الحياة الصناعية أو نماذج مقاومة الهواء في التصميمات الفضائية.

وكانت هناك امرأة موجودة وسط الغرفة.

أثناء التجربة، كنت لتجد دائمًا ما لا يقل عن عشرين باحثًا مزدحمين هنا كالسردين يؤدون أعمالهم، لكن الآن ما بقي منهم أثر. كانت المرأة على علمٍ تام بذلك أيضًا. بدلاً من الاسترخاء على كرسي، جلست على طاولة. وأمسكت بأوراق البيانات التي انتثرت عبر الأرضية، ووضعت وُسومًا عليها بقلمٍ أحمر. لم تبدو مهتمة كثيرًا بالآداب في هذه اللحظة.

«مم؟ أوه، أهلاً بعودتك، أكسلريتر. ما كان عليك كسر الباب. بطاقتك ما تزال صالحة حتى تسعين يومٍ آخر،» قالت المرأة، كأنها لم تلحظ دخول أكسلريتر إلا بعد أن تشتّت تركيزها عن أوراق البيانات ورفعت عينيها فرأته واقفًا هناك.

كانت هذه يُوشكاوا كِكيو.

هي في أواخر العشرينات من عمرها لكنها لم تضع أي مكياج أبدًا. ارتدت جِنزاً قديمًا باهت مع تي شيرت اهترأ من كثرة الغسيل. ولَبَسَت فوقه معطفاً مختبرياً أبيض بأكمام طويلة — وكان الشيء الوحيد الذي بدا جديدًا فيها.

نظر أكسلريتر إلى ورقة البيانات الطويلة التي حملتها يوشكاوا وتتبّعها بعينه. ووجد أوراقاً كُثُر مبعثرة تحت المرأة، تكاد تغطي كل الأرضية.

حاضرًا، كانت التجربة مجمدة. قد صُمِّم مخططها في محاكيات الحاسوب الخارق المسمى ‹مخطط الشجرة›، لكن نتائج تلك الحسابات قد حُكِم عليها أنها خاطئة.

لكن التجربة كانت معلقة فقط، ولم تُلغَ. كل ما احتاجوه هو أن يُحددوا الخطأ ثم يصلحونه، عندها يكملون حيث توقفوا في أي وقت.

مع ذلك، ما ظن أكسلريتر ذلك بممكن. لم تكن حسابات المخطط الشجري معقدة مفرطة، لكن كمية الحسابات التي أجراها النظام كانت كثيرةً هائلة. فبينما ترى الإنسان يحسب بسهولة [1×10=10]، فإن طريقة حساب الآلة مختلفة عنه فتراها [1+1+1+1+1+1+1+1+1+1=10]. ربما كان هذا الأسلوب أسهل على الآلة، لكن الفتى أشفق تجاه من عليه التحقق من كل ذلك. كم من العقود قد تستغرقهم فقط لتصفح كامل قاعدة الشيفرة؟

«أوف. أحسنتم العمل، أو ودي لو أقول. من جدكم تستمتعون بمنظر البيانات طول اليوم؟»

«لا، أبدًا لا. ولا ذرة متعةٍ حتى أنني قد أطلب منك العون لو تستطيع. فإن مهاراتك في الحساب وحل المشكلات معروفة شهيرة.»

«ألن تكون مشكلة إذا قرأت ما وراء السيناريوهات؟»

كان أساس التجربة يتطلب منه إكمال عشرين ألف سيناريو قتالي مكتوب مسبقًا. الهدف النهائي كان تحفيز أكسلريتر للانتقال من المستوى الخامس إلى المستوى السادس عبر تحسين مهاراته الإسبرية من خلال المعارك وتوجيه مسار نُموّه.

بمعنى آخر، إذا عَلِمَ أكثر مما يحتاج، فلربما لا يتصرف وفقًا لهذه السيناريوهات المحددة سلفًا. لذا حَذَروا ألا يُرونَهُ بياناتٍ كثيرة عن التجربة...

ومع ذلك، رفعت يوشكاوا كِكيو عينيها مرة أخرى عن أوراق البيانات وقالت: «لا عليك، إني الآن لا أتفقد بيانات ‹المخطط الشجري›.»

«هِه؟ تتركين جبل البيانات اللعين ذا بعدين؟ حَـيۤـل فاضية أنتِ. أو إنكِ تعبتِ منهااا؟» [1]

«أراكَ مَيّتاً ساعة انتهائنا من تحليل كل ذلك. ولأجيب على سؤالك، نعم. فبالنسبة لي، على الأقل، هذه البيانات ذات أهمية نسبية أكبر.»

تحدثت بنبرة توحي كأنها لا تملك وقت فراغ كثير، لكن أكسلريتر لم يهتم صراحةً. كل ما احتاجه في هذه اللحظة هو حاضنة لتعديل جسد لاست أوردر غير المكتمل، والمرافق الضرورية اللازمة لذلك، والمعرفة والمهارات لاستخدامها فعليًا.

نظر حوله فوَجَدَ كل الملفات والملاحظات والأقراص والأوراق منتشرة على الأرض كأن عاصفة قد مرت.

«اسمعي. أين كتيب تعديل عينة الأخوات؟ أحتاجه في باب البرمجة والعتاد—ولذا أحتاج حاضنةً و‹عهدًا›. وأيضًا، سأستخدم أحد مرافق التعديل. ولا تسألي. اعتبريه ثمن عقدي في انهيار كامل هذه التجربة.»

تفاجأت يوشكاوا قليلاً من هذا.

«مهلا لحظة. كيف عرفت كل هذا؟ فإني اكتشفتها قبل ثلاث ساعات فقط.»

«هِه؟»

«أتكلم عن هذا» قالت وهي تلوّح بورقة البيانات.

كانت شيفرة ‹عهد›.

الأخوات عبارة عن نسخ مستنسخة من ميساكا ميكوتو اُنشِئت في غضون أربعة عشر يومًا تقريبًا بفضل جهاز زراعة خاص. ما كان ممكناً بناء شخصياتهن عبر التعلم العادي، إذْ أن الوقت لم يكفي.

لذلك أُدخِلت شخصياتهن وذكائهن إلكترونيًا عبر ‹العهد›، ولقد سَمّوه "جهاز تعلُّمٍ"، لكنه حقيقةً كان جهازاً يغسل الدماغ. أساسًا، كان يقوم بنفس العمليات التي يقوم بها الحاسوب عندما يعيد كتابة المعلومات على القرص الصلب.

بعبارة أخرى، كانت يوشكاوا تطالع مخططًا لعقول الأخوات.

«فماذا تفعلين بهذا؟»

«أما عرفت من نظرة؟ أبحثُ عن الأخطاء،» ردت وهي توسم ورقة البيانات بقلمها الأحمر. «بالطبع، لقد اكتشفت هذا قبل ثلاث ساعات فقط، لذا لم أنتهِ بعد.»

عبس أكسلريتر.

ثم توقف قلم يوشكاوا.

«إني في منتصف عملية تنظيف الأخطاء في بيانات شخصيتها. حسنًا، في الواقع، إنها أوامر مُصنَّعة بشريًا... لذا ربما أُسمّيها اسم فيروسات.»

«...لحظة. ماذا قلتِ؟»

«حسنًا، هذا لا يعني أن كل بيانات شخصيات الأخوات قد تدمرت. لكنها مشكلة إذا فقدت إحداهن السيطرة فيؤول أمرها إلى نشر الفيروس لباقي الأخوات.» هزت يوشكاوا رأسها قليلاً. «لم أشرح لك هذا، صح؟ هناك عينة فريدة تُدعى لاست أوردر(إشارة-نهائية).»

لاست أوردر.

ارتعشت شرارات عبر قفا أكسلريتر مثل نبضات كهربائية.

«هل تقصدين... تلك؟»

«تلك؟ ها. كنت تعرفها؟... هذا يعني أنها ما تزال في المدينة،» تأملت وهي تُدوّر قلمها. «طيّب، لا بأس. لابد أنك تعرف البعض، لكنني سأستعرض وضع لاست أوردر الحالي مرة أخرى من أجلك. هذا مهم، لذا استمع جيدًا.» قالت هذا وهي تنزل من الطاولة لتجلس على كرسي. أشارت إلى الكرسي بجانبها تُشجع أكسلريتر على الجلوس أيضًا، لكنه ما فعل.

كَرِهَ هذا الجانب من يوشكاوا. لطالما تصرفت كمعلمةٍ في الإعدادية.

«أولاً، هي لم تُخلق لأغراض التجربة. أكنت تدري بهذا؟»

«ماذا يعني هذا؟ هن جميعًا مستنسخات أدنى من الريلغن، لذا خلقن جميعًا للقتل، ولا؟»

«هذا صحيح، لكن كم عدد المعارك التي كانت لتُجرى قبل أن تنتهي؟»

«ماذا تعنــيۤــن؟ عشرون ألف، أما كانت؟ فكرت أن هذا كان رقمًا جميلًا ومناسب، لكن—»

توقف أكسلريتر عن الكلام فجأة، كأنه أدرك شيئًا.

«صحيح. رقمها التسلسلي هو 20,001. ويبدو أنك عرفت هذا سلفاً. إنها عينة غير مطلوبة للمعارك المُحددة في التجربة. هي أشبه بتدبير أمني.» تنهدت يوشكاوا، ثم تابعت. «تخيل معي. ماذا سيحدث إذا ثارت الأخوات بعد أن صنعنا عشرون ألفًا منهن؟ وما كنا نحن العلماء إلا عشرين أو قليل — ما كنا لنتعامل أو نصمد أمام ذلك.»

«إذن تلك الشقية كانت الورقة الرابحة؟ ما هذا؟ أهي مستوى 5 مصنّعة أم ماذا؟»

«لن نقدر على صنع شيء كهذا، ولا فائدة. لماذا نضيف مستوى خامس مصطنع ليتمرد معهن؟ لقد خلقناها وهي تدبيرٌ أمني، ولذا احتاجت إلى نظامٍ أكثر موثوقية. أردناها أن تكون شخصًا يمكن حتى للباحثين الضعفاء أمثالنا أن يتحكموا بها بكمال.»

«؟»

«هل سمعت بمصطلح ‹شبكة الميساكا›؟»

عبس أكسلريتر. إذا كان يتذكر صحيحًا، فذلك كان اسم رابط الموجات الدماغية الذي يربط جميع المستنسخات ببعض. الشبكة نفسها كانت تمتلك إرادة جماعية عملاقة، وكان لديها أيضًا طريقة للتحكم بكل ميساكا.

«كما ترى، لاست أوردر هي النقيض. من خلال إرسال نبضة إشارة معينة إلى دماغها، يمكنها التحكم في ‹شبكة الميساكا›. وهذا سيجعل من الممكن إرسال إشارة توقف إلى جميع المستنسخات الأخريات إذا احتجنا لذلك. بهذا، لن تقدر الأخوات على خيانتنا أبدًا.»

زفرت يوشكاوا قبل أن تتابع.

«لاست أوردر هي مركز القيادة لكل الأخوات. لا يُسمح لها بالتحرر. لهذا أبقيناها في تلك الحالة غير المكتملة. أردناها حقًا أن تبقى في سبات، لكن كان علينا أن نمنحها قدرًا معينًا من الوعي الذاتي لتمكينها من الاتصال ‹بشبكة ميساكا› من البداية.»

«أجل هي أساسًا... لوحة مفاتيح حية؟»

كان وصفًا بيانيًا هذا، لكن أكسلريتر لم يستبعد أن يكون هذا هو الحال مع هذا الطاقم هنا. وكانت الأخوات الأخريات في الأساس مجرد أهداف متحركة قابلة للصرف منذ البداية.

بالطبع، كانت لاست أوردر تبدو مختلفة عن الأخوات. فقد تم إبقاء جسدها وعقلها في حالة غير ناضجة بعمدٍ.

«وماذا قصدتي بـ "خطأ"؟ أو فيروس أو أيًا كان.»

«عزمنا أن نبقيها سِرًا هنا في أجهزة النمو حتى بعد انتهاء التجربة، لكن قبل أسبوع، اكتشفنا فجأة موجات دماغية غريبة منها. عندما أسرعنا إلى الجهاز، كان مُدَمّراً من الداخل ولقد هربت.»

مررت يوشكاوا إصبعها على البيانات.

«لا نعرف بالضبط ما الذي حدث. سبب خروجها عن السيطرة لا يزال مجهولًا، لذا حاليًا، طلبنا من الطاقم التحقيق في الأمر.»

«هاه؟ لماذا لم تتصلوا بالأنتي-سكيل أو الجَجْمنت أو غيرهم؟»

«لا يمكننا. رؤساؤنا أمرونا بالكتمان عن التجربة. يعني، من الواضح أن هذا ليس شيئًا تعلنه للعامة.»

«لهذا لم تقبضوا عليها أبدًا. مهلا، أسبوع كامل؟! هذا سخيف. وخطير. أليست تتحكم في كامل عشرة آلاف أخت؟!»

«ثقتنا في مدى قوة النظام الذي أنشأناه أدى إلى خطأنا. لم نعتقد أبدًا أن هروبها ممكن. وما كان ينبغي أن تقتدر العيش خارج جهاز النمو أول المقام، لذا أظن أننا استخففنا من قدرها... آهخخ، حقيقة أنها لا تزال حية بعد سبعة أيام تخالف كل المنطق. فهي ما صُنِعت لتكون قوية جدًا... أتساءل لوأنها تعلقت بك، همم؟»

ابتسم أكسلريتر ابتسامة مريرة وساخرة على هذا الكلام.

هي لم تلاحظ.

«على طاري، ربما هذا كان أحد ردود أفعالها الدفاعية. كتب أحدٌ ما برمجية ضارة في رأسها، فبذلك هربت من المختبر لمحاولة منع ذلك. وربما لا تدرك هي نفسها سبب هروبها من المختبر...»

وقد أدركت يوشكاوا هذا الأمر فقط قبل ثلاث ساعات.

وَدّت لو تجمع كل طاقم البحث لعقد اجتماع طارئ حول الأمر، لكنها لم تتمكن من التواصل مع أيّ منهم. يبدو أنهم قد مسحوا من سجلهم حقيقة أنهم عملوا هنا من الأساس.

«لكن لعلمك، ما أرادت الهروب أو كذا. هي جائتني تسألني لو أتواصل معكم يا العلماء.»

«ماذا؟ مهلا، متى وأين كانت آخر مرة رأيتها؟ ولماذا تواصلت بها أصلاً؟»

«كما قلت، هي من تتبعتني فجأة. وبعد، لا أهتم كم اضطربن أو بكين أو أي شيء، فهل تخيلتِ أنني حقًا أذهب لأحادثهن؟»

«...أتساءل.»

رَيّحت يوشكاوا وجهها على يدها وفكرت. تجمدت في مكانها كأنها تمثال، كأن الأفكار السائرة في رأسها شوشت عليها.

«إذن تلك البرمجة الضارة—نعم، لا أحسبها شيئًا جيدًا. كما قلتِ، كانت تلك الشقية مسؤولةً عن جميع المستنسخات الأخريات.»

تذكر أكسلريتر حديثهم في المطعم.

‹—رابط الموجات الدماغية و كل ميساكا فرد هي مثل ما بين مشابك الأعصاب وخلايا الدماغ›

«هذا صحيح. حصلتُ بنفسي على مخرجات بيانات شخصيتها حتى أعثر على السبب الجذري لهروبها ولأحدد موقعها الحالي، ولكن عند الفحص الدقيق، وجدتُ شيفرة غريبة في كل مكان، كزخرفة الجدران. التقطتُ بعضها، لكنها انتشرت وتشعشعت—بما في ذلك البيانات الوهمية—لذا لا أعرف حتى إن قدرتُ من إزالته كلها. أما بالنسبة لما تفعله هذه الشيفرة الضارة...»

«ماذا؟ ماذا تفعل؟»

«حسنًا، لا أؤكد شيئاً، لأنني لم أحلل الشيفرة كاملاً بعد، لكن إن كنت سأفترض النتيجة من الاتجاه العام لهذه التعليمات... يبدو أنه شيءٌ سوف يصدر أمرًا بالهجوم العشوائي على البشر.» توقفت يوشكاوا لحظةً قبل أن تتابع. «لقد حددتُ كم من الوقت حتى يتفعل هذا الفيروس. إنه مقرر أن يبدأ في الأول من سبتمبر عند منتصف الليل بالضبط (1 سبتمبر 00:00). حينها، سيتفعّل الفيروس، وسيكتمل من بعدها بعشر دقائق. سينتقل إلى جميع الأخوات الأحياء عبر ‹شبكة ميساكا›، وسيتمردن ويَثُرن. وما إن يحدث ذلك، سيكون مستحيلاً إيقافهن. قد لا تراهن في مستواك، ولكن جائتك عشرة آلاف أخت ومعهن رشاشات ‹آكلة المعادن›، [2] فسيكونون قوةً لا يستهان بها.»

«...تمهلي، أهذا يعني...»

«نعم. ما سيحدث بعد ذلك هو بالضبط ما تفكر فيه»، قالت يوشكاوا بصوت جاد—ليس هادئًا، بل بصوتٍ أشعرت أن مقصدها كله تركز حول هذه النقطة.

فكر أكسلريتر فيما تعنيه.

في هذه اللحظة، كانت جميع المستنسخات العشرة آلاف الباقيات تقريبًا منتشرةً في جميع أنحاء العالم، حيث يُجري تعديل على أجسادهن. وهذا يعني أنه كان من المستحيل من حيث الوقت والمسافة أن تقوم قوةٌ مضادة للأسابر من مدينة الأكاديمية، مثل الأنتي-سكيل أو الجَجْمنت، بمعالجة المشكلة بهدوء.

الأخوات اللواتي فقدن عقولهن وهاجمن الناس سيُعاملن على الأرجح معاملة الدخلاء. وإذا حدث ذلك لحوالي عشرة آلاف منهن خارج المدينة في آن واحد، فلا وسيلة للكتمان أكثر. إضافة لذلك، إذا اكتشف الناس أن كل الذين تسببوا في هذه الحالة كانوا من منشئٍ صناعي، لانتشرت مصيبة أكبر. حتى لو نجت بعض الأخوات من الفيروس بمعجزة ما، فسيقضى عليهن ما إن يراهن أحدٌ أنهن خطر.

كل الشركات والوكالات في العالم التي تتعاون مع المدينة الأكاديمية في إعادة التعديلات ستلاحظ ذلك، وسيتغير رأيها بشأن المدينة جذريًا. فبعد كل شيء، هذا تمردٌ من عشرة آلاف نسخة. وإذا تخلت جميع تلك المؤسسات عن دعم المدينة الأكاديمية بعد ذلك، فلن تنجو المدينة نفسها.

وكان من الصعب عليه تخيل ما قد يحدث بعد ذلك.

من المحتمل أن تتفكك المدينة الأكاديمية بالكامل، وربما ينتقل علماء الأكاديمية إلى مختبراتٍ عسكرية خارجية حول العالم وسيُقبلون بسبب مهاراتهم الغريبة. أو ربما، بحكم الخوف من الدمار، ستلجأ مدينة الأكاديمية إلى إجراءات أكثر قسوة وتبدأ في غزو العالم بالأسلحة المتطورة والقدرات الخارقة.

في كلتا الحالتين، سيؤدي ذلك إلى زعزعة توازن القوى في العالم كله. سيسود الذعر في جميع أنحاء العالم. وفي أسوأ الأحوال، هناك خطر نشوب حرب شاملة. ولن تكون على مستوى بسيط مثل "مدينة الأكاديمية ضد الخارج". الهزات السياسية والاجتماعية الضخمة ستخلق شقوقًا دقيقة ولكن عميقة في كل حكومةٍ وشعبٍ ودينٍ وفكرة. وستتناثر قطع خريطة العالم يمينًا ويسارًا كأحجية كانت مكتملة ثم اختلطت.

سيكون ذلك نهاية العالم.

فَهِمَ أكسلريتر معنى تلك الكلمات. استطاع تخيلها أكثر واقعيةً من أي أحدٍ آخر، لأنه امتلك القوة على التدمير في راحة يده.

مهما وكيف تدمر العالم، فإن أكسلريتر على الأرجح سيظل حيًا. سيظل واقفاً، وحيدًا سليمًا، في مدينةٍ مدمرة مشوهة حتى ما عاد قادرًا على تمييز السماء والأرض.

ولن يبقى شيء. لا المتاجر الصغيرة مفتوحة، ولا الكهرباء متاحة، ولن يحصل حتى على علبة قهوة. الشيء الوحيد الذي سيبقى له هو حياةٌ بدائية، يعيش على الحيوانات والتوت المشوي على النار. وفي الواقع، إذا انتهى الأمر بالخيار النووي، فلن تبقى حياة. وإذا حدث ذلك، فعليه العيش بتناول الطين أو شيء من هذا القبيل. وإذا وصل الأمر إلى ذلك، فسيؤول به الأمر لاعناً بقوته لأنها سلبت منه حق الموت. كان قد تاق لقوةٍ مطلقة، ومع ذلك ما كان ينتظره هي مكانة في أدنى السلسلة الغذائية. الأضعف.

الحضارة هي صُنعُ الإنسان، فبدونه لن توجد.

وهذا ما قصدناه بلا شيء.

«هَه، مثير. مثيرٌ للغاية. إذن هذا هو، ها؟ نهاية العالم؟ ولطالما ما حسبت أن هذه وظيفتي، هِه.» ابتسم أكسلريتر بوحشية. «ألا تنادين ببساطة الأنتي سكيل أو الججمنت أو غيرهم ليساعدوا؟ ربما المدينة كبيرة، لكن حولها جدرانٌ لعينة. فقط أرسليهم ليبحثوا عنها كموجاتٍ بشرية، ولن تلبثي إلا وقبضوا على لاست أوردر. وأيضًا، كانت تتجول وتأكل الطعام لا أكثر. وبلا حذر إطلاقاً، أقول لك.»

«لا أستطيع إبلاغها لهم. كما قلت، عندما ترى ما كنا نفعله... الكبار يلتزمون الصمت، هذا أكيد، لكن هذا الأمر أكبر بكثير من أن نعلن عنه. إضافةً...»

«ماذا بعد؟»

«لن ننقذ الأخوات هكذا. إذا تم القبض على لاست أوردر من قبل غريب ودَرَسَها، فسوف يكتشفون أن الأخوات العشر آلاف قد يفقدن عقولهن. وهذا سببٌ كافٍ للتخلص من أي جسمٍ صناعي، ولا؟»

«إذن إن لم تقبضي على تلك الشقية، فلا فائدة.»

«ليس لي ردٌّ على هذا. قد لا تعلم هي أنها تهرب، لكنني أظنها تستخدم سلوكيات متعلقة بتدمير الأدلة، وهي موجودة في شبكة ميساكا. فهي أساسًا تعيش في الشوارع. لن تستخدم مالاً، ولا هوية. لن تترك أثرًا ورقيًا. هناك مناطق لا تستطيع الأقمار الصناعية رؤيتها بشكل جيد، وإذا تجنبت مسارات دوريات الشرطة الروبوتية، فلن تظهر حتى في كاميراتهم. آهخخ...كم مضى منذ تركتها؟ لم تكتشف منظمة أخرى عنها، صح؟ إذا اختُطِفت، سأواجه مشكلة كبيرة.»

في البداية، كان أسلوبها يوحي بأنها كانت تفكر في نفسها فقط، لكنه لاحظ لمحة من القلق الحقيقي على لاست أوردر.

عندما رأى ذلك، نقر على لسانه بغضب.

كانت هذه الباحثة بالتحديد الأكثر سذاجة من البقية. لطالما حاولت بشدة تذكر وجوه كل أختٍ من الأخوات المتطابقات جينيًا. كما أنها حاولت أن تمنحهن أسماء بشرية بدل أرقام تسلسلية.

لكن ما كانت إلا سذاجةً، وليست طِيبة. ما كانت إلا رِقّةٍ. لو كانت بحقٍ طيبة، لوقفت ضد التجربة برمتها منذ البداية—كما فعل ذلك الفتى وتلك الفتاة.

لم تلاحظ يوشكاوا انزعاجه فواصلت الحديث.

«لكن أمر الهروب ينطبق علينا نحن الباحثين فقط. فهي لا تظهر أي إحساس بالحذر تجاهك... نعم، إذا استغلينا هذه، قد نتمكن فعلاً من شيء...»

تلاشت كلماتها وكأنها تتحدث مع نفسها، لكن أكسلريتر كان يستمع إليها بعناية. فعبس، كأنه لا يريد من أمثالها أن يستخدمونه بيدقاً، غيّر الموضوع على الفور.

«قلتِ فيروس، ها؟ ليس خطأً برمجي، بل فيروس. أهو عميل حرب يريد بدء شيء؟ أو ربما شركةٌ عسكرية مفلسة تنوي العلو بهذا؟»

أجابت يوشكاوا باختصار: «أماي أَوْ.»

تجهم. كان واثقًا أنه قد رأى الرجل أثناء تغدّيه مع لاست أوردر في المطعم. ولكن إذا كان هو الجاني حقًا، فلماذا لا يزال يضيع الوقت في مدينة الأكاديمية؟ إذا كان أمامه أسبوع قبل تفعيل الأمر، فكان عليه الهرب من المدينة...

قرأت يوشكاوا أفكاره فشرحت.

«لم يختفِ سوى أحد الباحثين قبل حدوث هذا مباشرة. رغم أنه أرسل لي رسالة نصية قال فيها إنه سيأخذ إجازة مدفوعة الأجر.»

«هذا كله؟»

نظر أكسلريتر حول الغرفة الخالية.

وحدهم غريبو الأطوار من يأخذون وظائف دون مقابل. ما كان ليجده غريبًا لو أن الرجل قرر بيع نفسه لمختبرٍ آخر أو أن يصبح موظفًا في متجر صغير. وربما فعل بقية الباحثين ذلك سلفاً.

يوشكاوا، التي تتلقى نظراته المتشككة، واصلت الحديث.

«كانَ أحَدَ الباحثين الأصليين في مشروع ‹الضوضاء الراديوية› الذي انسدت دُرُوبه. عندما استُبدِلت مجموعةٌ من الأخوات بأصغر في التجربة، انتقل إلى هنا بصفته واحدًا من الطاقم. تخصصه كان إنشاء بيانات الشخصية باستخدام ‹العهد›. باختصار، كان الأدرى ببرمجيات الأخوات—بعقولهن.»

«لحظة، كأنه أراد منك أن تعرفي! وبالطريقة التي فعلها ذلك أيضًا! لماذا قرر أن ينتظر حتى اليوم؟ إذا أراد دمار العالم، لاستطاع أن يُنهي كل شيء بمجرد أن وضع الفيروس. فلماذا انتظر أسبوعًا؟»

«هذا سؤال تسأله إياه، وليس لي. ولكن إن عليَّ التخمين بشكل منطقي»—تنهدت—«كان ينتظر حتى تعتاد الأخوات على المؤسسات الخارجية حيث ينتظرن العلاج. أراد أن يخلق وضعًا يكونن فيه بأمان تام، ثم فجأة يُفقدهن عقولهن. ربما كان عليه أن يغرس في الشركات شعورًا بالثقة تجاه الأخوات أولاً؟»

توقف أكسلريتر للحظة.

فكّر في ما يجب.

«إذن ما الذي كنتِ تفعلينه؟ كيف توقفين الفيروس في رأس الشقية؟»

«هذا ما أحاول معرفته الآن.»

كانت في كلماتها لمسة من الحيرة. أعبس أكسلريتر شفتيه ممتعضاً. يمكنها استخدام ‹العهد› للتلاعب برأس لاست أوردر كما تشاء، ولكن عليها أن تكتب برنامج لقاح، ثم تجدها، وتحقنها به. الفرص تبدو حقًا حوالي خمسين خمسين، إن لم تكن أقل.

ماذا يجب، إذن؟

بالطبع، عرف الجواب تمامًا. إذا لم يجدوا طريقة لحلها، فعليهم بالتخلص من العيّنة المصابة لمنع الفيروس من الانتشار. بهذه الطريقة، سيحمون الـ9,969 أختًا باقية خارج أسوار المدينة من العدوى وسيواصلن حياتهن الطبيعية.

بالتضحية بواحدة فقط.

بالتخلص منها، برميها في سلة المهملات، فقط لظهور مشكلة بسيطة.

«...إني أعمل بجد قدرما أستطيع لأمنع ذلك من الحدوث. وبالطبع، هناك شيء تستطيع أنتَ فعله أيضًا»، اقترحت وكأنها لاحظت شيئًا من صمته.

«أنسيتِ من تكلمين أم ماذا؟ أنا الذي قتل عشرة آلاف منهن. تقولين لي أن أنقذ نَفْسًا؟ يمكنني القتل، لكنني بالتأكيد لا أستطيع الإنقاذ.»

«اسمح لي أن أرُدّ بأننا نحن من دفعناك لفعل ذاك. قد قضيتَ على أكثر من عشرة آلاف أخت. لكننا لو وجدنا طريقةً لتطويرك إلى المستوى السادس دون استخدامهن، لما كنتَ مضطرًا لقتل أحد.»

«وتقولين لي أن أصدقكِ فقط لأنكِ قلتِ هذا؟»

«لا فائدة إن لم تكن تريد. فأنا لست قوية بما يكفي لاحتجزك. اذهب واقضِ بقية هذا الوقت تفعل ما تريد. وصلِّ—صلِّ أن يصل جسدها إلى حده الأقصى ويموت قبل أن يتنشط الفيروس.»

«...»

نظر أكسلريتر مباشرة في عيني يوشكاوا.

هناك جلست، كما كانت دائمًا.

هناك جلست، دون تغيير في تعابيرها، وتتكلم.

«ما أقدر على إمساكها. خاصيتها في الهروب اللاواعي عندما ترى باحثًا تعتمد بشكل كبير على الأنماط المغناطيسية التي تُصدرها أجسامنا. حتى لو أبقيتُ نفسي بعيدة عن الأنظار، فستكتشف مجالي المغناطيسي وتهرب. من ناحية أخرى، إذا استوعبت ذلك وحده، فلربما لي فرصة في الاقتراب منها... لكنني لا أرى نفسي أطاردها بينما أحلل شيفرة الفيروس في الوقت نفسه. لكن بوجودك، الأمر يختلف. إذا عملنا معًا، فقد نحسن شيئاً.»

«...يا للإزعاج.»

صمت أكسلريتر وضيّق عينيه. لهذا السبب كره هذه المرأة. ما هي إلا ساذجة للغاية. إذا لم تكن قوية بما يكفي لتحمل المسؤولية بنفسها، فمهما حاولت لن يتحول فعلها لطيبة.

لم يكن أمرًا يتعلق بتمرد العشرة آلاف أخت—الفكرة كانت واسعة جدًا لدرجة أنها ما بدت واقعية. بدلاً من ذلك، استخدمت فكرة موت لاست أوردر، التي كانت أسهل له في الاستيعاب. أهذا تلاعب نفسي؟ كما فكر أكسلريتر في صمت. حتى لو كانت تفعلها بغياً في السلام، لا يمكن لأحدٍ أن يسمي هذا طيبةً.

يوشكاوا أخذت ظرفَيْن كبيرَيْن التي بدت وكأنها تحتوي على مقترحات مشاريع.

«الآن، لكَ أحد الأمرَيْن. أولهما هو أن تقبض على الجاني، أماي أوْ، الذي يختبئ في مكان ما في المدينة ثم تجبره على إخبارك بكيفية عمل الفيروس. والثاني هو تأمين لاست أوردر قبل أن يتنشط الفيروس. اختر ما يناسبك. وبالطبع، أراكَ أنسب للقتل من الحماية.»

انزلق الظرفين عبر الطاولة وتوقفتا أمام أكسلريتر. كانت بعض الوثائق من الظرفين المفتوحتين تبرز من الداخل.

—في الظرف الأيسر وَجَدَ عدد من الصور. كانت صورًا مبهمة، كأنها أتت من كاميرات كشف مخالفات السرعة على الطريق السريع. صَوّرت سيارة رياضية منخفضة تصويرًا من الأعلى، وفي مقعد السائق جلس أماي أَوْ. كانت هناك أيضًا خرائط تحددت بقلم حبر أحمر.

ربما اخترقت يوشكاوا جميع أنواع أنظمة الشرطة ومكافحة الجريمة للتحقيق في مكان اختباء ‹أماي أوْ› وفي أي منطقة كان يتحرك. حقيقة أنه لم يُـقبض عليه حتى الآن ربما تعود ببساطة إلى نقصان عدد مطادريه أو لأنه كان يغير أماكن اختبائه بسرعة.

—في الظرف الأيمن وَجَدَ ما يشبه عصا ذاكرة (فلاش) وكتاب إلكتروني فائق الرقة. كانت شريحة البيانات تحمل ملصقًا مكتوبًا عليه "الرقم التسلسلي 20,001 مخطط الشخصية (قبل العدوى)". ربما كان من الصعب جدًا طباعتها على الورق.

لابد أنها كانت بيانات شخصية لاست أوردر. ربما كانت تخبره أن يتنبأ بمسارها بناءً على ما تحبه وما تكرهه، ومبادئها وأفكارها وذكائها وحركاتها وانحيازاتها، وما إلى ذلك، وأن يستخدام ذلك لملاحقتها أو التنبؤ بتحركاتها. بالطبع، في المرة الأخيرة التي رآها فيها في المطعم، ما بدت وكأنها ستتحرك إلى أي مكان بمفردها.

«هَيي. لا أحد منكم قادرٌ على القبض على لاست أوردر، صح؟»

«نعم، نظرًا لأنها تبدو أنها تستخدم ‹سلوكيات التغطية› الخاصة بالتجربة بشكل غير واعٍ. وبالإضافة، القطعة الوحيدة التي أملكها للتحرك في اللوحة هي أنا.»

«لكن أماي هو الذي صنع كل تلك البيانات؟ إنه متخصص في بيانات الشخصية، أليس هو؟ إذن ألا يعرف عن سلوكيات التغطية هذه أو أيا كانت؟»

«المعرفة والمهارة هما شيئان مختلفان. إنه يبذل جهدًا كبيرًا، لكنه يتراخى، لذلك يُخفي رأسه لكنه يكشف ذيله. من ناحية أخرى، أي معرفة تُدخل في الأخوات تتحول فورًا إلى مهارة. لهذا لا يمكننا القبض على لاست أوردر. يمكننا تتبع حركة الأموال أيضًا. هو يترك آثارًا لمكان وجوده عندما يستخدم متجرًا، لكنها تعيش في الشوارع. يمكنها إخفاء نفسها تمامًا. من الواضح أيهما سيكون من الأسهل تتبعه.»

«...»

هو أمرٌ واضح أيهما كان الأكثر ملاءمة لأكسلريتر.

كانت قوته جيدة في التدمير، وليس في الحماية. لا، في الواقع كانت هناك مشكلة أكثر جوهرية من النظرية والمهارة العملية.

‹—آه، ها هي ها هي أخيرًا! تقول ميساكا تقول ميساكا، مشيرة إلى النادلة. ياي! طعام ميساكا وصل أولًا!›

لم يسبق له أن حمى أحدًا من قبل. لم يعرف كيف سيقوم بذلك أيضًا. لم يتخيل حتى أن يستخدم قوته لمساعدة الغير.

‹—واو، هذه أول مرة آكل فيها وجبة ساخنة، حرفيا أبدًا! تقول ميساكا وميساكا تصرخ. أرى بخارًا ساخن حقًا يخرج من الطبق، تقول ميساكا وميساكا تراقب الطعام بعناية.›

كانت في الجوهر مشكلة أكثر من نظرية. قوته لم تقدر على إنقاذ أحدٍ، وهذا هو الحال في عالمه. الناس في عالمه لم يحصلوا أبدًا على الخلاص. وإذا حدث ذلك لأحد، لكان غريبًا—وكان هذا هو أول تصريح للفطرة السليم بداخله.

‹—لكن هذه أيضًا أول مرة آكل فيها الطعام مع أحد، تقول ميساكا وميساكا تجيب. لقد سمعت أن الناس يشكرون على طعامهم قبل تناوله، تقول ميساكا وميساكا تتذكر. أريد أن أفعل ذلك معك! تقول ميساكا تقول ميساكا، بتفاؤل دائم.›

إذا افترضنا نظريًا، أنه حاول إنقاذ أحدٍ بتلك القوة، فإن كل المنطق الذي لطالما أحاط به سيتدحرج. لن يكون ‹أكسلريتر› بعد الآن. أكسلريتر الذي يساعد الآخرين لم يكن الأكسلريتر. في جوهره، سيحل محله شخصٌ مختلفٌ تمامًا.

«هِه، ربما. أي شخص سيفهم أيهما يجب أن أختار، هاه؟» تمتم أكسلريتر لنفسه ساخرًا تقريبًا.

لم يكن ذلك الصبي أو تلك الفتاة. كان هناك العديد من الآخرين الذين كانوا أكثر ملاءمة للإنقاذ منه نفسه. للأسف، كل المقاعد شغرت. ما كان له مجال للدخول في هذه المرحلة.

إن لم تناسب قوته إنقاذ الناس...

إن لم تناسب قوته قتل الناس...

استذكر أكسلريتر وجه أحدٍ ما، لوهلة فقط.

«هَه، اكرهيني كما تشائين، أيتها الشقية اللعينة. فهذا كان خياري الوحيد المتاح.»

ثم اختار. حدد اختياره بإزالة أحد الظرفَيْن الكبيرَيْن. وكأنه يتخلى عن شيء، أخذ أحدها بيده.

الظرف اليمين.

الظرف الذي يحتوي على عصا البيانات المحملة ببيانات الشخصية والكتاب الإلكتروني.

لكي يذهب لينجد فتاةً مصنوعة يدويًا تدعى لاست أوردر.

في تلك اللحظة، توقف أكسلريتر عن كونه أكسلريتر.

نهض ليحمي. تصرف ليُساعد. استخدم قوته لإنقاذ أحدٍ آخر. لم يكن الأمر يتعلق أبدًا بما إذا كان ذلك غير معتاد عليه. على العكس. إن كان من شخصٍ يعرفه جيدًا فرأى ما فعله للتو، لَحَسِبَ عيناهُ تخدعه. ولربما صرخ بأن هذا الأكسلريتر مزيف.

هذا ما حمله تأثير قراره من مقدار.

ويمكنك القول أن هويته ‹أكسلريتر› قد فقدها بالكامل.

والصبي الذي أصبح الآن لا أحد، بدون قوة، تحدث وكأنه يسخر من نفسه.

«هيّا اضحكي علي. يبدو أنني ما زلت أبتغي الخلاص بطريقة ما، ها؟»

«نعم، سأبتسم بسمةً على ذلك أكيد.» شددت يوشكاوا نظرتها نحوه. «إن كنتَ ما تزال تحمل هذه المشاعر داخلك، فهذا شيءٌ يستحق الاحتفال. لذا استرخ، واثبت أن قوتك يمكن أن تحمي شخصًا مهمًا في نظرك.»

أخذ أكسلريتر الظرف الذي فيه عصا البيانات دون أن يرد، والتف وراحَ نحو الخروج. (لهذا السبب أكرهها وكم هي رقيقة للغاية،) قال لنفسه.

«سأعمل لكم أيها الباحثون، أفهمتم؟ فمن الأفضل أن تُجهزوا لي مكافأة ضخمة عندما أعود.»

«نعم. أترك عليّ التعديلات على جسدها،» أجابت يوشكاوا لظهر الصبي الصامت وهو يغادر المختبر.

  • الجزء الثاني (31 أغسطس__6:00 ساعة الغسق.)

يوشكاوا كِكيو تنهدت، والآن هي وحدها في الغرفة.

قدوم أكسلريتر في اللحظة الأخيرة كان بمثابة ضربة حظ معجزة. لو لم يأتِ، لما كانت قادرة على شيء، ولتدمرت المدينة الأكاديمية.

الآن، بما أنه ذهب للبحث عن لاست أوردر، كان عمل يوشكاوا هو القبض على أماي وجعله يشرح شيفرة الفيروس، لكنها بقيت هنا — حيث بدا أن فهم الشيفرة بنفسها هو الخيار الأبسط مقارنةً بدخول معركة مطاردة، وهو شيء لم تقم به من قبل.

ورغم ذلك...

استئصال كل جزء من رمز الفيروس من البيانات الشخصية الضخمة وهي لم تكن تعرف حتى مقدار ما يوجد منها كان مهمةً شاقة بحد ذاتها. لا مجال للخطأ وحذف شيفرة ضرورية. إذا حذفت برمجة الذاكرة، فإن لاست أوردر ستفقد بعض الذكريات، ولكن إذا أضرّت بالشيفرة التي تتحكم في الجهاز العصبي الذاتي، فإن الفتاة ستموت.

تنهدت مرة أخرى.

نظرت إلى الورقة التي أمامها. إعادة ضبط جسم لاست أوردر لم تكن مهمة بسيطة، رغم ردها السهل على أكسلريتر سابقًا. لم تكن المشكلة في المهارة التقنية بقدر ما كانت في موقفها الحالي.

المختبر جمد التجربة فقط، ولم ينهها تمامًا. هذا يعني أنه عليهم التأكد من إمكانية إعادة استئناف التجربة في أي وقت. بالطبع، لا يمكن السماح للاست أوردر –التي تتحكم بجميع الأخوات– بالثوران من مؤامرة باحثٍ واحد. إذا اتخذت إجراءً مستقلاً، فستكون بلا شك المسؤولة عن ذلك.

يوشكاوا كِكيو كانت فقط رقيقة. لم تكن شخصًا لطيفًا.

على سبيل المثال، عندما كانت تلك التجربة على وشك الانتهاء، وعندما تآمرت قرابة عشرة آلاف أخت للتحكم في عنفات الرياح في المدينة الأكاديمية لتعطيل هجوم أكسلريتر، كان بإمكانها إيقافهن بإرسال إشارة توقف عبر ‹شبكة الميساكا› باستخدام لاست أوردر، لكنها لم تفعل.

ومع ذلك، لم يكن ذلك بدافع اللطف لأنها لم ترغب في موتهن. كان ذلك فقط لأنها كانت رقيقة للغاية لدرجة أنها لم تخاطر بإلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بالتجربة بأكملها من خلال التدخل في عمل الأخوات.

«ولكن مع ذلك...»

يوشكاوا كِكيو اتخذت قرارها.

أكسلريتر كان يحاول بجد إنقاذ أحدٍ ما لدرجة أنه تخلى عن هويته. ربما كان هذا الواقع كافيًا ليُحدث صدمة قوية في قلبه. كانت نقطة بسيطة وأساسية أنه استطاع مساعدة الغير بقوته — لكنه استسلم. كان يستخف بنفسه عمدًا، قائلًا أنه لا يسعه شيء سوى القتل، ليمنح نفسه مهربًا من حياته، حيث لن يُنقذ فيها أبدًا.

إذا أدرك أكسلريتر، في تلك الحالة أنه كان قادرًا على حماية نَفْسٍ بيديه...

...لحَمَلَ ندمًا بالتأكيد.

ما عَنَتْهُ حيوات أولئك من سقطوا قِـبَلَه؟

ما سَبَبُ صَدِّهِ عن المساعدة أبكر؟

ومع ذلك، قد قرر مواجهة هذا الواقع لينقذ فتاةً واحدة فقط. يوشكاوا لم ترغب في أن تدوس على مشاعره. ولو أنه أدركها متأخرًا جدًا، ولو أنه وصل إلى نقطة لا عودة منها، هي لم ترغب في سحق ذلك.

«في النهاية، ما أنا إلا رقيقة. لست لطيفة إطلاقا.»

كلمات جافة، نطقتها لنفسها. نعم — يوشكاوا لم تكن شخصًا لطيفًا. اللطيف حقًا ما كان ليطلب مساعدة صبيٍّ ويُحَمِّله مثل هذا العذاب. اللطيف حقًا ما كان ليعتمد عليه، بل كان سيختار تسوية الحساب بنفسه، حتى في الظروف السيئة.

يوشكاوا كرهت نفسها لأنها رقيقة.

أرادت أن تكون لطيفة لمرة في حياتها.

«نعم، ربما قد حان وقتي أيضًا — لأدَمِّر نفسي.»

تنهدت ثانية، ثم بدأت تُعِدُّ نفسها لإجراء تعديلات جسدية على لاست أوردر مع الورقة في يدها. أن تُعِدَّ نفسها لتحمل مخاطرة القيام بشيء من أجل أحدٍ آخر ما بدا من طبعها، فهي رقيقةٌ وليست لطيفة. لو كانت نفسها العادية، ولو مرّت جوار قطة متروكة في الشارع تحت المطر، فإنها ستُشفق عليها ولا أكثر. لن تأخذها للبيت وتربيها.

لكنها كرهت هذا الجانب من نفسها.

فقط لمرة، أرادت لو تفعل شيئاً ليس من طبعها.

  • الجزء الثالث (31 أغسطس__6:15 ساعة الغسق.)

تَذَكَّر شيئًا حدث منذ زمن.

الذي أصبح معروفًا باسم أكسلريتر كان له اسمٌ بشري ذات يوم. كان اسمه الأخير يتكون من مقطعين، واسمه الأول من ثلاثة مقاطع. كان اسمًا جدًا ياباني ولم يكن غريبًا بارزًا إطلاقًا.

لم يكن الحال أنه كان أقوى الأكاديمية منذ البداية.

في البداية، كان يعلم فقط أن مهاراته كانت فوق المتوسط بقليل.

وكل ذي نعمة محسود.

ربما جاءته الكارثة لأنه موهوب أكثر مما كان يدرك.

هاجمه الصبيان في فصله، فانكسرت عظامهم من لمسة.

والمعلم الذي حاول إيقاف العراك انكسرت عظامه.

ثم أحاطه مجموعة من البالغين، لكنه قضى عليهم جميعًا أيضًا. وفي النهاية، هرع أفراد الأنتي-سكيل والجَجْمنت إليه كأنه لص سرق بنك، فهاجموه بكل أنواع القدرات والأسلحة المتطورة، لكنه فتك بهم جميعًا أيضًا.

كان خائفًا فقط.

كان خائفًا من أن تُرفع عليه قبضة، لذا كان يُلوح بذراعيه خوفاً.

ففي نظر من كان في العاشرة من عمره، كانت ردة فعل هذه هي الأكثر طبيعية.


ولكن هذا وحده كفى ليؤول بالأمر إلى هذا.


مروحيات هجومية غير مأهولة وبلا نوافذ حامت في الهواء، ووقفت تعزيزات الأنتي-سكيل الروبوتية ذات البدلات المدعمة بينه وبين رفاقهم الجرحى. مثل الكايجو (وحش عملاق) الذي يُرى على شاشة التلفاز، اعتبروا الفتى مخلوقاً مخيفاً يخشاه الجميع.

ثم أدرك ذلك. رغم عمره، اكتشف الأمر. كان بإمكانه أن يؤذي الناس فقط عن طريق لمسهم بطرف إصبع. يمكن للناس الموت فقط إذا غَضِبَ في نَفْسِه. وإذا تصاعد هذا الجنون، فلربما يصنع في نهاية المطاف كُلّاً من المدينة الأكاديمية، والعالم، عدوًا له. وقد يضطر حقًا إلى تدمير كل شيء.

ولتجنب مثل هذا الدمار، كان عليه أن يمنع نفسه من إظهار أي مشاعر تجاه أي أحد. وكما كَبَتَ السوء كَبَتَ الحسن، لأن الأخيرة يمكن أن تتحول إلى عدوان من باب الغيرة.

كان عليه أن يصبح كالصخرة ثابتة، حتى لا يضر أحدًا مهما فعل الناس به. فإذا كانت مِقدار ذَرّة من انزعاج تقتل الناس، فلن يسمح لنفسه حتى بالشعور مِقدار ذَرّة من عاطفة. إذا أصبح كالجليد، فسيحقن دماء الناس عن قوته الجامحة.

لكن نَفْسَهُ الصغيرة قد ارتكبت خطأً في هذه المرحلة سَلَفاً.

كان سيصبح كالجليد، حتى لا يهتز بأي فعلٍ يفعله الآخرون له، وهذا بالضبط هو المشكلة. الذي لا يشتكي من أفعال الآخرين له هو في الواقع شخصٌ لا يهتم بحياة الآخرين.

وهكذا، شَرَعَ في هذا الطريق، دون أن يدرك أبدًا.

قد تمكن بالكاد من تجنب الدمار.

استسلم لنفسه في تلك اللحظة، بعد أن فقد كل اهتمامٍ بالآخرين. حبس نفسه في "فئةٍ خاصة" كما أصر الآخرين، ولكن تروس عقله لم تتوقف بسهولة. وَعيُه انساب بلا هدف كالقنديل حتى قاده إلى حلٍّ آخر.

إذا لم يرغب في حرب الآخرين عشوائياً، فبإمكانه خلق وضع لن يحدث فيه ذلك الصراع.

إذا اكتسب قوةً تجعل حتى البدء في صراع معه يبدو جنونًا...

إذا تمكن من تجاوز كونه الأقوى وصار مُطلَقاً...

فلن يضطر إلى إيذاء أي أحدٍ آخر، ولن يُهدده أحدٌ بعد الآن. قلبه المُصَدّئ تساءل عمّا إذا كان الناس سيستطيعون بعد هذا من الاعتراف بوجوده.

لم يُدرك أن فكرته إنما ستضر الكثير فيما بعد.

«يا ليل...»

غادر أكسلريتر المختبر، ومعه عصا البيانات التي تحتوي على بيانات الشخصية، وركض عبر المدينة باتجاه المطعم حيث ترك لاست أوردر. مرت ساعات منذ ذلك الحين، لكنه لم يعتقد أنها كانت قادرة على التحرك بمفردها بالنظر إلى حالتها.

ركض عبر المدينة.

كشف أسنانه على شظايا الذكريات التي كانت تتشبث بعقله وركض.

أحدٌ ما قد اعترف به.

ليس على أنه مُطلَقُ القوة، ولا الأقوى.

تلك الفتاة وحدها فعلت.

ربما كان تأخر الوقت. ربما فات أوان تغيير أي شيء في هذه المرحلة. لكنها اعترفت به. بنظرة متساوية، بدون خوف، اعترف به أنه شخص.

لقد تمسك بشيء ما أراد خسارته.

وفي مكان ما في عقله، ابتهج أنه لا يريد أن يخسره.

شيء ما على وشك التغيّر.

وأخيرًا بات يفكر أنه ربما يقدر على تغيير شيء.

ولو أنه تأخر كثيرًا.

  • الجزء الرابع (31 أغسطس__6:32 ساعة العتمة.)

أكسلريتر ركض عبر المدينة.

استغرقته بضع ساعات للسير من المختبر إلى المطعم. ولقد أخذت محادثته مع يوشكاوا كِكيو وقتًا، لذا غابت الشمس سلفاً وصارت السماء عتمة.

وهو يركض، سَمِعَ أصواتًا قريبة. بدا أن هناك الكثير من أفراد أنتي-سكيل في المنطقة. استمع بتركيز فعرف أن في المدينة الأكاديمية دخيلٌ أجنبي قد اخترق أمنها.

(رفيق أماي أَوْ؟ هذا يعني أنه وضع الفيروس لأجل أحدٍ من خارج المدينة، أليس كذلك؟ اللعنة. أينوي الخروج؟)

فكر أكثر وهو يركض بسرعة تفوق سرعة الدراجة العادية.

(لا، إذا كان الرجل الآخر قد جاء ليساعد أماي على الهروب، فلن يخترق الأمن بشكل صارخ ويكشف للشرطة دخوله. لذا، لابد أنه شيء آخر تمامًا... لكن لا يمكنني تجاهله.)

في كلتا الحالتين، كانت الأولوية لـ ‹لاست أوردر› قبل ‹أماي أَوْ› في الوقت الحالي. لم يكن يعرف ما إذا كان للمتسلل علاقة بهذا أم لا. ولكن أمره يأتي لاحقاً.

وبعد أن قرر قراره، رأى المطعم الذي ترك فيه لاست أوردر أمامه.

(يا للازعاج. لو كنت أعلم حدوث هذا، لأحضرتها معي إلى المختبر.)

لكنه لم يفعل، لأنه لم يعرف ما نوع الموقف الذي ستجد فيه لاست أوردر نفسها عندما يصلون إلى هناك — ربما قلق من أنهم قد يتخلصون منها فورًا، لكن قراره بتركها قد جاء بنتائج عكسية تمامًا. فات أوان أن يلعن حظه الآن. أما زالت لاست أوردر هناك، أم طردوها؟ انطلق نحو المطعم...

...عندها فجأة تحطمت نافذة المطعم أمامه إلى قطع.

«ها؟»

توقف أكسلريتر رغماً عنه.

كانت النافذة تطل على الطريق، وعلى الطريق، وَجَدَ رجلاً واقفاً بلغ طوله ما يقرب المترين وكان كبيرًا بما يكفي ليكون مصارعًا محترفًا. ارتدى بدلة سوداء داكنة وقفز عبر النافذة المحطمة.

سمع صراخًا غاضبًا وجلبةً من داخل المبنى.

وبعد لحظات، سَمِعَ خطوات تخرج عبر النافذة المحطمة إلى الطريق. لكن كل ما سمعه كانت خطوات، لم يرَ أحدًا. بدا الأمر وكأنه رجلٌ خفي؛ سَمِعَ الزجاج يتحطم فرأى شكلاً شفافاً على شكل قدمٍ تكسر أحد شظايا النافذة الساقطة.

الرجل الخفي ركض إلى عكس اتجاه أكسلريتر. اصطدم بفتاةٍ غريبة ذاتُ شعرٍ أسود وملابس كاهنة أثناء ركضه. وكل ما كانت الفتاة تحمله تطاير في كل مكان. بدا أنه طعام قطط. لابد أن غطاء الصندوق كان مفتوحًا، لأن الرجل الخفي صار مغطى بطعام القطط من رأسه إلى قدميه.

بينما كان أكسلريتر يفكر فيما يجب فعله، متسائلًا من يكون ذاك الرجل، قفز صبيٌّ من النافذة المحطمة إلى الطريق.

كان يعرف هذا الصبي.

«هذا...اللعين!!»

حدق أكسلريتر فيه بغضب. كان نفسه الصبي صفري المستوى الذي أوقف التجربة وضربه لإنقاذ الأخوات.

ركض الصبي أيضًا، إلى حيث هرب الرجل الخفي. ومع ذلك، من منظور شخص غريب، بدا وكأنه يهرب. ورأى كذلك رجلاً ونادلة يلاحقانه لسبب ما.

(ما الذي حدث في هذا المطعم؟... هل له علاقة بتلك الشقية؟ ما عدت أدري. أرى أن هناك دائمًا فرصة لتدخل ذلك اللعين.)

تساءل للحظة ما إذا كان عليه أن يلاحقه، لكنه قرر دخول المطعم. لم تكن لديه رفاهية التحرك في الظلام. وغير هذا، بمجرد حصوله على معلومات، يمكنه بسهولة اللحاق به بساقيه.

دخل المطعم.

كان الوضع أشبه بعالم مختلف تمامًا عما كان عليه في سابق هذا اليوم. كانت النافذة الأمامية متحطمة، وأحد الطاولات كانت على الأرض ممزقة كأن شعاع ليزر قد قسمها قسمين. العملاء الآخرون لم يستعيدوا هدوءهم بعد ما حدث وكانوا جميعًا ينظرون إلى الطاولة المكسورة من بعيد، يتحدثون مع بعض كأنهم شاهدوا حريقًا صغيرًا.

ألقى أكسلريتر نظرة حوله.

المطعم من داخل لم يكن كبيرًا أصلاً... لكنه لم يرى لاست أوردر التي صارت مألوفة له الآن.

(مه مه، أطردوها حقًا؟ لا أظن تلك الشقية تستطيع المشي بمفردها.)

ألقى نظرة حوله مرة أخرى وتلاقت عيناه مع إحدى النادلات. كانت قصيرة القامة وتبدو وكأنها طالبة في المرحلة الإعدادية. في البداية، ردت على نظرة أكسلريتر بوجهٍ شارد. بدت وكأنها تأثرت بكل شيء ونست أنها كانت في العمل. بعد حوالي ثلاث ثوانٍ، عادت إلى الواقع وجاءت إلى أكسلريتر. أظهرت له ابتسامة مهنية، رغم أن وجهها كان شاحبًا.

«م-مراحب. أ-أأوحدك جئت اليوم؟ أيضًا، نحن لا نسمح بالتدخين هنا—»

«لستُ زبونًا. أبحث عن أحد. كان من المفترض أن تكون هنا.»

«ها؟»

«كانت طفلة عارية تبلغ من العمر عشر سنين ترتدي بطانية زرقاء فاتحة كعباءة. كانت معي حوالي الساعة الثالثة. أتذكرين؟»

من المستحيل أن تمر مثل تلك الفتاة دون أن يتذكرها الناس، لذا لم يدخل أكسلريتر في التفاصيل. كان يعتقد أن هذا سيكون كافيًا.

لكن للأسف، النادلة القصيرة أعطته نظرةً مضطربة.

«أمم، حسنًا، آسفة، لا أتذكر. أتعرف أي طاولة جلست عندها؟»

«...تمزحين؟ لا تذكرين؟ مع أنها كانت هنا اليوم بذاك اللبس.»

«آسفة.»

انحنت النادلة برأسها بأدب، لكن تعابير وجهها كانت توضح أنها كانت على وشك البكاء. يبدو حقًا أنها لا تتذكر.

(اللعنة. أهو بسبب كل هذا الهراء الذي حدث تواً؟)

نقر أكسلريتر لسانه. بعد كل شيء، لقد مرت بضع ساعات منذ أن كانت لاست أوردر تبحث عن الطعام، وحدثت حادثة ما هنا قبل دقائق فقط. كان من الطبيعي إلى حد ما أن يجعل هذا المرء ينسى ضيفًا دخل بملابس غريبة.

فجأةً فقدها. تحوّل تعبيره إلى تعبير منزعج، واختفت النادلة القصيرة الخائفة داخل بابٍ من المطعم.

(ماذا أفعل؟ أتحقق من كاميرات المراقبة؟)

عادةً ما تُرسل مثل هذه التسجيلات عبر خط مباشر إلى شركة أمنية. ولن يتم الاحتفاظ بالنسخة الأصلية هنا. ولو كان المرء ماهرًا بما يكفي، فربما يخترق ليَطّلع على تلك التسجيلات من الخارج، ولكن...

(لكني لا أستطيع. أين سيكون ذاك المكان أصلاً؟)

هز أكسلريتر رأسه.

لم تكن لديه تلك المهارات، ولا يمكن أن تترك المدينة الأكاديمية، مع جميع مؤسساتها البحثية والمعلومات السرية، أمنها لشركةٍ أمنيةٍ عادية. في الواقع، لم يظن أن مسار الوصول إليها موجود في المقام الأول. ووحدهم العباقرة غير الطبيعيين قادرون على العثور على بابٍ خلفي [3] دون أن يدركه المطور نفسه.

ثم، وهو واقفٌ يفكر، اقترب منه اثنان أو ثلاثة من موظفي المطعم خرجوا من باب. كانت النادلة القصيرة التي رآها سابقًا هناك أيضًا، مختبئة خلف أحدهم.

ربما يعتقدون أنني أعيق عملهم أو ما شابه، فكر أكسلريتر متوقعًا. وبالطبع لم يكن لديه الوقت ليشرح لهم ظروفه. فظهرت في عينيه نظرة حادة وخطرة.

ولكن في الواقع، أعطاه موظفٌ في الثلاثينيات من عمره ابتسامة ودية نسبيًا وسأله: «هل أنتَ من أهل الفتاة ذات البطانية؟»

«ها؟»

«حسنًا، الفتاة التي جاءت في العصر. تساءلنا عما إذا كانت تعاني من مرضٍ مزمن.»

فكر أكسلريتر في كلمات الرجل. كان لدى لاست أوردر أعراض تشبه الحمى كأثر جانبي لجسدها الناقص. ما اقتدرت النهوض والمشي بمفردها.

«أظنها كانت بعد الساعة الرابعة؟ كانت لا تزال ملقاة على الطاولة، فوجدتُ الأمر غريبًا. طلبتُ من ابنتي التحدث إليها، فاكتشفنا أنها فقدت الوعي. استدعينا الإسعاف معتقدين أنها حالة طارئة.»

«مهلا، هل الشقية في المستشفى الآن؟»

«في الواقع، قبل وصول الإسعاف، دخل رجلٌ في ملابس بيضاء. قال إنه من أهلها وأن أعراضها تزورها من وقتٍ لآخر لكنها لا تُهدد حياتها، فأخذها الرجل.»

رجل بملابس بيضاء.

عض أكسلريتر شفتيه. كان من السابق لأوانه الحكم على ذلك، لكن...

«إذا كنت تبحث عن الفتاة، فلماذا لا تسأل ذلك الرجل؟ أتعرفه؟»

«...نعم. أعرفه جيدًا جدًا،» ردّ بحنق.

ما كان غيره—أماي أو. لقد رآه أكسلريتر عبر النافذة وقت الغداء. إضافةً لذلك، لم يكن للاست أوردر أي أقارب.

  • الجزء الخامس (31 أغسطس__7:02 ساعة العشاء.)

غادر أكسلريتر المطعم وقرر أن يتصل بيوشكاوا بهاتفه المحمول.

‹ ‹ماذا؟ أماي أخذ لاست أوردر؟› ›

«سمعتُ هذا الكلام من واحد، لذا لست متأكدًا. ما رأيك؟ الفيروس كان ليبدأ من تلقاء نفسه، لذا كان أفضل له أن يتركها، أليس كذلك؟ لماذا يأخذها الآن؟»

كان وجود أماي أَوْ في مدينة الأكاديمية أمرًا غريبًا منذ البداية. لقد اختفى خوفًا من أن يُشتبه به. ألا ينبغي أن يخرج في أسرع وقت ممكن؟ حتى أن قوات الأنتي-سكيل والجَجْمنت لن يقدروا على فرض الكثير من القوة خارج المدينة — قدراتهم على حفظ السلام تقتصر على الداخل فقط.

‹ ‹إذا نظرنا إلى مهاراته وحدها، فإن الرجل يُعد عالِمًا من الطراز الأول. وبالتأكيد سيلقى الكثير من المنظمات خارج المدينة التي ستسعد بإيوائه رغم المخاطر.› ›

«معكِ حق، ولا عِلم لي أيضًا. وربما الإجابة أبسط مما نظن.»

توقفا للحظة.

من الطرف الآخر للهاتف، أمكنه سماع صوت المفاتيح.

أخيرًا قال أكسلريتر: «يبدو أنه أخذها بعيدًا من حوالي الساعة الرابعة. أتظنين أنه لا يزال في المدينة؟»

‹ ‹تجاوزنا السابعة... لذا مَرّت أقل من ثلاث ساعات. عادة ما سأقول أننا في ورطة، لكن يبدو أن حظنا بدأ يتحسن.› ›

«ها؟»

انتبه أكسلريتر للأصوات على الطرف الآخر — كانت يوشكاوا تكتب على لوحة مفاتيح، تعمل بجد على شيء.

‹ ‹اخترق دخيلٌ ما الشبكة الأمنية من الخارج واقتحم المدينة. إضافةً، وقعت معركة كبيرة بالقرب من مطعمٍ للوجبات السريعة في المنطقة 7 منذ قليل بعد المغرب. وسابق هذا اليوم، كان رمز الأمان برتقاليًا، لكنه صار أحمر الآن. الرمز البرتقالي... أتعرف ما يعنيه؟»

البرتقالي يعني أن هناك احتمالاً بأن إرهابي قد تسلل، والأحمر يعني أن هذا مؤكدٌ تمامًا. إذا تم إصدار أي منهما، فسيعني ذلك أن الدخول والخروج من مدينة الأكاديمية أصبح ممنوعًا تمامًا. من المحتمل أن مديري المتاجر كانوا قلقين بشأن عدم تسليم منتجاتهم حتى.

إذا كان الرمز البرتقالي ساريًا منذ الظهيرة، فإن أماي لم يكن ليتمكن من أخذ لاست أوردر خارج المدينة، حتى لو خطفها. لم يعرف أكسلريتر من ذا الأحمق الذي تسبب في كل هذا، لكنه كان ممتنًا لذلك في الوقت الحالي.

«لا يزال في المدينة. فهل تعرفين مكانه؟»

أجابت يوشكاوا على سؤاله، وهي لا تزال تكتب. ‹ ‹من الصعب تتبعه، لكنه ربما يتجنب الأماكن المزدحمة. إذا كان رجل بالغ يتجول مع فتاة عارية ملفوفة ببطانية، فإنه سيلفت الانتباه بشكل كبير. لا أرى أنه يريد ذلك، كونه هاربًا.› ›

بدت فكرةً منطقية، لكنها بدت أيضًا مصدرًا إزعاج. اليوم هو 31 أغسطس. معظم الطلاب كانوا محبوسين في منازلهم يكافحون واجباتهم، لذا كانت المدينة كلها تبدو كمدينة أشباح.

«ألا يمكنك اختراق الروبوتات الشرطية أو بيانات المراقبة من الأقمار الصناعية أو كذا؟ كانت هناك بيانات في ذلك الظرف عن مكان وجود ‹أماي أَوْ› الذي حصلتِ أنتِ عليه من اختراق الأنظمة الأمنية، صح؟»

‹ ‹الأمن الميكانيكي ليس بتلك القوة كما تظن. مقصدي، لقد أجرينا تلك ‹التجربة› رغم أننا كنا تحت المراقبة، أليس كذلك؟› ›

«...»

‹ ‹لا أرى الأمن أكثر من مجرد دعمٍ للمطاردة. كنت أتتبعه في الغالب عن طريق تتبع حركة المال. هل تعلم أن هناك شريحة IC (دائرة متكاملة) مزروعة في محفظتك الآن؟› ›

«ها؟ بلى، تقصدين أن صنع الأموال المزيفة واردة، وأن هذه موجودة لمنع ذلك، صح ؟»

‹ ‹في الواقع، لها استخدام آخر. إنها تجمع معلومات مفصلة عن توزيع المال من خلال تسجيل المعلومات الشخصية عن حامل المال› › شرحت وهي لا تزال تكتب على لوحة المفاتيح. ‹ ‹هيّا، فنحن نعيش في عصر تسرق فيه المعلومات إذا اشتريت أشياء تسوى أكثر من ألف ين باستخدام بطاقة الائتمان... ولكن من ناحية أخرى، إذا لم تستخدم المال وعشت في الشوارع مثلها، فلن نملك وسيلة لتتبعها.› ›

«طيّب، سؤال آخر إذن. كيف كان يهرب حتى الآن؟»

‹ ‹غالبًا بالسيارة. يبدو أنه ركن في الحدائق والمباني المهجورة لينام. يجب عليه تنظيف نفسه والإتيان بالوقود، لذا فإنه يستخدم المال. لم يتمكن من إخفاء آثاره تمامًا.› ›

بينما استمر صوت الضغط على المفاتيح في الظهور عبر الهاتف، أجاب أكسلريتر ببساطة، «إذن هو لم يسكن فندقًا أو نزل أو مثلهم. فهل زار أناسًا يعرفهم؟»

‹ ‹لستُ واثقة من أنه يعرف أحدًا يتنازل لأجله.› ›

«...هِه. إذن هو قمامة، مثلي تمامًا.»

‹ ‹عنده دَيْنٌ كبير نتيجة لإغلاق المختبر بعد مشروع ‹الضوضاء الراديوية›. كان هذا معهدًا خاصًا. شعوريًا، كان مثل رئيس شركة قد انهارت للتو. الحب يدوم بقدر ما يدوم المال، ولا؟› ›

نقر أكسلريتر لسانه بلا مبالاة، وفكر في الأمر.

«لا يمكنه الخروج من المدينة حاليًا، صحيح؟»

‹ ‹إن كان قلقًا من التفتيش، فلا يمكنه حتى الهرب خارج الحي المدرسي.› › [4]

«همم. طيّب، إذن.»

أخبرها أكسلريتر باسم مبنى مُعَيّن.

عندما سمعت يوشكاوا كِكيو الاسم، رفعت صوتها بدهشة.

‹ ‹انتظر لحظة... هذا غريب. صحيح أنه لم يقترب من هذا المكان حتى الآن. فحسبته لن يتردد في التوجه مباشرة هناك، لكن...› ›

«عادةً ما يتجنب المرء أول مكان يطري على البال، ها؟ ولكن في خوفهم، يسهل توقع تحركاتهم أكثر.»

ابتسم أكسلريتر وخرج إلى طريق كبير.

وجهته كان الموقع السابق لمختبرٍ مُعَيّن.

كانت المنشأة التي تم فيها تطوير مشروع الضوضاء الراديوية المبنية على المستوى 5 ريلغن.

  • الجزء السادس (31 أغسطس__7:27 ساعة العشاء.)

ارتكنت سيارة رياضية بجانب مختبرٍ مُعَيّنٍ مهجور.

وكان المكيف يعمل بدرجةٍ عالية جدًا في هذه السيارة الضيقة، لكن كفّيه كانتا لا تزال مبللة بالعرق.

متألمًا، أمسك الرجل بطنه يائسًا بيديه المبللتين بالعرق.

قد أراد في البداية دخول المبنى الفعلي. ففيه العديد من الأماكن لإخفاء السيارة، كما كان يتذكر. كان سيتمكن حتى من الهروب من أعين الأقمار الصناعية. لكن لسوء الحظ، كانت البوابة الأمامية مغلقة بسلاسل وأقفال سميكة، ولم يتمكن من فتحها.

لكنه أيضًا لم يستطع المغادرة. ربما يوقفونه للتفتيش ما إن يتحرك. وبالتأكيد سيوقفونه إذا ترك السيارة وحَمَلَ لاست أوردر، التي كانت عارية بالفعل.

«اللعنة...»

أخطأت في خياري، فكر بهذا نادمًا. كان قد خطط في البداية أن يفر من المدينة بعد حقن الفيروس في رأس لاست أوردر. وكان فصيلٌ مناهضٌ لمدينة الأكاديمية ينتظرونه في الخارج. ثم كان سيتبعهم حتى يخرجوا من البلاد ويذهب إلى أي مؤسسة يرغب بها في أي بلد يريد، حاملاً معه مهاراته المتعلقة بالقدرات الخارقة كهدية.

ومع ذلك، هربت لاست أوردر بمجرد أن حقن فيها الفيروس.

بدأت خططه العظيمة تتفكك في تلك اللحظة.

كان جسد لاست أوردر غير مكتمل وغير معدَّل، لذا لم يكن بإمكانها العيش طويلاً خارج الحاضنة. وإذا كان مهملاً، فقد تموت قبل أن يبدأ الفيروس في العمل.

إذا حدث ذلك، فلن يصيب الفيروس الأخوات في جميع أنحاء العالم. وستذهب خططه للدمار سدى. لن يغفر له الفصيل المعادي. لن يرفضوا فقط مساعدته في الهروب، بل لن يتفاجأ إذا قتلوه على الفور.

الغريب أن أماي ما خطف لاست أوردر — إلا لينقذ حياتها.

ولكن الآن، بما أنه لم يستطع تحضير حاضنةٍ لها، بدا أن الهدف بعيد المنال.

لقد كان يركض بشكل محموم طوال الأسبوع باحثاً عن لاست أوردر. وعندما عثر على مسعاه أخيرًا، وبعد أن تهرب من الوحش أكسلريتر الذي كانت معه لسبب ما، آل أمره إلى هذا الوضع المؤسف.

«...»

وَجَّه نظرته الحادة إلى المقعد المجاور.

كان الجسد غير المكتمل للاست أوردر غارقًا في المقعد، ملفوفة بالبطانية. وكاملها عرق، وتنفسها كان ضحلاً لدرجة أنه كان عليه التركيز لسماعه.

تثبَّتَ عددٌ من الأقطاب الكهربائية على وجهها، والأسلاك الصادرة من هذه الأقطاب كانت متصلة بجهاز لوحي على حِجرها (فوق الفخذين).

عرضت الشاشة علامات حيوية مختلفة، مثل النبض، درجة حرارة الجسم، ضغط الدم، والتنفس. الأرقام والرسوم البيانية كانت غير مفهومة في عين الهواة... لكن أولئك من يمكنهم قراءتها سيصدمون. كانت حالتها سيئة لدرجة أنها قد تتوقف عن التنفس في أي لحظة.

(هذا لا يمكن. ليس هنا، ليس الآن...)

كان لأماي أَوْ سبب يدفعه للهروب.

كان مسؤولًا عن مشروع ‹الضوضاء الراديوية› الذي يهدف إلى إنشاء إسبرات من المستوى 5 تعتمدن على قدرات ‹ريلغن› من ‹توكيواداي›. لكن لسوء الحظ، كانت النسخ المنتجة ذات مواصفات منخفضة — لم يتمكنوا من إعادة إنتاج ريلغن بشكل مثالي. فتوقف المشروع وأغلقت المختبرات. وكان غارقًا في الديون، بالكاد تمكن من تشغيل مشروع الانتقال إلى المستوى السادس لأكسلريتر.

ولكن لسوء الحظ، تم تجميد ذلك المشروع أيضًا بشكل نهائي.

لن يسد ديونه هكذا.

ما كان له مكانٍ يعود إليه في مدينة الأكاديمية. كل ما بقي له هو دَيْنٌ هائل—يكفي لشراء غواصة بالأموال. ولكن حقيقة أن مختبر المستوى 6 كان مؤسسةً خاصة، على عكس مشروع ‹ضوضاء الراديو›، آلمته أكثر. إذا كان لا يزال يريد الاستمرار في الحياة، فعليه أن يتهرب من دَيْنه ويفر.

لذا لجأ إلى جماعة غامضة. إذا كسر علاقته بهم الآن، فإن الجحيم ينتظره أكيد. لم يكن متفائلاً بما يكفي ليحسب نفسه يفر وهو عالق بين مدينة الأكاديمية والفصيل المعارض.

(اللعنة، اللعنة! لماذا يحدث هذا؟!)

ضرب عجلة قيادة سيارته الرياضية الصغيرة.

أخيرًا، قبض على لاست أوردر الهاربة اليوم. ولسوء حظه، كان رمز الأمان قد تم تعيينه على البرتقالي وسرعان ما تحول إلى الأحمر، مما جعل مغادرة المدينة مستحيل. علاوة على ذلك، كانت الحالة البدنية لاست أوردر أسوأ مما كان يتوقع. على هذا النحو، قد تتنفس آخر أنفاسها قبل أن يبدأ الفيروس.

(أرجوك، أرجوك! فقط أطول قليلاً! فقط اصمدي حتى يبدأ عمل الفيروس!)

كانت لديه الكثير من الخيارات الأخرى عندما يتعلق الأمر بالأماكن التي يمكنه فيها ضبط جسم لاست أوردر، ولكن الآن بعد أن انتقل رمز الأمان إلى الأحمر، كل مكان في المدينة سيُفحص. وأكيد لن يمكنه إحضار فتاة عارية ترتدي بطانية زرقاء خلال الفحص، خاصة وأنها كانت عينة مصطنعة ومنتجة بالجملة بدون هوية.

لم يكن ‹أماي أَوْ› قادرًا على الخروج من هذه الكتلة الحضرية، ناهيك عن المدينة. وهكذا كان جالسًا يرتجف في السيارة الضيقة، مراهناً بكل ما لديه على فيروس لم يكن متأكدًا من أنه سيعمل.

فجأة، طار شيء أمام زجاج سيارته الأمامي.

«؟!»

أنزل نظره غريزيًا إلى الأمام. ومع ذلك، لم يرى أي شيء يتعلق بالأنتي-سكيل أو الباحثين الآخرين. كان غراب. غراب أسود طار ببساطة متجاوزًا السيارة، من اليمين إلى اليسار.

«آه—»

لكن عينيه اتسعتا بشكل كبير.

لم يكن هناك أحد أمامه. كان هناك طريق فارغ أمامه، بسيطٌ وواضح. لم يكن هناك أي خطر يهدده. لعله ربما فقد هدوءه وكان في حالةٍ من الذعر من هلوسةٍ مستحيلة.

«آاهه...»

ومع ذلك، لم يكن أماي ينظر إلى أمامه أبدًا.

كان يحدق في مرآة الرؤية الخلفية.

ما رآه فيها جَمَّد دمه. تذبذبت قزحية عينيه. اندلع عرق من كامل جسده. وتصلبت أصابعه وارتجفت.

وَجَدَ صبيًا واحدًا في المرآة.

كان يسير ببطء خلف السيارة الرياضية الصفراء التي كان فيها أماي.

كان أبيضَ الوجه، أبيضَ المنظر، أبيضَ الوهج ذو المستوى 5.

«...إي...هِيي!»

خرج صوت غريب من حلق أماي.

من وجهة نظره، لم يعرف لماذا جاء أكسلريتر إلى هنا. ومع ذلك، فإن حقيقة أنه نوى عليه بشيء جعل الأمر خطيرًا.

تقدم أكسلريتر بلا تردد نحو السيارة.

نظر أماي إلى لاست أوردر في المقعد المجاور.

كانت شخصًا يجب التعامل معه بحذر أكثر من التعامل مع بلورة ثلج. لم يعرف ما ينويه أكسلريتر، لكن إذا سَلّمها له، فلن تدوم ثانية قبل أن تُدمر.

لن يسمح له بأخذ لاست أوردر.

عليه اعتراضه.

(ولكن كيف؟!)

كان لديه مسدس مخبأ في جيب معطفه الأبيض، لكن هذا لن يفيد ضد أكسلريتر. مواجهة أكسلريتر جسديًا ستكون متهورة كأنك تُسابق سيارة ‹لامبرغيني جالاردو› على قدمين، هي ساذجة كأنك تشد الحبل ضد دبابة من النوع 90.

إذن عليه الهرب.

أمسك أماي مفتاح السيارة.

واجهت يداه المرتعشتان صعوبة في العثور على فتحة المفتاح. حاول مرارًا وتكرارًا إدخاله، وكاد يبكي طوال الوقت، حتى دخلت في مكانها أخيرًا.

دوّر المفتاح بلهفةٍ.

فزأر المحرك بصوت عالٍ. وفي توتره، أخطأ في اعتبارها سيارة يدوية فذهب نحو دواسة الكلتش غير الموجودة. زأرت السيارة فتقدمت بسرعة.

  • الجزء السابع (31 أغسطس__7:39 ساعة العشاء.)

راقب أكسلريتر سيارة أماي بابتسامةٍ شريرة وهي تندفع بعنف إلى الأمام، كاشفةً عن ذعر الرجل.

(لنرى، تلك الشقية... في الداخل، ها؟ حسبته سيرميها في صندوق السيارة، لكن يبدو أن أماي لا يمكنه تحمل خسارتها،)

-بام!- انطلق من الأرض.

طار أكسلريتر عشرة أمتار في الهواء، متجاوزًا سيارة أماي الرياضية، وهبط أمامها. رأى وجه الرجل ينكمش منصدمًا ومرعوب. حاول أن يحرف المقود إلى جانب، ولكن فات الأوان. قد وصلت دواسة الوقود إلى آخرها تمامًا. اصطدمت السيارة بأكسلريتر بقوة قذيفة مدفع.

ثم ارتفع صوت سحق المعدن، أقوى ألف مرة من الضوضاء التي يحدثها علب الصودا الفارغة عندما يُداس عليها.

وقف أكسلريتر هناك، دون أن يتحرك بوصة واحدة. لم تتحرك شعرة واحدة من رأسه. السيارة هي ما سُحِقت. قد حَوّل من مُتّجه قوة السيارة مباشرة إلى الأسفل. تسطحت كل عجلاتها، وتحولت إلى شكلٍ بيضوي. انخفض ارتفاع السيارة عن الأرض إلى صفرٍ مثالي، وغرقت في الأسفلت عدة سنتيمترات. تحطمت نوافذ الزجاج على جميع الجوانب إلى قطع، كما لو أن جسم السيارة نفسه قد تشوّه.

كان وجه السائق، أماي، مبتسمًا منكسرًا.

ما صَدّق أنه لم يصب بأذى، رغم أن سيارته قد تدمرت تمامًا. ولم تعمل الوسائد الهوائية أيضًا. عكست رحمة العدو الفارق الهائل في القوة بينهما.

«ك...غ...تـ-تبا!»

والدموع تكاد تفيض منه، صرخ أماي على دواسة الوقود مرة بعد مرة، لكن العجلات الأمامية قد تشوهت لدرجة أنها دخلت في الدعامية. لن تتحرك السيارة أبدًا. استغرقته أكثر من عشر ثوانٍ ليعترف بذلك أخيرًا، ثم فتح الباب، ربما قرر الهرب حتى لو كان عليه التخلي عن لاست أوردر.

«ارقد يا عجوز. ولا تهين نفسك.»

ركل أكسلريتر بلطف دعامية السيارة. ولكنه تحكم في التأثير، فأغلق باب السائق مرة أخرى. كان أقرب لحديدةٍ تضرب حديدة من باب يُفتح ويُغلق. وأصيب أماي الذي حاول الهرب بينهما فخرجت أنفاسه. انزلق إلى الأرض، فلم يتحرك.

«إيه، آسف عالعنف. على الأقل ما مت، صح؟»

لم يتلقَ أيّ رد، ولم يتوقع على أي حال. نظر إلى المقعد المجاور. على عكس مقعد السائق المدمر، كان هذا سليمًا يحتضن فتاة.

«حمقاء، حقًا إنك شقية مزعجة،» تمتم أكسلريتر، كأنه يفرغ ضغطًا تراكم بداخله. ثم أخرج هاتفه.

«يوشكاوا؟ نعم، وجدتها.»

أمامهم أكثر من أربع ساعات حتى تفعيل الفيروس.

  • الجزء الثامن (31 أغسطس__8:03 ساعة العشاء.)

فتح أكسلريتر باب المقعد. لم تتفاعل لاست أوردر التي كانت ملفوفة ببطانيتها. تراخت أطرافها وتبللت بالعرق المقيت.

كاد يحملها من المقعد عندما أدرك فجأة شيئاً.

«هَيي، في رأس الشقية أقطابٌ كهربائية. هل أتركها؟»

‹ ‹مم؟ أعطني تفصيلاً أكثر.› ›

استمعت يوشكاوا لما قاله أكسلريتر لبضع لحظات، ثم قالت، ‹ ‹من المحتمل أن تكون تلك ‹طقم مسح النظام› الخاص بالأخوات التي امتلكها طاقمنا. بها تُعرَضُ حالتها الجسدية، مثل تنفسها ونبضها وضغط دمها ودرجة حرارتها، إضافةً إلى صحة حالتها العقلية وكذلك بيانات شخصيتها. يمكنك إزالة الأقطاب الكهربائية إذا لزم الأمر.»

كان هناك جهاز حاسوبي محمول متصل بأسلاك الأقطاب الكهربائية. عُرِضت مجموعة من الرسوم البيانية على شاشته. إلى جانبها، كان هناك قيمة مئوية تقول "نسبة BC".

عندما سأل عما تعنيه، أجابت، ‹ ‹أوه، هذا مُعَدّل تشغيل خلايا دماغ لاست أوردر. BC أتت من Brain Cells.› ›

تفاجأ أكسلريتر. لم يكن من السهل متابعة حركة كل خلية دماغية في المرء. ولم يحسب أن الجهاز الصغير قادرٌ على التعامل مع ذلك. ولكن الأخوات هنَّ مستخدمات كهرباء، لذا ربما ساعدن في هذا.

على أي حال، كانت التكنولوجيا غريبةً عليه.

«هَيي، ألا تستخدمين هذا الشيء للتخلص من الفيروس؟ سيأخذ الأمر مني وقتاً حتى أعود بها.»

‹ ‹لن يفيد. ما هو إلا محطة لعرض تلك البيانات. تحتاج إلى ‹حاضنة› خاصة و‹عهد› لكتابة البيانات إليها.› ›

فكر أكسلريتر في ذلك لحظة... ثم لاحظ شيئاً ما.

كانت هناك أصوات مختلفة قادمة من الطرف الآخر للهاتف.

«مهلا، أما كنتِ في المختبر؟»

‹ ‹الآن أدركت؟ أنا في طريقي إليك بينما نتحدث. ومعي ‹حاضنةٌ› و‹عهدٌ› في الخلف. فكرتُ أن هذا سيستغرقنا وقتاً أقل من عودتك إلى المختبر. ربما تهرب الفتاة مني إذا رأتني، لكن مع قدراتك، لا أرى ما يدعو للقلق› › ثم أكملت بعد توقفٍ. ‹ ‹لذا انتظرني مكانك. لم أجلب أحد حواسيبنا الكمومية العملاقة بالطبع، لكن حاسوب DNA كان بالحجم المناسب. ما له قوة كبيرة، لكنه يكفي وزيادة لهذه المهمة.› ›

«أتعرفين، إذا أمكنك ببساطة تحليل هذا باستخدام جهاز، فما الذي كنتِ تفعلينه بذلك القلم من قبل؟ لا أرى أنكِ بحاجة للقيام بأي شيء يدويًا.»

‹ ‹ترك الأمر للجهاز يُرَخّي، ومفرط في الأدب بعد... على أي حال، لذاك الشيء مشاكله. أتألف ألعاب الفيديو؟ فعلى مصححي الأخطاء أن يُمسكوا بوحدة التحكم ويقوموا بالأمر بالقوة. يشغلون البيانات عبر الجهاز، ثم يصلحونها يدوياً، ثم يعيدون تشغيل البيانات للتأكد من عدم وجود أخطاء... فيكررون هذه العملية مراراً وتكراراً.› ›

مد أكسلريتر يده نحو الأقطاب الكهربائية الملتصقة بوجه لاست أوردر، ثم سأل فجأة، «انتهيتِ من تحليل شفرة الفيروس؟»

‹ ‹إني على قرابة الثمانين في المئة. ويجب أن أكتب لقاحاً للتخلص منه بعد الانتهاء، لذا لا زلنا في سباق مع الزمن هنا.... وبالتأكيد سأُنجِحها.› ›

عبس أكسلريتر، معتقداً أن فيها شيئاً مختلفاً عن المعتاد، لكنه استرخى قليلاً. رأى الأمور تتجه نحو الحل.

(هفف، كم من المتاعب عيّشتني إياها هذه الشقية؟)

كانت هذه أول مرة يُضطر فيها للانتظار لأحد. وكأن الوقت يتمدد، وكل ثانية تمر تبذيراً. لم يكن شعوراً جيداً. طرق على الإسفلت برجله، قلقاً، ولكن حتى تلك الحركة تسببت في ظهور شقوق غريبة في الطريق.

«مي...سا—»

فجأة، تحركت شفتيها.

اهتزت شفتيها كما لو كانا شفتا إنسان يعاني من عطش رهيب.

«مي...ساكا...و...ميسا...ميساكا...»

كانت عيناها مغلقتين، وفقط فمها هو الذي يتحرك — بشدة، بيأس، كأنها تشكو. فكر أكسلريتر في ما إذا كان يجب عليه الاستفسار عن ذلك. وعلى أي حال، حتى وصول يوشكاوا المتخصصة إلى الموقع، لم تكن لديه وسيلة لتخفيف ألمها—

«مي...سا...كا، ميسا. كا ميسا، كا ميسا! كا ميساكا ميساكا ميساكا ميساكا ميسا ميسا ميسا ميسا ميسا ميسا ميسا ميسا ميسا ميسا ميسا ميسا ميسا M<iju0058@Misagr ميسا qw0014codeLLG ميساكا ميسا ieuvbeydla9((jkeryup@[iiG:**ui%%ebvauqansicdaiasbna:!!»

«ها؟» تمتم أكسلريتر عند صرخة لاست أوردر المفاجئة.

لم تبدو على ما يرام على الإطلاق. كانت الفتاة أمامه، بجسمها الرقيق، تتلوى كسمكة خرجت من الماء. تلوى جسدها للوراء بشكل كبير. هل كان صوت التكسير صادرًا عن عظامها؟ عضلاتها؟ ومع ذلك، لم يكن هناك أي إشارات على وجهها دلّ على الألم. حتى أنه استشعر منها فرح، كأنها تكاد تغني ترنيمة أو شيئاً من هذا القبيل.

لكن كان هناك شيءٌ واحد.

استطاع أن يرى الدموع تتدفق من جفنيها المغلقين.

ذلك كان الشيء الوحيد الذي لم يكن مفرحًا.

كانت دموع الألم.

بدأت شاشة الحاسوب المحمول تُجَنّ. ظهرت عشرات من نوافذ التحذير واحدة واحدة كقطرات مطر تضرب نافذة، مما دفن معظم الشاشة تحتها. الأصوات الوحيدة التي يمكن سماعها كانت نغمات تنبيهية تحاول تحذيره من شيء.

«سحقا! يوشكاوا، ما الذي أراه؟ أهذه أحد الأعراض أم ماذا؟!»

‹ ‹اهدأ، واشرح لي كل شيء بالترتيب! لن أعرف شيئًا بالصوت وحسب. صحيح، أفي هاتفك كاميرا؟ إذا أمكنك أن ترسل  لي فيديو، فهذا أفضـ—› ›

فجأة قطع صوت يوشكاوا، حيث سمع نفسًا سريعًا ومفاجئًا. لم ينقطع الاتصال. كان يمكنه سماعها تتحدث إلى نفسها—وكان يبدو أنها تقول "لا يمكن"، "لا يمكن أن يكون"، "يجب ألا يحدث هذا."

«وَيلك ما يحدث؟! ألن تكفيها إسعافات أولية أو أي شيء؟!»

‹ ‹اصمت لحظة. ودعني أسمع ما تقوله.› ›

«قلت، اشرحـ—»

‹ ‹لا وقت!!› ›

أبْدا صوت يوشكاوا وكأنها تكاد تنهار. رأى أكسلريتر في الأمر خطبًا. لكنه لم يستطع شيئاً سوى أن يضع الهاتف على أذن لاست أوردر المتألمة.

«aweuvll;**0012uui%%0025$#gui’&=//nsyulljwidnl’jwucla:@]aucneisdkaudj!!»

ما عادت صرخاتها لغة.

وسمع أكسلريتر شهقة يوشكاوا ثانيةً عندما سمعت.

‹ ‹هكذا... إذن، هذا صحيح.› ›

«ما هو؟ ما هو الصحيح؟»

أجابت يوشكاوا بنبرةٍ بسيطة للغاضب أكسلريتر.

‹ ‹إنها شيفرة الفيروس، ويبدو أنها مشفرة. الفيروس بدأ يشتغل.› ›

تجمد أكسلريتر.

لم يكن من المفترض أن يبدأ الفيروس حتى منتصف الليل. وكان الوقت قد تجاوز الثامنة بقليل. لابد أنه أمامهم أقل من أربع ساعات...

لم يستطع التفكير إلا في احتمال واحد.

المعلومة زائفة.

العدو ‹أماي أَوْ› كان قد زور عمداً وقت التفعيل. لم يكن من الممكن أن تكون جميع المعلومات من العدو صحيحة. قالها أكسلريتر بنفسه أيضاً—إخبارهم بموعد تفعيل الفيروس منذ البداية جعل اللعبة سهلة للغاية.

كان فخًا بسيطًا قاسيًا نَصّابًا.

حتى أماي نفسه ربما لم يحسب أنها مفيدة. بدا الأمر أكثر أنه ألقاه في الوقت الضائع بدلاً من محاولة الدفاع عن مصالحه.

تذكر أكسلريتر ما سيحدث بمجرد أن يبدأ الفيروس.

‹—حينها سيتفعّل الفيروس، وسيكتمل من بعدها بعشر دقائق. سينتقل إلى جميع الأخوات الأحياء عبر ‹شبكة ميساكا›، وسيتمردن ويَثُرن.›

تذكر ما سيحدث...

...للفتاة في ذراعيه.

‹—حسنًا، لا أؤكد شيئًا، لأنني لم أحلل الشيفرة كاملاً بعد، لكن إن كنت سأفترض النتيجة من الاتجاه العام لهذه التعليمات... يبدو أنه شيءٌ سوف يصدر أمرًا بالهجوم العشوائي على البشر.›

وجد أكسلريتر نفسه عاجزاً عن الحركة.

واصلت لاست أوردر صرخاتها غير القابلة للفهم. غمرت مئات نوافذ التحذير شاشة الحاسوب. بين النوافذ، بالكاد رأى ‹نسبة BC›—مُعَدّل تشغيل خلايا دماغها.

كان الرقم يرتفع بسرعة. سبعين في المئة، 83 في المئة، 95 في المئة... ثم تجاوز 100 في المئة واستمر في الارتفاع.

جسد لاست أوردر الصغير ارتعش وتلوى كما لو تعرض لصدمة كهربائية.

أخيراً، غطت نافذة تحذير أخرى حتى قيمة ‹نسبة BC› تلك بالكامل.

تماماً كما كانت بيانات الفيروس الغريبة تستبدل بيانات الشخصية التي كانت تخص لاست أوردر في الأصل.

قالت يوشكاوا شيئاً له عبر الهاتف، لكنه ما عاد بمُستمع.

لن يسعهم الوقت.

لم تنتهِ يوشكاوا من تحليل شيفرة الفيروس بعد، ولم تعد لقاحًا بعد. علاوة على ذلك، كانت هناك بيانات زائفة في الشيفرة التي حَلّلتها، لذا لم يكن هناك ضمان بأنها تستطيع كتابة لقاح آمن. ولم يكن بإمكانهم حتى إعادتها إلى المختبر، حيث كل المعدات.

وكان أماي، الذي أنشأ الفيروس، سيفهم شفرته. لكن لم يكن هناك وقت لاستجوابه ثم إعداد لقاح بعد ذلك.

شعور غريب كان يلسع في قِذال رأس أكسلريتر. قبل أن يتمكن من فهم ما هو، نقشت كلمات يوشكاوا الهادئة في أفكاره.

‹ ‹اسمعني يا أكسلريتر. لا تعجل اليأس. بيدك أنجزها.› ›

«...يدي؟ أما زال في وسعنا شيء؟»

‹ ‹قبل أن يَتَحَمَّل الفيروس إلى ‹شبكة ميساكا›، لابد أن تستغرق الشيفرة الحالية وقتاً للحصول على صلاحيات المدير حتى تعجز الأخوات من المقاومة. ولو كانت لديها صلاحيات منذ البداية، لكان من السهل اكتشاف شيفرة الفيروس ضمن بيانات الشخصية الفعلية، لذا مُنِعَ ذلك. لديك عشر دقائق فقط. أتفهم؟ يمكنك فقط فعل شيءٍ واحد—افتك بها. اقتل هذه الطفلة واحمي العالم.› ›

لم تفكر يوشكاوا في إنقاذ لاست أوردر من الأساس.

وهذا ما عنته بعبارة "بيدك أنجزها."

حماية العالم.

لوقف الأخوات –المبعثرات في كل ركن من أركان العالم– من الجنون، كان عليه أن...

الفتاة كانت تتلوى من الألم، غير قادرة حتى على الصراخ طلباً للعون، وكان عليه أن...

ضحك أكسلريتر ساخرا. من بين كل الأشياء، كانت تخبره باستخدام قوته، التي لا يمكن استخدامها إلا لقتل الناس، لهذا السبب المذهل. للموافقة على أدنى ضرر. لقتل هذه الفتاة فقط.

مع الوقت، الأوامر المكتوبة في رأس لاست أوردر ستدمر عقلها. الطريقة الوحيدة لمنع حدوث ذلك هي بإنهاء حياتها قبل أن ينهار عقلها.

«تبّاً...»

مهما اختار ومهما تصرف، إذا لم يكن إنقاذها ممكناً...

...إذن على الأقل اقتلها بابتسامة، هكذا أخبرته يوشكاوا.

«تبّاً لهذاااااااااااااااااااااااااا!!»

صكَّ أكسلريتر أسنانه. شعورٌ كطعنة سكين غاص في صدره. كان نفس الألم الذي عاناه عندما ضربه ذلك الصفري في ساحة تبديل القطارات. ما من شعور يُشبهه. كان ألَمَ فقدان. فأدركها. وتعلم مدى ثقل وأهمية الفتاة في ذراعيه. عشرة آلاف مرة من هذا. أدرك أخيرًا أنه تسبب في ألم يساوي عشرة آلاف مرة من هذا لنَفْسٍ ما.

كان الأوان قد فات ومات.

وكان الأمر متأخراً كثيراً له أن يفعل أي شيء.

صرخ أكسلريتر. ما كانت له حيلة.

قوته لم تقدر على التخلص من الفيروس المنقوش في عقل لاست أوردر. لم يكن الأمر مريحًا. قد تكون أقوى قدرة، لكنها كانت فقط قدرة تغيير مُتجهات القوة الحركية والحرارية والكهربائية. وطريقة استخدامها تنتهي دائمًا بالقتل. كان لديه الكثير من القوة، لكن كل ما كان يمكنه التفكير فيه هو تفجير (الناس بمجرد لمسه لجلدهم وعكس تدفق دمائهم أو مجالهم الحيوي الكهربائي—

(...؟)

توقف فجأة، معلقاً على شيء ما، بعد التفكير بهذه الطريقة.

فحص كلماته عن كثب.

عكس المجالات الحيوية الكهربائية؟

(مهلا. ما الذي عَلّقني؟)

بدأت قطع من الكلمات تطفو في ذهنه، واحدة تلو الأخرى.

ثم فجأة، بدا أن الوقت يتباطأ له.

(الوقت أقل من عشر دقائق. لا مساعدة. كل ما لدي—عصا الذاكرة (فلاش) وكتاب إلكتروني. فيهما بيانات شخصيتها قبل الإصابة. المستوى الخامس، أكسلريتر. قدرة تغيير أي مُتّجه، حركية - حرارية - كهربائية. لا يهم. ما أحتاجه—‹عهد›. جهاز للتلاعب بمعلومات الدماغ عبر وسائل كهربائية. التحكم في النبضات الكهربائية. برنامج اللقاح. بيانات للعثور على شيفرة الفيروس وحذفها من بيانات الشخصية الضخمة. الحل إذا لم نتمكن من مسح الفيروس بسرعة كافية—قتل لاست أوردر.)

كانت أفكار أكسلريتر تسير بسرعة صاروخية.

حذف كل الكلمات الزائدة، مما قلص جُمَله إلى معاني خالصة.

بضع ثوانٍ أشعرت وكأنها أبدية بينما غرق في أفكاره.

(لعدم قتلها. يجب تدمير الفيروس. خياران. 1—البحث عن شيفرة الفيروس في بيانات شخصيتها الضخمة. 2—التلاعب بالنبضات الكهربائية داخل دماغها وتدمير فقط شيفرة الفيروس التي أجدها.)

في مدينة الأكاديمية، التي تُعَلّم في فصولها تطوير القدرات الخارقة، أقوى إسبر في المدينة هو أذكى إسبر في المدينة. كان أكسلريتر سابقاً قد حسب وتنبأ بدقة مُتّجه كل الرياح التي تهب عبر المدينة حتى أدق الجزيئات. والآن استخدم جميع طرقه العصبية للبحث عن مخرج.

(عصا الذاكرة. بها بيانات الشخصية قبل الإصابة. ابحث عن الفروقات بينها وبين بيانات الشخصية الحالية المصابة... مهلا. لماذا أنا عالق في هذا؟ هذا تعذيب مازوخي. تذكر. ما أنا جيّد فيه. أول ما يتبادر إلى ذهني.)

أخيراً، اهتزت كتفي أكسلريتر كما لو كان قد أصيب بصاعقة.

عكس المجالات الحيوية الكهربائية.

إذا كانت قدرة أكسلريتر فعلاً تستطيع التحكم في أي وكل المتجهات، بغض النظر عن نوع القوة التي كانت...

إذا كان بإمكانه عكس اتجاه تدفق الدم والمجال الحيوي الكهربائي لشخص ما بمجرد لمسه...

رفع نظره. لم تمر حتى عشر ثوانٍ منذ أن بدأ يفكر.

«اسمعي. إذا كنتُ أستطيع ببساطة التحكم في النبضات الكهربائية في دماغها، يمكنني التلاعب ببيانات شخصيتها دون الحاجة لاستخدام ‹عهد›، أليس كذلك؟»

‹ ‹ما الذي—› › بدأت يوشكاوا، ثم توقفت وأدركت شيئاً ما.

كان ‹العهد› جهازاً لتركيب شخصية وقاعدة معرفية في عقل أحدٍ ما من خلال التحكم في كهرباء دماغه.

‹ ‹...هل تنوي أن تكون بديلاً للـ ‹عهد›؟ هذا مستحيل! يمكنك التحكم بحرية في أي مُتّجه بقدرتك، لكن التلاعب بإشارات الدماغ إنسان هو... انتظر!› ›

«لا يوجد شيء أعجز عنه. قتلتُ الناس من خلال عكس تدفق دمائهم ومجالاتهم الكهربائية ما إن لمستُ جلودهم خلال تلك التجربة، أليس كذلك؟ أعلم كيف أعكس الأشياء، لذا ليس من الغريب أن أستطيع التحكم بها.»

وبالطبع، لم يتدخل في إشارات دماغ أحد من قبل. لم يكن واثقاً تماماً في هذه الخطة.

لكن كان عليه أن يجرب. كان سيكون من الأفضل استخدام ‹العهد›. كان سيكون من المثالي كتابة برنامج لقاح للتغلب على الفيروس، لكن الوضع لم يسمح. ومع ذلك، لم يرغب في الاستسلام، لذا لم يتبق له سوى القيام بشيء ما.

بيديه.

حتى وإن كانت خطةً مؤقتة، كان عليه مساعدتها.

‹ ‹من المستحيل أن تنجز شيئاً كهذا. ولو كنتَ قادراً على التحكم في دماغ لاست أوردر بقدرتك، فليس لدي برنامج لقاح كامل للفيروس. من المستحيل عليك وحدك أن تزيل الفيروس بالكامل!› ›

«...»

كانت يوشكاوا محقة—لم تنتهي من تحليله بعد. ولكن بالنظر إلى أنها لم تلاحظ الشيفرة الزائفة، لم يكن بإمكانه التأكد من عدم وجود أخطاء في البيانات التي تم تحليلها سلفًا.

‹ ‹أتسمعني؟ قلتُ لك أن تقتلها. أنا أعرف جسدها مئة مرة أفضل منك، وأقول لك أنه لا حل آخر. هل تفهمني؟› › كان صوت يوشكاوا مثل الجليد. ‹ ‹لا تأمل في القضاء على فيروسها بمفردك. إذا فشلت، ستضحي بعشرة آلاف أخت، وعندما تتصاعد المشكلة، ستصبح مدينة الأكاديمية عدواً للعالم. استسلم عن لاست أوردر لتمنع ذلك!› ›

استخدمت صوتها التأنيبي سيفًا عليه، كأنها تطعنه.

‹ ‹ربما تقدر على كتابة لقاح بنفسك. ولكن هل تقدر في هذه الحالة؟ الفيروس سينتهي في دقائق!› ›

«أكيد،» أجاب فوراً. أخذت يوشكاوا كِكيو نفسًا عميقًا.

خفض أكسلريتر نظره إلى لاست أوردر، الممددة في مقعد الراكب، وألقى نظرة أخرى على محتويات الظرف. كان هناك ملصق على ذاكرة الفلاش يُقرأ "رقم تسلسلي 20,001 مخطط الشخصية (قبل الإصابة)".

كانت بيانات شخصيتها قبل الفيروس هناك. وهذا يعني أنه سيتعين عليه مقارنة دماغ لاست أوردر الحالي بهذه البيانات، للعثور على الأجزاء الزائدة، واستئصال شيفرة الفيروس. إذا تمكن من القيام بذلك، فكل ما سيحتاجه هو كتابة البيانات الصحيحة لتصحيحها، تماماً مثل تسوية لوحة فولاذية ملتوية بالمطرقة.

البيانات المصححة التي سيعيد إدخالها بعد استخراج الفيروس يمكن أن يُطلق عليها بشكل غير دقيق اسم لقاح.

«هراء... بالطبع أستطيع. من تظنينني؟»

قالت له شيئًا، لكنه لم يكن يستمع بعد الآن. كاد ينهي المكالمة، ولكن الهاتف انزلق من يديه وسقط على الأرض. لم يكن في ذهنه بعد الآن. ابتسم ابتسامةً مشوهة.

كان يعرف بالفعل ضَعف خطته. بيانات الشخصية في بحوزته كانت من ما قبل الإصابة. لذا إذا كتب فوق كل شيء في بيانات شخصيتها، ستُمحى أي ذكريات امتلكتها جنبًا إلى جنب مع الفيروس. كان الأمر كأنك تمسح الحبر على لوحة الرسم، وتغطي الصورة القديمة بصورة جديدة.

لقاؤهما.

حديثهما.

ابتسامتها.

كل ذلك سيُفقد، وعليه أن يتحمل الألم.

«...فماذا؟ نسيانها لكل ذلك هو لخيرها.»

بدا الأمر واضحًا. كان عليه فقط أن يتذكر ذلك الزقاق البارحة وحالة غرفته في السكن. لو أنها بقيت مع أكسلريتر، لتعرضت للهجوم فقط لبقائها.

لاست أوردر قد قَبِلَت أكسلريتر دون خوف. أحدٌ مثلها، لا يمكن أن تكون جزءاً من عالمه هذا.

كان عليها العودة.

ليس إلى العالم الملطخ بالدماء، ولكن إلى عالمٍ ألطف وأنور.

ضحك بضعف على نفسه، ثم أدخل عصا الذاكرة في اللوح (الكتاب) الإلكتروني. قرأ النص الهائل على الشاشة، النازل بسرعة شلال. استغرق الأمر منه اثنتين وخمسين ثانية لقراءة كامل النص وأربعًا وأربعين للتفكير وعينيه مغمضتين. فتح عينيه مرة أخرى وقارن كل ما يتذكره بما كان على الشاشة لمدة خمسة وستين ثانية.

جهز.

جهز لإنهاء كل هذا.

سحقت يديه اللوح الإلكتروني بقوة. تفتت أجزاء الجهاز الذي يحتوي على مخطط عقل فتاةٍ معينة وسقطت من يديه إلى الأرض.

«...»

أوقف انعكاس يديه، ولمست أصابعه جبهة الفتاة. كانت بشرتها ساخنة كأنها أصيبت بحمى. ثم وجد مجالاً حيوياً كهربائياً وبدأ يتصل باتجاهه، كأنه هو هوائي (أنتينا) يُوصِلُ إلى داخلها. بدأ يحسب متجهات المجالات المحيطة به باستخدام ما لمسه قاعدةً.

أخيراً، كُشِفت له كامل بنية دماغ الفتاة.

كانت الدوائر الفكرية التي وصلت إليه دافئةً جداً.

كانت دافئة لدرجة أنها جعلته لا يريد فقدانها.

لكن...

ومع ذلك...

«بجدية، أيها الشقية اللعينة. ألا ترين أنني أساعدك؟ لا تجرؤي على قول أنني لم أفعل شيئًا، أفهمت؟» قال، مبتسمًا.

لو رأى في مرآة، لاندهش من مدى لطف ابتسامته.

ارتعشت يداه.

سيستخدم هذه القدرة التي لا تستطيع سوى القتل من أجل إنقاذ أحدٍ ما. كانت حيلةً سخيفة مثل إطعام طفل طعام بملعقة مُلصقة بمدفع دبابة.

«...مضحك جدًا. سأعطيك شيئاً لتخافين منه، بالتأكيد»، أعلن لنفسه.

سَكَب قُوّةً. وغيّر متجهًا. فبدأت معركته.

سيتفعل الفيروس في الساعة 8:13. تبقت أمامه اثنتين وخمسين ثانية حتى انتهاء الوقت.

  • الجزء التاسع (31 أغسطس__8:12:08 ساعة العشاء.)

«89aepd’das::-qwdnmaiosdgt98qhe9qxsxw9dja8hderfba8waop code9jpnasidj resist9w:من الطريق A مع الموجة الحمراء من الشيفرة 08 إلى الشيفرة اثنان وسبعون، البرنامج الفرعي إلى النقطة A8 عبر الطريق C، إغلاق المنطقة D، تحويل الشيفرة خمسين إلى الطريق S، وتحويل الموجة الزرقاء إلى الصفراء.»

بدأت كلمات لاست أوردر غير القابلة للفك تتغير إلى اليابانية. تَعرّق أكسلريتر. شعر وكأن شيئاً حاراً يحرق قِذاله. رأى رؤيته تنغلق إلى نفقٍ. نتيجةً لتركيزه كل قدراته الحسابية في مكانٍ واحد، لم يعمل انعكاسه، لذا التصق العرق به بشكل غير مريح.

قارن بيانات شخصية لاست أوردر الحالية بعد أن أصيبت بالفيروس مع بيانات الشخصية قبل الإصابة الموجودة على عصا الذاكرة (الفلاش).

أي اختلافات بين الاثنين ستكون هي الشيفرة الفيروس. شمل ذلك ذكريات أكسلريتر من بعد الإصابة، لكنه لم يستطع أبدًا التمييز بين أجزاء الفيروس والذاكرة.

وصله عدد أسطر الشيفرات التي يحتاج لإعادة كتابتها.

إجمالاً، 357,081.

الشيء الوحيد الذي عليه هو أن يحذف كل الشيفرات ليتخلص من الفيروس.

استمرت الشاشة التي تعرض علامات لاست أوردر الحيوية في عرض نوافذ التحذير بوتيرة مروعة.

  • الجزء العاشر (31 أغسطس__8:12:14 ساعة العشاء.)

«بعد تحويل الشيفرة واحد وعشرين من الموجة الحمراء إلى البرتقالية، مع المضي عبر المسار D والتفرع إلى النقاط A7، C6، F10، رفع منطقة D المختمة وأدخل الشيفرة اثنان وثلاثون مع إضافة قيد إضافي إلى المنطقة F مع التركيز على المسار A باتجاه الشيفرة 112 من الشيفرة تسعة وثمانين وهكذا مع الشيفرة 113 التي تمتلك النقطة D4 عبر المسار C.»

بمجرد أن فهم الشيفرة الغريبة المتدفقة عبر دماغ لاست أوردر، أصدر أكسلريتر أمراً لجميعها—أمراً واحداً فقط للكتابة.

-وهووش-...

شعر بالإشارة الضخمة تتحرك كالموجة.

تلوى جسد لاست أوردر.

بدأت أصابعها ترقص بجنون، كأن خيوط غير مرئية تتحكم بها.

لم يستطع التمييز بين الفيروس والذاكرة. حاليا، كما لو كان يلصق طلاء مُبيض فوق الحروف المكتوبة بقلم حبر أسود، لَوَّنَ كل قطعةٍ من الشيفرة التي اعتبرها خطيرة؛ 173,542 سطر من الشيفرة تبقت.

سرعة ظهور نوافذ التحذير على الشاشة تباطأت، تباطأت، تباطأت...حتى توقفت أخيراً عن الظهور. هذه المرة، بدأت تختفي واحدةً واحدة، مثل فيديو يُعاد تسريعه.

  • الجزء الحادي عشر (31 أغسطس__8:12:34 ساعة العشاء)

«تحويل كل شيفرة من المسار K إلى الموجة الصفراء، مع تقسيمها إلى النقاط V2، H5، Y0، وتغيير الشيفرة 201 إلى الشيفرة 205 من الشيفرة 202، تسجيل نمط الموجة إلى الأحمر، بناء المسار G المتصل بالمناطق C، D، H، J والتفرع إلى النقاط F7، R2، Z0.»

(نلت منك.)

فكر أكسلريتر، مؤكِّداً. لقد تمكن من اللحاق تمامًا بالجزء الفيروس الذي سبقهم. وسيمحو شيفرة الفيروس كلها في الوقت المناسب بهذا المعدل.

بقي حوالي 59,802 سطر من الشيفرة. فكر في الشيفرة التي كان يكتب فوقها بجنون وابتسم من الوحدة قليلاً لما كان يمحيه مع الفيروس.

تراقصت الإشارات الكهربائية في يده.

كانت الذكريات التي تُمسح تتلوى في لحظاتها الأخيرة.

كانت نوافذ التحذير تختفي من الشاشة. زادت سرعة الكتابة فوق البيانات. ظهرت فجوات بين النوافذ المتلاشية.

طار العرق من جبين لاست أوردر الذي كان يتلوى خوفًا، لكن تلك الحركات، أيضاً، بدأت تتناقص تدريجياً، كأن جسدها يعيد استقراره.

  • الجزء الثاني عشر (31 أغسطس__8:12:45 ساعة العشاء.)

ثم، فجأة...

سمع أكسلريتر صوت خشخشة. وَجّه عينيه نحو الصوت –بينما يكتب ويُعدّل شيفرة الفيروس– ليرى أن أماي أو، الذي كان ينبغي أن يكون مغشيًا بعد أن ضربه باب السيارة سابقاً، قد قام من سباته.

لم تكن هذه مشكلةً في حد ذاتها.

ومع ذلك، كانت يده تمسك بمسدس لامع أسود اللون.

«لا... تعترض... در...»

تأوّه أماي، وعيناه محمرتان.

تبقت الآن 23,891 سطر من الشيفرة. ليس بعد، لا يمكنه إزالة يده بعد. إذا تسبب في حدوث خلل في الشيفرة المجزأة، فقد يُدمر دماغ لاست أوردر.

كان عدد التحذيرات على الشاشة الآن قابل للعد، لكن أكسلريتر رأى ذلك كممثلٍ لحالة لاست أوردر. لم يستطع السماح بوجود رسالة تحذير واحدة.

  • الجزء الثالث عشر (31 أغسطس__8:12:51 ساعة العشاء.)

بينهما أقل من أربعة أمتار. لن يخطئ أبدًا في هذا المدى أبدًا.

«كه...؟!»

كان أكسلريتر يستخدم كل قوته للتحكم في إشارات دماغ لاست أوردر، لذا لم يستطع تقسيمها لعكس أي شيء. إذا فعل ذلك، كان سيحدث خطأ في الإشارات الكهربائية الدقيقة على نطاق المجهر الإلكتروني. وهذا يعني حرق دماغ لاست أوردر إلى رماد.

تبقت فقط 7,001 سطر من الشيفرة.

تبقت تسع نوافذ تحذير فقط.

لم ينتهِ عمله بعد. الزمن تباطأ بشكل رهيب.

ربما لم يدرك أماي ما كان يفعله أكسلريتر، ولكن من وجهة نظره، فإن مجرد فكرة أن يلمس لاست أوردر –التي لا يمكنه أن يسمح بوفاتها تحت أي ظرف– ربما كانت تقوده إلى الجنون.

«لا... تعترض دربي...»

تكونت رغوة في فم أماي أو. وعيناه توردتا كالدم.

يبدو أنه نسى حتى مدى تهور توجيه مسدسٍ نحو أكسلريتر.

لكن أكسلريتر لم يستطع تقسيم قوته لعكس أي شيء في الوقت الحالي. لم يسعه شيء في هذه الحالة.

إذا أصابته تلك الرصاصة التافهة، فالموت الموت.

كانت غرائزه للبقاء تطالبه أن يزيل يده عن لاست أوردر. صرخت فيه أن يُعيد انعكاسه. وكان يعلم أنه إذا فعل، فسيُنقذ. لن يتضرر أبدًا من أمطار الصواريخ النووية، ناهيك عن مسدس.

  • الجزء الرابع عشر (31 أغسطس__8:12:58 ساعة العشاء.)

ومع ذلك، لم يرفع يده عن لاست أوردر.

مستحيلٌ أن يفعل.

تبقى فقط 102 سطر من الشيفرة. ونافذة تحذير واحدة فقط.

«لا... تعترضنيييييييييي!!!»

يد ‹أماي أو› المرتجفة، والمسدس الذي حمله، فوهة المسدس—كلها تحدق في أكسلريتر.

ما عنده ما يفعله ليتفادى ذلك.

ما عساه سوى أن يحدق بفراغٍ في الأصابع وهي تسحب الزناد.

رمى النار.

قبل أن يصل الصوت أذنه، أصابته الرصاصة مباشرة بين عينيه بصدمةٍ أشعرت وكأنها ضربة مطرقة. التأثير على رأسه جعل جسمه ينحني بالكامل إلى الوراء. سمع صوتًا غير مريح من حول عنقه. وقدماه، التي لم تستطع تحمل الضربة، ارتفعت في الهواء.

لكنه لم يترك يده بعد.

لن يتركها أبداً.

«Error. Break_code_No000001_to_No357081. تم إلغاء الأمر الإداري بسبب الاستخدام غير الصحيح. إعادة تفعيل الرقم التسلسلي 20,001 وفقًا للوصف.»

مع نغمةٍ إلكترونية خفيفة، اختفت نافذة التحذير الأخيرة. بمجرد أن سمع صوت الفتاة المألوف، فهم.

لقد أنهى كتابة الشيفرة الخطيرة بنفسه.

خارت قوته. ولقد ألقي جسده في الهواء بفعل تأثير الرصاصة. ببطء، ببطء، سقط بعيداً عن الفتاة الدافئة.

وأكسلريتر، في الهواء، مد يده.

لكن أصابعه ما عادت تصل إليها بعد الآن.

أراد شيئًا، لكن أيّاً كان لن يتحقق.

قد حمل شيئاً بيأسٍ، فانزلق كله من يديه.

(تبا، كم كنت ساذجًا. بعد كل ما فعلته—)

تلاشت رؤيته سريعًا ثم غابت سوادا. صدم الأرض وكأنه سقط إلى أعماق الجحيم. تفتت وعيه الملطخ، وانهارت أفكاره بسرعة إلى الظلام.

(—أحسبتُ نفسي حقًا أن بإنقاذي أحدًا سأُمنَحُ فرصة للبدء من جديد؟)

  • الجزء الخامس عشر (31 أغسطس__8:13 ساعة العشاء)

«...فعلتُها؟ هَهَه... كيف؟ كيف... ما زلت حياً؟»

أماي أو، وهو ممسك بالمسدس الآلي الذي كان يتصاعد منه الدخان الأبيض، كان مذهولاً.

قد أصابت الرصاصة مباشرة منتصف جبهته. كان أكسلريتر قد تلقى ضربة مباشرة من الرصاصة، وطُرح إلى الأرض مائلاً إلى الوراء مترًا كاملاً، سقط على الأرض بظهره. تشققت جبهته، وكان الدم الأحمر الفاتح يتسرب منها.

لم تكن لديه فكرة عن السبب، لكن أكسلريتر لم يستخدم انعكاسه. وهذا يعني أنه لا مجال لبقائه على قيد الحياة بعد تلقيه رصاصة عيار 0.09 ملم في جبهته. ولم يستخدم أماي رصاصة عادية—لقد استخدم منتجًا خاصًا.

صَدْمَةُ الرَّمّاح.

من خلال نقش أخاديد خاصة في الرصاصة، سَتنقُلُ رمحًا من الموجات الصدمية عن طريق التحكم في خصائص مقاومتها للهواء. أي أن الرمح سيتبع الرصاصة بعد مرورها لضرب الهدف ضربةً أخرى. بالإضافة إلى زيادة قدرة الرصاصة على القتل بمقدار خمس إلى عشر مرات فقط من إضافة الأخاديد عليها، وبما أن الأخاديد انصهرت على سطح الرصاصة بسبب حرارة الاحتكاك الهوائي الشديدة، فإنها لا يمكن تحليلها حتى إذا حصل عليها العدو. كانت هذه الرصاصة الخاصة تُطَوّر حاليًا من قبل فرق تطوير مكافحة الأسابر المهتاجون.

كان رأس أكسلريتر قد تعرض لضربتين أو ثلاث ضربات من كلٍّ من الرصاصة والرمح الهوائي.

«إنه... ميت... هَه! ماذا عن لاست أوردر؟ والشيفرة الفيروسية؟!»

سحب ‹أماي أو› نظره من الجثة على الطريق ووجهه نحو الفتاة المغشية في المقعد الأمامي. إذا لم يتنشط الفيروس، فقد انتهى أمره. سينتهي به الحال هاربًا من كل من المدينة الأكاديمية والفصيل المعارض.

كانت الفتاة، بأطرافها المرهقة الممدودة، تحرك شفتيها.

تكَوّنت كلمات هادئة من فمها الصغير.

«الشيفرة 000,001 إلى الشيفرة 357,081 قد تم تعليقهم بسبب عملية غير قانونية. إعادة تفعيل بناءً على الأوصاف الحالية. تكرار—الكود 000,001 إلى—»

انفجرت كل الرطوبة في جسم أماي إلى جلده على شكل عرق.

إذا كان الفيروس قد تنشط بشكل صحيح، لأرسلت لاست أوردر ‹الأمر› عبر ‹شبكة ميساكا› لجميع الأخوات العشرة آلاف ليستخدمن الأسلحة وقدراتهن لقتل البشر عشوائيًا تمامًا. ثم، كانت قلبها لتوقف وتموت—وذلك لضمان عدم إصدار أمر الإلغاء.

لكن رغم كل ذلك، كانت لاست أوردر لا تزال حية.

لم يبدأ الفيروس. كان يعرف جيداً ما يعنيه ذلك.

أدرك أنه لم يعد بإمكانه فعل أي شيء.

ترنح، وأخذ خطوتين إلى الوراء، ثم ثالثة.

«هَه هَه هَه هَه. أوه، آه، قه، أُووووههههاااااااااااااااااااااا؟!»

صرخ أماي أو، ثم صوب مسدسه نحو التي حطمت حياته إلى قطع.

نحو الفتاة المغشية في المقعد الأمامي.

طعن المسدس نحو صدرها، صعودًا وهبوطا مع تنفسها الضحل. وضع إصبعه على الزناد. بتحريك إصبعه قليلاً، كانت رصاصته، صدمة الرمّاح، ستفجر جسدها الرقيق تمامًا. لم يفكر في مكان الإطلاق، ولا كم عدد الطلقات. سحب الزناد، راضيًا برمي النار حتى ينفد المسدس.

صدحت رصاصة مسدس في الليل.

لكن تلك الرصاصة لم تخترق جسد الفتاة.

«——لن أسمح، يا ملعون الوجه!!»

قد قامت الجثة.

الصبي، الذي كان الدم يتدفق من جبهته الممزقة، مد يده ليمنع مسدس أماي. انعكست الرصاصة بوضوح إلى فوهة المسدس، فانفجر المسدس من الداخل. تمزق معصم واليد التي حملت بالمسدس.

«أهغ، غو... آااااهه؟!»

أمسك يمينه بيساره، بعد أن تمزقت كالرمان، وتراجع عن أكسلريتر.

(اللعنة! تلك الرصاصة الخاصة دخلت جبهته. كيف لا يزال حي؟ ما هو بالمنطقي!)

كان ‹صدمة الرمّاح› سلاحًا من الجيل التالي الذي عكس مقاومة الهواء من خلال الأخاديد الخاصة المنحوتة في الرصاصة ليخلق رمحًا من القوة يلحق الرصاصة. ما من مجال لأي شخص أن ينجو من ضربة مباشرة في الدماغ.

لكن أماي كان مخطئًا.

كان الرأس الحربي المتخصص يخلق موجة صدمية على شكل رمح باستخدام مقاومة الهواء. لهذا السبب، فإن الكثير من سرعة الرصاصة تُفقد بسبب مقاومة الهواء. كانت أشبه برصاصة تطير مع مظلة مفتوحة خلفها.

كانت الموجة الصدمية تتخلف عن الرصاصة وتتبع مسارها. لم يكن تأخر الوقت حتى ربع ثانية. ولكن في ذلك الوقت، قد أنهى أكسلريتر شفاء لاست أوردر، وفي اللحظة الأخيرة، استعاد انعكاسه.

نتيجة لذلك، كانت الرصاصة بطيئة الطيران قد شقّت جمجمته، لكنه تصدى للموجة الصدمة القاتلة اللاحقة.

لكن بالنسبة لأماي أو، الذي لم يعرف هذه التفاصيل، كان المشهد الذي شهده الآن كالكابوس.

سحب أماي مسدسًا ثانيًا بيده اليسرى، والتي كانت اليد الوحيدة القابلة للاستخدام الآن. ومع ذلك، لم يتلقى تدريبًا على يده اليسرى غير المهيمنة. كانت ترتجف تحت وزن المسدس. لم يمكنه توجيهها بشكل صحيح. وكان ارتعاش يده اليسرى منطقيًا ومتفهمًا تمامًا تجاه ما يراه.

وقف أكسلريتر أمامه.

كأنه يحمي لاست أوردر الصغيرة خلفه. كأنه لا يفكر في الدم النازل من جبهته. رغم ارتجاف قدميه بشدة، رغم تذبذب تركيزه، وقف متحديًا مسدس أماي.

رأى العالِم في اللبس الأبيض هذا وابتسم.

كانت ابتسامة يائسة نصفها، رغم علمه بالاختلال الكامل في ميزان القوى.

«هَه. ماذا ستفعل في هذه المرحلة؟ لقد تجاوزت حدودك.»

«...أنت تعرف أيها العجوز. أنا قمامة بشرية. حتى فكرة إنقاذ أحدٍ في هذه المرحلة لسخيفة بحق. إني ساذج حتى أن جلدي اقشعر اشمئزازاً.»

إذا أنقذ أحدًا آخر، فقد يُنقذ هو أيضًا.

بدت كلمات جميلة، لكنها في الواقع قبيحةٌ أنانية. حساب قيمة حياة فردٍ ما مقارنة بحياتك ليست ما يفعله الأشراف. شخص مثل هذا لن يُنقذ أبداً.

وفي أول الأمر، كلُّ من عاش على هذا الكوكب كان أبعد عن الخلاص. الرقيقة، ولكنها لم تكن لطيفةً أبداً يوشكاوا كِكيو. الذي فَجَّر رصاصةً على رجل دون تردد ليحمي أحدًا، أماي أو. والذي قتل أكثر من عشرة آلاف نَفْسٍ وبدأ الآن يتحدث عن مدى قيمة الحياة، أكسلريتر.

كان كلُّ من في العالم فاسد. البحث عن الخلاص بعد كل ذلك كان خطأ. منح الخلاص للإنسان؟ كان المفهوم نفسه أسخف ما يكون.

هو يعرف كل هذا.

وعاهُ بعد ألمٍ—أنه كان منهم في هذا العالم أيضًا.

«لكن»—قال، وكأنه يقطع عن نفسه شيء—«ما لهذه الشقية علاقة.»

كان أكسلريتر يبتسم.

تكلم وهو يبتسم، على أن الدم يتدفق بشدة من جرح جبهته.

«مهما كنا فاسدين. حتى لو كنتُ مزبلة بشرية نتنتة وكان سُخفاً مني حتى أن أذكر "مساعدة" أحدٍ آخر...»

تدفق الدم من جرحه إلى عينه اليسرى.

تصبغت رؤيته بالأحمر.

لكن حتى الآن، تمسك بشدة بالقوة في قدميه، التي بدت وكأنها ستنهار في أي لحظة.

«وَيْلٌ لكل سببٍ يجعل من موت هذه الشقية مقبولاً. لا حقّ أبدًا لنا نحن القمامة أن ندوس على ما ملكته هي!» صرخ أكسلريتر، وهو يرى لون الحَمَار من دمه.

فهم أن أفعاله ناقضت طبعه. عَرِف أنها غير معقولة. شعر بكلماته تعود لتطعن صدره.

ومع ذلك، صرخ.

إذا ما امتلك الحق في إنقاذ أحدٍ، أفلن يُسمح له بالإنقاذ أبدًا؟

أهو حسنٌ أن يَصُدَّ اليد الصغيرة التي مُدَّت إليه؟

ما ذنبها؟

أفعلت ما يستحق أن تُصَدَّ يدها اليائسة وتُتْرك؟

«أيها القذر. أما.. وضحت... بعد؟» همس أكسلريتر، وكأنه ليُسمع نفسه.

كانت لاست أوردر تحتاج إلى أن تُنقذ على يد أحدٍ ما. لا تزال لديها تلك الفرصة، على عكس أكسلريتر وأماي أو.

لم يهم من أنقذها.

ما كان هذا جوهر تفكيره. لم يهم من كان—إذا لم تَمُدَّ يدٌ لها المساعدة، لماتت لاست أوردر بالفعل.

بأي شكل من الأشكال، فهم أكسلريتر ما شعر به ذلك الصفري المستوى الذي وصل إلى ساحة التبديل ليوقف التجربة. لقد وقف لإنقاذ الأخوات دون سبب أو هدف. كان أكسلريتر يعتقد دائماً أن ذاك الصفري بدا كبطلٍ يعيش في عالمٍ مختلف عنه طوال حياته، لكنه كان مخطئًا في ذلك.

لم يكن هناك بطل رئيسي في هذا العالم. الأبطال لن يظهروا في الوقت المناسب. إذا صمت المرء، فلن يساعده أحد، وإذا صرخ، فلا ضمان على ظهور شيء.

لكن إذا كان المرء لا يريد أن يخسر شيئًا مهمًا بالنسبة له... إذا لم تصل المساعدة حتى بعد انتظارٍ طويل، وفقدهم من سببٍ تافه، فعليه هو أن يصير ذلك المنقذ.

حتى لو كان غير مجدي، أو لا معنى له، أو فوق طاقته.

لكي يصبح شخصًا يدافع عن ما هو ثمين له بيديه.

لا وجود لخلاصٍ في هذا العالم. ولا للناس أن يصيروا أبطالاً.

لهذا السبب، من كان حاضراً هناك كان عليه القيام بشيء.

كان عليه التصرف كالبطل الرئيسي.

«نعم، قتلتُ عشرة آلاف من تلك الأخوات. لكن هذا أبدًا ليس بسببٍ لأترك العشرة آلاف الأخريات تموت. أعلم نفاق قولي. وأعلم شِدّة الكلمات التي أنطقها الآن! لكنك مخطئ! قد نكون نحن تجسيدًا للقمامة البشرية، لكن مهما كانت أسبابك، محال بأي شكل وكان أن تجعل من المقبول قتل هذه الشقية!!»

خارت من قدما أكسلريتر القوة.

تدفق الدم الطازج من جرح جبهته كأن سَدَّها انهدم.

لكنه لم يقدر على السقوط بعد.

لا يمكن.

«...أغغ...غاااااااااهه!!»

خَفّض أكسلريتر جسده، ثم قفز نحو ‹أماي أو› بسرعة الرصاصة. على أنه بدا في وضع أقوى، كان أكسلريتر هو المحاصر. لم يستطع تحمل قتال طويل. كان عليه تسوية الأمور بهذه الضربة الواحدة، وإلا سيفقد وعيه. وعلى أنه كان يدرك، لم تكن لديه رفاهية استخدام هجوم كبير. لذلك كان خياره الوحيد هو الخيار البسيط—الهجوم عليه من مسافة قريبة.

كرّس أماي نفسه للهرب، ربما لأنه فهم تلك الحقيقة. بالمقارنة مع سرعة الرصاصة أكسلريتر، إذا ركض للخلف، فسيُقبض عليه. لذا بدلاً من ذلك، مَيَّل جسده إلى الجانب تجنبًا لأكسلريتر القادم. مَزَّقت أظافر الشيطان المكان الذي كان فيه توّاً.

حرك أكسلريتر شفتيه بصمت ونظر إلى يساره.

رأى ‹أماي أو›. لابد أنه بذل كل قوته في قفزته الجانبية إذْ أنه سقط على الأرض بشكل بائس. لن يقدر على تكرار تلك القفزة في تلك الحالة. هل كان يحاول كسب الوقت؟ صَوَّب بالمسدس في يده اليسرى، اليد الوحيدة السليمة.

دَوَّر أكسلريتر جسده.

أو بالأحرى، حاول أن يدور. لسوء الحظ، تشابكت قدماه، مما أفقده توازنه. حاول أن يوقف نفسه، لكن قدميه توقفتا عن الحركة. مباشرة بعد أن شعر بوخزٍ شديد الألم في جرح جبهته، اختفى الإحساس. سمع ضجة وأدرك أخيرًا أنه سقط على الأرض.

في طرف عينه، رأى الفتاة التي أراد حمايتها.

فكّر في شيء معين، لكن وعيه سرعان ما انزلق إلى الظلام.

  • الجزء السادس عشر (31 أغسطس__8:38 ساعة العشاء.)

لم يشعر ‹أماي أو› لوهلة وكأنه عاش.

حدق في أكسلريتر الذي سقط، ثم مسح العرق من جبينه أخيراً.

(أنا... حي. هاها... بالحظ، بالحظ نجوت؟)

ابتسم، خائر القوة، وبدأ يخدش جبهة أكسلريتر بأظافره.

(انعكاسه... قد ذهب. لم أرغب في إظهار شيء كهذا إذا استطعت تجنبه، ولكن هناك دائمًا احتمال واحد من مليون أنه قد ينهض ثانية. لن يقدر على تجنب الضربة التالية.)

وجه فوهة المسدس نحو جبهة أكسلريتر.

بلا قدراته، ينبغي أن يكون أكسلريتر مجرد طالبٍ غير رياضي. اعتقد بحقٍّ أنه سيموت بشكل طبيعي إذا أصابه بعشر طلقات عيار 0.09 مم في الرأس. بالطبع، بعد فشله في تفعيل الفيروس واستهدافه من بين المدينة الأكاديمية والفصيل المعارض، لم يكن لديه وقت لهذا. كان عليه أن الهرب—بأسرع ما يمكن، ولو لملليمتر أبعد—لكن عليه أن يقتلع بذور الكارثة الآن.

«هَه. بعد كل هذا، لم تكن ذلك البطل لتُسوي الأمور. إنه طبيعي—نحن جميعًا هكذا. كلنا هكذا.»

شدد على إصبعه على الزناد.

-بانغ!- جاء صوت طلقةٍ جافة. الصوت القاتل بدا كصاعقةٍ.

«...»

تشوّه وجه أماي أو.

لم تأتِ الطلقة من المسدس الذي حمله.

تكونت فجوة في ظهر أماي، حول خصره، وشعر بحرارة تلذعه وتحترق فيه كأن رصاصًا منصهرًا قد صُب فيه. التفت ببطء—جسده لم يتحرك أسرع من ذلك.

بعيداً، رأى سيارةً عائلية مستعملة، قديمةً لدرجة قد يتساءل المرء عن ذوق سائقها. كانت أبوابها مفتوحة. وخرجت منها امرأة ترتدي الأبيض. في يدها مسدس دفاع ذاتي أشبه باللعبة لا يحتوي إلا على طلقتين.

تصاعد الدخان الأبيض من المسدس في تلك اليد.

«...يوشكاوا...كِكيو...» قال، وكأنه يضغط الكلمات من حلقه. لم ترد المرأة التي ترتدي الأبيض.

  • الجزء السابع عشر (31 أغسطس__8:43 ساعة العشاء.)

كان أماي ممدداً على الأرض.

هز رأسه محاولاً تصفية رؤيته المتذبذبة. أخيراً، استعاد وعيه. لابد أنه فقد الوعي، لكنه لم يعرف لو مرَّت عشر ثوانٍ أو عشر دقائق.

رأى المرأة التي ترتدي البياض.

يوشكاوا كِكيو.

مع ظهورها، فتحت الباب الخلفي لسيارة العائلة وأدارت شيئًا في الداخل. عرف ما كان في الخلف—حاضنة.

(غيه...)

حاول أن يلتفت برأسه المرتعش نحو سيارته. لم يرى أثرًا للاست أوردر التي كانت جالسة في المقعد الأمامي. ربما كانت الآن في تلك الحاضنة الزجاجية الأسطوانية، رغم أن حركات يوشكاوا كانت تحجبها.

حاول أن يقف، لكن جسده بالكاد تحرك. بالكاد تمكن من رفع نصفه العلوي، وأخذ بيدين مرتعشتين مسدسه العسكري المصنوع في إيطاليا.

فجأة، التفتت يوشكاوا.

كان عملها قد انتهى منذ فترة، ولكن بعد أن أغلقت الباب الخلفي، وجهت مسدسها الدفاعي نحو أماي. بدا وكأنها تبتسم. مشت ببطء نحوه، ومسدسها جاهز.

«أعتذر. دائمًا ما أكون رقيقة في مثل هذه الأمور. ليست طِيبةً أو لطفاً، ولكن رقة. لم أجرأ على استهداف أعضائك، ولكني لا أستطيع تركك تغادر. ربما كان اختياري في إطالة ألمك بلا جدوى لدرجة أن الرقة انقلبت قسوة.»

«كيف عرفتِ...؟»

«في الهواتف نظام تحديد المواقع GPS منذ سنوات الآن، أتعلم. لم تدرك أن هاتف الولد لم يغلق المكالمة حتى الآن؟»

نظرت يوشكاوا إلى أكسلريتر بعينيها عينا الأم.

«إنما أعرف فقط ما كان يجري هنا من الأصوات التي التقطتها من الهاتف، ولكن على الأقل، لا يبدو أن هناك شيئًا يحدث في الخارج.»

اهتزاز يدي أماي ازدادت شدة. بدأ الإحساس في أطراف أصابعه يختفي، كما لو كانت عالقة في الثلج لفترة طويلة. أصبعه التي كانت على الزناد ارتعشت رغم إرادته. سمع صرير الأجزاء المعدنية التي تصطدم ببعضها داخل المسدس.

«أوه، لا عليك منه. فأنا أعرف طبيبًا مذهلاً. وجهه وجه الضفدع وليس بمتحرمٍ بعض الأحيان، لكن الناس سَمّوه بـ ‹هيفن كانسلر› وقالوا عنه أنه قادرٌ على سحب الناس من موتهم. واثقةٌ من أنه قادرٌ على شيء في هذا.»

سمع صفارات الإسعاف تقترب من بعيد. ربما هي أخطرتهم قبل أن تطلق عليه النار. وربما حَدَّدت حتى المستشفى الذي سيُنقل إليه.

نظرت يوشكاوا إلى فوهة المسدس. كان بإمكانها رمي النار في أي وقت، لكنها لم تتوقف عن المشي.

لم تبدو مهتمة على الإطلاق برفاهيتها.

كانت هنا للدفاع عن الأطفال. ونسيت تمامًا حماية نفسها من خلال الهروب من مسؤولية فشل التجربة، وهي المسؤولية التي حاول الجميع دفعها على عاتق واحدٍ آخر. لم تَخَف من الوقوف أمام مسدس مُحَمَّلٍ على وشك أن يُطلق. فعلت كل ذلك من أجل إعادة الأطفال –الذين كانوا غير محظوظين بما يكفي ليكونوا جزءاً من هذه التجربة– إلى عوالمهم الحقيقية.

وقالت إنها كانت رقيقة؟ أنها لم تكن على الإطلاق شخصًا طيبًا؟

«...لماذا؟» ضغط أماي على السؤال بصعوبة. «لا أفهم. هذا لا يتماشى مع أنماط تفكيرك. تضعي المخاطر والفائدة على الميزان وستعلمين. قرارك هذا مستحيل أن ينبع من شخصيتك. أم أنك تقولين فائدة هذه تكفي لتبرير هذا العمل؟»

«إن كان عليّ أن أجيب، فربما نعم. أكره أنماط تفكيري. وما رغبت في أن أرى نفسي تحقق المزيد والمزيد من النجاح بفعل ذلك. فكرت في ذلك منذ ولادتي—أنني أردت أن أفعل شيئًا طيبًا بدلاً من أن أكون رقيقة، لمرة في حياتي.»

ابتسمت يوشكاوا كِكيو بوِحشةٍ واستمرت في المشي.

ما كان بينهما أكثر من ثلاثة أمتار الآن.

«كما ترى، لم أكن أرد أن أصبح عالمة من هذا النوع» قالت، وأضافت بتلميح من الاستهزاء بنفسها، «على أنك قد لا تصدق هذا.»

كان ‹أماي أو› مذهولاً بتلك الكلمات—فهو يعرف قدراتها جيدًا.

«وددتُ لو أكون معلمة في المدرسة. معلمة، أو أستاذة، أو أي شيء من هذا القبيل. ليس عملاً صارمًا. أردت أن أكون معلمةً لطيفة وطيبة. أردت أن أتذكر وجه كل طالب من طلابي. أردت أن أقدم لهم المشورة كلما واجهوا مشكلة. أردت أن أشارك، حتى أقدم ابتسامة مطمئنة لطالب واحدٍ فقط دون أن أتوقع مقابل. أردت أن أكون معلمة طيبة، من النوع التي يضحك عليها الطلاب في حفلات التخرج عندما يرونها تبكي. بالطبع، تخلَّيْت عن الفكرة بنفسي، ظانةً أن امرأة رقيقة مثلي وغير طيبة أبدًا لا يجب أن تكون في مكانة لتُعَلّم الآخرين.

«ولكن حتى الآن...» ابتسمت.

متر واحد بينهما. انحنت يوشكاوا ببطء إلى ركبة واحدة لتُقابل نظرات أماي الجالس، وكأنها تحاول التحدث إلى طفل صغير.

«لعلّي لا أزال أملك ندمًا حيال ذلك. لمرة، أردت أن أحاول القيام بشيء طيب، بدلاً من أن أكون رقيقة. أردت أن أظهر نفس التصرفات معلمةً تقوم بكل ما في وسعها من أجل طالبٍ واحد فقط.

«وهذا كل شيء»، أنهت.

وَجَّه كل منهما سلاحه إلى صدر الآخر.

كانت تعرف بنفسها مدى صعوبة إعادة أكسلريتر إلى الحياة اليومية. لا شك وريب أنه قد قتل عشرة آلاف أخت. وهذا لا يعني أن الأمور ستنتهي هنا. ربما امتلك قوةً هائلة، لكن المرء الذي يتحكم فيها كان عقلاً غير مستقر في المقام الأول. إذا تُرك وحده، فقد يتسبب في أضرارٍ أكثر من ذي قبل.

ولكن، رغم ذلك، كانت تتمنى في قلبها.

أقوى إسبر، الذي لم يعد أحد يعرف اسمه الحقيقي، قد حاول حماية فتاةٍ واحدة، حتى مع رصاصة في رأسه. حتى لو لم يتمكن أبدًا من السير بجانبها، حتى وإن لم يلتقِ بها مرة أخرى وهي تمضي في طريق النور، لم يتخلَّ أبداً. لم يتخلَّ عنها. لذا بدلاً من اختيار الخيار الأسهل في حماية نفسه، كان قادراً على اختيار الخيار الأكثر طيبة في إنقاذ الآخرين.

ربما تأخر كثيرًا، لكنه أدرك أخيرًا أنه قادرٌ على اتخاذ هذا القرار.

لقد فهم الآن معنى الدفاع عن شخص بيديه.

كانت يوشيكوا تريد حماية هذه الطيبة الذي أظهرها.

لم تستطع أن تسمح بنهاية قاسية جاءت في نهاية تلك الطيبة.

«انتهى الأمر، أماي أَوْ.»

وضع كل منهما إصبعه على زناد المسدس الموجه إلى صدر الآخر.

«ربما تخاف من الموت وحدك. وسيكون شرفًا إذا اخترتني شريكتك في الذهاب. ولكني لن أسمح لك أبدًا بالمساس بأولئك الأطفال. سأراهن بالطيبة القليلة الباقية في بداخلي من أجل هذا.»

«همف.» أعطى أَماي نصف ابتسامة.

على أي حال، رغم أنه كان عالقًا بين مدينة الأكاديمية والفصيل المعارض، فلن يكون هناك غدٌ له.

«الطيبة لا تناسبكِ حقًا»، نطق وهو يضغط بقوة إصبعه على الزناد.

«ما لديك هو بالفعل ما يُسَمّونه قوة.»

دوت طلقتان.

أُطلق أَماي ويوشكوا إلى الوراء، حيث اخترقت الرصاصتان أجسادهما.


الواحد والثلاثين من أغسطس__8:57 ساعة العشاء — انتهى.

(صفحة المجلد)

<<الفصل السابق                        الفصل التالي>>

تعليقات (0)